بصائر اللسانيات
الدكتور محمد الأوراغي
كلية الآداب- جامعة محمد الخامس
أﮔﺪال - الرباط
تقديم
التواصل الثقافي بين الأقوام والأمم طبيعي بدافع الفضول المعرفي الفطري في الناس، لكنَّ تحقيقَه ينبغي أن يكون بالقدر الذي ينفع كلَّ طرفٍ، وإلاّ انقلب تقليداً، وهو مرفوضٌ من جهات. لأنه يورِّث الاسترخاء الذهني، ويُوهِّن الحسَّ النقدي، ويُقوِّي التواكلَ على الغير، ويُضعف القدرةَ على التمييز السليم بين ما ينفع الناسَ أو يضرُّهم. فضلاً عن كونه يأخذ بأصحابه في كلِّ اتِّجاهٍ، إذ ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي.
ولتجنُّب تقليد الآخر أو الانكفاء على الذات لا مندوحة من تثاقفٍ متبصِّرٍ؛ وهو الذي يمنع الانسلاخَ من الهوية الثقافية، ويسمح بالاستفادة من تجارب الآخرين وخبرتهم بما يُطوِّر الذاتَ ولا يقطعها عن أصولها. وهذا الضرب من التثاقف يستعصي على الكثير ممن يشتغلون بالثقافة في البلدان المتخلِّفة علمياً وتقنياً، فيحسبون أن تطويرَ المعرفة محلِّياً مرهونٌ بترديد أفكار الآخرَين وإعادةِ أقوال علمائِهم مترجمةً إلى لغاتهم الوطنية.
وما ذكرناه من التقليد ملحوظٌ بوضوح في أعمال الكثير من اللسانيين العرب المحدَثين الذين توقفوا عند الحديث باللغة العربية عن النظريات اللسانية الغربية، أو زادَ مجتهدوهم بأن حاولوا تطويعَ العربية للنماذج النحوية الغربية، وسَعْوا إلى إيجادِ تطابقٍ بين توقعات تلك النماذج وبين واقع اللهجات المحلية، أو بينها وبين عربية الصحافة اليومية. بل كان استيراد اللسانيات إلى وطن العربية لذات اللسانيات ومن أجل ذاتها، كما سيتضح أكثر في الحوار الأول من هذا المقال.
ومن الصعب إنكارُ أن العلوم تُثمر النتائجَ المرجوة بشرط الاستنبات المحلي من أجل اقتراح حلولٍ عملية لمشاكل ملحَّةٍ محلياً. وينكشف ذلك من خلال المقارنة بين لسانيات عربيةٍ نشأت قديماً لمعالجة الخطاب الشرعي والأدبي فأثمرت أعمالاً هائلة قلَّ نظيرُها في مختلف اللغات البشرية، وبين لسانيات غربية استُقدِمت إلى وطن العربية بهدف استحداث معالجةٍ أخرى لنفس الخطاب الشرعي والأدبي، فكانت النتائج هزيلة كماً وكيفاً إلى درجة تعذُّر المقارنة بين المعالجتين، كما سيتبين أكثر في الحوار الثاني. وليس لي سوى أن أشكر بالغ الشكر المحاورين الكريمين لما أبديا من الاهتمام المعرفي بالبحث اللساني المعاصر مقارنةً له بمثله القديم وتطبيقاً لنتائجهما في شتى المجالات التي يبدو فيها عنصرُ اللغة مركزياً.
1. حوار اللسانيين*
س: لقد أشار العالم الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس إلى أن اللسانيات بفضل توجهها العلمي ستصبح جسرا تعبره كل العلوم الإنسانية الأخرى إن هي أرادت أن تحقق نصيبا من العلم. ولا أحد اليوم يستطيع أن يشكك في تحقق هذه النبوءة، ما الذي يجعل اللسانيات تشغل صدارة العلوم الإنسانية وتستأثر بكل هذا الاهتمام؟
ج: من الوجاهة التساؤل بَدْءاً عن سر انفراد اللسانيات دون باقي العلوم الإنسانية بالاقتراب من العلوم الدقيقة إن لم تكن من ضمنها، وهل لهذا التميُّزُ علاقةٌ باجتذاب اللسانيات للعدد الكبير من المثقفين الباحثين في العلوم الإنسانية عامَّةً. ولعلَّه من المفيد البدْءُ بالشقِّ الأخير من سؤالكم الأول.
يكشف تاريخ العلوم عن ثوابت مطَّردةٍ، في المقدِّمة يأتي ربطُ الجهد الثقافي المنفَق في حقل معرفي بمدى استثمار النتائج المتوصَّل إليها والانتفاع بها في أكثر من ميدان. إذن، على قدر الانتفاع بالعلم يأتي الاهتمام به. ولما كانت اللسانيات عِلماً يتَّخذ من اللغة موضوعاً للدراسة، كما هو معلوم، كان توظيفُ نتائج هذا العلم حيثما استعملت اللغة أداةً للتواصل. فما انتهى إليه سيبويه من بحثه قديماً في العربية توسَّل به المفسِّر حينئذٍ في بيان النص القرآني، والناقد في تحليل الخطاب الفني، والأصولي في استنباط الحكم الشرعي، والمنطقي في تحديد مقدمات القياس، والمتكلِّمُ في تخليص أصول الدين، والمربي في تلقين قواعد العربية، والبلاغي في الكشف عن الإعجاز القرآني، وهلم جرا.
فالاشتغال باللسانيات يولِّد حصيلة من المعرفة اللغوية، وهذه الحصيلةُ تُتَّخذُ آلةً منهجيةً في الكثير من الحقول المعرفية، حتى اضطرَّ إلى الاهتمام بعلم اللغة متخصصون في ميادين أخرى شغلت الناسَ في عصرهم، وانتقل منهم الكثيرُ إلى التأليف فيه وهم ليسوا من أهله. وترتَّب عنه أن ارتفعت نسبةُ المشتغلين بعلم اللسان بالقياس إلى باقي علوم الإنسان.
مما سبق نحتفظ بالحقيقة التالية: إن للسانيات في كلِّ عصرٍ حصيلةً من المعرفة اللغوية قابلةً لأن تتحوَّلَ إلى آلة منهجية في الكثير من الحقول المعرفية. ولما كانت المعرفةُ اللغويةُ حلقةً في سلسلة المعرفة البشرية داخل ميادين كثيرة كان لابدَّ من الاهتمام بصحَّة المعرفة القاعدية، لأنه لا يمتنع منطقياً أن يختلَّ ما تولَّد عن مختلٍّ.
ولعلَّ أهم ميزةٍ طبعت المعرفة البشرية في العصر الحديث هو تخلُّصها التدريجي من «المعرفة العادية» المتولِّدة عن الاستعمال المباشر للملكات الذهنية، لفائدة «المعرفة النسقية» التي تَنتُج عادةً عن استعمال أجهزة مفهومية تُصنَع مسبقاً للتقيُّد بتعليماتها من لدن كل باحثٍ ينظرُ في حقل من الموضوعات المتجانسة. من خصائص المعرفة العادية كثرةُ الخلاف وقلَّةُ الصواب، بينما المعرفة النسقية تختصُّ باليقين وإن لم يُصادف حقّاً.
ومن المعلوم أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تميَّزت اللغة دون باقي العلوم الإنسانية بمقاربة لم تَعْهدها من قبلُ، إذ لأول مرَّةٍ صارت اللغة تحت أنظار باحثٍ سويسري، ورث عن آل سوسور ذهنيةً علمية لاشتغال أجيال منهم بالعلوم الدقيقة خاصة، ثم تلقَّى تكويناً عميقاً في علومٍ طبيعية وفيزيائية وكيماوية، وتشبَّع بالتوجُّه النسقي العام الآخذ وقتئذٍ في التبلور والانتشار داخل الكثير من الحقول العلمية. كلُّ ذلك مكَّنه من أن تكون له مشاركةٌ قوية من ميدان اللغة في إقامة جهازٍ مفهومي قادرٍ على حلِّ مشاكل معقَّدة في مختلف حقول العلم وميادين الصناعة
وبفضل نظرة سوسور إلى اللغة، بوصفها كياناً يتألف من عناصر متآزرة تتحدَّدُ من الموقع الوظيفي لبعضها عند البعض الآخر داخل كلٍّ في غاية الانتظام والاتِّساق، صارت اللغة مشمولة بنظرية الأنساق العامة التي تأسَّست على يد فون بِرْتَلانْفي في منتصف القرن الماضي من أجل المقارنة بين الأنساق الحقيقية، وعادت اللغة كغيرها من الظواهر المعقدة تُعالج معالجةً نسقية، ويتأتى وصفها بلغة رياضية، كما في اللسانيات الرياضية.
وباختصار شديد لما أُخذت اللغةُ في العصر الحديث على أنها نسقٌ مفتوح يتفاعل مع باقي الأنساق المحيطة به تأتى للسانيات أن ترتقي إلى مستوى النظرية بالمعنى الدقيق، وعندئذٍ صار للمعرفة اللسانية استعمالات في ميادين جديد غير الميادين التقليدية الموروثة. فتكوَّنت اللسانيات الاجتماعية التي جعلت من التشاكل البنيوي بين اللغة والمجتمع موضوعا للدراسة، وصارت في اللسانيات النفسية نظرية ضمن العلوم الطبيعية، إذ حاول شومسكي أن يجعل من نموذجه اللساني آلة منهجية للكشف عن التركيب البنيوي للدماغ البشري، وهو موضوع يخصُّ البيولوجيين أصلاً. ولما أراد الإنسان المعاصر أن يتواصل مع الآلة باللغة الطبيعية دخلت المعرفة اللسانية ضمن العلوم الهندسية، وظهر ميدانُ اللسانيات الحاسوبية. وهكذا أخذت اللسانيات تظهر في كل حين مقترنةً باسم الميدان الذي توظَّف فيه حصيلةُ المعرفة اللغوية المقتنصة بالنظرية اللسانية المستحدثة. ولعل هذه الكلمات المختصرة كافيةٌ لرسم فكرة واضحة عن حصيلة اللسانيات في بيئتها الغربية.
س: في ظل هذا (المعطى) المعطيات، ما هو تقييمكم لحصيلة البحث اللساني في الثقافة العربية بعد مرور أكثر من نصف قرن على تعرف ثقافتنا على البحث اللساني بمعناه الحديث؟
ج: من الطبيعي أن يستفسر متتبِّعُ الحركة اللسانية عن حصيلة هذا العلم في العالم العربي كافة والمغرب خاصة. ولتكوين فكرة واضحة عن وضعية البحث اللساني في المؤسسات الجامعية داخل الوطن العربي لا بأس من اقتضاب نظرة تاريخية من شأنها أن تُفسِّر حال اللسانيات العربية ومآلها.
من المعلوم أن العالم العربي خرج من عهد الاستعمار وأهلُه أقرب إلى الجهل منه إلى العلم؛ قلَّةٌ من المثقفين بالقليل من علم السلف، ومع شيء من لغات الغرب تحوَّلت طائفةٌ منهم إلى مخططين للنهضة العربية. وغلب الاتجاه القائل بعدم كفاية التراث العربي لإطلاق نهضة على غرار ما حصل في أوروبا، وبالتالي لا مفرَّ من التلمذة على مستعمِر الأمس، إذ هو السبيل الممكن لإخراج الشعب العربي من التخلف، وإدماجه بشيء من هويته في حضارة هذا العصر.
توالت البعثات العلمية وهي خالية الذهن، منطلقُها البلدانُ العربية، ووجهتُها مراكزُ الثقافة العصرية في العالم. لم يكن الإيفادُ جزءاً من مشاريع علمية وطنية، غايتُه اكتسابُ المعرفة العملية وتكوين الخبرات اللازمة للنهوض بأوراش مفتوحة في شتى القطاعات داخل الوطن العربي، وإنما كان لمجرَّد الاطلاع على الثقافة المتداولة في البلدان الغربية. وكان من نتائج هذا الضرب من الإيفاد العلمي المرتجل أن عاد المتخرِّجُ من الجامعات الغربية بنصيبٍ مِنْ ثقافة المشرفين على تكوينه. حتى إذا انخرط في سلك التعليم الجامعي في وطنه لم يكن بوسعه إلا أن يُردِّد ما جلب في حقائبه من الأفكار والقناعات بصرف النظر عن موقف الثقافة المحلية منها.
وإذا نظرنا إلى البحث اللساني العربي الحديث في السياق التاريخي أعلاه عزَّ الموفدُ في إطار شراكة بين مؤسستين عربية وغربية تنهضان بنفس المشروع العلمي في أحد الميادين اللسانية النافعة، وفي المقابل كثر المبعوث من أجل الاطلاع على الثقافة اللسانية الغربية المتداولة في مؤسَّسات الآداب والعلوم الإنسانية خاصة. ومعظمُ هؤلاء مقتنعون بأطروحتين:
الأولى تتصل بالفكر اللغوي العربي القديم، وتدعو إلى ضرورة القطع مع الماضي، إذ لا مبرر منطقي للعودة إليه كما جاء على ألسنة الرواد، وعندئذ يستقيم مبرر التلمذة على الغرب في ميدان اللسانيات، ويتيسّر في نظرهم إطلاق نهضة حقيقية في مجال اللسانيات العربية الحديثة بغية تطوير البحث في اللغة العربية ولهجاتها المحلية. لكنَّ تجربةَ الخمسين عاماً الماضية بيَّنت أن النهضة المتحدَّث عنها تقلَّصت إلى ترديد المحليين لأفكار الغربيين وآرائهم اللغوية، ثم تطبيق نظرياتهم على اللغة العربية ليُثبتوا لهم صوابَ ما رأوا.
أما الأطروحة الثانية، وهي مكملة للسابقة، فتقوم على النفي المطلق لأيِّ حاجةٍ إلى نظرية لسانية جديدة تكون مستمدَّةً من الخصائص النمطية للغة العربية. لأن العربية في نظر هؤلاء لا يمكن أن تشكِّل استثناءً لما يقوله الغرب عن لغاتهم. بل كلُّ ما تتوقَّعُه نظرياتُهم اللسانية يجب منطقياً أن يكون في اللغة العربية. وإذا وُجد في العربية ما ينقض تنبؤات النظرية اللسانية الغربية وجب ردُّه إليها ولو بالتعجرف وإلا فهي لغة شاذة، وإذا عَضَدَها النحاة القدماءُ نُعتوا بالغفلة وقلة النظر. وقد أتينا لمثل هذا الكلام بالشواهد الكافية في مناسبات كثيرة. ولا أحدَ من العقلاء يتوخَّى إطلاق نهضة عربية حقيقية وهو يتبنى هذه الأطروحة المكبِّلة للعقل العربي.
