مدونة تهتم باللسانيات التداولية التفاعلية الاجتماعية تحاول ان ترسم طريقا مميزا في معالجة الاشكالات المعرفية المطروحة في هذا النسق العلمي بالمناقشة والرصد والتحليل والمتابعة
الاثنين، 18 يوليو 2011
التخطيط اللغوي من الاستعمار إلى العولمة اللغوية
التخطيط اللغوي من الاستعمار إلى العولمة اللغويةد. عيد عبد الله الشمري - بدأ تطبيق السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي قبل دخول هذين المصطلحين ضمن مصطلحات علم اللغة التطبيقي بزمن طويل. فقد فرضت الدول الاستعمارية لغاتها على الشعوب المستعمرة في آسيا وإفريقيا والأمريكتين. وهذا يمثل سياسة وتخطيطا لغويا واضحا يهدف إلى نشر لغة وثقافة لغة المستعمر ويضمن تبعية شعوب المستعمرات اللغوية والثقافية والتعليمية والاقتصادية للمستعمر حتى بعد رحيله, وهذا ما أثبتته التجربة بالفعل. فلقد مارست الدول الاستعمارية ضغوطاً على تلك الشعوب المتحررة لاتخاذ لغة المستعمر السابق الفرنسية أو الإنجليزية لغة رسمية لتلك الشعوب بعد نيلها الاستقلال فتقاسمت فرنسا وبريطانيا مستعمراتهما لغويا. ولم تتوقف ممارسة السياسات اللغوية والتخطيط اللغوي للدول الاستعمارية عند تقاسم دول العالم الثالث من المستعمرات السابقة لغوياً بين الفرنسية والإنجليزية, بل امتد إلى العولمة اللغوية التي أعادت بموجبها الولايات المتحدة وبريطانيا إمبراطورية للغة الإنجليزية لا تغيب عنها الشمس. ودعمت الولايات المتحدة وبريطانيا تعليم اللغة الإنجليزية في جميع دول العالم دعماً ماديا ومعنويا لا مثيل له في التاريخ.
وبعد مرحلة انحسار الاستعمار بدأت دول المركز (الاستعمارية سابقاً) ممارسة سياسات لغوية وتخطيط لغوي محكم تمثل في دعم نشر لغات المستعمر السابق في مستعمراته وفي العالم أجمع من خلال مؤسسات تتدثر بالتعاون التعليمي أو العسكري أو الاقتصادي وبوسائل منها استقطاب البعثات من أبناء المستعمرات ودعم نشر ثقافات ولغات المستعمر ودعم نشر المدارس والجامعات الأجنبية والمدارس التبشيرية في دول الفرانكفونية ودول الكومنولث وغيرها من دول العالم الثالث.
وأضحت اللغة الإنجليزية لغة للعولمة العلمية والاقتصادية والثقافية والسياسية والتعليمية. وفي زمن عولمة اللغة الإنجليزية احتدم الصراع بين اللغتين الفرنسية والإنجليزية على لغة الاتحاد الأوروبي بعدما أثقلت ميزانية الترجمة كاهل الاتحاد, حيث بلغت 11 مليار دولار سنوياً, وما زال الصراع لم يحسم بعد.
السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي في العالم العربي
بدأت مظاهر السياسات اللغوية في العالم العربي بانتهاج شعوب المغرب العربي سياسة التعريب كأداة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومقاومة فرنسة شعوب المغرب العربي. وكان التعريب مرادفا للكفاح للتحرر من الاستعمار الفرنسي وفرضه اللغة الفرنسية على شعوب المغرب العربي. وبالتزامن مع سياسة التعريب لدى شعوب المغرب العربي ومناصرة لها في كفاحها ضد الفرنسة ومناصرة لباقي الشعوب العربية المستعمرة آنذاك نصت المعاهدة الثقافية لجامعة الدول العربية عام 1946 في المادة السابعة على الآتي «رغبة في مسايرة الحركة الفكرية العالمية تعمل دول الجامعة العربية على تنشيط الجهود التي تبذل لترجمة عيون الكتب الأجنبية القديمة والحديثة وتنظيم تلك الجهود», ونصت المادة التاسعة من المعاهدة نفسها على الآتي»تسعى دول الجامعة العربية إلى توحيد المصطلحات العلمية بواسطة المجامع والمؤتمرات واللجان المشتركة التي تؤلفها وبالنشرات التي تنشرها هذه الهيئات وتعمل على الوصول باللغة العربية إلى تأدية جميع أغراض التفكير والعلم الحديث وجعلها لغة الدراسة في جميع المواد في كل مراحل التعليم في البلاد العربية». وقد أوصت اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية عام 1946 بتأليف هيئات للتأليف والترجمة والنشر ووضع جوائز للمؤلفين والمترجمين والناشرين لكل قطر على حدة. وقد صدرت دساتير جميع الدول العربية تحمل مادة تأتي بعد اسم الدولة ونوع الحكم فيها تذكر أن اللغة الرسمية للدولة هي اللغة العربية. ومع أن بعض مجامع اللغة العربية كمجمع دمشق ومجمع القاهرة تأسست قبل تأسيس الجامعة العربية إلا أن هذه المجامع وما تبعها من مجامع اللغة العربية في بغداد وعمان والجزائر والمغرب ومكتب تنسيق التعريب في الرباط وأكاديمية المملكة المغربية في الرباط والاتحاد العلمي العربي واتحاد مجامع اللغة العربية واتحاد الجامعات العربية والاتحادات العلمية والتقنية التخصصية في العالم العربي ومؤتمرات التعريب التي تشرف عليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، كلها تهدف إلى تحقيق السياسة اللغوية بإثراء اللغة العربية وإحلالها المكانة اللائقة بها كلغة للعلم والحضارة والتكنولوجيا وكلغة عمل لمنظمة الأمم المتحدة ومنظماتها, وذلك لتنسيق كل هذه الجهود حتى لا تختلف أو تتعارض أو تتكرر. وتواجه جهود جميع المجامع اللغوية في العالم العربي مشكله الالتزام بما يقر من مصطلحات أو يتخذ من قرارات لتنفيذ السياسات اللغوية في أقطار العالم العربي والمشكلة المستعصية في وجه تحقيق السياسة اللغوية في العالم العربي هي الالتزام بالتعريب من قبل الأقطار العربية وإلزام كل قطر في سياسته اللغوية العربية بما يقع تحت ولايته من منظمات تعليمية أو إعلامية أو ثقافية بالتعريب. إن الالتزام والإلزام بالتعريب شأن حكومي سياسي لا بد أن تلزم بتنفيذه وتتابع تنفيذه جهة لها سلطة, فإن الجامعة العربية وجميع منظماتها والمجامع اللغوية والعلمية توصي ولكن الالتزام والإلزام شان كل دولة عربية.
يرى فشمان أن التخطيط اللغوي يمثل تطبيقاً لسياسة لغوية, ويعرف هاوجن 1959 التخطيط اللغوي بأنه عملية تحضير الكتابة وتقنينها وتقعيد اللغة وبناء المعاجم ليستدل ويهتدي بها الكتاب والأفراد في مجتمع ما. ويذكر فيشمان وآخرون 1968م إن أحد تطبيقات التخطيط اللغوي هو تنظيم دور اللغة عند بناء الدول بعد تحررها من الاستعمار الذي طمس الهوية اللغوية والقومية للشعوب المستعمرة تمهيدا لإحلال لغة المستعمر بدل لغات تلك الشعوب. إن عمر مصطلح التخطيط اللغوي بمفهومه الاستعماري لا يزيد على 60 عاما, ولم يستقر بعد بل وتتجاذبه رؤى ومسلمات متعارضة تنبع من تعارض المصالح. فدعاة التغريب اللغوي من علماء التخطيط اللغوي والمستشرقين والدول الاستعمارية ودول المركز في العولمة اللغوية المعاصرة ومن تبعهم من بعض أبناء المشرق والمستعمرات يشترطون التغريب اللغوي فرنسيا كان أو إنجليزيا كشرط للتنمية والتحديث والتقدم الاقتصادي والثقافي والعلمي. ويعارض المخططون اللغويون من دول المشرق ودول العالم الثالث (المستعمرات سابقا) ودول الهامش في العولمة المعاصرة دعاة التغريب اللغوي متحدين مصداقية رؤاه ومسلماته المنطلقة من مصالح استعمارية استجدت لخدمة الاستعمار اللغوي والتبعية اللغوية ويعترضون على تجاهل تجارب دول المشرق في التخطيط اللغوي التي تمتد آلاف السنين قبل الاستعمار. إن للغات كالصينية والعربية تجارب في التقييس والتقعيد والمصطلحات والمعاجم يفوق عمر اللغة الإنجليزية والفرنسية. وتتعدد صور تطبيقات التخطيط اللغوي الحديث ومن أبرزها:
1 ـ التنقية اللغوية. ومن أوائل الدول التي مارست هذا التطبيق فرنسا, حيث أصدرت نظاما لحماية اللغة الفرنسية من المفردات والمصطلحات الدخيلة وسهر على متابعة ذلك مجمع للغة الفرنسية ونظام ملزم لقرارات حماية اللغة الفرنسية, واضطلع المجمع بتوليد المفردات والمصطلحات الفرنسية لتواكب تطور المعرفة الحديثة. وقامت تركيا بتطبيق مماثل عندما اتخذ أتاتورك قرار التتريك وقطع الصلة بين تركيا العلمانية وتاريخها الإسلامي وتغيير حروف اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية.
2 ـ ترقية اللغة ومن أمثلة تطبيق هذا التخطيط اللغوي ترقية لغة بذاتها من بين مئات اللهجات أو اللغات محدودة المتحدثين في بلد ما. وحدث هذا التطبيق في ترقية اللغة السواحيلية لتصبح لغة وطنية في تنزانيا، وكذلك ترقية اللغة الماليزية لتصبح بديلا عن لغة المستعمر في أرخبيل إندونيسيا وخيارا بين أكثر من 200 لهجة لسكان جزر إندونيسيا.
3 ـ إحياء اللغات الميتة. وطبق هذا التخطيط اللغوي على إحياء اللغة العبرية التي كانت مهجورة لقرون وأحييت من خلال إنشاء مجلس لغوي تطور فيما بعد إلى الأكاديمية العبرية وعهد إليها بتقييس اللغة العبرية وتحديثها وبعثها من جديد لتصبح لغة قومية تدرس بها جميع العلوم والطب.
4 ـ إحلال اللغات القومية محل اللغات الأجنبية في التعليم. واختارت هذا التطبيق من التخطيط اللغوي كثير من الدول التي حرصت على تيسير العلوم باللغة الأم لأبنائها وتوطين العلوم والتقنية بلغة شعوبها وطبق هذا في اليابان، روسيا، كوريا، الصين، فيتنام, وسورية.
5 ـ الدفاع عن منزلة لغة ما. أكثر من مارس هذا التخطيط اللغوي الدول ذات اللغات الرئيسية في العالم. كالإنجليزية والفرنسية أو اللغات التي يكثر المتحدثين بها في العالم كالإسبانية والبرتغالية والصينية والعربية. وتدافع الدول عن منزلة لغاتها لتصبح لغة عمل دولية أو إقليمية في المنظمات الدولية. وأبرز مثال على هذا التطبيق استماتة فرنسا لتكون الفرنسية لغة للاتحاد الأوروبي أو لغة رسمية ضمن لغات أخرى للاتحاد.
6 ـ نشر اللغة الوطنية أو القومية في دول العالم. وأكثر من مارس هذا التخطيط الدول ذات الطموحات الاستعمارية والقادرة اقتصاديا على تمويل نشر لغاتها في العالم. وتمثل برامج الفرانكفونية والأنجلوفونية أبرز تطبيقات هذا النوع من التخطيط اللغوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق