مدونة تهتم باللسانيات التداولية التفاعلية الاجتماعية تحاول ان ترسم طريقا مميزا في معالجة الاشكالات المعرفية المطروحة في هذا النسق العلمي بالمناقشة والرصد والتحليل والمتابعة
الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014
الجمعة، 17 أكتوبر 2014
عناصر النظرية النحوية في كتاب سيبويه
عناصر النظرية النحوية في كتاب سيبويه
محاولة لإعادة التشكيل في ضوء الاتجاه المعجمي الوظيفي
- علم اللغة التقابلي -
تأليف : سعيد حسن بحيري
الطبعة الأولى 1410هـ/1989م
مكتبة الأنجلو المصرية
التحميل المباشر : الكتاب
نشأة الدرس اللساني العربي الحديث
نشأة الدرس اللساني العربي الحديث: دراسة في النشاط اللساني العربي - فاطمة الهاشمي بكوش
الناشر: إيتراك - مصر الجديدة
الطبعة: الأولى 2004
178 صفحة
اللغة العربية لغة حياة متجددة ودائمة التوالد والتطور، والتطور اللغوي ظاهرة طبيعية تلحق اللغات الحية، وتنبع من كون اللغة عامة، مؤسسة بشرية دائمة الحاجة إلى الاستكمال ومواكبة التغيرات.
وعلى الرغم من المشكلات العويصة التي تعترض تقدم البحث اللساني في الأقطار العربية ونشر ثقافة لسانية واعية؛ يسير هذا العلم نحو النماء والانتشار والبروز علي مستوي الجامعات العربية؛ إذ أخذ يشكل نشاطًا بارزًا واتجاها تميل إليه الدراسة اللغوية الحديثة عمومًا.
اللسانيات العربية عمومًا، تصنف اليوم في حركتين أو نشاطين مختلفين منهجيًا هما: نشاط لساني بنيوي وصفي ظهر في مصر تحديدًا، على شكل جهود فردية بعيدة عن نشاط المؤسسات اللغوية القائمة التي رفضت تبني هذه الجهود أو الاضطلاع بها وإنشاء وضع لساني حقيقي من خلالها، .ونشاط لساني تنشأ في إطار اللسانيات التوليدية، واللسانيات الغربية.
المحتويات:
الفصل1- حدود اللسانيات العربية.
الفصل2- نقد النظرية النحوية العربية.
الفصل3- الدعوة إلى الوصفية.
الفصل4- إعادة وصف اللغة العربية.
الأسلوب والنحو
عنوان الكتاب : الأسلوب والنحو pdf
المؤلف: الدكتور محمد عبد الله حبر
الناشر:دار الدعوة للطباعة والنشر
الطبعة الاولى 1988
التحميل المباشر : الكتاب
العربية دراسات في اللغة واللهجات والأساليب
عنوان الكتاب: العربية دراسات في اللغة واللهجات والأساليب pdf
المؤلف: يوهان فك
ترجمة: الدكتور رمضان عبد التواب
الناشر:مكتبة الخانجي بمصر
الطبعة:1980
التحميل المباشر : الكتاب
لذة القراءة في أدب الرواية
عنوان الكتاب :
لذة القراءة في أدب الرواية
مؤلف الكتاب : أيمن الغزالي
حجم الملف : 1.20 MB
رابط التحميل : الكتاب
http://ia700306.us.archive.org/3/items/ketab0306/ketab306.pdf
الاثنين، 6 أكتوبر 2014
علاقة التأويل بالسياق و دوره في بناء المعنى
علاقة التأويل بالسياق و دوره في بناء المعنى
نضيرة بن زايد
مما لا شك فيه أن تحليل الخطاب بالضرورة هو تحليل للغة في الاستعمال و لأن
الخطاب ينقسم إلى معنى ظاهر و معنى خفي، كانت بالضرورة تلزم العلماء
للاهتمام بهذا الجانب للوصول إلى قصد المتكلم أو المخاطب من خلال ظاهرة
التأويل، و التي نالت الاهتمام الواسع من طرف علماء اللغة، و ذلك لأن
الخطاب هو ملاذ كل مخاطِب، و الذي يصب فيه أفكاره و رؤاه في أبعاده
المختلفة: الثقافية و الاجتماعية...و لا يتم ذلك إلا بمحاولة لفك الرموز
التي تنغلق على ذاتها، و تبتلع مفاتيحها، و مع هذا الانغلاق تغيب ذات
المخاطب لتظهر ذات المخَاطَب الذي توكل له مهمة الإبحار عبر عوالم هذا
الخطاب، و كسر أقفاله، و محاولة الولوج إلى أعماقه بما يسمى التأويل، و
الذي يؤول إلى بيان المعنى و القصد من مراد المخاطِب، و هذا لا يتم إلا من
خلال معرفة السياق.
و
مهما يكن من أمر فإن إشكالية التأويل و علاقتها بالسياق على اختلاف
اتجاهاتها، أي من حيث النظريات التي تطرقت إليها، فإنها تعد اللبنة
الأساسية لكل خطاب، لكن، الشيء الملاحظ أن إشكالية التأويل اهتم بها
العلماء من الجانب الديني و الفلسفي و بخاصة في الفترة الزمنية من النصف
الأول من القرن الماضي و بظهور ما يسمى علم السيميائيات حيث عرفت ظاهرة
التأويل تطورا ملحوظا و بخاصة في الدراسات النقدية من خلال نظريات القراءة،
دون أن ننسى ما للسياق من دور في بناء المعنى و الذي يندرج اليوم ضمن ما
يعرف بالتداولية.
و قبل الولوج إلى علاقة التأويل بالسياق لابد لنا من أن نبين المعنى اللغوي و الاصطلاحي لكل منهما:
أولا التأويل:
التأويل لغة:
فكلمة
تأويل لغة جاءت بمعنى الرجوع مصدره:«أول: الرجوع إلى الشيء يؤول أولا و
مآلا: رجع، و أول إليه الشيء: رجعه، آلت عن الشيء: ارتددت»(1).
فالدلالة
التي تحملها كلمة «التأويل » هي الرجوع و التغيير، بالإضافة إلى معنى
التفسير التي نجدها عند علماء التفسير بمعنى واحد، و هذا ما ذكره أبو
العباس أحمد بن يحي حينما سئل عن التأويل: « فقال: التأويل و المعنى و
التفسير واحد »(2).
أما اصطلاحا:
إن
المفهوم الاصطلاحي لمادة التأويل نال اهتمام جميع المفسرين و الفقهاء و
المتكلمين و الفلاسفة إلى غاية الأدباء و النقاد، و بالخصوص في القرن
الثاني و الثالث و الرابع حيث ارتبطت بالعلوم العربية التي شغلت بالبحث في
القرآن الكريم المرتبط باللسان العربي- و أول العلماء الذين اهتموا
بالتأويل نجد:
الغزالي(450ه -505ه) :
الذي يُعد من بين الأوائل الذين شغل فكرهم حيث عرفه بقوله: « التأويل
عبارة عن احتمال بعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الحقيقة إلى المجاز»(3)
فالتأويل عنده لا يكون إلا من خلال اللفظ فما فوق لأن اللفظ الواحد قد
يحمل دلالتين حيث يرجح القصد المحتمل المرجوح مثال ذلك « زيد كالأسد» فإنه
ظاهر في الحيوان المفترس و المحتمل أن زيد رجل شجاع و ليس الافتراس.
أما عن التأويل عند ابن رشد(1126م-1198م)
فهي: «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير
أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، و من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه
أو لاحقه أو مقارنة، أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف
الكلام المجازي »(4)، و معنى هذا القول أن نخرج اللفظ من دلالته
الحقيقية إلى الدلالة المجازية، و بالتالي فالتأويل عند التراثيين و بخاصة
علماء الأصول ارتبط بالمجاز مثلما هو عند الفلاسفة من أمثال ابن رشد، و
هنا نجد إشارة كل من الغزالي و ابن رشد إلى ضرورة العلم بالوضع اللساني
العربي، و كما أن الاعتقاد هو السبيل إلى التصديق بما جاء في الخطاب
القرآني حيث يقول: « إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل، لم يكن عندهم
مزية تصديق توجب الإيمان به كما جاء في قوله تعالى: « آمنّا به كُلٌ مِنْ
عنْدِ رَبّنَا»(5)»(6).
و
بالإضافة إلى كل هذا هناك من فرق بين ثلاثة من أنواع التأويل ما هو قريب و
بعيد، و متعذر، فالتأويل القريب، لا يحتاج إلى قرينة، بخلاف البعيد الذي
لابد و أن يرتبط بقرينة ما ليصبح راجحا، و لهذا وضعوا شروط من خلال هذه
القولة: «و هناك ما لا يقل عن ثلاثة شروط ينبغي أن تستوفي لكي يكون التأويل
سائغا، فإذا لم يتوافر أي شرط منها صنف أنه متعذر و هذه الشروط هي:
1- أن يكون اللفظ قابلا للتأويل، أي اللفظ ينبغي أن يكون ظاهرا أو نصا.
2- أن يحتمل اللفظ التأويل، أي أن المعنى الظاهر الذي يفترض المؤول أنه المعنى المراد ينبغي أن يكون من المعنى المحتمل للفظ.
3- أن يكون التأويل مرتبطا بقرينة كافية لجعل المعنى غير الظاهر و ليس الظاهر هو المعنى المراد»(7).
أما عن التأويل عند المحدثين:
فقد
شكل هذا المصطلح عبئا كبيرا على بعض المفكرين و الفلاسفة و اللغويين
الغربيين الذين أسسوا له نظريات تبين مدى أهميته و بخاصة أنه يتصل باللغة و
الفلسفة، من ذلك نجد بول ريكور الذي ربط التأويل بالنص، و هذا عن طريق
القراءة المتعددة و الفهم المختلف، لأن كل قارئ لنص ما يمكن أن يحدد معنى
للنص الذي قرأه بخلاف غيره الذي قدم قراءة مغايرة لما قرأه الأول، حيث يقول
: « التأويل هو فن تأويل النصوص في سياق مخالف مؤلفيها و جمهورها الأول،
يهدف اكتشاف أبعاد جديدة»(8).
و
بالإضافة إلى إشارة العرب إلى علاقة التأويل بالاستعارة، نجد هذا جليا عند
الغربيين الذين يؤكدون على أن: « التأويل الاستعاري يستند إلى المؤولات أي
إلى وظائف سيميائية نصف مضمونها وظائف سيميائية»(9).
و
في هذا إشارة إلى أن التأويل يرتبط عند الغربيين بالعلاقات السيميائة و
السياق الذي يحدد المعنى من خلال الوضع اللغوي و الثقافي للمتلقي، فالتأويل
مرتبط بالنص، و من هنا نصل على ضرورة تقديم معنى السياق و دلالته.
ثانيا: السياق
1- السياق لغة:
ذهب
ابن فارس أنّ: «السين و الواو و القاف أصل واحد، و هو حدوُ الشيء يقال:
«ساقه يسوقه سوقا و السيّقة مااستيق من الدواب. و يقال سقت إلى امرأتين
صداقها، و أسقته، و السوق مشتقة من هذا لما يساق إليها من كل شيء، و الجمع
أسواق، و الساق للإنسان و غيره و إنما سميت بذلك لأن الماشي ينساق إليها»»(9).
2- السياق اصطلاحا:
أ- السياق عند العرب:
إن
العلم بالسياق يعد الأساس بالنسبة للكثير من العلماء، حيث ساعدهم في دراسة
الخطاب القرآني، و استنباط الأحكام الشرعية، و بخاصة علماء الأصول الذين
أسهموا واهتموا بهذا الجانب، باعتباره يرتبط ارتباطا وثيقا بالأفعال
اللغوية.
كما
كانت العناية بالسياق من طرف علماء البلاغة، الذين أولوا عناية للمقام و
الذي« يضم المتكلم و السامع أو السامعين و الظروف أو العلاقات الاجتماعية و
الأحداث الواردة في الماضي و الحاضر...و المعنى المقامي يمثل ظروف أداء
المقال زائد القرائن المقالية الأخرى... »(10)،و بالتالي فإن مفهوم المقام و السياق لابد و أن يقترنا بالمعرفة الثقافية بالإضافة إلى الاستعمال اللغوي.
فالشائع
عند البلاغيين العرب أن«لكل مقام مقال » و هذا يوحي أن الخطاب فعل اجتماعي
و الجاحظ يشير إلى هذا المفهوم بقوله: « و أرى أن ألفظ بألفاظ المتكلمين
ما دمت خائضا في صناعة الكلام مع خواص أهل الكلام، فإن ذلك أفهم لهم عني،و
أخف لمؤنتهم عليّ، و لكل صناعة ألفاظ قد حصلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم
تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت مشاكلا بينها و بين تلك الصناعة، و قبيح
المتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خُطبة أو رسالة، أو في مخاطبة
العوام و التجار، أو في مخاطبة أهله و عبده أو أمته، أو في حديثه إدا تحدث،
أو خبره إدا أخبر. و كذلك فإنه من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب و ألفاظ
العوام و هو في صناعة الكلام داخل، و لكل مقام مقال، و لكل صناعة شكل»(11).
فرصد
المقامات و الأحوال مع ضرورة ما يناسبها من تراكيب تتبعها، بالإضافة إلى
النظم الذي يبين دور السياق اللفظي في تحديد المعنى لأن المناسبة تلزم
المخاطب بضرورة مراعاة علاقته بالمخاطب، أي مناسبة المقام حسب الأشخاص، لأن
الجملة الواحدة التي تحمل إفادة ما قد تتغير بتغير المقام، و أيضا لابد من
صياغتها صياغة واضحة، و يجب توفر ما يعرف بالكفاءة اللغوية التي تساعد
المخاطِب على انتاج خطاب حسب المقام الذي يُلقى فيه الخطاب، و هي أيضا تكون
له قدرة على تأويل الخطابات، و هذا لا يمكن أن يحصل إلا بتفعيل بعض
المعارف من خلال الاعتماد على طرق النظم و وسائله للوصول إلى المعنى.
أما
عن السياق عند المفسرين فقد اقترن بما يسمى بعلم المناسبات، و الذي هو«
الالتفات إلى الحكمة من ترتيب السور و الآيات على الوجه الذي هو عليه، و
الاهتمام باستخراج المعاني و لطائف الفوائد، التي لا يتوصل إلا بالتماس
المناسبة بينها، و معرفة وجوه الربط بين أنواع المناسبات»(12).
و بالإضافة إلى هذا فإن علماء التفسير قد وضعوا شروط للمفسر حتى يكون أهلا للتفسير.
ب- السياق عند المحدثين:
إن
السياق عند الغرب شكل ظاهرة، حيث نال اهتمام العديد من علماء
الأنثروبولوجيا بالإضافة إلى علماء اللغة المهتمين بالثقافة الإنسانية، أين
تمخضت عن هذه الظاهرة نظرية و التي تعرف بالنظرية السياقية، كما نجد أن
السياق هو المصطلح الذي اعتمده الغرب بدلا من المقام الذي عرفه العرب
قديما، و أدرج ضمن ما يعرف بالتداولية حيث أن «مفهوم السياق، خصوصا في
الدراسات التداولية...تجاوز الباحثون التعريف النموذجي الأرحب للسياق
فأصبحت تعرف مجموعة الظروف التي تحف حدوث فعل التلفظ بموقف الكلام(...) و
تسمى هذه الظروف، في بعض الأحيان بالسياق context »(13)
فالخطاب سواء كان شرعيا أو شعريا أو أدبيا أي كان نوعه لا يمكن أن يتحدد
معناه إلا من خلال السياق، فهو اطار منهجي يجب تطبيقه على الأفعال اللغوية و
هذا ما نستخلصه من قول فيرث(Firth)(ت 1960م) حول المعنى على أنه : «
علاقات موقفية في سياق الموقف:(situation of context)»(14)، و
يمكن أن نتبين عدة نقاط تندرج ضمن مقولة سياق الموقف بحيث يمكن أن يتشكل
المعنى و يتضح أكثر في السياق من خلال المعلم بالتحليل الصرفي و إتقان
التصريف لأن به تعرف الأبنية و الصيغ قال ابن فارس: و من فاته علمه فاته
المعظم، لأن «وجد» مثلا كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها»(15)
بالإضافة إلى المعرفة بعلم الاشتقاق و التركيب و المعجم و الصوت، فمثلا أن
تكرار بعض الأصوات وما تشكله من تنغيم في مقام معين يحدد لنا المعنى
الدلالي لها.
و من هنا نصل إلى ضرورة بيان أهم المراحل التي تسهم في عملية الفهم من خلال التأويل و السياق.
1- القصد أو علم المقاصد
إن
التفكير في تقديم خطاب معين إلى المستمع أو المخاطب لا يتم إلا في إطار
سياق يحدد أهميته و هذا الفعل الكلامي لا يعبر عنه بواسطة مفردة أو جملة
فقط، و لكن يعبر عنه في سياق معين يتضح من خلاله القصد و الغاية أي وصول
الرسالة إلى المخاطب « وفق المعادلة التالية قول+سياق= رسالة»(16)،
فمثلا من الوحدات اللغوية التي لابد و أن تتوفر، حيث أنها تسهم في فهم
الرسالة و منها أدوات الإشارة مثل: الآن، هذا هنا، ذاك، فإذا أردنا فهم
دلالات هاته الإشارات في خطاب معين يتعين علينا معرفة هوية المتكلم و
المتلقي و الإطار الزماني للفعل الكلامي،فمحلل الخطاب لابد من أن يتفحص
جيدا العلاقة بين المتكلم و الخطاب في مقام استعمالي خاص، و هذا ما أشارت
إليه نظرية التلقي حيث ترى أن أهم شيء في عملية الأدب هي تلك المشاركة
الفعالة بين النص الذي ألفه المبدع و القارئ المتلقي، أي أن الفهم الحقيقي
للنصوص و الخطابات ينطلق من موقعة القارئ في مكانه الحقيقي و إعادة
الاعتبار له باعتباره هو المرسل إليه و المستقبل للنص و مستهلكه و هو كذلك
القارئ الحقيقي له تلذذا و نقدا و تفاعلا و حوارا. و بالتالي«أن محلل
الخطاب حينما يستعمل مصطلحات مثل الإحالة و الافتراض و المعنى الضمني و
الاستدلال، فإنه في الواقع يصف ما يفعله المتكلمون و المتلقون، و لا يهتم
بالعلاقة بين جملة أو مضمون ما و جملة أخرى»(17).
الإحالة:
يقول
لاينز في سياق حديثه عن المفهوم الدلالي التقليدي للإحالة إن « العلاقة
القائمة بين الأسماء و المسميات هي علاقة إحالة: فالأسماء تحيل إلى
المسميات»(18)أي أن العلامة اللغوية تحدها ثلاثة أبعاد هي الدال
و هو سلسلة الأصوات المكونة للعلامة، و المدلول هو المفهوم المجرد الذي
يستفاد منها، بالإضافة للبعد الثالث ألا و هو المرجع و هو ما تحيل عليه
العلامة اللغوية في العالم الخارجي أي أن الاحالة شيء يمكن أن يحيل عليه
شخص ما باستعماله تعبيرا معينا و هنا يصل المخاطب إلى العملية التي تعرف
بالتأويل حيث يقوم باستخلاص صورة المعنى المتخيل عبر سبر أغوار النص أو
الخطاب و استنكاه دلالاته و البحث عن المعاني الخفية و الواضحة عبر ملء
البياضات و الفراغات للحصول على مقصود المتكلم و تأويل خطابه انطلاقا من
الخبرات و المعارف التي يمتلكها المخاطَب سواء كانت علمية أو ثقافية أو
اجتماعية....
- عملية الافتراض:
ففي
كل خطاب ينطلق كل من المرسل و المرسل إليه من معطيات و افتراضات معترف بها
و متفق عليها بينهم، فتشكل هاته الافتراضات الخلفية التواصلية لتحقيق
النجاح في عملية التواصل، أي الوصول إلى تأويل الخطاب و قصد المخاطِب
تأويلا صحيحا و بالتالي الوصول إلى القصد و الغاية.
مثال ذلك لو قلنا : أغلق النافذة
فهذا الملفوظ يحمل خلفية «الافتراض المسبق» مضمونها أن النافذة مفتوحة.
المعاني الضمنية:
يقول
جرايس في مصطلح المعنى الضمني( implicatur) أنه«المعنى المتعارف للكلمات
المستعملة» نلمح في هذا القول شرط أساسي يعتمد عليه محلل الخطاب و هو ضرورة
المعرفة بطبيعة العلاقة بين المرسل و المرسل إليه بالإضافة إلى عدد من
القواعد التي يلتزم بها المتكلمون عادة، و المتمثلة بصورة أوضح في
استراتيجيات الخطاب مثل الإستراتيجية التضامنية أو مبدأ التعاون،
الاستراتيجية التوجيهة، وإستراتيجية الإقناع، و التأدب، و جرايس هنا يشير
إلى مبدأ أو استرتيجية التعاون و هو أن يلتزم المخاطب بعدة قواعد متواضع
عليها و يستند إليها في هذا المبدأ أو الإستراتيجية حيث أن التعاون«يختص
بالمسافة الاجتماعية بين الناس، و بتجاربهم الاجتماعية و خصائصهم
الاجتماعية المشتركة ( مثل الديانة و الجنس و السن و مسقط الرأس و العرق و
المهنة و الاهتمامات) ، و مدى استعدادهم للمشاركة في مسائلهم الشخصية[...]
إلخ»(19)،و بالتالي فالقواعد التي لابد للمخاطِب أن يعتمدها هي:
أولا
من «حيث الكم: أن تجعل مساهمتك إخبارية بالقدر المطلوب حسب ما تمليه
الحاجة في تلك المحادثة القائمة و لا تقدم معلومات أكثر مما يلزم.
من حيث الكيف: ألا تقول ما تعتقد أنه خطأ، و لا تتحدث عن شيء لا تملك بشأنه حججا كافية.
من حيث العلاقة: أن تتحدث عما هو مناسب للموضوع.
من
حيث الأسلوب: أن تكون واضحا، و تجتنب الغموض في التعبير، ( ابتعد عن
ازدواجية المعنى) و تتكلم بإيجاز ( ابتعد عن الحشو) و أن تكون منظما»(20) فالمعنى
الضمني هو من إحدى الجوانب المقاصدية من المعنى، أي يعتمد على التزام
المتكلم و المخاطَب بالمبدأ التعاوني و ضوابطه، و من وجهة المحلل أيضا أي
لابد من اعتبار المعاني الضمنية غير محددة بما أنها نابعة من فرضية أن لدى
المتكلم أو المرسل النية في أن يدلي بكلام له معنى، و أنه يلتزم باحترام
المبدأ التعاوني بالإضافة إلى مبدأ التأدب.
الاستنتاج:
إن
محلل الخطاب و المخاطب يحتاج دوما إلى الاعتماد على طريقة أو عملية
الاستنتاج حتى تمكنه من الوصول إلى فهم المقولات و الغاية التي يقصد إليها
المرسل.
المقام:
حيث
أن المقام أو السياق المقامي يوفر و يسهم في تحديد معاني التعبيرات
اللغوية( السيميائية)، و المقامات بوصفها سياقا، بالإضافة إلى كونها متأصلة
في المحددات الاجتماعية، فالمخاطَب في تأويله للخطاب و اعتماده على هذه
الأسس سيسهم في بناء المعنى و تأويله تأويلا صحيحا، على الرغم أن هناك جملا
ثد يتغير معناها تغيرا طفيفا بتغير السياق.
- و الخلاصة التي نصل إليها في مقالنا و مقامنا هذا هي:
1-
على محلل الخطاب أو المرسل إليه أن لا يكتفي بمعرفة السياق وحده، بل لابد
عليه من اللجوء إلى التبحر في العلوم العربية، و العلم بالحقيقة و المجاز، و
كذا بالتراكيب من نحو و صرف بالإضافة إلى الصيغ المتمثلة في أفعال الكلام
من أمر و نهي. و ما يندرج تحتهما من مطلق و مقيد، و عام و خاص.
2-
على محلل الخطاب أو المخاطَب أن يعتمد على المعايير العامة في تأويل
الخطاب و فهمه مثل المعيار الاجتماعي و بخاصة العلاقة بين طرفي الخطاب، حيث
لا يمكن أن يكون هناك نص أو خطاب إلا من خلال ذات المخاطِب و ذات
المخاطَب.
والمعيار اللغوي أي شكله سواء كان هذا النص أو الخطاب أدبي أو اجتماعي أو سياسي.
-
و المعيار الثالث أو معيار هدف الخطاب أو القصد، بما أن المرسل لا يستعمل
اللغة إلا لهدف معين فلابد عليه أن يضع استراتيجيات لخطابه سواء
كانت(استراتيجية تضامنية أو توجيهية أو تلميحية أواقناعية).
و
عليه فإننا نرى أن التأويل و السياق وجهان لعملة واحدة لا يمكن لأي مخاطِب
أن يستغني عنهما في بناء الخطاب و ببيان معناه أو إعادة قراءته من جديد.
http://manifest.univ-ouargla.dz/index.php/seminaires/archive/facult%C3%A9-des-lettres-et-des-langues/29-%D8%A7%D86%D9%89.html
التحليل عبر اللساني بين الجملة والنص
التحليل عبر اللساني بين الجملة والنص
توصيف ومناقشة
د. هـواري بلقندوز
جامعة سعيدة( الجزائر)
لا
شك أن التتويج المعرفي الذي حازه النص الأدبي انطلاقا من احتكاكه
باللسانيات والنقد الأدبي، قد مكن النص الأدبي نفسه من تصعيد الرؤية
وتعميقها حول بنيته ووظيفته. وعلاوة على ذلك، لا ينبغي أن تغمط حقوق
البلاغة في محاولاتها الأولى منذ القرن الأول الميلادي في التوفيق بين
النظرة اللسانية والنظرة النقدية للأدب؛ إذ كان لكونتليان Quintilian قصبات
السبق في مناقشة مسائل تتعلق بالتنظيم الداخلي للنص، من مثل الوضوح،
والفصاحة، والرشاقة، والملائمة؛ وكذا إشارته لمبدأ المفاضلة بين النصوص
وعلاقته بقدرة المبدع على التصرف بالمادة المستخدمة في كتابة النص1.
1- نحو منظور لسانيات الوحدات الكبرى:
ثمة حقيقة مؤداها أن نحو النص وإن كان قد قد من نحو الجملة2،
إلا أنه ظل -في الغالب الأعم- يراهن على استقلالية تصوراته النظرية
والمنهجية في إطار ضبط الحدود الفاصلة بين نظام الجملة ونظام النص، من جهة
اعتبار خاصية التجريد والملابسات السياقية والمقامية للبنية النصية. ولهذا
تطلب استدعاء موضوع الدرس ومنهجه في نحو النص، إمكانية البحث في ما يكون به
الملفوظ نصا مع رهان كبير على سلطة المقام في عملية التلفظ. وعندئذ يرتد
مستوى التحليل من الجمل النظامية Micro-propositions إلى قضايا
Macro-propositions منجزة بالفعل في المقام، بكل ما تمتلكه من خصائص سياقية
يقوم عليها الفهم والإفهام.
كل
ذلك سيطرح قضية أساسا تتعلق بشرعية وجود نحو النص إلى جانب نحو الجملة،
حيث يسعى إلى بناء نسق تجريدي يصف كل ما هو من جنس الملفوظ، بغية توسيع
نطاق المستوى النحوي، والجهاز اللغوي الواصف على السواء3. وفي ضوء هذا التمايز التقابلي بين المنحيين اللذين سلكهما الدرس اللساني المعاصر، تسجل نظرية النحو الوظيفي4 حفظاتها
المنهجية إزاء هذا الانشقاق الابستمولوجي بين المنحيين، ساعية إلى رفع
الحواجز بين لسانيات الجملة ولسانيات النص، وتحويل الانقطاع بينهما إلى
تقاطع5. وبموجب هذا التمييز بين الحقلين بإمكاننا أن نفهم
الحدود الفاصلة في الدرس اللغوي العربي بين النحو الذي بنا أطر شبكته
المفهومية على نظام الجملة تنظيرا وإجراء، والبلاغة التي سعت إلى تطويع
كيانها المعرفي ضمن مساحة أوسع هي النص، من حيث أسهمت في توجيه النظر إلى
العلاقات الداخلية في النصوص إثر حديثها عن بعض الصيغ النحوية للتشبيه
والاستعارة، و كذا الكشف عن الترابط القائم بين سلسلة من الأقوال المؤلفة
لفقرة، أو مجموعة أجزاء من العمل الأدبي. وبإمكاننا أن نلامس هذه الحقيقة
في أجلى صورها في منجز حازم القرطاجني، ولا سيما حديثه عن بنية القصيدة
العربية ضمن الفضاء العام للنظرية الشعرية العربية. ضمن هذا الإطار استطاعت
الإنجازات البلاغية أن تقارب وصف النصوص وتحديد وظائفها حتى أضحت تنعت –
بوجه من الوجوه- نظرية النص. ولعل هذا ينطبق على البلاغة العربية، مثلما
ينطبق على بلاغات أخرى6.
وتأسيسا
على ما سلف، يمكن القول إن البلاغة الجديدة هي الحقل المؤهل لتحليل البنى
النصية ووظائفها ضمن نظريات الخطاب، إذا ما اهتدى أشياعها إلى لطائف الحكمة
في تشكيل رؤية منهجية قوامها إعادة التشييد الابستمولوجي لمقولات البلاغة
العربية ضمن مستجدات البحث المنهجي في لسانيات النص ونحو النص، بهدف
التأصيل الفعال والإيجابي للتراث اللغوي العربي؛ وما أحوجنا إلى ذلك.
وعندئذ كانت النتائج ستكون عظيمة في رحاب ذلكم التفاعل المنهجي والتضافر
المعرفي بين البلاغة واللسانيات والفلسفة والمنطق وفق استراتجيات مشتركة
ذات خطاطات مفهومية قادرة على إثراء البحث اللغوي المعاصر. من هذا المنطلق،
سنسعى في هذا القسم من بحثنا إلى الحديث عن النص من حيث هو بناء لأنموذج
لغوي، وعن الفهم من حيث هو نشاط معرفي لتلقي هذا الأنموذج، اهتداء بمقاربة
لسانية معرفية تستمد أصولها النظرية من إسهامات المدرسة الفرنسية.
2- نظرية التلفظ، المنطلقات النظرية والتعميقات المنهجية:
كثيرة
هي النصوص البيبليوغرافية التي تطرقت إلى نظرية التلفظ عرضا وتفسيرا، ولذا
لا نكاد نجد حرجا في تجاوز ذلك الكلام المكرور الذي ظلت تتعاطاه الكتابات
بدرجات متفاوتة من تمثل القيمة المعرفية لأنساق هذه النظرية ترجمة وتأليفا.
وعلاوة عل ذلك، يبدو أن هناك مبررا آخر من شأنه أن يفسر هذه الرؤية
الاختزالية، وهو مبرر يقتضيه التصور المنهجي لإشكالية بحثنا المتعلق
باستراتيجية التحليل عبر اللساني Translinguistique للوحدات الكبرى.
بالإضافة إلى أن الخطاطة الإجرائية التي قدمها بنفينيست تمثل قاعدة نظرية
للسانيات الجيل الثاني، بوصفها جسر العبور بين لسانيات الجملة ولسانيات
النص. ويبدو أن الاتجاه السائد في لسانيات التلفظ قد سعى بكل متصوراته
المنهجية إلى تجاوز الرؤية الاختزالية في اللسانيات البنوية، ذلك من خلال
تصعيد الرؤية النظرية بالانفتاح الفعال على العلوم الإنسانية، ولا سيما علم
الاجتماع وعلم النفس، سعيا لرسم معالم السيميائيات الألسنية في ملامحها
النسقية مع ب.شارودو P.Charaudeau، و الحوارية في مراحلها المعمقة مع
فرانسيس جاك F.Jaques7.
تأسس
منظور بنفينيست من خلال رؤيته للسان بوصفه نظاما تجريديا أو طاقة مخزونة
في ذهن المتخاطبين Interlocuteurs سرعان ما يؤول إلى موجود بالفعل في رحاب
الممارسة التلفظية، على مبدأ تجاوز حدود لسانيات الملفوظ التي تمتد عبر
مساحة الوقائع اللغوية التي يقوم بها المتكلم في مواقف خطابية محددة، وفق
تشكيلة من الجمل المحققة، إلى إمكانية توسيع نطاق موضوع البحث اللساني
ليشمل كل الظواهر المتعلقة بشروط إنتاج الخطاب، بوصفها إستراتيجية مناسبة
لوصف توظيف اللغة عن طريق فعل استعمال فردي في إنتاج الملفوظات، ضمن الشروط
المقامية الخاصة بعملية التلفظ ذاتها.
لا
شك أننا إذا رمنا مناقشة معنى الوحدات اللسانية بمنظور بنفينيست، نجد
أنفسنا مضطرين بحكم الضرورة المنهجية إلى تعليق هذه الإشكالية بعوامل خارج
لسانية Extralinguistique من مثل تلك التي تتعلق بالمرجع والتغطية المقامية
للمتلفظ. ومن ثمة أضحت عملية تحليل الوحدات اللسانية في علاقتها مع شروط
إنتاجها تفترض نظرية للتلفظ تسعى إلى سترجة8التحليل
اللساني وفق تقطيع جديد يميز بين ما هو لساني وما هو خارج لساني، أي ما هو
خطاب بشروط إنتاجه. وفي هذا السياق يقترح بنفينيست تعريفا للتلفظ بوصفه: " إجراء توظيف اللسان بمقتضى فعل فردي في الاستعمال"9
ولا شك أن التلفظ بهذا المعنى يتضمن مجموعة من الجمل والعبارات قيد
الاستعمال في الخطاب؛ ومن ثمة كانت الملفوظات جملا محققة ومنجزة في
الاستعمال الفردي للمتخاطبين10.
بهذا
المفهوم يتحول اللسان بوصفه نظاما تجريدا من الأدلة إلى إنية الخطاب
Instance de discours، وذلك بفعل الممارسة التلفظية التي يضطلع بها الفرد
من جهة امتلاكه لها. فالتلفظ هو النظرية العامة التي تتناول بالدراسة
والتحليل العناصر اللغوية التي تتحدد دلالتها المرجعية من خلال السياق من
مثل: الإشاريات الشخصية، والإشاريات الزمانية، والإشاريات المكانية،
وإشاريات الخطاب، وكذا الإشاريات الاجتماعية من مثل: أنا، وأنت، وهنا،
والآن. وكلها عناصر لا تحيل على شيء في العالم ولا على أحوال موضوعية في
الزمان والمكان، ولكنها تحيل على إنية الخطاب الذي ترد فيه، وهي إذ ذاك
تمكن المتكلم من تمثل المواقف التعاملية في المقام التواصلي. وفي هذا
الإطار يشير بنفينيست إلى أنه: " يمكن تحديد التلفظ بالنسبة للغة
بوصفه حدث امتلاك للغة، فالمتكلم يمتلك الجهاز الصوري للغته ويعلن عن موقعه
بوصفه متكلما من خلال أمارات خاصة، لكن بمجرد أن يقوم بذلك، يقوم في الآن
نفسه بتنصيب الآخر مخاطبا له أيا كانت درجة الحضور التي يحولها للآخر "11.
وانطلاقا من خاصية التلفظ، يذهب بنفينيست
1966 في تحديده للخطاب على أنه ذلك القسم الذي يعارض اللسان، من حيث إنه
يمثل المجال الذي تتحقق فيه الإبداعية والتناصية بوصفهما قيمتين جديدتين
لوحدات اللسان. وفي هذا السياق يعرف التلفظ على أنه الفعل الفردي الذي يسمح
للمتلفظ بتفعيل النظام اللساني، أو بالأحرى تحويل اللسان إلى خطاب. وحسب
هذا التصور، يغدو الخطاب تظاهرة تلفظية في كل حدث لساني تواصلي، وبمعنى
أدق، يرى بنفينيست أن المفهوم الأوسع للخطاب يتحدد في نطاق " كل تلفظ يفترض متكلما ومستمعا، وعند الأول هدف التأثير على الثاني بطريقة ما "12. ذ
ذاك تتوقف الجملة عن كونها موضوعا للدراسة اللسانية، وتحل محلها وحدة ما
بعد الجملة هي وحدة الخطاب. ومع هذا الاستكشاف الجديد، والتعميق المنهجي،
تم توسيع نطاق موضوع البحث في اللسانيات، أو بالأحرى فك عزلتها من مضايقات
النزعة المعيارية المجردة إلى دينامية الاستعمال الخلاق للغة. ولا يفوتنا
أن نسجل في هذا المقام، أن الظواهر المرتبطة بمقولتي الزمان والمكان لم تحظ
بالاعتناء المطلوب في الدراسات اللغوية العربية قديمها وحديثها، والسبب في
ذلك يعود حسب رأي المتوكل إلى تعدد أبعاد هاتين المقولتين وتباينها،
واستعصائها على الضبط والصورنة. ويكفي أن نسجل ما لاحظه أحد الباحثين من أن
الصيغ المتوافرة في اللغة العربية للتعبير عن المقولتين متداخلتين نمطان
أساسيان: صيغ اشتقاقية، وصيغ إلصاقية13.
وعلى
غرار ذلك، ينبغي أن نتوخى التأبي الدقيق للفواصل المنهجية بين اللسانيات
بمفهومها العام ولسانيات التلفظ، على نحو ما يحيلنا ديكرو على أننا: " عندما
نتحدث عن لسانيات التلفظ فإننا نتناول هذا المصطلح بمعناه الضيق، فلا نأخذ
المظهر الفيزيائي لبث الكلام واستقباله الذي يندرج ضمن علم النفس اللساني
أو أحد تفرعاته ولا التحولات التي تطرأ على المعنى العام للكلام بسبب
الوضعية، وإنما المقصود هو العناصر التي تنتمي إلى اللغة وتتنوع دلالتها من
كلام إلى آخر من مثل، أنا، أنت، هنا، الآن،؛ إن الشيء الذي تحتفظ به
الدراسة اللسانية هو البصمة التي تتركها عملية التلفظ في الكلام"14. ن يتضح دور الإشاريات بوصفها عناصر مقامية تشرف على تحديد دلالات الملفوظات اللسانية في الاستعمال.
من
اللافت للنظر أن للمتكلم دورا رياديا في نظرية التلفظ من جهة كونه مرجعية
لكل ملفوظ، وفاعلا في الخطاب؛ هذه المرجعية تشتغل وفق خاصية التناظر، إذ
يتحول المتكلم إلى مستمع، والمستمع إلى متكلم بوصفهما جزأين من الحالة
التلفظيةSituation d’énonciation ، وذلك بعد عملية تضمين الشخص الآخر كبعد
ثاني في العملية التلفظية ضمن إطار العلاقة التذاوتية Intersubjective ،
أو ما أضحى ينعت في حقل الدراسات السوسيولسانية بـ: المخيال اللساني Imaginaire linguistique الذي يعبر عن علاقة الفاعل اللافظ باللسان في رحاب الفعل الخلاق للغة قيد الاستعمال15.
ا أن الإشكال النظري الذي ما فتىء يربك الأنموذج التلفظي المقترح من قبل
بنفينيست قد سمح لبعض الباحثين بإعادة تشييد مقولة التلفظ وصقل محور
المؤشرات اللسانية؛ مما سمح بتعميق المجال التطبيقي للتلفظ وتوسيعه. وفي
هذا السياق يشير كلايبر G.Kleiber إلى إمكانية تجاوز
الإطار الزمكاني وكذا الأطراف المشاركة في عملية التلفظ، إلى مقام التلفظ
بوصفه الموضوع الأساس الذي تهدف إليه هذه الدراسة.
على
هذا الأساس، يبدو حسب G.Kleiber أن هذه العناصر بإمكانها أن تتمتع بحضور
فيزيائي أو ذهني ضمن عملية التلفظ. ومن ثمة فإن توسيع نطاق الإشاريات
سيؤول من الناحية النظرية إلى ما أضحى ينعت بـ " الذاكرة الخطابية " للمتلفظ أو بالأحرى " المعارف المشتركة
" بين المرسل والمتلقي، التي تمثل كل المعطيات الخطابية المتعلقة بالمعارف
الثقافية والموسوعية للذاكرة الجماعية التي توضع قيد عملية التواصل. و
نحسب أن هذا التصور يقترب كثيرا من نظرية الأطر عند مينسكي، ومفهوم المدونات عند روجي شانك، وكذا مفهوم الخطاطات عند يول وبراون وبهاتن،
والتي طبقت في أبحاث الذكاء الاصطناعي وعلم النفس المعرفي بوصفها إجراءات
عملية لتنشيط المعرفة الخلفية في بناء انسجام الخطاب وتأويله16.
لا
شك أن دراسة بنفينيست للعامل اللامرئي المتحرك والمتعلق بالزمن من حيث
تقسيمه إلى الزمن التاريخي أو زمن المحكي Récit ، وزمن الخطاب قد شكلت
موضوع انتقاد وتعديل من لدن نخبة من الباحثين في حقل لسانيات التلفظ. يتعلق
الأمر في هذا السياق بالزمن الماضي المركب Passé composéالذي يوظف في
الخطاب بالكيفية نفسها التي يوظف بها في محكيات السيرة الذاتية
Autobiographie. وعلى هذا الأساس، يبدو في نظر André Petit Jean
أن الماضي المركب زمن ذو وجهين في الاستعمال؛ استعمال خطابي، واستعمال
تاريخي. يتجلى الزمن في اللغة بواسطة القرائن التي تتحدد بجوار الأفعال، أو
من خلال الظروف (ظروف الزمان) التي نصطلح عليها عادة بالمؤشرات الزمانية
من مثل: الآن، اليوم، غد، أمس، ونحو ذلك17.
أما ما يتعلق بلحظة الخطاب فتبقى المحور الذي ترتب بموجبه مؤشرات الزمن، ولتحديد مختلف هذه المؤشرات تبعا لأزمنتها تقترح Kerbrat Orcchioni
صنافة متميزة لهذه المؤشرات ن حيث توظيفها من أجل توزيع جديد يعتمد وظيفة
المرجع لحظة التلفظ من جهة، وبحسب إجراء المؤشرات القائم على تفسير
التعارض بين الآنيSimultanéité : حيث يبدو استعمال المؤشرات مقترنا
بالحاضر، والمتضمن في الزمنAntériorité : حيث زمن المؤشرات قبليا، وما
يأتي بعد الزمن Postériorité : حيث لم ينقض زمن المؤشرات بعد، أو بالأحرى
تفسير مدى التعارض بين هذه المستويات وما يمثل الحياد في الزمن Neutre 18 لمؤشرات التي يبدو زمنها غير محدد، كونها تتميز عن المؤشرات المحددة بسبب اختلافها وتميزها.
وعلى
غرار ذلك، ثمة أطروحة أخرى لبنفينيست، تعرضت لنقاش جدري من قبل بعض
الباحثين، تلك التي تعنى بفحص إمكانية الحديث عن تلفظ واضح وشفاف Limpide
من صنف المحكيات المحددة بغياب إسهام المتلفظ. وبتعبير أدق، فإنه يستحيل
حسب ديكرو O.Ducrot أن نتقبل فكرة السرد التاريخي من
منظور بنفينيست، وإلا نعتبرها من قبيل الأفق الأسطوري لبعض الخطابات، ذلك
في حدود التسليم بأن كل ملفوظ يفترض مسبقا الشخص الذي تلفظه بالضرورة.
وعندئذ ينشأ المحكي حسب O.Ducrot من تلفظ هجين ومعقد حيث يتم استعراض
ظاهرة الدخيل بين سجلين لسانيين أكثر بروزا في مجالي الدلاليات والتداوليات
اللذين طالما عملا على فسح مجال المؤشرات اللسانية للتعبير عن حضور طرفي
العملية التواصلية (المرسل والمتلقي).
على
الرغم من الانتقادات والنقاشات التي تعرضت لها بعض مقولات نظرية بنفينيست،
إلا أن لهذا الباحث دورا حاسما في رسم الحركية النسقية لتفسير الظواهر
اللسانية قيد الاستعمال والإنجاز وفق رؤية تنطلق من واقع الخبرة التي
قوامها التأمل المحايث للخطاب، إثر معاينة التوظيف الخلاق للغة؛ ذلك من
خلال مغادرة فضاء الجملة واقتحام فضاء الخطاب. وقد سمح العمق المعرفي الذي
حظي به منظور بنفينيست باستقطاب نخبة من الباحثين ولا سيما المشتغلين في
حقل لسانيات التلفظ؛ فراح ثلث منهم يعمل على تعميق فرضيات البحث في مقومات
الفعالية اللغوية عموما ونظرية التلفظ على وجه الخصوص. وفي هذا الصدد،
يؤكد كيليوليCulioli 19 على غرار
بنفينيست، على أن التلفظ هو بناء فضاء مكاني وزماني، ثم توجيه، فتحديد شبكة
من القيم المرجعية وكذا تأسيسها ، أو بالأحرى هو نسق استعلامي Système de
repérage يتحدد بموجبه المتلفظ والمتلفظ المشارك وزمان التلفظ ومكانه.
ومن
ثمة فإن وصف فعالية موضوع ما، تقتضي بالضرورة تشخيص تلك الفعالية بكل
العوامل التي تتحكم فيها، وفي مقدمتها الملفوظات - بوصفها تحقيقا للفعالية
اللغوية - والتي تم بناؤها انطلاقا من نسق القواعد النحوية التي بات
يستهدفها التحليل اللساني. لا شك أن عملية بناء الملفوظات تتم ضمن إطار
المقام التلفظي بين المتلفظ والمتلفظ المشارك ( المتلفظ الممكن) الذين من
خلالهما يتم تبادل فحوى الخطاب. وعليه فإن معنى ملفوظ ما غير قابل للتعريف
في غياب إحالة على مقام معين. ويبدو أن اعتقاد كيليولي الراسخ بمفهوم مقام
التلفظ هو الذي سمح له بفسح المجال للقيم المرجعية (الزمن، الصيغة، التصور،
الكمية) بوصفها بنى معرفية منجزة من قبل الفاعل20.
وفي مقابل المحور الثنائي المتعارض في النظرية التوليدية التحولية عند تشومسكي
(اللسان/الكفاءة، والكلام/الأداء)، يقترح A.Culioli ثنائية (الإنتاج
Production، والتعرف Reconnaissance)، التي تعني الكلية الكونية لإنتاج
النصوص وتأويلها من قبل الفواعل Les sujets. وعلى غرار، مقولتي المتلفظ
والمخاطب يضيف A.Culioli مصطلحا آخر وهو المثبت Asserteur ، وهو الشخص
الذي يشرف – بالمعنى الدقيق للمصطلح – على تحديد معنى الملفوظ؛ إذ يفترض
فعل الإثبات شخصا متلفظا ... فالإثبات في نظر بعض الباحثين أن يوضع القول
محل الصدق أو الكذب، وهو لا يتعلق بإيصال حقيقة معينة، بقدر ما يسهر على
ضمانها؛ ومن ثمة، فإن " جملة الإثبات Ph.assertive على
سبيل المثال، والتي تمثل من حيث هي كذلك، صورة للواقع العلمي، لا يمكنها
أن تكون كاذبة أو صادقة. يجب على الفلسفة أن تتلفظ بجمل لها معان. وتنقسم
هذه الجمل إلى قضايا تركيبية Propositions synthétiques لها قيمة الصدق أو الكذب، وقضايا تحليلية تتوفر على قيمة الصدق دائما "21يربط
الإثبات في الغالب الأعم بالأقوال ذات الصيغ الدالة على الحاضر، وهي صيغ
تحتوي على فعل إنشائي ثلاثي الأبعاد، ومن هنا فإن المتكلم " يحمل المخاطب على الاهتمام بما يقول، كما يفترض مسبقا بأنه مستعد لتمثيل ما هو مصرح به؛ ومن ثم فهو طامع في ثقة الآخر "22
فكل من المتلفظ، والمخاطب، والمثبت ينحدر من العالم الواقعي، ويتميز عن
الفاعل النحوي للملفوظ، على نحو يغدو بموجبه المتلفظ طرفا أساسا، وفاعلا
ينتج أو يتعرف انطلاقا من سعيه لبناء شروط الإنتاج والتعرف على الملفوظات
ضمن مسار العملية التلفظية. أما المخاطب، فهو ذلك الشخص الذي يتكلم، وعلى
نحو أدق، ذلك الذي يشرف على عملية إنتاج الملفوظات فيزيائيا وجغرافيا.
من
اللافت للنظر أن A.Culioli يؤسس منظور أبحاثه حول العلاقات التذاوتية ضمن
استراتيجية اقتراض نظرية وظائف اللغة عند ر.جاكوبسون، ولا سيما الوظيفة
الانفعالية أو التعبيرية، والوظيفة الإفهامية التي تسعى إلى توجيه الخطاب
وجهة المخاطب. وفي هذا الصدد يرى A.Culioli أن العلاقة مرسل/متلقي تتحدد
بين قطبين منخرطين ضمن إجراء تواصلي معين؛ وحيث يسلك المخاطب سبيل دلالة
واضحة ومتميزة، يتعين على المتلقي فك التشفير اللساني، ولا سيما التمييز
بين ما يفترض ذكره مسبقا وبين ما هو مصرح به. وعندئذ يجدر بالمتلقي أن
يقتفي نوايا ومقاصد المتلفظ من أجل اختزال مساحة الغموض والإبهام في
الخطاب.
إن
المتلفظ وهو يقوم بإنتاج ملفوظ ما، يدفع شريكه المتلفظ إلى تأسيس علاقة
مرجعية بين الملفوظ والحدث الذي يحيل عليه في الواقع. وتأسيسا على ما سلف،
فإن تصور الكلام بوصفه نشاطا مزدوجا على النحو لذي حدد به سلفا يرجع إلى " رفض
اعتبار موضوع اللسانيات كلا متجانسا منغلقا على نفسه، وهي رؤية مطردة
نجدها في الحذر التوزيعي الذي يكتفي بدراسة صرفية وتركيبية شديدة النقص كما
نلاحظ في مزاعم بعض النظريات الدلالية أو الفلسفية للكلام وقطعه جذريا عن
الواقع المناسب له، أي نكران كل أضرب الوجود أو على الأقل أهمية هذه
الحقيقة المافوق لسانية23 إنعملية تعديل الأنساق الاستعلامية بين
المتلفظين تتموقع من منظور A.Culioli في عمق كل فعل من أفعال اللغة، وتؤسس
للسانيات التلفظ حيث يمكننا تلخيصها في المصطلحات التالية: الفواعل
المتلفظة، زمن التلفظ، مكان التلفظ، بوصفها أنساقا استعلامية تشرف على
تشحين الملفوظات الممكنة بقيمها المرجعية.
بعد
هذا العرض السريع والمكثف للمقاربة التلفظية، بإمكاننا أن نخلص في الأخير
إلى أن كرونولوجيا البحث في التلفظ قد شهد بشكل متواتر وسريع عدة تعميقات
منهجية ضمن مسار البحث اللساني المعاصر ولاسيما لسانيات الجيل الثاني، وذلك
منذ اختماره فكرة في خلد مؤسسها الأول بنفينيست، من خلال تصعيد اهتمامه
بالإشاريات، مرورا بمفاهيم المضمر والافتراض السابق لدى ديكرو، ومفهوم
الوحدات الذاتية في نظرية اوريكيوني، إلى تجسده وجودا مكتملا مع نظرية
الأنساق الاستعلامية لدى كيليولي. وفي رحاب كل هذه التعميقات المنهجية ظلت
المقاربة التلفظية تراهن على تشكيل القطيعة المنهجية مع اللسانيات المحايثة
التي ركزت اهتمامها على معاينة الملفوظات بوصفها وحدات لسانية نظامية
تجريدية، ذلك من أجل طرح تصور بديل يعرف بلسانيات الخطاب ضمن استراتيجية
دراسة الملفوظات المرتبطة بالشروط السياقية لإنتاجها، أو ما شاع بالتداول
في أدبيات تحليل الخطاب باستراتيجية التسييق.
وعلى
غرار ذلك، ظلت النظرية التلفظية تبحث عن معالم تحدد أطرها المرجعية،
وموضوعاتها ومفاهيمها في علاقتها بالعلوم الأخرى، وذلك لرسم منهجها وتشييد
مقولاتها من خلال ممارساتها الإجرائية التي تمتد على نطاق أوسع ضمن نظرية
تحليل الخطاب. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن النظرية التلفظية ولا
سيما نظرية بنفينيست، تسعى لأن تكون حقلا شارحا لإنتاج الخطاب، ذلك من خلال
رهانها الكبير على تدشين القواعد النظرية اللازمة لتمثل المرجع في تحليل
العلاقة بين العناصر الفعالة في العملية التواصلية. إن الفاعل المتكلم
يتموقع مجددا في عمق الملفوظات، في اللحظة نفسها التي يعاد فيها استثمار
المعطى الاجتماعي ضمن الممارسة الكلامية. وإذ ذاك، فإن المحلل اللساني
يهتدي إلى مفهوم التلفظ المقترح إما من أجل تفسير التحول الذي يطرأ على
الفاعل في الملفوظات، وإما من أجل تفسير علاقة المتكلم بالمخاطب في الخطاب،
أو تعليل موقف الفاعل بالنظر إلى ملفوظه بهدف تعليل مدى مشروعية العلاقات
التي تتأسس بين المتلفظ والمتلفظ له.
3- لسانيات النص ومشروع التحول الابستمولوجي:
على
الرغم من كل ذلك، يرى بعض الباحثين بأن بنفينيست ما فتىء يسير في اتجاه
المقاربة السوسورية للجملة التي شهدت طرحا اختزاليا ضمن لسانيات الكلام.
ومن هذا المنطلق، يبدو منظور بنفينيست قريبا من منظور سوسير، من حيث إن
الأول انفرد عن نظيره بمحاولة تأسيسه لتقسيم أساس ضمن اللسان يختلف تماما
عن ذلك الذي اقترحه سوسير بين اللسان والكلام؛ إذ يتعين علينا التمييز في
لسانيات التلفظ بين المجال السيميائي والمجال الدلالي، أي التمييز بين
سيميائيات التلفظ Sémiotique de l’énonciation، ودلاليات التلفظ Sémantique
de l’énonciation 24في هذا الصدد تبدو رؤية بنفينيست
واضحة من حيث ضرورة التمييز بين لسانيات النظام اللساني بوصفه نسقا
سيميائيا حيث يكون اشتغال اللسان بصفة محورية استبدالية انطلاقا من وحدته
الأساس وهي العلامة اللسانية؛ وبين لسانيات الخطاب أو الدلاليات التي ترسم
إجراءات التواصل، وحيث تكون الوحدة الأساس للتحليل اللساني هي الجملة
بالمفهوم الوظيفي؛ ولعل هذا ما حذا ببنفينيست أن يعبر عن هذا المنظور
بسيميولوجيا الجيل الثاني Sémiologie de deuxième génération .24
وخلاصة القول ينبغي " تجاوز
التصور السوسوري للعلامة كمبدأ أساس، حيث ترتبط البنية والوظيفة على
السواء باللسان. ولا شك أن هذا التجاوز يتم عبر مسلكين: الأول في مستوى
التحليل داخل اللسان، من خلال الانفتاح على بعد جديد من أبعاد التدليل،
يتعلق بالخطاب، وهو الذي نصطلح عليه بالدلاليات، يتميز مبدئيا عن ذلك الذي
ارتبط بالعلامة من حيث كونه نسقا سيميائيا. والثاني في مستوى التحليل عبر
اللساني للنصوص والأعمال الإبداعية من خلال بلورة دلاليات واصفة تتأسس في
غضون دلاليات التلفظ؛ مما سيشكل سيميولوجيا الجيل الثاني، حيث يتسنى
لأدواتها ومنهجها مسايرة ركب تطور الفروع الأخرى للسيميولوجيا العامة .25 من
هذا الإطار،تأسس منظور البحث في لسانيات التلفظ جسر العبور بين لسانيات
الجيل الأول (التحليل داخل اللسان)، ولسانيات الجيل الثالث (التحليل عبر
اللساني /التداوليات).
لا
شك أن الفحوص الأولى للمفاهيم الإجرائية بالاعتماد على الجهاز الصوري
للتلفظ، كان بمثابة وضع اللمسات الأخيرة للسانيات التلفظ نحو منظور جديد
للتفكير السيمولوجي عند سوسير. ومع ذلك لم يكن في وسع بنفينيست أن يفتح
مجال التحليل داخل اللسان Intralinguistique على دلالات التلفظ؛ وعليه يمكن
القول إن نظرية التلفظ قد حددت موضوع بحثها سلفا، والمتمثل في إنتاج
الملفوظات لا في نص الملفوظ، هذا الأخير الذي سيصبح موضوع دراسة لفرع ثالث
من فروع البحث اللساني. وبالمقابل يختزل الخطاب في نظام الجملة بوصفها وحدة
أساس لفرع آخر من فروع اللسانيات. ضمن هذا الإطار يسعى بنفينيست إلى تقسيم
الحقل العام للسانيات إلى ثلاثة مجالات حيث تحتل لسانيات التلفظ مركز
الصدارة ضمن هذا التقسيم. بإمكاننا أن نمثل هذا التصور بالخطاطة التالية:
يوضح
لنا هذا المخطط البياني العلاقة التقابلية بين مجالين مختلفين ضمن الحقل
العام للتحليل اللساني هما: سيميولوجيا اللسان/السيميولوجيا، والتدليل
الواصف للنصوص والأعمال الإبداعية/الدلاليات الواصفة أو الإيحائية، على أن
تظل هذه العلاقة ذات التباعد الابستمولوجي Discontinuité بحاجة ماسة إلى
حقل وسيط من شأنه أن يزيل هذا التباعد، ويسعى إلى تحقيق الانسجام والترابط
بين مجالي البحث اللساني، ألا وهما: حقل سيميولوجيا التلفظ، وتدليل
الخطاب/الدلاليات، وعندئذ تتحدد العلاقة التكاملية في البحث اللساني وفق
المعادلة التالية:
الحقل العام للسانيات = التحليل داخل اللسان + التحليل عبر اللساني.
يبدو
أن لسانيات الخطاب بالاعتماد على دعامة لسانيات التلفظ، بإمكانها أن تنفتح
– من جهة - على مجال أوسع ممثلا في التحليل عبر اللساني للنصوص Analyse
translinguistique des textes، ومن جهة ثانية على التحليل عبر اللساني
للأعمال الإبداعية Analyse translinguistique des oeuvresبوصفها إنتاجات
أدبية للغة انطلاقا من التسليم بمركزية اهتمام اللسانيات بدراسة اللغة
الشعرية منذ سنة 1968، من مثل تلك التي أنجزها كل من بارث 1966،
وج.كريستيفا 1969. إلا أن اعتراض بنفينيست ظل قائما على محدودية هذا
الانفتاح بحجة أن معظم الممارسات التي قدمت في هذا المجال ظلت وفية بشكل من
الأشكال للمقولات الموظفة في تحليل اللغة العادية، ومن ثم صعوبة التعامل
مع اللغة الشعرية بمنطق تحليل اللغة العادية. وعلى هذا الأساس يقترح
بنفينيست وضح جهاز مفاهيمي جديد يمكن اعتماده في التحليل عبر اللساني
للنصوص، مع ضرورة اعتماد استراتيجية تعمل على تجاوز مقولات اللسان إلى
المقولات النصية.
من
المؤكد أن حقل لسانيات النص الذي يعمل على تصعيد رؤيته المنهجية في دراسة
اللغة باطراد، ظل يشير إلى تحول ابستيمولوجي مميز من الاتجاه القالبي إلى
الاتجاه التفاعلي. حيث إن الانشغال السابق بالصور المجردة للجمل التوضيحية
المنعزلة عن السياق التواصلي للنصوص، سرعان ما تحول إلى اهتمام مستجد بحدوث
التجليات العادية للغات الطبيعية من خلال النصوص26. ومهما اشتملت وقائع
استعمال اللغة على تركيب سطحي من كلمات أو جمل وتراكيب، فإنها تقع - دون
أدنى شك – في نطاق نصوص، أو بالأحرى ضمن أشكال لغوية ذات معان تواصلية. وفي
رحاب هذا التحول اتجه رهان البحث اللساني حول إجراءات الاستعمال لنماذج
اللغة التواصلية، أي الأنساق اللسانية الموجودة بالفعل بدلا من التركيز على
معاينة الأنساق اللسانية المجردة الموجودة بالقوة في أذهان المتخاطبين.
ومن ثمة، أضحت الحدود التقليدية الضيقة للسانيات تتلاشى أمام انفتاحها على
العلوم الإنسانية والدقيقة على حد سواء، من مثل علم النفس وعلم الاجتماع
والفلسفة والإعلام الآلي والسيبرنيطيقا وغيرها.
لا
شك أن التعميقات المنهجية التي شهدتها اللسانيات في هذه المرحلة مكنتها من
إعادة التشييد الابستيمولوجي لجهازها المفاهيمي، والعمل على تطويعه وفق
حركية الممارسات اللغوية في التواصل النصي، ولا أدل على ذلك من مفهوم
النظام الذي طالما استقر في أبحاث اللسانيين بكيفيات مختلفة مع كل من:
سوسير، وبنفينيست، وفيرث، وهاليداي، وكلارك، وفاندايك...وغيرهم؛ حيث شهد
هذا المفهوم نقلة ابستيمية من مجال النسق التجريدي إلى مجال السياق
السوسيوثقافي؛ وفي هذا الصدد، بات ينظر للغة على أنها اهتمامات معرفية تدور
حول حركية كائن معين من مثل الضبط، والتعرف Identification، والتعميم
Généralisation، والوصف Description، والتفسير Explication، والتوقع
Prediction، وإعادة البناء Reconstruction. 27
تجدر
الإشارة، إلى أن اللسانيات في المراحل الأخيرة حاولت أن تتجاوز النظرة
التجزيئية لمستويات أبحاثها وصفا وتحليلا، من مثل المستوى الصوتي،
والدلالي، والنحوي؛ على أن يتم استنباط هذه المستويات وتنظيمها بوصفها
مجالا متكاملا للبحث. وعندئذ لم يعد لمجالي النحو والدلالة ذلك الطابع
الاستقلالي الذي طالما حظيا به في معالجة اللغات المنطقية الصورية؛ بل
اقتضت الضرورة الابستيمولوجية في معالجة اللغات الطبيعية قيد الاستعمال
(العادية) تنظيم كل المستويات اللسانية في شكل نظام متشابك تتوقف صلاحيته
على تكافل الأنظمة المكونة، ولا سيما النحو والدلالة؛ وذلك وفق ضوابط
داخلية (الروابط ومراتب المعنى)، وضوابط خارجية (الأغراض النفعية) تعمل على
تنظيم تكافل ذلك النظام مع أنظمة أخرى. ومن المؤكد أن الضوابط الخارجية
نحو تلك المتعلقة بالسياق والأغراض النفعية للكلم ستحظى باهتمام بالغ إذا
ما ألحقت بحقل التداوليات الذي يؤسس للمعنى في الاستعمال؛ وهو بذلك يعد
مجالا خصبا للنشاط المعرفي والإنساني ولا سيما في حقل تخطيط النصوص بوصفها
مطايا لأفعال لغوية ذات مقاصد وغايات.
يبدو
أن مسألة تنازع النحو والدلالة ضمن أبحاث لسانيات الجيل الثاني، ظلت -
بحال من الأحوال – تعكس منطقة تنازع اللغة والخطاب في التراث اللغوي
العربي، وعلى نحو أدق، تنازع المنطق والنحو، وهو المجال الذي لم لم يبلغ
النحاة والمناطقة الأوائل التفاوض الإيجابي حوله، " وما زالت أصداء
مناظرة السيرافي العالم النحوي الكبير ومتى بن يونس شيخ المناطقة في عصره
تتردد في أرجاء هذه المنطقة من تنازع اللغة والخطاب. لقد خرج السيرافي من
مناظرة متى مقتنعا بأنه حسم الأمر لصالح النحو، معتبرا المنطق مجرد نحو
للغة أمة اليونان، في حين خرج متى مقتنعا بأن النحوي عاجز عن إدراك البعد
الكوني للمنطق. لقد تغيرت الظروف وتكشفت شيئا فشيئا منطقة تداخل صالحة
لتعايش المنطق والنحو، هذه المنطقة هي التي سميت علم المعاني والبيان
".28 ولما كان مشروع السكاكي (علم الأدب) أول محاولة لخلق منطقة التعايش
الحميمي بين المنطق والنحو، حق لنا أن نقول: إن هذا المشروع البلاغي الرائد
يمثل تصورا مبكرا للبلاغة الجديدة أو لسانيات النص هذه الأخيرة التي حاولت
أن تنقذ البلاغة من مأزق الرؤية الاختزالية في صف الآداب الجميلة طورا،
ومن إنزلاق موضوع بحثها طورا آخر.
مراجع البحث
- ينظر إبراهيم خليل، في اللسانيات ونحو النص، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة الأردن ط1 2007 ص 185.
- لا مندوحة أن تأخذ بعين الاعتبار نظرية الربط العاملي في اللسانيات التوليدية والتحويلية بوصفها مثالا عن جسر العبور المنهجي بين نحو الجملة ونحو النص، إذ عمل كثير من الباحثين في هذا الإطار النظري على ولوج النص من خلال المبادئ التي قامت عليها تلك النظرية من مثل مفهوم العمل والربط في النحو العلائقي، بالإضافة إلى الدراسات المتعلقة بالإحالة Anaphore في مختلف وجوهها.
- ينظر الأزهر زناد، نسيج النص المرجع السابق ص ص 18/19.
- انطلقت أصداء هذه النظرية من إسهامات نخبة من الباحثين الغربيين في هولندا بزعامة سيمون دايك، ثم اتشرت في ما بعد بفضل التواصل والاغتناء المعرفيين لتشمل مختلف أنحاء العالم. أما في العالم العربي يبدو أن المغرب يحتل صدارة الدول العربية التي احتضنت المنحى الوظيفي في الأبحاث اللسانية تنظيرا وتطبيقا وذلك بزعامة نخبة من الباحثين المغربيين أبرزهم د.أحمد المتوكل.
- ينظر أحمد المتوكل، الوظيفية بين الكلية والنمطية، منشورات دار الأمان الرباط/المغرب ط1 2003 ص 15.
- ينظر إبراهيم خليل المرجع السابق ص 185.
- جان سيرفوني، الملفوظية ترجمة قاسم المقداد، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق/ سورية 1998 ص 17.
- على وزن الصيغة الاشتقاقية العربية "فعلل " التي تفيد دلالة التحويل والتفعيل ، وتعني في هذا المقام تمكين التحليل اللساني من استراتجية جديدة.
- http://manifest.univ-ouargla.dz/index.php/seminaires/archive/facult%C3%A9-des-lettres-et-des-langues/29-%D8%A7%D9%84%D9.html
الأحد، 5 أكتوبر 2014
الخميس، 2 أكتوبر 2014
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)