وهكذا نشأت في الثقافة العربية لسانيات اغترابية، تميَّزت بانبثاقها في الغرب من لغاتهم لتطوير معرفتهم بأنساقها بُغيةَ الإسهام في تطوير ما يرتبط باللغة من قطاعات صناعية واجتماعية وسياسية نشيطة، ثمَّ اجتُثَّت من وسطها الطبيعي ونُقلت إلى العالم العربي بغير أهدافها لانتفاء البيئة العلمية والصناعية المشابهة. فاللسانيات في العالم الغربي شديدةُ التفاعل مع لغاته وثقافاته، وهي فعَّالةٌ في مجالات مختلفة، لكنها في العالم العربي متدافعة مع لغته وتراثه اللساني، ومعطَّلةٌ بالقياس إلى واقع أنشطته الصناعية والاجتماعية.
يشهد لصحَّة ما سلف كونُ هؤلاء اللسانيين لم يُنتجوا طيلة نصف قرن من البحث في اللغة العربية بأنظارٍ غربية، معرفةً لسانية يمكن الانتفاع بها في قطاع ثقافي أو اجتماعي، أو اقتصادي. فلا المعرفةُ بنسق اللغة العربية تطوَّرتْ بتطبيق أحد النماذج النحوية الغربية عليها، بل لأول مرَّة يتصدَّع نسق العربية بسبب ما يزدحم عليها من النظريات اللسانية والنماذج النحوية الغربية. والأمثلة في هذا الباب كثيرة، يكفينا حالياً أن نعرض مثلَ (النشرةُ الجويَّةُ تُقَدَّمُ لكم من طرف هند) على نسق العربية لنجد هذه الجملة مختلَّةً تركيبياً، بينما نظريةُ النحو الكلي تحكم بسلامتِها في العربية بدليل وجود مثلها في اللغتين الأنجليزية والفرنسية ونحوهما من اللغات البشرية. ويُزكِّي هذا الحكمَ مبدأُ التعميم القاضي بأن يصحَّ في اللغات الهامشية كالعربية كلُّ ما يصح في لغةٍ مركزية كالأنجليزية. وبكلمة واحدة إن اللسانيات المغتربة خلَّفت أثراً سلبياً في مجال الثقافة العربية المعاصرة.
ومما زاد في تأزُّم اللسانيات المغتربة امتطاؤها المؤخَّر لأسلوب الهروب إلى الأمام. فقد فشلت، بشهادة الواقع المعيش، عن تبسيط وصف اللغة العربية، وتطوير معرفة الناطقين بها، وعن بناء مناهج لغوية تُيسِّر تعليم العربية لطلابها من العرب وغيرهم، وعن إعداد برامج لتقويم اللسان، وإمداد علومٍ إنسانيةٍ مجاورة بما يحتاج إليه منهجُها من معرفةٍ لسانيةٍ دقيقةٍ. وباختصار إنها جلبة كبيرة ولا عمل نافع، فصدق عليها المثل العربي القديم «أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً».
ومع هذا الفشل البيِّن في قطاعات اجتماعية مقدورٍ عليها أخذت لسانيات الاغتراب تُطالعنا من داخل كليات الآداب ومؤسسات مشابهة بصيحات جديدة في هندسة اللغة، وفي اللسانيات الحاسوبية، وفي تكنولوجيا اللغة والذكاء الاصطناعي، وفي التواصل مع الآلة باللغة العربية، وغير ذلك من القضايا الداخلة بامتياز في اختصاص معاهد العلوم البحتة والتكنولوجيا الدقيقة المفتقدة بشكل واضح في البيئة العربية. ولا تسيُّب في المعرفة من شخص قلَّت حيلتُه في الرياضيات ونحوها من العلوم البحتة والطبيعية فقضى حياته الدراسية في شعبة أدبية، حتى إذا تعلم في الأخير شيئاً من اللسانيات الغربية تقليداً ورغبةً في منصب اقترف مشاريع علمية لا قبل له بها.
وعندما تقوم لسانياتٌ على تكبيل العقل العربي، وعلى إلغاء تراث فكري ضخم من الحوار الثقافي، وتُفسد في العربية قصداً من أصحابها أو غفلةً، وتُموِّه في العلم كثيراً، ولا تُسهم في حلِّ مشكلٍ محلي إطلاقاً، وتكون الهجرة إليها لمجرَّد المعرفة اللازمة للوظيفة، عندئذ يعلم كل متتبِّع لهذه الحركة لِمَ لم تنتشر اللسانيات في شرق الوطن العربي مع ما لهم من السبق في الاطلاع عليها، ويعلم السرَّ في تراجعها داخل المغرب بعد تراجع ملحوظ في الأمية اللسانية. ونضيف هنا قانوناً طبيعياً وهو كل علم انفصل عن العمل لا يدوم طويلاً، إذ الجدوى قاعدةُ المعرفة.
س: واقع البحث اللساني العربي يتعارض مع القسمة العقلية التي تقتضي أن يكون هذا البحث رائدا؛ بالنظر إلى الإرث العربي الزاخر في هذا المجال، وهذا ما يجعل هذه المعادلة جد معقدة، بل وغير مفهومة؟
التنافس بين المناهج اللسانية لا يمكن أن ينكره أحد، وهو تنافس لا نجد له مثيلا إلا في ثقافتنا، هل المشكل مشكل مناهج حقا؟
ومن مظاهر هذا التنافس وجود شبه قطيعة بين اللسانيين، فلا أحد منهم يهتم بما يكتبه الآخر، وهذا ما يجعل أمر اللسانيات في ثقافتنا متروكا للاجتهادات الفردية، التي تقف عند حدود الاتجاهات اللسانية، وفي أحسن الأحوال عند الحدود الجغرافية؟
يتخذ هذا الصراع مظهرا تلخصه المعادلة: النحو ≠ اللسانيات، التراث اللغوي العربي ≠ اللسانيات؟
ج: وبالاستناد إلى ما تقدَّم يتبيَّن ما يمكن قولُه في مفاهيم مركزية تردَّت في أسئلتكم. منها المفارقة الملحوظة في ريادة المتقدمين في اللسانيات العربية وخفوت المتأخرين في نفس المجال، والصراع الاستئصالي بين لسانياتٍ عربية قديمة ولسانيات اغترابية حديثة، والتنافس الرافض الذي يقوم بين مختلف التيارات والنزعات اللسانية التي تسعى إلى الانفراد بوصف اللغة العربية.
أغلب القضايا المذكورة أعلاه سبق أن تناولتها بشيء من التفصيل في مقالات منشورة في مجلات وكتب مشتركة تحت العناوين التالية: «من أنماط الفكر اللغوي بالمغرب»، «من تحولات المغرب الثقافية»، «مناهج المعرفة العلمية في النظريات اللسانية»، «شروط إسهام الثقافة الإسلامية في بناء حضارة إنسانية». وبيَّنت أن من اللسانيات الاغترابية ما نجح في خلق قطيعة مع الماضي حتى حلَّ التباغض بين التراثي والحداثي محلَّ التعاون، وأن منها ما سعى إلى التوفيق بين الفكرَيْن اللغويين العربي القديم والفكر الغربي الحديث فسقط في التلفيق النظري، ولم يخرج منه إلاَّ بالتوبة الخالصة إلى أحد الفكرين. وأن تعدُّدَ النظريات اللسانيات والنماذج النحوية التي تتنافس من أجل وصف اللغة العربية ظاهرة غير سليمة علمياً وغير مقبولة إبستمولوجياً ، لكن تعاقبَها بتجاوز بعضها بعضاً مطلوبٌ عُلومياً أو إبستمولوجياً.
ولا يخفى على أحد التشنُّج اللساني الملحوظ في الجامعة المغربية خاصة، وهنا تحضرني مستملحة واقعية، حين لم يجد لساني مغربي نموذجاً يستقلّ برئاسته على غرار أقرانه من الزملاء في نفس الجامعة اتّخذ من اللاأدرية في اللسانيات مذهباً واشتغل به عمراً. ولن يكون لِلِسانيات الطوائف شأنٌ، ومصيرها الزوال حتماً إذا انطلقت لسانيات عربية من الخصائص النمطية لهذه اللغة وتفاعلت مع ثقافتها وتدرَّجت في تطوُّرها مع نمو البيئة العربية صناعياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً. وتحقق هذه الانطلاقة مشروط بخروج اللسانيين العرب من سجن التقليد مطلقاً إلى فسحة الإبداع والتجديد.
س: تواجه اللغة العربية مجموعة من التحديات في سياق دولي عولمي غير مسبوق ينذر بالابتلاء والابتلاع، حيث يتحدث الكل بنهم وهرج عن العولمة واقتصاد المعرفة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فماذا أعد العرب للغتهم في هذا الصدد؟ وما هي أهم التحديات التي سيواجهونها في نظركم؟ وكيف يمكن مواجهتها؟
ج: عدم الاطمئنان إلى وضعية اللغة العربية من حق كل باحث غيور على لسان حضارة القرآن، خاصةً في ظلّ تحدِّيات دولية للغة ولثقافتها الإسلامية، وبعد أن صارت تكنولوجيا المعلومات والاتصال مقياساً فاصلاً لتقييم اللغات البشرية. وإذا أردنا أن نتصوَّر مقدارَ هذه التحديات سوف نجدها ملخَّصة في كون العربية شرعت تدخل في زمرة اللغات المهدَّدة بالانقراض.
ومن أراد الوقوف على صدق ما أوردناه يكفيه أن يقارن داخل وطن العربية بين القطاعات التي تستعمل فيها هذه اللغة بالقياس القطاعات الأخرى التي تنفرد بها اللغات الأجنبية أو اللهجات القطرية ونحوها من اللغات القبلية. وسوف ينتهي لا محالة إلى أن مجالات استعمال العربية محدودة للغاية، وأن نسبة العرب العاملين في وطن العربية بغير هذه اللغة في تصاعد، وأن اللغة العربية لم تعد كافية للاشتغال بها في الوطن العربي، وأن المثقف بالعربية كالجاهل بغيرها، وأن اقتران العربية بالقرآن الكريم والحديث الشريف جعل هذه اللغة من رموز الإرهاب، وأن الجهل بالعربية متفشِّ بين أهلها فصار تواصلهم بغيرها أيسر عليهم، وأن اللغة العربية في أقطارٍ عربية تحوَّلت بفعل قادرٍ إلى لغة غزاة لا يُميِّزهم شيءٌ عن سائر المستعمرين الذين تعاقبوا على حكم هذه الأقطار. ومن هذا القبيل الشيء الكثير سبقت الإشارة إليه في بحث «تدبير اللغة العربية» المنشور في مجلة "التاريخ العربي" العدد الخاص بالعربية لسان حضارة القرآن. ومع كل ما سبق قلَّ الوعي بالخطر الذي يتهدد لغة حملت أكبر حضارة في عصرها، وساهمت في بناء الحضارة المعاصرة.
س: ما هي متطلبات تقليص الفجوة الرقمية بين العربية واللغات المتقدمة معلوماتيا؟
ج: إن الحديث عن الفجوة الرقمية بين العربية واللغات المتقدمة معلوماتياً لا ينفصل عن الهوة المعرفية التي تفصل العالم العربي عن العالم المتقدِّم تكنلوجياً وفكرياً وعسكرياً واقتصادياً وصناعياً وفي باقي مجالات الحياة المعاصرة. ولما كانت تلك بعضَ هذه صار من قبيل المحال أن تتقلَّص الفجوة الرقمين بين لغتين في ظل هوة معرفية بين شعبين. فالتجزيء غير وارد لكن التخطيط المتكامل مع مراعاة الأولويات أنجع وأفيد.
س: لماذا لا توجد اتجاهات أو تيارات أو مجموعات علمية تتخذ العربية موضوعا لنظرها في كل أبعادها ومستوياتها اللسانيات؟ أ لأن العربية عربيات؟ عربية قديمة تراثية، وعربية مقدسة، وعربية وسطى هي المستعملة الآن في التداول المكتوب صحافة وفناً؟
ج: وجود مجموعات علمية تجعل من اللغة العربية موضوعاً للدراسة مرهون بإيجاد ما سميتموه بالتيارات والاتجاهات. والإيجاد لا يعني الاستمرار في استيراد النظريات اللسانيات والنماذج النحوية من الغرب أو الشرق، وكذلك الحال بالنسبة إلى باقي العلوم، وإنما يعني أن يشارك العقل العربي غيرَه المعاصرَ في إقامة النظريات وبناء النماذج التي تسهم في تطوير معرفة الإنسان العربي بلغته خاصةً وتطوير المعرفة البشرية باللغات كافةً. وتتحقق تلك المشاركة بأن ينهض من بين العرب أولو كفاءات علمية عالية في مختلف الميادين والتخصصات، منطلقين من خصوصيات محلية، وبشروط البحث العالمية من أجل إنتاج معرفة نسقية من شأنها أن تطور قطاعات وطنية.
س: كيف يمكن للغة العربية أن تصبح فاعلة في محيطها؟ وما هي المشاكل التي تعترض سبيل المعالجة الآلية العربية؟
ج: يمكن للعربية أن تصبح فاعلة في محيطها بالاستعمال الذي تفتقر إليه وليس بالإهمال الذي تعيشه. وهنا أعود إلى العربيات الوارد في سؤالكم السابق لأقول إن هذا التعدد في العربية ليس له وجود إلا في أذهان فريق من اللسانيين المغتربين. والهدف من إشاعته، كما سبق الإشارة إليه في مقال منشور بعنوان «التبعية اللغوية أساس التخلف الشمولي» يكمن في التسويغ العلمي المزيف للقرار السياسي بالتخلي عن العربية في التعليم خاصة واستعمال غيرها من اللغات الأجنبية. ولم يسبق لأحد من أولئك اللسانيين الذين يشيعون كذباً هذه التعددية في نسق العربية أن أثبتها دياكرونياً أو سنكرونياً. وإنما كلامهم أصوات بلا معنى.
تكون العربية فاعلة في محيطها إذا لم يدخل الناطق بها إلى ميدان عملي أو حقل معرفي بغيرها من اللغات. أما العربية في حدّ ذاتها فقلّ نظيرها في تمايز فصوصها واتساقها، وفي قدرتها التعبيرية مع الاقتصاد في إجراءاتها، وتكفي في هذا الباب المقارنة بيت عدد العمليات التي ينبغي إجراؤها للانتقال من البناء للفاعل إلى البناء للمفعول في كل من العربية والفرنسية أو الأنجليزية. وليحاول كل واحد أن يُترجم ترجمة دقيقة تظهر الفروق بين (نَصر خالدٌ بكراً) و(ناصرَ خالدٌ بكراً)، و(تناصر خالدٌ وبكرٌ)، و(استنصر خالدٌ بكراً) ليقف بنفسه على الدقة في التعبير عن المفاهيم الوظيفية مع الاقتصاد الكبير في الإجراءات النسقية. وقد لا يكون لهذا الكلام معنى بالنسبة لشخص متشبِّع بالفكر الاستشراقي، أو لا يميّز بين العربية وأوصاف النحاة لها.
س: ما هو دور المجامع اللغوية في النهوض بالعربية على مستويات التنظير والممارسة؟
ج: لا يمكن للمجامع اللغوية أن يكون لها دور كبير في النهوض باللغة العربية في ظلِّ اختلالات لا حصر لها، إذ اتَّسع الخرق على الراقع كما يقال في مثل هذا الحال. كيف يكون للمجامع دور وقد أُحدثت وسط لغط لساني يضيع فيه الحق والرأي الصواب، والعربيةُ محدودة الاستعمال في المجتمع الحالي، معقَّدةُ الوصف في النحو القديم. وإذا استمرت هذه المجامع محتفظة بنفس النهج في العمل وبنفس الكفاءات والتوجهات فليس للعربية إلا أن تستمر على ما هي عليه من الانكماش المتزايد.
س: نجد اليوم شبه إجماع على ضعف العربية في مؤسسات التعليم في مختلف الأسلاك، وهو وضع ينذر بالكارثة، في ظل معطيات تفرض أن يكون الوضع معكوسا تماما؟ بم تشخصون هذه الظاهرة؟
ج: ضعف مستوى المتمدرسين في اللغة العربية يمكن تفسيره بعوامل ثلاثة: أولاً اتساع سوق الشغل بغير العربية مع محدودية القطاعات التي تُشغِّل بالعربية فقط. ثانياً التساهل إن لم نقل عدم المبالاة فيما يخص العربية، يظهر بوضوح في وضع المنهاج التعليمي وتقدير الغلاف الزماني، وتحديد المعامل، واختيار المدرس، وجدولة الحصة، وتضافر جزئيات كثيرة تغذي فكرة أن المثقف بالعربية كالجاهل بغيرها. ثالثاً شبه غياب للعربية من قطاع الإعلام بمعناه الواسع، كالسينما والغناء والمسرح والتمثيل والإشهار وواجهات المحلات التجارية، فضلاً عن الاستغناء عنها في الحياة اليومية، وفي المقابل يحظى غيرُها بمزيد من الاهتمام في كل ما ذكر وأكثر. كل ذلك يوفّر للمتعلِّم المناخ المناسب لعدم أخذ العربية مأخذ الجد.
س: لاحظ عالم اللسانيات روبنز أن معظم السمات التي تميز التاريخ المعاصر، في الغرب، قد نشأت في عصر النهضة، واستمرت دون انقطاع حتى الوقت الراهن. وأن الكثير من تلك السمات كان له تأثير مباشر في الاتجاهات التي اتخذتها الدراسات اللغوية فيما بعد. والواقع أن ما لاحظه روبنز بالنسبة إلى عصر النهضة في الغرب يمكن تعديته إلى عصر النهضة العربية وما صاحبه من ردود فعل كان للجانب اللغوي حظه الوافر منها. فأسئلة النهضة حاضرة بشكل جلي في الفكر اللساني العربي، حيث يمكن أن نميز بين اتجاهات مختلفة: اتجاه طفري (حداثي)، واتجاه تراثي (تقليدي) واتجاه توفيقي، والأكثر من هذا أن هذه الاتجاهات تظهر أحيانا في الاتجاه الواحد. هذا ما حكم على الثقافة العربية عموما، واللسانيات خصوصا، باجترار قضايا هي في غنى عنها.نتساءل هنا: ما موقع الفكر العربي من الفكر اللساني الحديث؟ ثم ألم يحن الوقت بعد لتقييم هذه الحصيلة، والخروج من هذه الدوامة؟
ج: سبق الحديث عن الصراع الاستئصالي بين الفكرين اللغويين العربي القديم والغربي الحديث، وقد تناولنا هذا الموضوع بشيء من التفصيل في بحوث منشورة، وبيَّنا أن التقليد لا يُطور فكراً و لا يُطلق نهضةً سواء كان من التراثي للقدماء أو من الحداثي للغرب، وأن النهضة تنطلق في وطنها من أهل الوطن أنفسهم بعد سبر الإمكانيات وحصر الاحتياجات، وأن إطلاق أيِّ حركة لا يبتدئ بالصراع بين الذات والآخر، ولا بالإبقاء على استمرار الخصومة غير المبررة علمياً بين التراثيين الحاضنين على هوية الأمة والحداثيين الحريصين على الاندماج في العصر بكل مقوماته و بغير شرط مسبق. لا شيء يعوق إطلاق حركة نهضية من الرفض المتبادل. وحلُّ هذه المعضلة الأزلية يكمن في الجمع بين عدم الإلغاء، وإلا كأن شيئاً لم يكن ولا هو كائن مستمر، وبين ضرورة الانتقاء، وإلا انتفت الفوارق. ومنهج العمل هو بما توصي بها العلوميا، وأول ذلك ألاّ يُترك شيءٌ كتب في حقل الاختصاص لقدمه أو لحداثته وغربته، فالإحاطة بالفكرين اللغويين العربي القديم والغربي الحديث ضروري، ثم فحصهما بمعايير صارمة للاحتفاظ بالصواب فيهما، وتصويب هفواتهما، وحل ما بقي فيهما من المشاكل مستعصياً، وعندئذ نكون قد ساهمنا في تجويد الآلة المنهجية وفي تطوير معرفة الإنسان بلغاته. وكل استمرار في هذه الخصومة اللسانية فلا يحمل إلا على الكسل الفكري.
س: ما دمنا بصدد الحديث عن بعض المشاكل والتحديات المطروحة، أشير إلى أن اللسانيات في الثقافة العربية بقيت حبيسة نفسها، ولم تنفتح على بعض القطاعات الأخرى كما هو الحال بالنسبة إلى اللسانيات في الغرب، بل لم تساهم لا من قريب ولا من بعيد في بعض التحديات التي تواجه الأمة، والتي تعتبر في صميم البحث اللساني: التخطيط اللغوي، التعدد اللغوي، الأمراض اللغوية...ما هي أسباب هذا التقوقع في نظركم؟ وهل يمكن أن نعتبره مظهرا من مظاهر تخلف اللسانيات في ثقافتنا؟
ج: في أسئلتكم عن مشاكل اللسانيات في الوطن العربي وصفتم حالة هذا العلم غيرَ اللائقة، وكشفتم عن أهم الأسباب المفسِّرة لانزواء اللسانيات مع أهلها في زاوية الترف الثقافي، وكأن إرضاء الفضول المعرفي هو الباعث الحقيقي لطائفة من العرب للاشتغال باللسانيات. إذ لم يكن أبداً داخلاً في مشروع نهضوي، فتعلَّموا اللسانيات من أجل اللسانيات لا غير. اللسانيات في بيئتها الغربية قول وعمل، فاللسانيات السلالية مثلاً وُظِّفت في وقتها لامتصاص صدمة الشعوب المستعمرة إبَّان التوسع الأوروبي ونجحت في تهدئة الأوضاع في الهند. وللسانيات الكلية استعمالات في ميادين عديدة، فقد ساهمت مع البيولوجيين في رصد التركيب البنيوي للدماغ البشري، ومع المعلوماتيين في ميدان الترجمة الآلية والتواصل مع الآلة باللغة الأنجليزية، وكذلك كان حالها مع السيكولوجيين المهتمين بتكوين الأنساق المعرفية، ومنها بناء الفرد للنحو إبان اتصاله بلغة محيطه. أما المنقولُ من اللسانيات إلى الوطن العربي فمحصور في قسمها النظري، بينما قسمُها العملي تُرِكَ هناك، وبذلك انفصلت اللسانيات نهائياً عن ميادين العمل، وصارت مجرَّد أقوال معنعنة. والعلم بدون عمل عمره قصير حتماً. وكل علم لا يستند إلى قاعدة «اِعلم لتعرف كيف تعمل» انضوى إلى الترف الثقافي الخالي من المردود؛ فهو لا يُطوِّر مجتمعاً، ولا يجوِّد صناعة، ولا يجلب ثروة، ولا يُيسٍّر معيشة، ونحو هذا مما يتطلَّع إليه إنسان هذا العصر، واللسانيات المغتربة من هذا القبيل.
س: يبدو أن التحديات التي تعترض سبيل اللسانيات العربية كبيرة، لكن ما يعمق من طبيعة الإشكال هو أن اللسانيات في ثقافتنا لم تستطع لحد الآن إيجاد حلول عملية لمشاكلها الخاصة، أشير في هذا السياق إلى بعض الإشكاليات التي ظلت تؤرق البحث اللساني العربي منذ زمن بعيد، كتلك المرتبطة بالمصطلح والتعريب؟
ج: إخراج الثقافة العربية الحديثة، وضمنها اللسانيات، من وضعيتها المتردية يتحقق بتوافر الشروط التالية: أولاً الشروع في إنتاج المعرفة وفق الشروط المنهجية المتبناة في هذا العصر، وبذلك نتخلَّص من آفة التقليد. ثانياً ربطُ إنتاج المعرفة بتطوير قطاعات وطنية في شتى الميادين الاقتصادية والصناعية والثقافية والاجتماعية والسياسية وغير ذلك، وحينئذٍ نتخلص من آفة المعرفة لذاتها ومن أجل ذاتها. ثالثاً ربط البعثة العلمية إلى الخارج بجلب المعرفة العملية والخبرة اللازمة لتطوير قطاعٍ من القطاعات الوطنية الحيوية. رابعاً إدماج الجامعة في وسطها لتكون قاطرة للتنمية الجهوية حتى تصير الجامعة فضاءً أكاديمياً للتفكير في مشاكل واقعية واقتراح بدائل مستقبلية. خامساً هيكلة الجامعة بتفعيل التراتبية الأكاديمية واحترامها، بحيث يكون التوظيف من أجل إنجاز مشاريع من وضع أساتذة أولي خبرة وتكوين علمي رفيع بغاية النهوض بقطاعات مرتبطة بتخصصاتهم. وعندئذٍ نتجنب الفوضى التي تعيش الجامعة في أكثر من قطر عربي. سادساً الإقلاع عن الاهتمام بالشكليات والأرقام والإحصائيات، والتركيز بجدّ على المضامين والمحتويات لتخريج مواطنين بكفاءات معرفية ومؤهلات مهنية للاندماج السريع في الوسط أو العمل على تجديده. وإذا توفرت مثل هذه البيئة الثقافية وجدت اللسانيات موقعها في الجامعة وفي المجتمع على السواء، وذلك باقي العلوم.
س: تبقى مساهمة اللسانيات العربية في اللسانيات العالمية محدودة جدا، ولا يكاد يذكر من اللسانيين العرب إلا من لهم كتابات باللغات الأجنبية. هل هذا الأمر تعتبرونه طبيعيا ولماذا؟
ج: فيما يخص هذا السؤال يحسن أن نتحدَّث عن اللسانيين العرب وإسهاماتهم في اللسانيات الغربية. والصفة الجامعة بين هؤلاء هو انخراطُهم في نظريات لسانية غربية للتعاون مع أصحابها على قدر اجتهادهم. وهم طبقتان، لن نسمي منهم أحداً دفعاً للحرج. الأولى تضم لسانياً عربياً استفاد من التراث اللغوي العربي القديم وساهم في النظرية اللسانية التي يشتغل في إطارها بإضافة شيءٍ إليها. والثانية تضم فئةً اُسند إليهم دورُ الاختبار المراسي لتوقعات النظرية المحسوبين عليها، فإذا توقعت النظرية أن تكون للجملة في تركيب كل لغة بشرية رتبة أصلية كان على هؤلاء أن يُثبت للجملة في العربية رتبة أصلية. وإذا رأت النظرية أن صرف اللغات سلسلي وجب على اللساني العربي أن يحلل مثل (استغفر)، و(انكسر) إلى (استـ+غفر)، و(انـ+كسر). وإذا استعصى معطى تركوه بدعوى القدم، وعوضوه بلهجة محلية أو كلام صحفي.
س: في نظركم ما هي السبل التي ترونها كفيلة بإنجاح مشروع الإصلاح اللغوي العربي؟ نقصد تحديدا أهم القضايا التي يجب أن ترتكز عليها البحوث اللسانية العربية إن هي أرادت مسايرة الركب، والانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج؟
ج: نجاح أي مشروع علمي مرهون بجعله وليد بيئته، منها ينبجس، وإليها تعود نتائجه، فينقلها إلى طور أحسن. لا يمكن للسانيات أن تنجح وهي لا تهتم إلا بنفسها، لا يكون لها ذكر في وطن العربية وهذه اللغة تعاني من تعقيدات الواصفين لها قدماء ومحدثين، ومناهج تعليمها مختلة، والجهل بقواعدها الصرفية والتركيبية منتشر، والنطق بأصواتها معتسر، ومعجمها مفتقر، ناهيك عن العربية وهندسة اللغة وغيرها من حقول العلم الدقيقة. فالعلم يُقاس نجاحُه بمقدار ما يحل من مشاكل في أكثر من ميدان.
س: ما هي نصائحكم للسانيين الشباب؟
ج: الاشتغال بالبحث في اللغات يتطلب استعدادات ذهنية تُؤمِّن لصاحبها التعود على التفكير المنطقي، ومن كان في حياته الدراسية يجد صعوبات في درس الرياضيات فسوف يستعصي عليه امتلاك ناصية اللسانيات. ومن وجد في نفسه ميلاً إلى التنقيب عن المفسِّرات العلية لمختلف الظواهر والمعطيات الملحوظة انطلق إلى البحث اللساني من مبدأ عدم التساهل مع النفس، أو ركوب طريق المختصرات، وطلب البحوث المريحة، بل عليه أن يتوخى الإحاطة بالمكتوب في كل ما جعله موضوعاً للبحث، لا يُغربل الفكر بمعايير غير معتمدة علومياً للمفاضلة بين النظريات أو الأفكار، ينبغي الحرص على التكوين بدون انقطاع، وعلى الجمع عندئذ بين توسيع حصيلة الثقافة اللسانية وتنمية الملكة النقدية، تحصل الأولى بمطالعة أولاً المكتبة اللغوية العربية القديمة وثانياً المكتبة اللغوية الحديثة، وبذلك يمكن تجنُّب الإسقاطات المفسدة للمعرفة. أما تنمية الملكة النقدية فتحصل بشيئين: أولهما بتتبع الخطوات التي يتبعها كبار اللسانيين الغربيين وهم يُشيِّدون نظرياتهم على أنقاض غيرها الآيل إلى الأفول. وثانيهما بالاطلاع الواسع على فلسفة العلوم في الفكر العربي القديم وخاصة الغربي الحديث. وحين تتكوَّن هذه العُدَّةُ المعرفية والمنهجية تعيَّن البحث عن أوجه انتفاع الوطن والأمة بها، بدءاً بفكِّ مشكلات اللغة العربية مع الناطقين بها وما أكثرها، ثم الإسهام في إيجاد حلول قطاعية بالتعاون المتين مع متخصصين في الرياضيات وآخرين في المعلوميات ونحو هؤلاء الذين يشكّلون ميداناً واحداً متداخل التخصصات.
س: تؤسسون في كتابكم "الوسائط اللغوية" لنظرية جديدة في اللسانيات، نود منكم أن تقدموا هذه النظرية إلى القارئ العربي؟
ج: تعلمون أنه من الصعب تقديم نظرية في سياق الحوار القائم على الاختصار، ومع ذلك سأحاول ولا تثريب علي إن لم أوفق. ولكن سأضيف شيئاً إلى ما سبق وتمهيداً لما سيأتي.
تردد في أسئلتكم مصطلح اللسانيات العربية واللسانيات العالمية، ولا بأس من تدقيق المفاهيم أولاً. نقول عن لسانيات إنها عربيةٌ إذا جمعت بين الخصائص الآتية:
أولاً. أن تنطلق من الخصائص النمطية للغة العربية في انسجام تام مع ثقافتها فينتفي التعارض نهائياً بين توقعات النظرية وواقع اللغة العربية وأصولها الثقافية.
ثانياً. أن تكون النظرية اللسانية قادرة على التمييز الصارم بين ما في التراث العربي من صواب يمكن احتواؤه وجعْلُه منضوياً إلى توقعاتها، وبين ما فيه من هفوات برهنت النظريةُ على نُبُوِّه وعدم وروده.
ثالثاً. أن تتميز تلك النظرية اللسانية بأبجديتها، بحيث لا تختلط بغيرها أبداً سواءً كان غيرُها تراثياً أو حداثياً.
رابعاً. يجب أن تكون قد صيغت أولاً باللغة العربية.
خامساً. يلزمها أن ترفع معرفة الإنسان العربي بلغته إلى مستوى أعلى مما كانت عليه من قبلُ.
سادساً. أن تكون لها مساهمة واضحة في اللسانيات العالمية، وذلك بإضافة ما يلي:
سابعاً. أن تتجاوز النظرية اللسانية المستحدثة كل ما بأيدي اللسانيين في حقبة من تاريخ العلم من نظريات لسانية ونماذج نحوية. والتجاوز بمعناه العلومي، كما هو معروف، احتفاظ بالصواب، وتصويب الخطأ، وحل المستعصي، وتضييق الفجوة من جديد بين توقع النظرية وواقع موضوعها.
ثامناً. أن ترفع مستوى معرفة الإنسان بلغاته وتقفز بها إلى طور أنضج، يعقبه تطور ملحوظ في ميادين أخرى.
ولعل اللسانيات النسبية المقدمة باختصار فيما يأتي من الحديث ما سرد من الخصال وزيادة، فهي أول نظرية لسانية وُضعت في العالم العربي بشروط هذا العصر وبما سرد من المواصفات أعلاه. وهي أول نظرية وضعت في العالم للمقارنة النمطية بين اللغات البشرية عبرَ مستويات متتالية.
تنطلق المقارنة في إطارها من الوسائط اللغوية، وتنحدر منها إلى المقارنة بين أنساق الفصوص اللغوية الأربعة، ومنها تنحدر من جديد إلى الخصائص البنيوية الماثلة في الظواهر اللغوية. وهي أول نظرية لسانية تتنبَّأ بنموذجين نحويين لنمطين من اللغات: نحو توليفي للغات التوليفية كالعربية ونحوها من اللغات الكثيرة، ونحو شجري للغات الشجرية كالأنجليزية وغيرها الكثير.
هدفها اللسانيات النسبية هو المحافظة على النمطية؛ وذلك بإقامة نماذج نحوية نمطية بعدد الأنماط اللغوية الممكنة منطقياً والمحققة واقعياً، وعليه سيكون مبدأ التنميط.
وأساسُها؛ فرضيةُ عملٍ كسبيةٌ مفادُها أن اللغة البشرية من نوع الملكات الوضعية بالاختيار ولمكتسبة بالتلقين، وليست من نوع الملكات الطبيعية المنسوجة خلقة في خلايا الجهاز العصبي والمنقولة من السلف إلى الخلف بالمورِّثات.
واللغة البشرية، كسائر الوضعيات، متقوِّمة الذات من أربعة مبادئ كلية مرتَّبَةٍ ترتيب تعلُّقٍ بحيث يكون وجودُ السابق ضرورياً لوجود اللاحق.
المبدأ الدلالي: مصدرُه كونٌ وجودي، ومحتواه كلي، وأقسامُه: علاقاتٌ دلالية، عددُها محصورٌ في 1) علاقة السببية، وعلاقة العلية، وعلاقة السبلية المركبة منهما، وعلاقة اللزوم، وعلاقة الإضافة وعلاقة الانتماء. 2) مفردات بحتة؛ تكون أطرافاً للعلاقات الدلالية، عددُها غيرُ متناهٍ، لكنها تنتظم بواسطة العلاقات الدلالية في بضع مقولات.
المبدأ التداولي؛ مصدره الكونُ الاجتماعي، محتواه كلي، أقسامه:
1) علاقاتٌ تداولية تقوم بين المتخاطبين، وتُؤثِّر خصائصَ بنيويةً في العبارة اللغوية، أو تُعيِّنُ أوردَ التأويلات الدلالية التي تحتملها نفسُ العبارة. 2) قيودٌ إجبارية يلتزم بها المتكلِّم، بصفته طرفاً في علاقةٍ تداولية، لضمان الرد المناسب من مخاطبه العادي.
محتوى المبدأين الدلالي والتداولي مادةُ البنية القولية، والبنية القولية صورتُها الحسية. ولا يكون لنفس المادة المجردة أكثرُ من صورة حسية واحدة. وإذا اتَّحدت المادةُ وتعدَّدت الصورة فبسبب الوسائط.
المبدأ الوضعي للوسائط اللغوية؛ مصدرُه احتمالاتٌ منطقية منضبطةٌ بمبدأ الثالث المرفوع. محتواه شبكتان من الوسائط المتقابلة على جهة التضادِّ. وهو منمِّطٌ للغاتِ بسبب اضطرارِها إلى اختيار إحدى الشبكتين وإهمالِ نقيضِها. أقسامه: 1) وسائط العربية من اللغات التوليفية؛ كوسيط العلامة المحمولة المنتقى لفصها الترﮐﻴﺒﻲ، ووسيط الجذر المنتقى لفصها المعجمي، ووسيط الوزن المنتقى لفصها الصرفي، ووسيطَي التضعيف والاحتمال المنتقين لفصها النصغي. 2) وسائط اللغات التركيبية المتميزة باتقاء وسيط الرتبة المحفوظة للفص الترﮐﻴﺒﻲ، ووسيط الجذع للفص المعجمي، ووسيط الإلصاق للفص الصرفي، ووسيطي التشطير والاقتصار للفص النصغي.
ليس بين تينكم الشبكتين من الوسائط اللغوية وسائطُ أخرى ممكنة. وليس بين اللغات البشرية لغةٌ لا تنتمي إلى أحد ذينكم النمطين اللغويين.
المبدأ الصوري؛ له دور التشخيص الحسي لمحتوى المبدأين الدلالي والتداولي. مصدره؛ جهاز النطق البشري المبني لإنتاج عددٍ محصور من النطائق. محتواه؛ نطائقُ صوتية وقواعد صورية. أقسامه: 1) نطائق حسية متمايزة بقيمها الصوتية الخلافية، وهي تتفرَّعُ في كل لغة إلى صوامت وصوائت. 2) قواعد صورية للتأليف بين النطائق الحسية تأليفات نمطية أو خاصة.
كلُّ اللغات البشرية تتألَّف من أربعة فصوص متوالية تألُّف النموذج اللساني من أربعة قوالب متعاقبة، بحيث يتناول كلُّ قالبٍ فصّاً تناولَ مجموعِ قوالب النموذج لمجموع فصوص اللغة. وهي لها ترتيب كلي على النحو التالي:
نَصْغٌ ! معجم1 : نسْلٌ : معجم2 ! تركيب.
النصغ؛ فص لغوي كلي، لا تقوم لغة بدونه. يتفرًّع في جميعها إلى:
1) مكوِّن نَطْقِي؛ محتواه عدد محدود من النطائق المتفرعة إلى صوامت وصوائت. 2) مكوِّن نَصْتي؛ محتواه قواعدُ تركيب النطائق. خرجُه: قَوِلاتٌ يمكن إقرانُها بكلماتٍ آتية من المعجم المحض فتتولَّد مداخلُ المعجم النمطي.
نَمَطيَّة الفص النصغي تُلتمس في كيفية تكوين اللغات لنطائقها وفي قواعد بنائها.
1. تكوين اللغات لصوامتها إما أن تقتصر على تشغيل بعض حجرات الرنين، وهي اللغات الاقتصارية. وإما أن تُشغِّلها جميعاً، وهي اللغات الاحتمالية. والفصيح في النمط الاحتمالي أعلى نسبةً منه في النمط الاقتصاري.
2. تشترك اللغاتُ في الصوائت الأساسية؛(الضمة، والفتحة، والكسرة، والسكون). ولإضافة صوائت أخرى أمام اللغات احتمالان: إما التضعيف فتحصل على المدود كما في العربية. وإما التشطير فتحصل اللغةُ الفرنسية مثلاً على ضمات وكسرات وفتحات متفاوتات الضم في نحو(pour, port, peur, pur)، ومتفاوتة الكسر في مثل ((pair, père, pire. وكذلك الفتح.
تأليف النطائق وتكوين قولات المداخل المعجمية الأصول؛ (معجم1).
تسلك اللغاتُ لتأليف نطائقِها نحواً من الاثنين: إما أن تُرصِّص الصوائت بالصوامت فتنتج جِذْعاً مرصوصاً لا يُخترق، كما في الفرنسية. وإما أن تُوَلِّف من الصوامت جَذْراً رخواً يُخترق، وتبني من الصوائت صيغةً، ثم تسكب الجذر الرخو في الصيغة القالب، فتحصل على قولةٍ للمدخل المعجمي الأصل. كما في العربية.
قواعد المكوِّن النَّصْتِي في النمط الجذري من اللغات تتفرَّع إلى صنفين:
1). قواعد تأليف الصوامت لتكوين الجذور، مثل: إذا اجتمع حلقيان قُدِّم المجهور على المهموس. لا يجتمع ما اشترك في صويت نووي كالصفير أو النفث. لا يتوالى في قولة /ج/ و/ق/، أو /ك/و/ج/.
2). قواعد تأليف الصوائت لتكوين الصيغ؛ لا يُخرج من كسر إلى ضم. لا يجتمع السكون والمد. لا يجتمع السكون مع مثله. لا يتكرر نفسُ الصائت أكثر من ثلاث مرات.
الفص المعجمي لا تخلو لغةٌ بشرية منه، وهو ليس كلياً ولا خاصّاً بل نمطياً ينقسم في كل لغة إلى:
1- معجم واقع؛ محتواه مداخل معجمية أصول، يحصل عليها بإقران خَرْجِ الفص النصغي بخرج المعجم المحض. تُعرَف بالاستقراء التام سماعاً. وكل مدخل أصل فهو قاعدة لتوليد عدد من المداخل المعجمية الفروع.
2- معجم متوقَّع، محتواه مداخل معجمية فروع، يُنتجها من قسمه الأول بواسطة الفص النَّسْلي. ويكون اكتسابُ معظمِها بالاستنباط قياساً.
نمطية الفص المعجمي. المعجم، باعتبار الوسائل التي يستخدمها الفص النسلي لإنتاج المداخل المعجمية الفروع، نمطان اثنان:
1) معجم شقيق؛ يتميز باحتوائه على عدد مضبوط من المداخل الفروع المولََّدة باطِّراد من كل مدخل أصل. فيكون لكل فعل أسٍّ عددٌ من الأفعال الشقائق، ولكل فعل أس أو شقيق عدد من المداخل الصفات. يُعبَّر عنه بما يلي:
قَطَعَ ← قُطِعَ ← انقطع ← استقطع ← قاطَعَ ← تقاطعَ ← ...
↓ ↓ ↓ ↓ ↓ ↓
قاطعٌ مقطوعٌ منقطع مستقطِعٌ مقاطِعٌ متقاطِعٌ ← ...
↓ ↓ ↓ ↓ ↓ ↓
قطّاعٌ قَطيعٌ ... ... ... ... ...
2) معجم المسيك. يتميَّز باحتوائه كسائر المعاجم على الأفعال الإساس، من غير أن يكون للفعل الأس أكثر من فعل شقيق أو اثنين في أحسن الأحوال. ومن غير أن يطَّرد توليدُ المداخل الصفات من كل فعل. كما هو الحال في معجم اللغة الفرنسية مثلاً. إذ تولِّد من الفعل المتعدي (tuer) فعلاً لازماً منعكساً (se tuer) وفعلاً للمشاركة (s’entre tuer)، ولا يطَّرد. ثم تولِّد الصفة (tueur) من الفعل الأس (tuer) ولا تولِّدها من الفعلين الشقيقين (se tuer)، و(s’entre tuer).
الفص النسلي أو التحويلي لا تخلو لغة بشرية منه، موقعه في الجميع بين المعجم الواقع الذي يضم المداخل الأصول وبين المعجم المتوقَّع الذي يضمُّ المداخل الفروع. مهمَّتُه منحصرةٌ في إنتاج المداخل الفروع من أصولها. ومحتواه مؤلَّفٌ من مكونين:
1- مكوِّن اشتقاقي؛ قواعده ذات طبيعة دلالية، وما له هذه الطبيعة فهو كلي، تُشغَّل لتوليد بعض الكلم من بعض مثل (المغالبة تأتي من فعل متعد افتراقي).
2- مكوِّن صرفي؛ قواعده ذات طبيعة صورية، وما كان كذلك فهو نمطي، تُجرى لضبط انتقال قولة من بنية إلى أخرى، مثل (الفعل من الأجوف تنقلب عينُه إلى مثل حركة فائه).
بين الاشتقاق والصرف علاقةُ تحكُّم الأول في الثاني، بمعنى كلُّ ما يُقرُّه المكون الاشتقاقي يسمح به المكوِّن الصرفي، وليس كل ما يُقرُّه المكونُ الصرفي يُرخِّصُه المكونُ الاشتقاقي.
فالمكوِّنُ الصرفي حين أقرَّ (هَدَمَ ← هُدِمَ)، لا يمنع (هَلَكَ ← هُلِكَ). بينما المكوِّنَ الاشتقاقي يُرخِّص (هُدِمَ السُّورُ) بقاعدة دلالية؛ (فِعْلُ المفعول يُشتقُّ من فِعْلٍ متعدٍّ مطلقاُ أو من لازم بإضافةٍ)، ويمنع (هُلِكَ الرجلُ) بقاعدة دلالية (فِعْلُ المفعول لا يأتي من فِعْلٍ قاصرٍ أو ناقصٍ).
اللغاتُ الجذرية التي اختارت لفصِّها النصغي وسيطَ الجذر كالعربية مجبرةٌ على اختيار وسيط الوزن لمكوِّنها الصرفي، وعندئذٍ يكون المدخل المعجمي مؤلَّفاً من أحرف الجذر وصيغة الصرف. إذ يُفرَغُ الجذر (درج) في الصيغة (اسْتَفْعَلَ، أو فاعِلٌ، أو فَعَّالَةٌ، أو انْفَعَلَ، أو فُعِلَ...) لإنتاج المداخل (اسْتَدْرَجَ، دارِجٌ، دَرَّاجَةٌ، انْدَرَجَ، دُرِجَ...).
اللغات الجذعية التي اتَّخذت الجذرَ وسيطاً لفصها النصغي، كالفرنسية، يلزمها أن تختار وسيط الإلصاق لمكوِّنها الصرفي. فتنتج من الجذع (terre) بإلصاق سابقة (en) أو لاحقة (ain)، (ment) أو هما معاً مداخل كما في (enterrer) (terrain) (enterrement).
اللغة الوزنية يمكن أن تستفيد من إتاحات اللغة الإلصاقية، والعكس لا يمكن.
اللغة العربية وزنية فإلصاقية.
إذا استنفدت اللغةُ ذات الصرف الوزني كالعربية إتاحاتِ وسيطِ الوزن لجأت إلى إتاحات وسيط الإلصاق. في حين لا تستعمل اللغات ذات الصرف الإلصاقي شيئاً من إتاحات وسيط الوزن.
تجمع العربية بالصيغة رجل ← رجال، وباللاصقة، مسلم ← مسلمون، مسلمين. مسلمة ← مسلمات.
للعربية جمع بالصيغة وجمع الجمع باللاصقة: رَجُل ← رجال ← رجالات. هرم ← أهرام ← أهرامات.
للعربية مفرد بالصيغة ومثنى باللاصقة: بنت ← بنتان، بنتَيْنِ.
طفل ← طفلان، طفليْنِ.
فِعْلُ العربية زمانه في صيغته، ويُطابق باللاصقة مراكبَه، كما يظهر من مثل (دَرِزْنَ).
مبدأ التنميط يقضي في إطار اللسانيات النسبية أن ينحل المدخل المعجمي، في اللغات ذات الصرف الوزني كالعربية ونحوها، إلى الجذر والصيغة، فمثل (استرزق) يتألَّف من (رزق+ استفعَلَ)، و(اندرس) من (درس+ انفعل)، وكذلك يستمرُّ في الباقي. أما في اللغات ذات الصرف الإلصاقي كالفرنسية ونحوها الأنجليزية وغيرهما فينحلُّ نفسُ المدخل إلى الجذع واللواصق، كما في مثل (childless)، و(singer)، و( secondary) المتألِّف من اللواحق -ary -er -lessوالجذوعsecond, sing, child .
مبدأ التعميم وخلط الأنماط اللغوية.
مبدأ التعميم مقوِّمٌ للسانيات الكلية، وهو يقتضي بصحَّة في كل اللغات البشرية ما ثبتَت صحَّتُه في إحداها بشرط أن تكون مركزيةً كالأنجليزية.
مبدأ التعميم يستمدُّ مشروعيتَهُ أولاً من فرضية العمل الطَّبْعِيَّة التي تعتبر الملكة اللغوية معارفَ طَبْعِيَّةً (idées innées) منسوجةً خِلْقَةً في عضوٍ ذهني هذه المعارف أولية تُورَّث ولا تُكتسب بالتعلم، بها يتمكَّن الفردُ من بناء نحوٍ للغة المستعملة في محيطه. وثانياً من عقيدة النشوء والارتقاء الذاهبة في الحقل اللغوي إلى أن اللغات المركزية أكثرُ نضجاً من اللغات الهامشية الآخذة حتى الآن في التطور والارتقاء.
من مظاهر الخلط في الصرف.
عدم التمييز بين الجذر المرتص والجذع الرخو، واستعمال أحدهما بمعنى الآخر، والحال أن الأولَ يُتيح ما لا يُتيحه الثاني.
غموض في الفكر وارتباك في تعيين موقع المكون الصرفي ودوره بالقياس إلى باقي الفصوص اللغوية وسائر مكوناتها.
معالجة موضوعات الصرف الوزني بقواعد الصرف الإلصاقي يجعل في اللغة موضوع التطبيق ما ليس منها، و لا يتوقُّع جميع ما فيها. من الأول تعليق معنى الطلب في (استطعم) بالسابقة (است). ومن الثاني عدم التفريق بين (سابَقَ) و(سافَرَ).
التركيب؛ وهو الفص الرابع في كل لغة بشرية، وهو ليس كلياً ولا خاصاً بل نمطياً. وللتمييز بين العوارض (أي الأحوال التركيبية كالرفع والنصب، والوظائف النحوية كالفاعل والمفعول) تكون اللغاتُ مخيَّرة بين وسيطين اثنين: إما وسيط العلامة المحمولة وإما وسيط الرتبة المحفوظة.
من اللغات التي اختارت لفصها الترﮐﻴﺒﻲ وسيطَ العلامة المحمولة نذكر 1) العربية إذ جعلت الضمةَ علامةً تُلصقها بذي الرفع والفاعلية، والفتحةَ علامةً أخرى تُلصقها بذي النصب والمفعولية، كما في مثل( فقهاً نَظَمَ مالكٌ).
2) الفارسية إذ خصَّت ذا النصب والمفعولية باللاحقة (را)، وعلََّّمت بالعلامة العدمية ذا الرفع والفاعلية، كما في نحو (كتاب را خواند رِضى) بمعنى (كتاباً قرأ رضى). 3) اللاتينية التي أفردت المركب الذي تلقى الرفع والفاعلية باللاحقة (a) وجعلت لذي النصب والمفعولية اللاحقةَ (em) إعراباً عن عوارضه. كما في مثل (hominem videt fimina) بمعنى (الرجلَ رأتِ المرأةُ). 4) اليابانية بالمعرِبة باللاصقتين (وَ)، (أُ) تباعاً عن وظيفتي الفاعل والمفعول، كما في المثال (موسىأُ كمثرىوَ أَكل). 5) الكورية التي تعرب باللاصقتين (نُونْ) و(رُولْ) بهذا التتابع عن فاعلية مركبٍ ومفعولية الآخر، كما في نحو(موسىنون كمثرىرول أكلَ).
وكل لغة اختارت وسيط العلامة المحمولة تكون قد وفَّرت لفصها الترﮐﻴﺒﻲ بنية قاعدية ذات رتبة حرة. من خصائصها.
- البنية القاعدية الحرة نمطيةٌ تصدق في اللغات التوليفية لا غير، وهـي لا تمنع ترتيباً تحتمله القسمة المنطقية.
- لتترتَّب المكونات الحرَّةُ في بنيتها القاعدية تحتاج إلى قاعدة تنضيدية ذاتُ طبيعة تداولية؛ فحواها أمْرٌ بترتيب مكونات الجملة وَفْقَ أصول المبدأ التداولي.
- لا تُؤصِّل ترتيباً بعينه، ولا تَشتَقُّ ترتيباً من غيره.
- الجملة (كُمَّثْرَى خضمت ليلى) ولَّدَتْها القاعدةُ التنضيدية بهذا الترتيب من البنية القاعدية الحرة مباشرةً، كما تولِّدُها بسائر التراتيب الباقية في مثل (بُشرى الحلوى قَضمت)، (جمعت الحصى فدوى)، (سفَّ رضى النشا)، (هدى كسرت العصا)، (ردَّد موسى الصدى).
- التراتيب الستُّ المسموحُ بها قاعدياً ليس لها نفس التردد في الكلام، فالترتيب الأبسطُ تداولياً يجب منطقياً أن يكون الأكثرَ رواجاً. وأقلُّها استعمالاً أشحنُها تداولياً. وما لا يحمل غرضاً لا يجوز استعمالاً.
- حَرِّكْ الألف ليست من قواعد تركيبٍ بنيتُه القاعديةُ ذاتُ رتبةٍ حُرَّة.
اختيار الأنجليزية من اللغات الشجرية لوسيط الرتبة المحفوظة يُوفِّـرُ لفصِّها الترﮐﻴﺒﻲ بنيةً قاعدية ذات رتبة قارة، قُدِّم لها من التمثيلات ما يلي (شومسكي، نظرية العمل والربط، ص. 97)
sn – FLEX - sv P "
خصائصها.
البنية القاعدية القارَّةُ نمطيةٌ في إطار اللسانيات النسبية؛ إذ لا تصدق إلا في اللغات الشجرية التي اختارت لفصها الترﮐﻴﺒﻲ وسيطَ الرتبة المحفوظة.
- بموجبها يُؤصِّل التركيبُ الشجري ترتيباً بعينه، منه يَشتَقُّ ترتيباً آخرَ يَسمح به، ويَمنع باقي التراتيب المحتملة.
- يحتاج التركيب الشجري إلى قاعدة التحريك التحويلية لإنتاج ترتيب فرعي من آخرَ أصلي.
- قاعدة التنضيد التداوليةُ ليست من قواعد التركيب الشجري، كما لم تكن قاعدة التحريك من قواعد الترﮐﻴﺒﻲ التوليفي، إذ كلتاهما قاعدةٌ نمطية، ولا يصير النمطيُّ كليّاً بالجعل.
وخلاصة القول في خاتمة هذا الحوار اللساني مع باحث في مستواكم متتبع للحركة اللسانية في الوطن العربي إن العلم عموماً يتطوّر بتوافر شرطين أساسيين: أولهما أن يكون مستنبتاً من البيئة الاجتماعية لحل المشاكل المحلية واقتراح الحلول العملية من أجل التطوير المستمر لمختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية. وثانيهما أن يكون البحث العلمي ونشر المعرفة بين المواطنين بلسان الوطن. وبغير هذين الشرطين لا يُثمر العلم نتيجة مرجوة.
وليس لي في الأخير إلا أن أجزل لكم الشكر على ما أبديتموه من الاهتمام بنظرية اللسانيات النسبية، وأتمنى أن أكون قد وُفقت في توضيح جانب من أسئلتكم الهادفة، وإلى فرصة أخرى بحول الله.
2. اللسانيات الحديثة؛ مشاكلها الداخلية وتطبيقاتها في الحقول المجاورة*.
سبق ابن خلدون إلى فكرة أن التآليف الكثيرة تعتبر من عوائق المعرفة. ومن غير المستبعد أن يصدق هذا الرأي في وقتنا الحالي على مختلف التيارات الفكرية الوافدة على المثقف المغربي من هنا وهناك. وحين يكون الإقبال على علوم العصر طلبا للجدة والانخراط في الحداثة، وليس لجدواها أو لما تدره من النفع المعرفي أو المادي، ظهر في مجتمع المثقفين التهافت على ما بيدي الآخر من أفكار وإن لم تفد الإفادة المطلوبة، وتعاظم النفور من الثقافة الموروثة وإن كانت مجدية بمعايير هذا العصر. وإذاك يصعب اختيار توجه فكري لوجاهته والاستقرار عليه لجدواه، بل في الغالب ما يعود تبني إطار للاشتغال به في حقل معين إلى اعتبارات غير علمية ولا موضوعية، الشيء الذي يقطع حبل الحوار العلمي بين المثقفين من ذوي الاختصاص الواحد. وسعياً منّا لاستجلاء الآراء حول النظريات والمذاهب المتنافسة والتي يسعى أصحابها بجد للتفرد بموضوع الدراسة المشترك بينها، بادرنا إلى محاورة الدكتور محمد الأوراغي أستاذ اللسانيات ونحو العربية في كلية الآداب جامعة محمد الخامس أكَدال، واستوضحناه في موضوعات يكثر حولها الخلاف فكانت منه التوضيحات والآراء الآتية:
§ انطلاقا من تجربتكم الثرية في حقل اللغة وميدان اللسانيات، هل هناك إمكانية لتوظيف هذا الضرب من المعارف في مقاربة سليمة للنص القرآني بشكل خاص، والنص الديني بشكل عام؟
· اللسانيات الحديثة في آخر نماذجها توقفت - الآن - بصفة نهائية. كالنحو التوليدي التحويلي الذي وضعه شومسكي، وسليله النحو الوظيفي الذي أقامه سيمون ديك، والحال أن كلاهما لا يزال يعاني من مشاكل لسانية داخلية، وأخرى منهجية، ومشاكل في التصور؛ وبكلمة واحدة، إن النظريات اللسانية في الغرب لم تكتمل بعد، وكل نظرية لم تقترح حلولاً مقبولة لإشكلات اللغات البشرية، أو لم تصل بعد إلى الصيغة المقبولة من لدن أغلب اللغويين، لا يمكن استعمالها خارج حقل اللسانيات، كأن توظف مثلا في تحليل النص الأدبي أو الديني أو القانوني، وهلم جرا، فكل علم لم يهتد بعد إلى حل المشاكل التي تخصه وتعنيه لا ينتظر منه أن يُسهم باقتراح من أجل حل مشاكل في حقول معرفية مجاورة. إن النضج شرط ضروري لتآزر علوم الحقول المتجاورة. نخلص من هذا إلى أن اللسانيات الحديثة إذا قورنت باللسانيات العربية القديمة التي قامت أصلا من أجل النص القرآني والنص الديني عموماً، ستبدو الأولى للناظر المدقق في طور التنشئة، وأنها لا تزال في حاجة إلى المزيد من الجهد لإدراك مستوى النضج الذي يوجد فيه التفكير اللغوي العربي القديم. لا أحد يستطيع أن يقدم كتاباً من اللسانيات الغربية الحديثة في نحو النص، وأن يرفع بشيء من الجدية إلى مستوى نظرية النظم الموصوفة في كتب الإعجاز. وفي هذا السياق استحضر دروساً كان اللغوي الفرنسي جيل فوكونيي يلقيها في عطف الجمل، وكان تحليله في غاية العفوية والسذاجة بالقياس إلى معالجة الجرجاني لهذه الظاهرة في باب الفصل والوصل. ومثل هذا يمكن قوله في التوظيف الحالي لمفهوم التناص المستقدم لتحليل النص الأدبي الحديث. ولو أخذ من أصوله في كشاف الزمخشري، ومن تطبيقات الشنقيطي له في كتابه أضواء البيان لكانت المعالجة النقدية للنصوص الأدبية في غاية الوضوح والدقة، ولا يستبدل به تناصٌّ حديث إلا إذا كان هذا الأخير أنضج وأدق. وما أثبتناه في نسقي العطف والتناص قديماً وحديثاً ينسحب على اللسانيات العربية القديمة ومثلها الغربية الجديدة، بشرط التجرد من المواقف المسبقة من هذا التفكير اللغوي أو ذاك.
§ في هذا الصدد ما الذي يجعل الكثير من المشتغلين في الحقل اللساني أو الحقول المعرفية المختلفة، في عالمنا العربي، يصرون على نقل ما وصلت إليه اللسانيات الغربية في تعاملها مع النصوص المختلفة ، وتطبيقها على نصوصنا المرجعية، سواء كانت نصوصاً دينية أو تراثية أو أدبية أو غير ذلك؟
· ظاهرة التهافت التي وصفتها بدقة في هذا السؤال تجد تفسيرها في أن العالم العربي المعاصر خرج من حقبة الانحطاط الفكري والجمود العقلي إلى عهد الاستعمار الثقافي والاحتلال العسكري. وكان من نتائج ذلك أن استفاق الباحث العربي على الفكر الغربي، وراهن قصداً أو خطأ على أن تطوير العالم العربي مشروط بأن يحذو الباحث العربي حذو المفكر الغربي، وبتشجيع من الجامعات الغربية فتح باب الاقتباس على مصراعيه في مجالات العلوم الإنسانية خاصة. وأخذ الفكر الغربي الحديث يستولي تدريجياً على العقل العربي المعاصر حتى صار الإنتاج المحلي القديم يعالج بمنظور غربي طلباً للجدة وهروباً من نعوت التقليد والجمود. فالإصرار على النقل الوارد في سؤالكم مبرر باستعجال الخروج الفردي من التخلف الحضاري والانتقال ولو بشكل فردي إلى طور النضج الثقافي. واستعجال التطور الفردي يورث ثقافة مبتسرة إما عن طريق الترويح المحلي لمفاهيم خاصة بالثقافة الغربية، ومن هذا القبيل مفهوم الضمير في لغويات تمام حسان أدخل في اللسانيات الغربية منها في العربية. وإما بالإقدام على تطبيق نتائج اللسانيات الغربية في وصف اللغة العربية وفي تعليمها، وإن كانت أفكار اللسانيين الغربيين ما زالت في طور التأمل والتهذيب، بينما يقابلها في الفكر اللغوي العربي القديم أفكار لغوية وصلت إلى مستوى من النضج أعلى من غيرها الجديد. خذ على سبيل المثال نظرية العامل (وهي جهاز لتفسير الأحوال التركيبية والوظائف النحوية والمواقع الرتبية والعلامات الإعرابية)؛ فهي في أغلب الكليات المغربية تنسب إلى شومسكي. في حين أن هذا الأخير بدأ يتحدث عن نظرية العامل في الثمانينات، لما اطلع على نظرية العامل عند سيبويه، بواسطة يوسف عون. إذن بدل أن نتحدث عن العاملية السيبويهية تركناها وأخذناها عن شومسكي الذي أخذها بدوره عن سيبويه ونشرها، وبدأ اللغويون العرب المعاصرون ينشرون عاملية شومسكي وهي نفسها عاملية سيبويه. هناك تهافت عربي غير مبرر على ما لدى الغربيين المعاصرين، وكأن هؤلاء هم الذين يصنعون الحقيقة ولا أحد سواهم . إن تفوقهم التكنولوجي والعسكري والاقتصادي لا يستتبع التفوق البيولوجي لعقولهم، صحيح أنه بقدر ما يجتهدون نتكاسل، لكن من اجتهد منا في مجال معرفي ونصح لا بد أن يشارك العالم في الخلق والإبداع، وينقلب من مستهلك لأفكار الغير إلى مبدع لها. من مميزات الثقافة العربية المعاصرة أنها تجدد نفسها من خلال جديد الثقافة الغربية، ويكون في الغالب باقتباس مفاهيم، وأحياناً لا يعرفون أن هذه المفاهيم في حد ذاتها غير كاملة وغير ناضجة، وأنها ليست سوى كلام آخر مستورد نقوله في ميدان الأدب أو في ميادين أخرى.
§ يفهم من هذا الكلام أنه لا مناص من الاستفادة من اللسانيات الحديثة للتعامل مع النص بصفة عامة، ويستبطن هذا الكلام اعتقاداً بأن فكرنا اللغوي القديم قادر على صياغة تعامل سليم مع نصوصنا المرجعية.
· بالنسبة للتطبيقات اللسانية لدراسة أي نص، فلا أعتقد أنه يمكن أن نجد لدى الغربيين حالياً أكثر مما كتبه قديماً الجرجاني في نظرية النظم والقاضي عبد الجبار في إعجاز القرآن والسكاكي وفخر الدين الرازي والرماني وسيبويه. لا أعتقد أنه يمكننا أن نجد شيئاً أفضل مما كتبه القدامى في هذا الباب، في تناولهم للنص القرآني والنص الديني بصفة عامة والنص الأدبي والنص الفني عموماً أو القانوني، إن المستوى الذي وصل إليه البحث اللغوي في الغرب لا يزال في بدايته بالقياس إلى ما كتبه القدامى. صحيح أن العرب القدامى لم ينظموا تفكيرهم في نظريات، وكان تفكيرهم عبارة عن آراء مشتتة ولا تنتظم الانتظام النظري المعاصر، وصحيح أن الغربيين تفوقوا في تنظيم الفكر اللغوي في نظرياتهم اللسانيات المتعاقبة أو المتواجدة؛ ولكن هذه النظريات باعتبار مشاكلها الداخلية، وبالنظر إلى منطلقاتها الخاصة والأهداف المتوخاة منها يمكن القول بكل اطمئنان إنها غير صالحة لوصف العربية ولا لمعالجة نص تراثي مكتوب بها، ولا لتعليم هذه اللغة. وما يقوم به بعض الباحثين المطبقين فهو مضيعة للوقت، وسوف يأتي زمان يكشف عن صدق هذه الدعوى. كما أن هذه النظريات لا يمكن أن تكون مفتاحاً لدراسة النص القرآني. وبالتالي سيبقى الفكر اللغوي العربي القديم، رغم عدم انتظامه في نظرية محكمة البناء كما هو الحال في مثيلاتها الغربية، الأورد والأنسب إلى أن ينهض مثقفو هذه الأمة الذين عاهدوا المعرفة وصدقوا فيسهموا في صياغة فكرهم داخل أنساق نظرية كما يفعل أقرانهم في العالم المتقدم.
§ من أجل أن يكون استيعابها دقيقاً لمثل هذه الآراء التي تفضلتم بها، بودنا لو فهمنا الأسباب والظروف التاريخية والعلمية التي تحكمت في ولادة اللسانيات في الغرب؟
· البحث اللساني مر في الغرب بأطوار متلاحقة. وفي كل حقبة اتخذ شكلا متميزاً نسبياً إلى أن ظهر في بداية القرن الماضي، كما هو معلوم، اللساني السويسري فردنان دو سوسور، باعتباره مؤسس الدراسات اللسانية المعاصرة التي أقامها على مفاهيم منهجية جديدة وخاصة مفهوم البنيوية الذي ثبَّتَ استقلالَ علم اللغة. وبفضله أصبحت الدراسة اللغوية لأول مرة في الغرب تعنى باللغة في حد ذاتها، بعد أن كان الباحثون فيها من قبل يتوسلون بدراستها إلى اقتناص معرفة واقعة خارج اللغة. فاللسانيات السلالية التي سادت قبل سوسور وأوجدت مفهوم اللغات الهندوأوروبية مثلاً كانت لها أهداف سياسية و عسكرية. ويكفي أن نعلم أن وليام جونس الحاكم العسكري الانجليزي للهند هو صاحب هذا المفهوم. إذن بفضل سوسور بدأ البحث اللساني يقترب من العملية؛ إذ صار يقبل مفهوم الصورية، وأخذ يتأتى التعبير عن موضوع اللسانيات بلغة رياضية مضبوطة. وغدت اللسانيات أقرب العلوم الإنسانية إلى الدقة. لكن سوسور وضع أولويات لسانيات علمية، ولم يكتب له أن يصوغها في نظرية، بل كان يحاضر، وطلبته يجمعون آراءه اللسانية وينسقونها في محاضراته. وبعده أخذت أفكاره تتطور في مدارس لسانية متعددة في أوربا، ولكنها كانت كلها عبارة عن تحاليل لظواهر لغوية جزئية. إلى أن ظهر شومسكي في منتصف القرن الماضي حيث بدأت اللسانيات تظهر في شكل نظرية كأية نظرية في العلوم الدقيقة، فقدمت في صورة نظرية مكتملة بمقدماتها وبمنهجها وبأهدافها وبقواعد استنباط المعارف... فمن حيث الإطار أصبحت هذه النظرية ناضجة، ولكن من حيث الخلفية التي انطلق منها شومسكي كانت خلفية غير صحيحة؛ إذ سرعان ما عاد باللسانيات إلى سالف عهدها قبل سوسور، إذ أصبح همُّه الأوحد من دراسة اللغة أن يعرف التركيب البنيوي للدماغ البشري، فشكَّلت اللسانيات في نظره قسماً من علم النفس المعرفي. ولإدراك هذه الغاية اضطر منهجياً إلى تبني مبدأ التعميم الذي يفيد أن كل ما يصح في الإنجليزية يجب أن يصح أيضاً في سائر اللغات البشرية، ولا ينعكس، أي ما يصح في إحدى اللغات البشرية ليس من الضروري أن يصح في الإنجليزية أيضاً. ولقيام لسانيات شومسكي على مبدأ التعميم والتوسيع استشعر كثيرٌ من اللسانيين الأوروبيين خطورةَ هذا التوجه، فبنوا أشكالاً من التفكير اللغوي المحلي في إيطاليا وفرنسا من أجل الحد من هيمنة اللسانيات الأمريكية.
§ ما المقصود بمبدأ التعميم الذي يعزى إليه في نظركم قصور نظرية شومسكي اللسانية؟
· مبدأ التعميم يتمثل في أن شومسكي يقول: إن أنحاء اللغات البشرية كلها خاضعة لمبادئ واحدة، وهذه المبادئ طَبْعِيَّةٌ بمعنى أنها لا تُتَعلَّم ولا تكتسب، بل توجد منسوجة خِلقةً في خلايا دماغ الإنسان، وهي تنتقل من السلف إلى الخلف بمورثات بيولوجية. وبما أنها كذلك فلا يخلو دماغ إنسان من هذه المبادئ، وبواسطتها يستطيع كل طفل أن يبني في ذهنه نحواً؛ أي نسقاً من القواعد التي تولد ما لا نهاية له من الجمل السليمة بنية والمقبولة دلالياً. وهو يعتقد جازماً أنه بإمكان نظريته اللسانية أن تكتشف مبادئَ النحو الكلي وأن يصوغها صياغة رياضية في شكل قواعد عامة. أما عن كيفية الوصول إلى اكتشاف هذه المبادئ فسيتم عبر البحث عنها في اللغة الأنجليزية التي يتكلمها شومسكي ويدرسها، وبما أن محتوى الذهن واحد بيولوجياً لدى جميع الناس فإن ما يجده شومسكي في لغته الأنجليزية يجب أن يكون موجوداً في جميع اللغات (وهذا هو مبدأ التعميم) أي ما يصح في الإنجليزية يصح في جميع اللغات كما سبق أن ذكرنا. إذن لسانيات شومسكي نظرية في غاية الدقة من جميع الوجوه، ولكن مراميها ومنطلقاتها لا يمكن أن تكون محط إجماع اللسانيين. ومن هنا حاولت أن أصنع نظرية بخلفية مغايرة لخلفية شومسكي وبأهداف غير أهدافه، أي لا يمكن الحديث عن مبادئ نحوية كلية، وليس هناك نحو واحد، وإنما المبادئ النحوية موزعة بين احتمالين متقابلين، وبالتالي يجب أن تكون الأنحاء نمطية؛ أي لا هي بالكلية التي تستغرق جميع اللغات البشرية، ولا بالخاصة بكل لغة لغة، وبذلك تفادينا مبدأ التعميم، أي ما يصدق في العربية يصح في جميع اللغات، بل ما يصح في اللغة العربية يصح في طائفة من اللغات المشابهة للعربية، ومنها اليابانية واللاتينية والكورية والفارسية ولغات أخرى مشابهة بناء على مبادئ معينة تكون اللغات مخيرة بينها. فاللغات التي تشترك في نفس المبادئ يكون لها نفس النحو، واللغات الأخرى التي تشترك في مبادئ أخرى يكون لها نفس النحو. ولهذا فنظرية اللسانيات النسبية (التي هي آخر النظريات اللسانيات الحديثة) تتفادى مبدأ التعميم وتتنبَّأ بأنحاء نمطية للغات المتشابهة من حيث المبادئ المقومة التي تؤسسها.
§ قبل الدخول في تفاصيل النظرية التي قمتم بصياغتها، سيكون من المفيد لو عرفنا كيف كان حال اللسانيات قبل ظهور البنيوية؟
· يمكن القول عن اللسانيات الأوروبية قبل البنيوية كانت مزيجاً من المعارف اللغوية والفلسفية والمنطقية، بمعنى أن اللغة لم تنفرد بعلم مستقل عن الفلسفة ومجالات معرفية أخرى فأغلب المفاهيم اللغوية المنقولة عن اليونانيين قد لاحظها فلاسفتهم وصاغوا حدودها بمصطلحاتهم الفلسفية أو المنطقية. واتسمت الاكتشافات النحوية والآراء اللغوية المنسوبة إليهم بشيء من الغموض وعدم الدقة في التحديد، وذلك بالقياس إلى ما هي عليه حالياً في النظريات اللسانية المعاصرة. وفضلاً عن انتفاء الدقة يأتي الاقتصار في تحديد المفاهيم اللسانية على ربط لغتهم الاصطلاحية بمفاهيم مجردة عن الصورة القولية للعبارة اللغوية. وبسبب إهمال هذا الجانب تخلفت الدراسات الصوتية مثلا في التفكير اللغوي الأوروبي قبل ظهور البنيوية في مستهل القرن الماضي. كانت هناك تحاليل ضعيفة جداً يقدمها الفلاسفة وبعض اللغويين كمدرسة بُورْ رُوَيال على سبيل المثال، وهي بمثابة تأملات فلسفية في اللغة، وكانت ضعيفة جداً بالقياس إلى التفكير اللغوي العربي القديم. فاليونان لم يتركوا شيئاً مهماً في اللغويات. ويشهد تاريخ اللغويات أن الأوروبيين لم يُخلِّفوا تأملاً لغوياً قوياً؛ كانت لهم إرهاصات وتأملات خاصة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، حيث بدأت الفيلولوجيا واللسانيات المقارنة عموماً، ولكنها كانت كلها من أجل أهداف سياسية وأخرى فكرية ذات مرامي غير لغوية.
§ يميل كثير من دارسي العلوم والمعارف في الغرب، إلى أن دافع الهيمنة والاستعمار؛ أي الأهداف السياسية والثقافية، كانت وراء بروز طائفة مهمة من العلوم الإنسانية في الغرب، كالأنتروبولوجيا على سبيل المثال. فهل يمكن تطبيق هذه القاعدة، إن صح هذا التعبير، أيضاً على اللسانيات كما تشكلت في الغرب؟
· تمهيدا للجواب عن هذا السؤال لا بأس من التذكير بتقليد ترسخ في التفكير اللغوي الغربي منذ اليونان إلى الآن وهو النظر إلى اللغة على أنها مرآة عاكسة لبنية غيرها. وغيرها إما بنية العالم الخارجي كما يعتقد فلاسفة يونان قديماً وفلاسفة اللغة العادية حديثاً ومثلهم المناطقة الجدد الذين يضعون نماذج لغوية لاقتناص المعرفة العلمية التي تكمن خارج اللغة وتنعكس في بنيتها. وإما خصائص قومية تطبع ذهنيةَ شعبٍ بَحَثَ عنها هونمبلت من الرومانسيين في اللغة الألمانية. وإما أن تكون اللغة تعكس التركيب البنيوي للعقل البشري، كما يعتقد شومسكي فتوسل بالدراسة اللغوية إلى معرفة بنية الدماغ، وهي بنية خلوية لا تقبل الملاحظة بأي شكل من الأشكال. إذ كانت اللغة في الفكر الغربي تُعتبَر على الدوام مفتاحاً يشق أفاقاً في اتجاهات مختلفة. وبنيوية سوسور، كما سبق أن ذكرنا، قامت على رفض هذا التقليد، وتعويضه بفكرة أن دراسة ظواهر اللغة مفتاح إلى معرفة نسقها، إلا أن هذه الفكرة الجديدة لم تستطع أن تصمد أمام تقليد راسخ، وهو خلع الطابع المرآتي على اللغة. ولذلك صارت اللسانيات في معاهد التكنولوجيا التي تعنى بهندسة المعرفة ملتحمةً بالسِّبِرْنِيَات"La cybernétique" ، والذكاء الاصطناعي، والإدراكيات "les sciences cognitives" بتفاعل فروعها الستة: علم النفس، وعلوم الجهاز العصبيneurosciences" "، والفلسفة، والأنتروبولوجيا، واللسانيات، الإعلاميات. والغاية من تضافر هذه التخصصات معرفةُ كيف يشتغل الدماغ البشري وهو يُدرك، أو يُفكِّر، أو ينطق، أو يحسب، أو يعي ويشعر، حتى إذا اكتملت تلك المعرفة وتكاملت تأتى تصنيع الدماغ في جهاز آلي. وكان من نتائج هذا البحث أن تولدت الترجمة الآلية القائمة على نحو واحد ومعاجم متعددة، وخاصة ترجمة النصوص العلمية بين اللغات المتقاربة نمطياً كالفرنسية والإنجليزية، لكن هذا الهدف لم يتحقق في الخطاب العادي بين اللغة المتقاربة ولا في الخطاب العلمي بين اللغات المتغايرة نمطياً.
§ قرأنا في الآونة الأخيرة، دعوة بعض الباحثين إلى تطبيق المنهج البنيوي على نصوصنا. ما هي المشاكل المعرفية والمنهجية التي تعترض سبيل مثل هذه الاتجاهات؟
· لا يمكن أن نطبق البنيوية إلا في إطار نموذج معين؛ لأن البنيوية سارية في جميع النماذج النحوية والنظريات اللسانية. ثم البنيوية اتجاه صوري يرتكز على الخصائص المجردة للعبارة اللغوية ولا يعني في العمق بمضمونها الدلالي، يمكن عن طريق التقابلات الثنائية التحديد البنيوي للقيم الصوتية المستعملة فارقة في أية لغة بشرية، وكذلك الأمر بالنسبة للمقولات المعجمية التي تتعاقب في أي موقع من البنية المكونة للعبارة. فالبنيوية شديدة الحرص على إدراج جملة من العناصر في شبكة من العلاقات بحيث يستمد كل عنصر قيمته التي تميزه من قيم العناصر التي تُعالقه. خذ على سبيل التوضيح مثال الضوء الثلاثي المنظم للسرير تجد الضوء الأحمر يكتسب قيمة المنع من اكتساب الضوء الأخضر لقيمة الإباحة. هذا مثال مبسط لتوضيح مفهوم النسقية في الاتجاه البنيوي الذي أسسه البحثُ اللغوي المعاصر وأثمر فيه إلى أبعد الحدود، وخاصة في النظريات اللسانيات والنماذج النحوية. فالعنصر الواحد ليست له قيمة في حد ذاته وإنما يكتسب قيمته بالقياس إلى العنصر الآخر المنتظم معه في علاقة معينة؛ هذه التبادلية في القيم المسندة إلى العناصر النسقية تكون واضحة في الدراسات اللغوية، وقد لا تكون بنفس الدرجة من الوضوح في المعالجة النقدية للنصوص الأدبية أو الفنية.
§ تصرون في كتاباتكم على أن الفكر اللغوي العربي قد توقف عند جهود سيبويه، فهل تعتقدون بالفعل أن العقل اللغوي العربي لم يستطع أن يصنع نظرية جديدة تواكب كل المشاكل والتحديات التي تعترض سبيل اللسانيات العربية، إن صح هذا التعبير؟
· حينما شرعت في دراسة اللسانيات الغربية الحديثة، من حسن حظي أني كنت درست النحو العربي القديم جيداً، وحين أقبلت على تحرير كتاب في موضوع "اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم" كنت على بينة من الأصول الفلسفية لهذا الإشكال في لسانيات شومسكي وفي علم النفس المعرفي عموماً، كما كنت خلال سنوات كثيرة خلت من البحث في الفكر العربي القديم، نحواً وبلاغة وأصولَ فقه وعلمَ كلام وعلمَ تفسير ومنطقاً وفلسفةً وغير ذلك، كنت أقف باستمرار على حقيقتين. أولاهما أن في التراث الثقافي العربي بجميع حقوله العلمية والفكرية نظرية معرفية ولسانية تختلف من جهة عن النظرية الطبعية والأنحاء العقلية التي يتحدث عنها شومسكي في لسانياته، وتأتلف من جهة ثانية مع التيار المراسي في الفكر الغربي. والوقوف على مثل هذه الحقيقة يشجع الباحث على إمكان استثمار التراث الثقافي العربي لإقامة نظرية لسانية جديدة مغايرة للسانيات شومسكي الكلية ومتوافقة مع التوجه المراسي في الفكر البشري بغض النظر عن مكان أصحابه وزمانهم. أما الحقيقة الثانية فداخلية، وهي أن المبدعين في الفكر العربي القديم قلة. إذ تبين من المنشور الذي اطلعنا عليه ألا أحد من القدماء يتقدم على ابن سينا في الفلسفة والمنطق، وان القاضي عبد الجبار رئيس المتكلمين، وان عبد القاهر الجرجاني لا يعلى عليه في علم المعاني الذي به تمام علم النحو وكذلك علم البيان متمم علم اللغة. وأن سيبويه رئيس النحاة، وكل من أتى بعده فمردد لأفكاره بألفاظ أخرى. وهؤلاء الذين أبدعوا لم يأت مبدع بعدهم، بل كثر من يلخص ويشرح أو يقرب ويضيف أو يهذب، وأحياناً لا يفهم فهماً سليماً ويؤلف كتاباً ! فوقع احتباس فكري. ومع بروز هاتين الحقيقتين كاد الباحثون في المؤسسات الجامعية المغربية والعربية يجمعون على أن كل ما بوسع الباحث العربي أن يفعله الآن هو الاقتصار على فهم ما قيل في الغرب والحرص على نقله الأمين، أو الوقوف عند ترديد المضامين التراثية وترتيلها بواسطة ما وضع من المنظومات. وهو ما يفسر ظاهرة أنك تسأل جامعياً عن مسألة في تركيب اللغة العربية أو صرفها فيجيبك إما ببيت أو بيتين من الألفية أو اللامية، وإما بأقوال مترجمة من اللغة الفرنسية أو الإنجليزية. وهكذا انقسم معظم اللغويين في الجامعات العربية إلى مرتِّلٍ لمنظومات النحاة المتأخرين، أو مترجم لعبارات اللسانيين الغربيين. ومثل هذه الوضعية لا تسمح لقوم ورثوا حضارة عظيمة أن يدخلوا عالماً أساسه التنافسية. ولا يدخل هذا العالم من لا يسهم بجديد من إبداعه. أما أن تقول فعل جدي، أو تقول أنا معك في ما تفعل الآن فأنت حكواتي لا غير. إن التنافسية العلمية تعني مشاركة العالم في الصناعة النظرية من أجل تطوير المعرفة البشرية حتى تحصل الفائدة للجميع وفي المقدمة وطنُ صاحب المشروع.
§ من خلال هذا الكلام، وأمام هذا الوضع غير السوي الذي يحيط باللسان العربي، برزت اتجاهات أخرى، وانتم منها، تنادي بتأسيس نظريات جديدة في مختلف العلوم والمعارف، يكون فيها قدر كبير من الإبداع والتجديد. أول تساؤل يمكن أن نطرحه في هذا الصدد هو: هل شروط النظرية عامة أم أنها خاضعة للحقل الذي تستهدفه؟
· عالمنا المعاصر أخد يتطور بسرعة فائقة حين ترك إلى غير رجعة "المعرفة النفسية" وعض بالنواجد على "المعرفة النسقية". وهذا أول شرط، وهو لا يخص حقل اللسانيات دون غيره، كما لا ينسب إلى باحث دون سواه. والمعرفة النسقية ثمار النظرية وجناها، ولا تبنى النظرية في أي حقل معرفي بدون فرضية عمل؛ تمثل الأساس التي تقوم عليه النظرية، وهي القاعدة لكل برهنة. ثم لابد لهذه النظرية من بناء منطقي داخلي، وأن يكون تماسك هذا البناء بواسطة قواعد منطقية بها تستنبط المعرفة النسقية التي تتوقعها النظرية، ويلزم أن تكون توقعات النظرية مطابقة لموضوعها الذي تدرسه. وهذه الشروط لا يمكن التساهل في الأخذ بها أو ترك بعضها؛ لأنها منطقية ومعقولة ومقبولة ومضبوطة. والنظريات تختلف باعتبار الفرضية التي تنطلق منها، وهذه الفرضيات ليست قائمة مفتوحة، بل هي متناهية بحكم مبدأ الثالث المرفوع المنطقي.
§ كيف تتشكل الفرضية لدى الباحث في حقل من حقول العلوم المختلفة ؟
· فرضيات العمل، حسب العلوميين، نوعان؛ يضم النوع الأول الفرضيات الاعتباطية؛ وهي التي لا تحيل على واقع، ولا يكون الأخذ بها لصحتها أو صدقها، وإنما يتبناها صاحبها باعتبار هدف مقصود يتوصل إلى تحقيقه بنظرية يبنيها على تلك الفرضية، وتكون العبرة لقبول الفرضية أو رفضها بما حققت النظرية اللسانية مثلاً من نتائج مرضية في حقل اللغة. فشومسكي تبنى فرضية عمل اعتباطية؛ تقوم على تصوره الخاص للملكة اللغوية. إذ يعتقد أنها عبارة عن مبادئ كلية ذات طبيعة لسانية تكون مطبوعة خلقة في النسيج الخلوي للعقل البشري. وهو يرمي من تبني هذه الفرضية أن يصل إلى هدف معين يتحقق بواسطتها، ألا وهو الحد من اختلاف أنحاء اللغات البشرية وإرجاعها جميعاً إلى مبادئ النحو الكلي كما هو ماثل في نحو اللغة الإنجليزية التي يدرسها. والملاحظ في الفرضية الاعتباطية كون الهدف ينتقيها. بمعنى إذا أردتُ أن أصنع نحواً واحداً لجميع اللغات البشرية، ما هي الفرضية المناسبة التي يجب أن انطلق منها وأن أؤسس عليها جهازاً يولد نحواً واحداً؟ وعندئذ ينبغي التسليم بها، فالعبرة ليست بصدق الفرضية أو كذبها، إنما العبرة بالنتائج التي تنتهي إليها النظرية المؤسسة عليها. وعلى الفرضية أبني بناءً نظرياً، محكماً منطقياً، متماسكاً بسيطاً منسجماً. وهذا البناء النظري يتوقع شيئاً، وهذا التوقع سأختبر صدقه مراسياً في مختلف لغات العالم. ولذلك لابد من تكوين اللسانيين الأتباع يوكل إليهم تطبيق نظرية النحو الكلي على لغاتهم الخاصة، وإمداد المركز بنتائج أبحاثهم خلال اللقاءات الدورية. أما النوع الثاني من الفرضيات فيخصها العلوميون باسم الفرضية المراسية. وتتميز هذه بان لها محتوى يحتمل أن يكون صادقاً أو كاذباً باعتبار الواقع الذي تحيل عليه، فهي قابلة للفحص والتعديل وكذلك الأمر بالنسبة إلى النظرية اللسانية التي تبنى عليها. والفرضية المراسية لا يبرهن عليها داخل حقلها وإنما تتم البرهنة من علم آخر. وبذلك تتوقف البرهنة المتصاعدة إلى ما لا نهاية. وهذا عيب يقر به الجميع.
§ ننتقل إلى الحديث عن النظرية اللسانية الجديدة التي أسستموها على أنقاض نظرية شومسكي؟
· لكل فرضية عمل مقابل، إذن الفرضية الثانية المناقضة لفرضية شومسكي الطبعية هي ما يعرف في أعمالنا باسم الفرضية الكسبية وهي تفيد؛ كما وجدناها منتشرة بشكل واسع في تراثنا الثقافي، أن اللغة البشرية في مقابل اللغة الحيوانية، ملكة صناعية تُقَوِّمها مبادئ كسبية. بعض هذه المبادئ كلي وبعضها نمطي. في حين تكون لغة الحيوانات ملكة طبعية أي تنتقل من السلف إلى الخلف بمورثات بيولوجية، ولذلك لا تتغير أبداً عبر الزمان كله ولا تختلف، وهو حال كل الصناعات الحيوانية. أما لغة الإنسان فمن وضعه وقد أقدره الله عليها بما جعل فيه من جهاز صوتي مهيأ خلقة لتقطيع الصوت المرسل إلى نطائق وتركيبها أشكالاً من التركيب للدلالة على ما في قواه النفسية من معارف استقاها من العالم الخارجي. وما كان من وضع الإنسان لا بد أن يختلف عبر الأقوام، وعبر أجيال القوم الواحد المتعاقبة. سواء أكانت تلك الصناعة لغة أو مسكناً ولباساً. ومبادئ اللغة البشرية أو أية صناعة إنسانية أخرى لا تكون في التيار الكسبي الذي نتبناه مبادئ وراثية منسوجة خلقة في خلايا دماغ الإنسان لا تتعلم ولا تكتسب وإنما تورث بيولوجياً كما يعتقد شومسكي، وإنما هي جملة من الاحتمالات المتناهية المتواجدة في شكل شبكة من التقابلات المحصورة. بواسطتها يستطيع الإنسان أن يضع لغة على نحو نمطي ممكن. فالفرضية الكسبية تقوم إذن على أساس أن اللغات البشرية ليست طبيعية، وإنما هي لغات اصطناعية. والشيء المصطنع لا بد أن يختلف، ولا يمكن أن يكون واحداً؛ وهذا الاختلاف لا بد أن يكون متناهياً، أي ليس متعدداً إلى ما لا نهاية، لا بد أن يختلف في حدود ما أمكن؛ لان هناك إمكانيات للاختلاف، وهذه الإمكانيات محدودة جداً. وحين اتضحت الفرضية الكسبية في الذهن وصار بالإمكان الدفاع عنها واستبدالها بالفرضية الطبعية التي اختارها شومسكي لم يبق بعد إيجاد هذا الأساس سوى النهوض بمشروع نظرية جديدة. نقيمها على أنقاض نظرية شومسكي، التي وصلت في الآونة الأخيرة إلى الباب المسدود، ولم يعد أحد يشتغل بها إلا على سبيل المكابرة والعناد أو الجهل بمصيرها المحتوم. ونحن نبني نظرية اللسانيات النسبية ألزمنا أنفسنا بضوابط لا مندوحة منها، ولا بأس من ذكر بعضها، أولها أن تتوفر في النظرية المقترحة القدرة على حل أزمة فكرية متجذرة في حقل اللغويات، وان يكون الحل موافقاً لأصول الحضارة الإسلامية؛ بحيث ينتفي التعارض بين فرضية العمل التي تؤسس نظرية اللسانيات النسبية وبين أصول العقيدة الإسلامية. ثانيها أن يشكل وجود النظرية المستحدثة نظرة جديدة إلى اللغة؛ بحيث تُطوِّرُ هذه النظريةُ معرفتَنا باللغات البشرية، ويفترض عندئذ أن تحدث ثورة علمية في حقل الدراسات اللغوية، إذا حصرت الأنماط اللغوية ووفرت ما يلزم من النماذج النحوية. ثالثها أن يمثل أساسها محوراً استبدالياً، إذا قامت نظرية اللسانيات النسبية على أصول مغايرة للأصول المقومة للسانيات الكلية. وأن يكون بناؤها الداخلي منطقياً، بمعنى أن يكون تحصيل المعرفة اللغوية فيها بمنهجية مضبوطة القواعد متداولة بين المتخصصين في حقول العلم المختلفة، وأن تكون توقعاتها مطابقة لموضوعاتها. وباختصار شديد يشترط في إقامة نظرية لسانية جديدة أن تتجاوز بالمعنى الدقيق للتجاوز كل ما بأيدي الباحثين في اللغات البشرية من نظريات لسانية ونماذج نحوية سواء كانت قديمة أو حديثة، بحيث تستطيع أن تجلب إليها مجتمع اللسانيين الباحثين في اللغات البشرية والمتخصصين في دراستها وصفاً وتفسيراً. مع العلم أن الباحثين في أي حقل من حقول المعرفة يكونون مجتمعاً محافظاً؛ إذ يكادون يخضعون خضوعاً جماعياً للنظرية السائدة في عصرهم، ويتقيدون في تفكيرهم بمعاييرها، ولا يبدأ تزحزحهم الفكري والابتعاد التدريجي عن النظرية التي نَشَّأُوا تفكيرَهم في إطارها إلا إذا اشتدت أزمتها، وتفشت فيها ثغرات يفترض في النظرية الجديدة المنافسة أن تسدها.
§ هل هناك مؤيدات تجعلكم تطمئنون إلى دقة وسلامة النظرية التي قمتم بتأسيسها؟
· نظرية اللسانيات النسبية التي بنيناها من مميزاتها أنها تستطيع أن تتوقع ما تتوقعه نظرية شومسكي الكلية، وأن تتوقع ما لم تكن نظرية شومسكي تتوقعه؛ فنظرية شومسكي تتوقع مثلا أن يكون لكل لغة بشرية رتبة أصلية، ونظريتنا تصادق على ذلك لكنها تحصره في نمط اللغات التركيبية، وتتوقع أيضاً لنمط اللغات التوليفية تركيباً ببنية قاعدية ذات رتبة حرة. وهذا من جملة ما لا تتوقعه لسانيات شومسكي. ومن هنا حصل التجاوز بالمعنى العلمي، لأن التجاوز لا يعني أن تُخطِّئ النظريةُ الجديدة النظريةَ القديمة، وإنما تحتضن اللاحقة صواب السابقة وتصوب خطأها وتزيد عليها بأن تأتي بما لم يكن في حسبانها. ومما يزيد في الاطمئنان إلى نجاح نظرية اللسانيات النسبية التي أقمناها أنها لا تكتفي بتجاوز نظرية شومسكي المعاصرة، (عن طريق احتضان صوابها وتصحيح خطئها وحل مشاكل لغوية كانت نظرية شومسكي عاجزة عن حلها) بل تجاوز أيضا النحو العربي القديم إذ شرطنا في نظرية اللسانيات النسبية، بالقياس إلى اللغويات التراثية، أن تستوعب ما في النموذج السيبويهي من صواب، وأن تصوب ما في التراث النحوي من هفوات معرفية، وأن ترفع خلافات النحاة، وأن تبسط وصف العربية، وأن تفسر الخصائص البنيوية لهذه اللغة ضمن نمطها. ولن تستوفي نظريتنا هذا الشرط بغير تقيدها الصارم بعدد محصور من الأوليات التي تعين على الدوام ما يجب قوله في وصف التركيب البنيوي للعربية ولغيرها من اللغات التوليفية وتبين أيضاً ما يجب تركه مما يصف النمط الترﮐﻴﺒﻲ من اللغات البشرية.
§ يفترض في النظرية النسبية، المنسوبة إليكم، أن تشكل ثورة في حقل اللسانيات، إلا أن ما يلاحظه أي متابع هو عدم ذيوع هذه النظرية في الأوساط العلمية عربياً كما على المستوى العالمي، ذيوع يناسب قيمتها. إذا كان هذا الكلام صحيحاً، فبم تفسرون هذا الأمر؟
· هذه النظرية مدونة الآن، في كتاب "الوسائط اللغوية"، وفي عشرات المقالات والأبحاث التي نشرتها وأنا الآن أبحث في تطبيقات هذه النظرية وخاصة في تعليم اللغة العربية للناطقين بها أو بغيرها، وفي وضع الكتاب المدرسي وفق هذه النظرية. فالذي أهتم به حالياً يمكن اختصاره في التساؤل التالي: ما هي تطبيقات هذه النظرية في قطاع اللسانيات التربوية خاصة، حتى نتمكن من وضع مناهج تربوية في غاية البساطة، محكمة البناء، منطقية سهلة التناول مقبولة من الصغير قبل الكبير. كما تتجنب جميع المشاكل الموجودة في الكتب المدرسية لتعليم اللغة العربية. وقد اختبرتها من خلال المتلقيات في كثير من الجامعات التي زرتها، اختبرتها في دراسة بعض اللغات الشفوية كاللغات الأمازيغية واللغات الإفريقية، واختبرتها أيضاً في بعض الجامعات الآسيوية والأوروبية، ولقنتها لطلب اللسانيات والدراسات اللغوية في أكثر من مؤسسة جامعية دولية، وكانت تلقى الاستحسان والتجاوب كما هو حال طلبتنا في الجامعة المغربية. وما زلت أُعرِّف بها في أوساط المثقفين واللسانيين. هذه النظرية أُعلِّمها، وأصف بها اللغة العربية وصفاً جديداً مغايراً لما نجده في النحو المدرسي. وفي نفس الوقت لا ننتظر مشاركةً ممن اعتاد على الكسل الفكري، فركن إلى التقليد وهو لا يجيده، وانتصب مدافعاً عن آراء غيرِه كأنها من بنات أفكاره، وهو في الغالب لا يفهم الكثير مما يردِّد. وفي هذا السياق لا ينبغي أن ننسى عقيدةً راسخة في نفوس قومنا خاصةً، وهي أن المعاصرة تنفي المناصرة. وحينما تكون هذه العقيدةُ مُؤيَّدةً بالشعورِ بالنقص تجاه الغربي عموماً يتأكَّد صدق قولهم: إن مغني الحي لا يُطرب. ومثل هذه الصغائر لا تنفع، لأن المعرفة البشرية حين تنتقل بفضل نسق معرفي جديد إلى مستوى أعلى مما كانت عليه فإما أن تسايرها وإما أن تتخلَّف عن ركب الكبار، ولك أن تقعد مع القاعدين ما شئت.
§ هل تتوقعون أن يكتب لهذه النظرية النجاح في المستقبل. وما هي في نظركم الحوائل التي تحول دون ذلك؟
· أعتقد أنه سيكتب لها النجاح لأنها بديلٌ لغيرها، ويكفيها عدمُ الاهتمام بشيء من المشاكل الهامشية التي ذكرنا بعضَها في نهاية سؤالكم الأخير. وخاصَّةً أن الكثير من المتعاطين للثقافة في عالمنا العربي ما زالوا يغلب عليهم الاعتقاد بأن إثبات الذات لا يحصل بالصدق في إنجاز عمل نافع، وإنما يكون بالجمع بين الإشادة بالأنا واستصغار الآخر. وكأن في الدفاع عن نظرية اللسانيات النسبية استخفافاً مباشراً بهم، فلا يفرِّقون بين شخصية الباحث وبين النظرية اللسانية التي ينتسب إليها ويشتغل في أطرها. أضف إلى ذلك مشكلَ اليأس الذي استحوذ على النفوس فكان الجزمُ بأنَّ العلم لا يمكن أن ينبعث من بيننا، وكأنه محكوم علينا بالتبعية الفكرية إلى الأبد، وفي المقابل لا يأتي العلم الحق الرصين إلا من الآخرين، فكل ما يأتينا من الثقافة الغربية فهو حق وإن كان في العمق متواضعاً، فالنفوس قد ألفت الاحتفاء بأفكار الغربيين والشك المبدئي في إمكانية أن يجاريهم أحدٌ من أبناء جلدتنا وإن أنتج فكراً راقياً متميزاً منافساً لكبار المفكرين في العالم.
§ نريد أن نعرف بعضاً من الثغرات في نظرية شومسكي التي مكنتكم من نقضها.
· لم يكن تفكير شومسكي في اللغة ليلقى استصواباً من مجتمع اللسانيات المعاصرين. فمواطن الخلاف كثيرة؛ منها الأخذ بمبدأ استقلال النحو، إذ يعتقد شومسكي أن اللغة نسق من القواعد الصورية المستقلة تمام الاستقلال عن غيرها من الأنساق الأخرى، مع أن تركيب العبارة اللغوية يقدم خصائص بنيوية لا يمكن البتة تفسيرها إلا عن طريق ربطها بنسق من القواعد الدلالية والتداولية. خذ على سبيل المثال اتصال الإعراب وانقطاعه في اللغة العربية لا يمكن تفسيره إلا بواسطة أصول تداولية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مثل العبارة (كِينَتْ أمةٌ واحدة) فتركيبها سليم باعتبار القواعد الصرفية والتركيبية، لكنه مختل باعتبار قاعدة اشتقاقية، وقواعد الاشتقاق ذات طبيعة دلالية. ومن هفواته أيضاً الأخذ بمبدأ التعميم القاضي بأن يصح في جميع اللغات البشرية ما يصح في الإنجليزية و لكن لا يصح في الإنجليزية ما يصح في إحدى اللغات الأخرى. ولا أحد يستطيع أن يساير شومسكي في هذا النمط من التفكير الغريب إلا على سبيل المناصرة والمؤازرة. يجد شومسكي في تركيب لغته الإنجليزية بنية قاعدية ذات رتبة قارة، يمثل لها عادة كما يلي: SN- FLEX-SV وهذه البنية من شأنها أن تولد الفاعل في صدر الجملة الإنجليزية يتلوه الفعل فالمفعول. وقد ينقل المركب المفعول من موقعه كما في بناء الفاسيف، وينفذ هذا النقل بقاعدة تحويلية وهي قاعدة حرك الألف. وما يجده شومسكي من قواعد نحوية ومبادئ مستنبطة من لغته الإنجليزية يجب أن ينسحب أيضاً على العربية و على غيرها من اللغات. فقَدَّر لتركيبها مع أتباعه من اللسانيين العرب الجدد بنيةً قاعدة ذات رتبة قارة أيضاً، تولد، بترخيص من مبدأ عام مفاده أن لكل لغة بنية أصلية جملةً مرتبة في الأصل كالتالي: (فعل- فاعل- مفعول). كما يجب أن تستعمل العربية كسائر اللغات القاعدة التحويلية انقل الألف إذا أرادت أن تحرك مركباً من موقعه الأصلي إلى موقع آخر. وترى الأتباع يجتهدون في تطبيق ما وجد شومسكي في الإنجليزية على لغتهم المحلية. ويكثرون من علل النحاة للاستدلال على صحة أفكار شيخهم ومطابقتها التامة لما يجري على ألسنتهم. ومن الثغرات المنهجية في التفكير اللغوي لدى شومسكي الاستماتة في الدفاع عن نظريته للسانيات الكلية. ولم يكن الغرض من إدخال البرمترات ضبط النظرية للرفع من توقعاتها وبالتالي تطوير المعرفة الإنسانية باللغات البشرية، وهو المفروض في كل تعديل، وإنما كان الهدف من التعديل محصورا في إنقاذ نظرية النحو التوليدي التحويلي من الانهيار. ولنفس الغرض أخذ، من الفلسفة الاصطلاحية"conventionnalisme" التي ترفض مطلقاً أن تؤثر معطياتُ الواقع في البناء المنطقي للنظرية الاصطلاحية، تقنيةَ التشكيك في القدرة العلمية لكل من خالفه الرأي وقال بغير ما يقول أو لم يسر بسيرته. فلا يقبل من أحد مهما برهن في إطار نظرية اللسانية النسبية على أن للغات البشرية فصوصاً نمطية بحيث يكون للغات التوليفية فص ترﮐﻴﺒﻲ له بنية قاعدية ذات ترتيب حرٍّ وبالتالي لا تحتاج هذه اللغات إلى قاعدة تحويلية، وفي المقابل توجد اللغات التركيبية المتميز فصها الترﮐﻴﺒﻲ ببنية قاعدية ذات رتبة قارة فاحتاجت إلى قاعدة النقل، ولا نمط لغوي بين ذينكم النمطين. فمهما قيل في البرهنة على النمطية كما تتصوَّرُها نظريةُ اللسانيات النسبية تجد ضمن المنضوين إلى نظرية اللسانيات الكلية من يقلل من القيمة العلمية للآراء الجديدة وهذا مبدأ منهجي في التوجه الاصطلاحي عموماً. وأود في نهاية هذه الجلسة الغنية بهذه الأسئلة الدقيقة والهادفة أن أشكركم الشكر الجزيل، وأتمنى بصدق أن يتكرر مثل هذا اللقاء لما فيه من التبصرة للمتخصصين وسواهم من المثقفين عموماً، والله موفق الجميع.
* أجراه مع محمد الأوراغي الدكتورُ حافيظي إسماعيلي.
* حوار أجراه مع محمد الأوراغي الباحثُ جواد شقوري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق