مدونة تهتم باللسانيات التداولية التفاعلية الاجتماعية تحاول ان ترسم طريقا مميزا في معالجة الاشكالات المعرفية المطروحة في هذا النسق العلمي بالمناقشة والرصد والتحليل والمتابعة
الجمعة، 1 يوليو 2011
القضية الأمازيغية في المغرب
القضية الأمازيغية في المغرب بين الهوية الإسلامية ومحاولة الاحتواء العلماني (الجزء 1)
د. فريد الأنصاري .
رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، ومراسل مجلة البيان، المغرب.
-----------------------------------------------------------------------------------
ليس من السهولة تقديم توصيف دقيق، أو تعريف جامع مانع للتيار الأمازيغي في المغرب، فهو تيار معقد ومتشابك؛ لما دَاخَلَه من ملابسات وتوجهات مختلفة: ثقافية، وإيديولوجية، وقومية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية… إلخ.
فـ «الأمازيغية» في معناها المعجمي البسيط هي: لغة السكان الأصليين لمناطق الشمال الإفريقي.
و «الأمازيغيون» قبائل شتى تلتقي أنسابهم جميعاً عند جدهم الأعلى الذي يتسمون باسمه نسبةً، وهو (مازيغ) الذي تقول بعض المصادر التاريخية إنه من أحفاد نوح عليه السلام.
إلا أن التيار الأمازيغي اليوم شيء مختلف؛ فالملف الأمازيغي الموضوع على الطاولة السياسية المغاربية اليوم ملف معقد؛ فهو يرجع إلى مجموعة من الجمعيات الثقافية والأحزاب السياسية المختلفة التوجهات والأغراض، وإشكالاته مركبة من قضايا شتى: فهو أولاً من الناحية اللسانية متعدد ومختلف، وهو من الناحية التصورية متضارب إلى درجة التناقض أحياناً، ثم هو بعد ذلك من الناحية التنظيمية متعدد غير متجانس؛ فمن جناح أمازيغي ثقافي محض.. إلى جناح أمازيغي يرفع شعار الأمازيغية كإيديولوجية سياسية ذات مضمون علماني صرف؛ يتنكر للمكونات الثقافية الإسلامية، ويجعل مرجعيته الحضارية في مغرب ما قبل الفتح الإسلامي.
* فما هي حقيقة التيار الأمازيغي؟
هل هي الأصول الحضارية التي اصطبغ بها الوجود التاريخي للمغرب؛ إذ تكون من فسيفساء متناسقة مركبة من مجموع متعدد، ومختلف غير متناقض من المكونات العرقية، والثقافية، واللغوية، في إطار الدين الإسلامي الجامع؛ هذا الدين الذي برهن تاريخياً ـ ولا يزال ـ في العديد من بقاع العالم المتعدد الأعراق واللغات على شموليته الاحتضانية، وقدرته الاستيعابية لكل اللغات والأعراق والثقافات؟
أو أن حقيقة التيار الأمازيغي إنما هي هذه الطوارئ الظرفية، والنتوءات (الشعوبية) التي لا تظهر عادة إلا في أحوال الفتور الحضاري للأمم؟ أو أن حقيقته هي هذا التيار اللينيني الغريق الذي يسعى للتشبث بأي شيء يمكن أن يمد له في عمره؛ ريثما يستعيد قوته، ويجدد تصوراته، ويلم صفوفه؛ ليستأنف مسيرته المستقلة بصورة أوضح؛ كما هي معروفة في الفكر الماركسي الذي يجمع بين القوميات واللغات في إطار ديكتاتورية البروليتاريا، وفي إطار مفهوم (المجتمع الشيوعي)؟
وهل بمقدور الأمازيغية من حيث هي جنس بشري، وبما هي (لغة طبيعية) ـ كما يقول علماء اللسانيات ـ أن تتحمل كل ذلك؛ فتسعف كل هذه التيارات، وكل هذه الأجنحة والتوجهات للوصول إلى مقاصدها الإيديولوجية والسياسية؟ أم أن ذلك كله مجرد مخض الماء وطحن الهواء؟
لماذا هذا الاهتمام الإعلامي المتزايد ـ خاصة منه الفرنكوفوني ـ بالتيار الأمازيغي السياسي في المغرب والجزائر؟
ما الأمازيغية إذن؟ ما هي إمكاناتها الحالية؟ وما احتمالاتها المستقبلية؟
لتسليط الأضواء حول جوانب من هذا الموضوع عقدت مجلة البيان ندوة: (القضية الأمازيغية بالمغرب؛ بين الهوية الإسلامية ومحاولة الاحتواء العلماني).
فاستضافت متخصصين في هذا المجال؛ بلا ممالأة لأي اتجاه إيديولوجي أو سياسي؛ فهم جميعهم أمازيغيون عرقياً ولغوياً، كما أنهم أكاديميون يعيشون الملف الأمازيغي بوعي علمي، وبواقع معاش، وهم كما يلي:
من جامعة المولى إسماعيل بمكناس:
* الأستاذ الدكتور الحسين كنوان، أستاذ اللغة العربية، متخصص في علم النحو.
* الأستاذ الدكتور عبد الرحمن حيسي، أستاذ التفسير والعقائد الإسلامية.
* الأستاذ الدكتور محمد سدرة، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي.
ومن جامعة السلطان محمد بن عبد الله، بمدينة فاس:
* الأستاذ جواد بنامغار، عدل موثق بالمحكمة الابتدائية بولاية القنيطرة بالمغرب، وباحث في الدراسات الإسلامية بجامعة السلطان محمد بن عبد الله بمدينة فاس.
ندعو الله أن يوفقهم لإجلاء الحقائق، وإفادة القراء بكل نافع ومفيد.
( البيان ) : لنبدأ بالمصطلحات: (الأمازيغ) و (البربر) مصطلحان يستعملان اليوم ـ كما في كتب التاريخ ـ للدلالة على السكان الأصليين لبلاد المغرب؛ فأيهما أدق في الدلالة وأصدق؟
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
إن الذي يناسب الطبيعة الاشتقاقية للأسماء في هذه اللغة هو اسم «أمازيغ»، ويُجمع على «إمازيغن»، وكثير من الأسماء المذكرة تأتي على هذا الوزن. ثم إنه الاسم الأصيل الذي أطلقه السكان الأصليون للمغرب على أنفسهم – بغض النظر عن دلالته عندهم – فلا ينبغي أن نحيد عنه.
أما اسم «البربر» أو «البرابرة»؛ فأصله لاتيني بلا خلاف، ويعني: (المتوحشين) أو (الهمجيين)، وكل اللغات الأوروبية الحديثة ذات الأصول اللاتينية تستعمله بهذا المعنى. ويظهر أن أول إطلاق له على السكان الأصليين للمغرب كان من قِبَل الرومان في غزواتهم التاريخية المعروفة لبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي شملت أجزاء من المغرب الأقصى، وهذا أمر معروف في تاريخ الحركات الاستعمارية؛ حيث تستعمل مثل هذه الأوصاف للتنقيص من شأن الشعوب المستعمرة.
( البيان ) : بمناسبة اللغات؛ فإن علماء اللسانيات يقولون: (اللغة فكر)؛ أي إنه من المستحيل تجريد اللغة مثلاً من حمولتها الدينية التي امتزجت بها من الناحية العرقية والتاريخية، فيكون بذلك لكلماتها مضمون نفسي يرتبط بالانتماء الديني لأهلها؛ وبناء عليه فهناك من يريدون أن يصنعوا من اللغة الأمازيغية حاجزاً للمغاربة عن الإسلام؛ على أساس أن اللغة العربية فصيحها وعاميها ذات مضمون إسلامي؛ فهل اللغة الأمازيغية فعلاً تسعفهم بطبيعتها في ذلك؟ وهل صحيح أن اللغة الأمازيغية خالية من المضمون الإسلامي؟
* الأستاذ جواد بنامغار:
مضمون أي لغة إنما يتكون من عقيدة الناطقين بها وتصوراتهم، والأمازيغ اعتنقوا الإسلام منذ حوالي أربعة عشر قرناً، وآمنوا به، وأحبوه، وتعلموه، ونشروه، ودافعوا عنه خلال هذه القرون كلها؛ فكيف لا يكون للأمازيغية مضمون إسلامي؟!
هذا من الناحية النظرية، أما عملياً وواقعياً؛ فدعني أقل لك إنني من أصل أمازيغي، وأن والدي وأعمامي، وأخوالي يتكلمون الأمازيغية، وأخالط كثيراً من الأمازيغيين من ذوي القرابة أو المصاهرة أو «أولاد البلاد»، فلا أشعر أبداً أن ما يتخاطبون به، ويتواصلون من خلاله من لغة أمازيغية خالية من المضمون الإسلامي، بل على العكس من ذلك تجدها مليئة في عباراتها، ومعانيها، وأمثالها، وأهازيجها، وقصصها الشعبية بما يؤكد هذا المضمون، وينبئ عن تشبع أهلها بالإسلام ومبادئه.
* الدكتور الحسين كنوان:
اللغة الأمازيغية لغة كباقي اللغات الإنسانية يمكن التعبير بها عن الخير والشر معاً؛ حسب إرادة المُعَبِّر ـ بكسر الباء ـ وقصده.
لكن يبدو أن المقصود من الشطر الأول من سؤالكم ـ حسب ما فهمت منه ـ هو أنكم تريدون أن تقولوا: هل يتضمن معجم اللغة الأمازيغية مفاهيم إسلامية، أم أنه خال منها تماماً؛ ومن ثم هل يتوفر ضمير الإنسان الأمازيغي على روح إسلامية؟ على اعتبار أن اللغة الأمازيغية ما كانت ـ ولن تكون ـ حاجزاً بين من لا يحسن غيرها وبين الإسلام، وذلك للأسباب التالية:
أ – أن اللغة الأمازيغية لغة مرنة تقترض المفردات الأجنبية عنها بدلالاتها عند الاحتياج، وتضفي عليها من بنيتها التنظيمية ما يجعلها طيعة للسان الأمازيغي. ويبدو أن هذا يقع فيما يدل على الثوابت من المعاني المتداولة في الحياة الإنسانية أكثر منه في المتغيرات؛ فالكلمات التالية تُنطق بالأمازيغية دون تغيير يذكر، أو مع تغيير طفيف يتلاءم مع النطق الأمازيغي كما يلي: فـ (الله) جل جلاله هو (الله) بلا تغيير، و (جهنم) هي (جهنم)، والرسول # هو الرسول #، لكن «الجنة» تنطق «أَدْجَنْثْ» أو «الجَنْثْ» حـسب اختــلاف اللهجـات، و «الآخرة» هي «لُخْرَى»، والنبي # هو «نْبي» بسكون النون.. وهكذا.
ب – لقد تغلغلت المفاهيم الإسلامية في عمق الفكر الأمازيغي عبر القرون الطويلة التي مرت على الفتح الإسلامي للمغرب الأمازيغي، وعلى الرغم من ضعف التعهد التربوي الإسلامي للإنسان الأمازيغي، كما هو الحال بالنسبة للمغرب عموماً لظرف أو لآخر؛ فان الروح الإسلامية تسري في عروق الأمازيغيين، وذلك ما تعبر عنه إنشاداتهم وأهازيجهم في كثير من نواحي الحياة.
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
الذي يعتقد أن بإمكانه جعل اللغة الأمازيغية حاجزاً بين الأمازيغ والإسلام مخطئ في تصوره؛ لأن هذه اللغة قابلة بطبيعتها الصرفية والاشتقاقية لحمل المضامين الإسلامية، بل هي تحملها فعلاً، كما يظهر واضحاً في تراثها الأدبي الذي يزخر بقصائد شعرية رائعة في الإرشاد بتعاليم الإسلام والدعوة إلى التمسك بها، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، وما إلى ذلك من أغراض دينية. ومنذ دخل الإسلام المغرب اهتم به الأمازيغ وأولوه كامل عنايتهم، فاجتهدوا في حفظ القرآن والحديث وتعلم الفقه، ووُجِدَ منهم علماء أعلام أتقنوا العربية وألَّفوا بها، ونقلوا منها إلى لغتهم الأمازيغية ما شاء الله نقله من المضامين الإسلامية. ولتيسير الفهم والاستيعاب كانوا يدرسون ويعظون باللسانين العربي والأمازيغي.
ولم تكن الأمازيغية أبداً حائلاً بينهم وبين معرفة أحكام دينهم، وما حالهم في ذلك إلا كحال الترك وغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام وأبلت فيه البلاء الحسن؛ بنصر دعوته ونشر تعاليمه باللغة العربية وبلغاتها الأصلية.
( البيان ) : إذا تحدثنا عن التاريخ: من وَطَّنَ الإسلامَ في المغرب: الأمازيغ أم العرب، أم هما معاً؟ وكيف تنظرون إلى المقولة الشعارية التي ترفعها الحركة الأمازيغية والملخصة في عبارة: (الاستعمار العربي للمغرب)؟
* الدكتور الحسين كنوان:
إن كنتم تقصدون بسؤالكم من حمل بذرة الإسلام وغرسها في المغرب؟ فالجواب واضح: هم العرب المسلمون. أما إن كان القصد هو الدفاع عن الإسلام إحياءً وحراسةً، وهذا ما يفهم من كلمة «الوطن» الواردة في سياق سؤالكم؛ فهم المسلمون المغاربة دون تمييز. نعم! يحدث في فترة من التاريخ أن يحمل قائد، أو زعيم، أو مصلح لواء نشر الإسلام، أو إحياء تعاليمه في قلوب الناس وسلوكاتهم، أو الدفاع عنه؛ ممن تسمى أمازيغ، أو نشأ في منطقة يسكنها الأمازيغ بالغلبة؛ مثل طارق ابن زياد، وعبد الله بن ياسين، أو عبد المؤمن، أو عبد الكريم الخطابي، أو موحى أحمو الزياني… هذا صحيح، ولكنه لا يعني أن المغاربة من أصل عربي لم يشاركوا في هذه العملية أو تلك بأي نصيب، ولم يحدثنا التاريخ عن أن العنصر العربي تقاعس عن أداء الواجب عندما كانت الزعامة لأحد هؤلاء الأعلام في الدفاع عن الإسلام؛ ذلك أنه بالنسبة لي يصعب عليَّ أن أميز بين المغاربة عندما يناديهم داعي الواجب.
هذا بالإضافة إلى انصهار الأجناس البشرية في المغرب، وتداخلها فيما بينها إلى درجة يستحيل معها أن تميز عنصراً من الآخر؛ فالهجرات، والمصاهرات، وتنقلات الأسر من منطقة إلى أخرى لأسباب متعددة لا تترك مجالاً للقول بأن الإنسان المغربي خالص النسب إلى عنصر كذا عبر التاريخ. والحكمة الأمازيغية تقول ما ترجمته بالعربية: (قيل للثعبان: من هو أخوك؟ قال: الذي يوجد معي في الغار)؛ أي إنها تعتبر رابطة التساكن الجغرافي فقط موجباً للأخوة.
هذا بالنسبة للشطر الأول من سؤالكم.
أما الشطر الثاني فيبدو أن فيه شيئاً من التعميم؛ لأني لا أعتقد أن كل الحركات الأمازيغية تقول بذلك، ولا أن أفراد الفصيل الذي يقول بذلك متفقون عليه بنفس الدرجة من إيمانهم بما يقولون.
مع العلم أنه يمكن القول: إلى أي حد تمثل هذه الحركة الأمازيغية بجميع فصائلها الإنسان الأمازيغي في المغرب؟ ثم ما هي شروط الانتماء لهذا الفصيل أو ذاك من فصائل الأمازيغية؟ هل هو الأصل، أو اللغة، أو الجغرافيا؟ أو لا بد من إعلان الولاء والعداء.. هل وهل؟
صحيح أن ثَمَّ عوامل كثيرة تجعل بعض الشرائح الاجتماعية من سكان المغرب تشعر بشيء من التهميش، وبالخصوص الأمازيغ منهم؛ لأسباب متعددة، منها: غياب اهتمام العالم العربي الإسلامي بهذه اللغة وأهلها، ومنها: ما هو مبثوث في القاموس الشعبي العامي من عبارات اللمز والتحقير في حق الأمازيغ ولغتهم! وهي عبارات لا يؤبه لها حين تقال لهذا الشخص أو ذاك، ولكنها تعمل عملها في النفوس، فتدسها إلى لحظة الحاجة، عندما ينفخ نافخ في بوق الوسوسة؛ لتصير المنبه المعتمد للشعور بالإقصاء والتحقير؛ خصوصاً عندما يُربط ذكرها بمظهر من مظاهر الحرمان، كالفقر المادي، والتهميش الاجتماعي؛ مقارنة مع الآخر الذي كان الأمازيغي يسلم أنه وإياه إخوة بعامل التساكن فقط. ومن نماذج تلك العبارات العامية التي ينبغي أن يعزر مستعملوها: (الزيت ما هو إدام، والشلحة ما هي كلام)، و (أنغ، أنغ)… إلى آخر ذلك من عبارات التهكم والسخرية بالإنسان الأمازيغي!
والغريب أن يصدر مثل هذا أيضاً من بعض الأشخاص المثقفين الذين هم في موقع الإرشاد والتوجيه الاجتماعي أو السياسي، بل حتى الحضاري أحياناً! والنفوس حساسة، وقد قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] .
* الدكتور محمد سدرة:
مقولة: (الاستعمار العربي للمغرب) هي شعار الراقصين على الجراح؛ من المخبولين في هذه الحركة، والذين يريدون جرها إلى الإلحاد والعنصرية ليس إلا!
( البيان ) : الآن ندخل في صلب موضوعنا (الحركة الأمازيغية): من المعروف أن تفسير الحركات الاجتماعية والسياسية التي يفرزها مجتمع ما في مرحلة تاريخية ما ليس بالأمـر السهل، ولا شك أن حركة الأمازيغية التي ظهرت في البلدان المغاربية؛ بوصفها حركة ذات بعد عرقي وإيديولوجي هي من هذا القبيل. ثم إن الأمازيغية بوصفها حركة سياسية أيضاً أصبحت ظاهرة متحركة في الوسط السياسي والثقافي المغربي؛ فكيف تفسرون بروز الحركة الأمازيغية بهذه الصورة التي نشاهدها اليوم؟
* الأستاذ جواد بنامغار:
تعود المراحل التأسيسية الأولى للحركة الأمازيغية إلى ما بعد الاستقلال مباشرة؛ حيث تأسست أولى الجمعيات بهذا الصدد في الستينيات من القرن المنصرم، إلا أن ظهور الحركة وانتشارها، وإعلانها عن نفسها من مختلف المنابر الثقافية، والسياسية، والإعلامية محلياً وعالمياً طغى في السنوات الأخيرة، وقد ساعد على ذلك مجموعة عوامل ذاتية وموضوعية، وأخرى تتصل بعوامل خارجية إقليمياً ودولياً.
وإذا كنا لا نشك في سعي السياسة الاستعمارية إلى السيطرة على بلدان العالم الإسلامي من خلال الغزو الفكري والثقافي؛ فإن الفرنكوفونية من تجليات هذه السياسة بالمغرب، وإن من وسائلها في ذلك احتواء الاتجاه الأمازيغي ودعمه، والدفع به في اتجاه يضر بالمصلحة الوطنية المغربية، ووحدة الشعب المغربي المبنية على الإسلام، ويخدم الأطماع الاستعمارية الفرنسية المغلفة بالفرنكوفونية.
إلا أننا في المقابل لا ننكر أن في الحركة الأمازيغية أفراداً وجمعيات من يهتم بالأمازيغية باعتبارها قضية وطنية، وإحدى مكونات الهوية المغربية الإسلامية، وتعتني بالمطالب العادلة لها في إطار الوحدة والمرجعية الإسلامية.
* الدكتور الحسين كنوان:
للإجابة عن السؤال السابق شقان: أحدهما ـ وهـو الأساس ـ: هو الجانب السياسي، وثانيهما ـ وهو وليد الأول وتابع له ـ: وهو الثقافي، ولكل منهما اعتباراته الخاصة فيما يتعلق بمعطيات الإجابة عنه؛ ولذا تنقسم الإجابة في نظري إلى قسمين:
أ – الجانب السياسي: لهذا الجانب مغذياته، وأسبابه السياسية والاجتماعية، وربما حتى النفسية التي قد تكون وليدة ظروف متعاقبة، وأسباب متضافرة نرى أن الحكمة تقتضي عدم الخوض فيها، وإلا زدنا الجرح عمقاً، والقلوب تنافراً، في الوقت الذي يتطلب الأمر العمل على لمِّ الشمل، وتوحيد الرؤى في إطار منظومة ثقافية اجتماعية وحيدة موحدة؛ أشبه ما تكون بما أطلق عليه الرومان: «كوينتي»؛ فكل الذين يعيشون على أرض الوطن إخوة مغاربة، وقد سبق القول بأن الحكمة الأمازيغية تعتبر رابطة التساكن الجغرافي فقط موجباً للأخوة، والحمد لله على أن الحركة الأمازيغية سياسية وليست قومية، وإن كانت يُشم منها بعض هذه البوادر أحياناً.
ب – الجانب الثقافي: هذا الجانب غني غنى حياة الإنسان الأمازيغي الذي تلاقحت ثقافته بثقافة الأجناس البشرية التي تعاقبت على أرض المغرب، وعلى الرغم من كون هذه الثقافة غير مدونة؛ فإن ثمة بقية بصمات منها على أرض المغرب لغوياً وجغرافياً وسلوكياً.
فمن الناحية اللغوية نرى أن الدراسة العلمية النزيهة السليمة يمكن أن تكشف عن قواسم مشتركة في جوانب متعددة بين اللغة العربية والأمازيغية، وقد يكون ذلك ناتجاً عن تأثر الأمازيغية بالحضارة الإسلامية العربية.
ولكل هذه الاعتبارات وغيرها كثير لا نستغرب أن تظهر حركة سياسية تعتمد الأمازيغية إطاراً ومنطلقاً لها في ظروف مهدت لتعددية سياسية؛ لتحقيق أهداف معينة قد تسمو إلى درجة النبل إذا ما كان القصد منها هو الكشف عن جانب من جوانب ثقافة المغرب وحضارته. وقد تنزل إلى الحضيض عندما تغذيها أهداف نفعية ذاتية، أو إيعازات ماكرة شريرة لا يتفطن لخبثها إلا من كان فكره مُحصَّناً، وأوتي فهماً ثاقباً، وقوة فائقة في الإيمان بحب الله ثم الوطن.
* الدكتور محمد سدرة:
الأمر مرده في تقديري إلى الإخفاقات التي لحقت بالأطروحة الماركسية بالمغرب؛ بفضل أصالة الدين والتدين في نفوس المغاربة، فشكَّل هذا المنعطف مشجباً بديلاً يود الفكر اليساري النفوذ من خلاله إلى الطبقات الشعبية التي تشكل القاعدة الخلفية للأطروحة. وقد ساهمت الإحباطات التي مني بها المجتمع، من جراء إخفاق التنظيمات السياسية في تحقيق طموحاته، في تغذية هذا التوجه وتشجيعه.
( البيان ) : المعروف أن التيار الأمازيغي قد نشأ وترعرع في ظل الدعم الفرنكوفوني؛ فكيف تفسرون ذلك؛ وخاصة أن الأهداف المعلنة للفرنكوفونية إنما هي دعم اللغة الفرنسية وثقافتها في مستعمراتها السابقة؟
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
السؤال ليس وجيهاً؛ لأنه يُسلِّم بأن التيار الأمازيغي نشأ وترعرع في ظل الدعم الفرنكوفوني؛ فعليكم إثبات ذلك أولاً وإبراز مظاهر الدعم التي يتلقاها الأمازيغ من الفرنكوفونيين؛ حتى لا نخرج في حوارنا عن حدود الإنصاف.
والذي أعتقده شخصياً أن الدعوة إلى الأمازيغية لها أسباب نابعة من واقع المجتمع المغربي ذاته، وقد تقدم بيان بعضها. أما الفرنكوفونية فهدفها نشر الثقافة الفرنسية بكل مقوماتها، وتعميمها في كل الأوساط المغربية؛ بغض النظر عن المستهدَفين بهذه الثقافة؛ سواء أكانوا من الأمازيغ أم من العرب؛ إذن فهدفها غير هدف الدعوة إلى الأمازيغية، بل تتعارض معها. وعليكم أن تعلموا أيضاً أن الحاملين للواء الفرنكوفونية والأنجلوفونية فيهم من العرب المغاربة عدد كبير! فعليكم أن تفسروا ذلك لتستقيم الإجابة عن السؤال المطروح!
( البيان ) : طبعاً لا نتحدث عن الأمازيغ، وإنما نتحدث عن التيارات السياسية الأمازيغية!
* الدكتور الحسين كنوان:
هذا موضوع خصب وخطير، تتطلب الإجابة عنه حلقة خاصة، بل أكثر من ذلك؛ لأن المسألة تتجاوز دعم اللغة الفرنسية وثقافتها؛ إلى المحافظة ما أمكن على المكاسب التوسعية للاستعمار الاقتصادي والفكري في المنطقة، والتي تعد بوابة استراتيجية لإفريقيا، تلك المكاسب التي تحققت له (أعني الاستعمار) في المنطقة بعد كل ما بذله من جهود متواصلة خلال فترة قد لا تقل عن قرنين من الزمن، كان ذلك على فترات، يصنع لكل فترة شعارها الملائم؛ انطلاقاً من الصليبية إلى الفرنكفونية بعد التمهيد لها بالغزو العسكري؛ ولذا نرى كثيراً من أبنائنا مع الأسف قد انطلت عليهم الحيلة نتيجة تأثرهم الثقافي، وجرفهم هذا التيار أو ذاك، وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً، ومع ذلك فهم معذورون إلى حد ما في تقديري.
وعليه يمكن القول بأن التيار الأمازيغي لم ينشأ مع ظهور الفرنكوفونية، وإن كانت تغذيه، وإنما وُضعت له أسس قبل ذلك بكثير؛ يوم كان الدخيل يخطط للاستفادة من خيرات المنطقة أولاً، ثم رتب تلك الخطط بإحكام لما حال هذا العنصر البشري «إمازيغن» بينه وبين مقصوده الذي هو إخضاع المناطق التي يسكنها هؤلاء لنفوذه؛ على غرار إخضاع جميع أجزاء الوطن؛ حيث أصيب بذهول من هول الكارثة التي أصابت جيوشه وتوقف زحفها لمدة عشرين سنة على يد مقاومين أشاوس من أبناء «إمازيغن»، كما تقول بعض الأبحاث التاريخية الحديثة. ولذا تكون الفرنكفونية صياغة ظرفية للاستمرار في تطبيق ما رُسم آنذاك من خطط لإخضاع هذا النوع البشري «إمازيغن»، بل وتقريبه والاستفادة منه.
* الأستاذ جواد بنامغار:
نعم! حينما أخفقت فرنسا في زرع التفرقة بين المغاربة من خلال ظهير 0391م المصطلح على تسميته «الظهير البربري»، وكان غرضها من ذلك تكوين مناطق متفرنسة مفصولة عن الإسلام ولغته العربية تكون سندها في الاستعمار، ووسيلتها في السيطرة على البلاد، وتسخرها لأغراضها الاستعمارية؛ فلما لم تنجح في ذلك عمدت إلى الفرنكوفونية التي ظاهرها نشر اللغة الفرنسية ودعمها في مستعمراتها السابقة، وباطنها «الغزو الفكري» والتمكين للثقافة الفرنسية، والتصورات الفرنسية، ونمط الحياة الفرنسي الذي هو جزء من الحضارة الغربية المبنية على أسس مناقضة للإسلام، ولذلك فلا عجب أن تحتضن في هذا السياق التيارات المتطرفة، أو تحتويها وتدفع بها في اتجاه يخدم أطماعها الاستعمارية، وتحقق لها ما أخفقت فيه من تفرقة وسيطرة من خلال ظهيرها الاستعماري.
* الدكتور محمد سدرة:
في رأيي لا غرابة ولا مفارقة في دعم الفرنكوفونية للتيار الأمازيغي (الإيديولوجي)؛ فهما رضيعان من لبن واحد، وهو الحركة الاستشراقية ذات الأهداف العدوانية على الإسلام والمسلمين؛ ففرنسا بعدما أعياها البحث عن وسائل مسخ الهوية الإسلامية في البلدان المستعمرة وفق المخطط الاستشراقي المعروف تاريخياً؛ لجأت إلى سياسة (فرِّق تسد)، والتي بدأت بأطروحة الظهير البربري في كل من الجزائر والمغرب، وهي ذاتها تعاليم الأطروحة التي تمارس على مستوى أطروحة الأمازيغية في بعدها (الإيديولوجي) لا الواقعي كما قلت.
( البيان ) : إذن؛ هل يمكن الحديث عن علاقة ما بين الظهير البربري الذي أصدره المقيم الفرنسي العام بالمغرب (* )، وبين الحركة الأمازيغية في صورتها الحديثة؟ هل هناك علاقة بين القديم والجديد، أم أن التاريخ لا يعيد نفسه؟
* الدكتور الحسين كنوان:
أود أن أسجل ـ قبل إعطاء وجهة نظري بخصوص هذا السؤال ـ الملاحظات التالية:
أ – لا بد من الاهتمام بجذور المسألة وجواهرها، لا بتجلياتها وأعراضها.
ب – لا ينبغي أن نضع الآخرين في قفص الاتهام دون تحديد المسؤولية في الظروف التي دفعتهم إلى مثل ذلك السلوك.
ج – في هذا التاريخ الذي ذكرتموه (4391م) كان الداعي إلى شق وحدة الصف بتوظيف الأمازيغية هو المقيم العام الفرنسي… والآن الذي يخدم هذه القضية بشكل أو بآخر هم أبناء المغرب، والسؤال الملح والعريض هو: لماذا؟
د – أنجب المغرب أبطالاً ومجاهدين مخلصين من الأمازيغ، حملوا راية الإسلام لنشره تارة، وحمايته من سطوة الدخيل تارة أخرى؛ فهل انقلبت الأمور، والسؤال أيضاً: لماذا؟
هـ – أشرتم في سياق هذا السؤال إلى أن الظهير البربري كان يقوم على نوعين من العزل هما: عزل الإدارة السلطانية… وعزل الشريعة الإسلامية. لقد فعل الدخيل ذلك بخبثه إدارياً وجغرافياً؛ لكنه لم يستطع أن يحقق ذلك كل التحقيق على مستوى القلوب؛ حيث بقي الأمازيغ متشبثين بوحدتهم الوطنية، وبدينهم الحنيف، وثَمَّ شـهادات حية على ذلك لا يسـمح المقام بذكرها.
و – ألغى ظهيرُ 6591م الظهيرَ البربري، ولكنه مع الأسف لم يلغ بعض مظاهر هذه المرحلة؛ مما يحتج به عند البعض في إطار الحركة الأمازيغية.
أما بخصوص الجواب عن سؤالكم آنف الذكر؛ فإنه يمكن القول باختصار شديد بأن العلاقة موجودة بشكل أو بآخر بين مضمون الظهير البربري وأهدافه وبين الحركات الأمازيغية بالشكل الذي تعبر به عن نفسها، مهما كانت التفسيرات المقدمة لذلك؛ لأنها تخدم القصد بوعي منها أو بدون وعي، وليس هذا من باب اتهام دعاة الأمازيغية في وطنيتهم… ولكن فقط لأجل التنبيه إلى عدم سلامة المنطلقات الأساسية لهذه القضية وأهدافها؛ ولذا يجب على كل من يرفع شعار الأمازيغية لسد ثغرة تنظيمية يراها؛ أن يتحرى في تحديد الأهداف التي يرمي إليها، والوسائل التي يستعملها لتخليص الفكرة من شوائب المنطلقات الاستعمارية وأهدافها، وأن يحتاط من تقديم الخدمات المجانية للغير ضد بلده، وإلا وضع نفسه في قفص الاتهام طوعاً أمام المغاربة كافة عرباً وأمازيغ.
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
لا توجد أي علاقة بين الحركة الأمازيغية الحديثة وبين الظهير البربري الذي أصدره الاستعمار الفرنسي في 8 أبريل من سنة 4391م؛ فهذا الظهير ـ كما لا يخفى ـ كان هدفه الأساسي هو سلخ الأمازيغ عن دينهم، والتفريق بينهم وبين إخوانهم العرب لخلق جو من الفوضى والفرقة في الرأي يضمن لفرنسا الاستمرار في احتلال المغرب، وقد رفض الأمازيغ هذا الظهير يومئذ وعارضوه بشدة، وأحبطوا كل مخططات المستعمر في تنفيذه. أما الحركة الأمازيغية الحديثة فليس من أهدافها شيء مما ذُكر، وقد سبق بيان ذلك في الإجابات السابقة.
* الدكتور محمد سدرة:
أنا عندما أتحدث في محاضراتي عن الحركة الاستشراقية الممهدة للاستعمار الغربي لبلدان العالم الإسلامي أركز دائماً على قضية أساسية، وهي أن الغرب وإن أخفق في الاحتفاظ بجيوشه في البلاد المستعمرة وانسحب منها؛ فقد بقيت جيوشه الأخرى في رباطها تؤدي المهام المنوطة بها أحسن قيام، وقد استطاعت أن تنجح فيما لم تنجح فيه الأسلحة النارية، ومن ضمنها النعرات القومية والعرقية التي لم تنجح الظهائر في تحقيقها فيما سبق.
* الأستاذ جواد بنامغار:
إن الربط بين ظهير التفرقة الاستعماري الفرنسي وبين الحركة الأمازيغية عند كل حديث عنها أمر تمليه تخوفات كل غيور على وحدة الشعب المغربي، وتماسكه، وتشبثه بدينه، وقد تجاوز الأمر مجرد التخوف إلى قلق حقيقي بظهور أصوات من داخل الحركة الأمازيغية تحيي هذا الظهير، وتتبنى مبادئه، وتنادي بها!
----------------------------------------------------------------------------------
http://moslimamazighi.files.wordpress.com/2009/01/cropped-muslim_worshipb3.jpg
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق