جماليات الإبداع التفاعلي
خطوة جريئة لربط الثقافة بالفضاء التخيلي:
تشهد الحضارة الإنسانية حالة تحول من الشفاهية إلي الكتابية إلي الرقمية، وهي حالة لا يمكن أن تكون مفصلية باترة، إذ تمتد عبر الزم حتي تصل إلي هيمنة أدوات اتصالية بعينها تترك أثرها المباشر في طرائق الإبداع وتجلياته وتحتاج حالة التحول هذه إلي من يستكشفها ويبحث آفاقها المستقبلية، أي إلي رائد لا يكذب أهله.
وفي سياق الثقافة العربية يبدو سعيد يقطين رائدا يضع أقدامنا علي أول الطريق نحو معرفة راسخة موثقة واثقة من مساراتها في طريق علاقة الثقافة واللغة والأدب بالواقع الافتراضي، وذلك من خلال كتابه
'من النص إلي النص المترابط: مدخل إلي جماليات الإبداع التفاعلي، الصادر هذا العام (2005م).
من المتلقي إلي المبحر المتفاعل
ولعل عنوان الكتاب يذكرنا بكتاب الناقد الفرنسي رولان بارت 'من العمل إلي النص' الذي وضع أيدينا علي مفهوم جديد للنص بكشف عن انفتاح دلالاته في مقابل العمل المغلق وكأن يقطين يريد أن يشير إلي نوع من التحول في إبداع النص وتلقيه، وكذلك في مفهومه من قبل ومن بعد، ويثير العنوان بعض التساؤلات حول المفاهيم، إذ يشير إلي 'النص المترابط' الذي يعني النص الناجم عن استخدام الحاسوب وبرمجياته التي تمكن من إنتاج 'النص' وتلقيه بكيفية تبني علي 'الربط' بين بنياته الداخلية والخارجية 'أما الإبداع التفاعلي فهو مجموع الإبداعات (والادب من أبرزها) التي تولدت مع توظيف الحاسوب، ولم تكن موجودة قبل ذلك، أو تطورت من أشكال قديمة، ولكنها اتخذت مع الحاسوب صورا جديدة في الانتاج والتلقي'.
ينطلق الكتاب من فرضية تري أن 'توظيف أداة جديدة للتواصل يؤدي إلي خلق أشكال جديدة للتواصل' (ص 10) هذه الفرضية يتم التحقق منها عبر بحث العلاقة بين الاداة الجديدة (الحاسوب)، والاشكال الجديدة للتواصل التي تبدو في النص المترابط الجامع بين اللغة والصورة والصوت والحركة ويفترض في تحقيق التواصل مع النص المترابط وجود عدة أطراف متلازمة هي المبدع (بديلا عن الكاتب)، والنص المترابط (بديلا عن النص) والمتلقي والحاسوب (بوصفة قناة الاتصال التي لايتحقق بدونها وجود النص المترابط) وتؤدي كفاءة علاقة كل تلك الاطراف إلي تحقيق 'الإبداع التفاعلي'
وقد رصد يقطين واقع الإبداع الشعري والسردي، وانتهي إلي وجود أزمة حقيقية في التواصل تستدعي استلهام مفهوم التفاعل في ظل ترقب إنتاج إبداعات تفاعلية تنهل من التراث وتفيد من الطبيعة الخاصة للإبداع التفاعلي، من حيث إمكان الإفادة من مجموعة من المكونات اللفظية وغير اللفظية، لتحقيق صور متعددة من التفاعل بين المبدع والمتلقي، بشرط تحقيق الكفاءة علي مستوي كليهما ومع الإبداع التفاعلي يمكن الحديث عن الفن المتكامل الذي يتجاوز فيه الصوت والصورة والحركة، حيث المتلقي جزء أساسي من عملية الإبداع، فهو يشارك فيها كمبدع تتحقق إبداعيته من خلال مساهمته في العملية نفسها. لم يبق المتلقي مكتفيا بمتابعة النص بعينه، إنه 'يكتب' النص بطريقته الخاصة وهو ينقر علي الفأرة ويتحرك في جسد النص وفق اختياراته وإمكاناته، وبذلك يبدع نصه من خلال النص الذي يقرأ (هل نقول الآن بصريح اللفظ: 'النص الذي ينتج'، لأن لفظة 'الإنتاج' تكتسي هنا وضعا أوضح من السابق. هذا الإبداع التفاعلي هوهان الإبداع غدا'.
واقع علاقة الثقافة العربية بالفضاء التخيلي
هدف الكتاب ¬ بحسب يقطين نفسه ¬ هو 'دفع كل من المبدع والملتقي العربيين إلي تكوين فكرة وتحصيل معرفة أولي عن النص المترابط وعن الإبداع التفاعلي وعن الوسائط المتفاعلة والي خوض غمار 'التجريب'، تجريب مغامرة جديدة في الإبداع والتلقي، أي في التواصل'.
يأتي هذا الكتاب ضمن 'حزمة' من الجهود العربية للولوج إلي هذا العالم الخصب، عالم الفضاء التخيلي في علاقته بالأدب، وفي هذا السياق تجدر الاشارة إلي أن فكرة إنجاز هذا الكتاب ¬كما يقول يقطين ¬ كانت جاهزة للإعداد النهائي في أواخر سنة 1999، وناقش بعض أفكاره في لقاءات فكرية متنوعة ثم كان وجوده في فرنسا خلال الموسم الجامعي
2002 ¬ 2003 م حافزا لإنهاء الكتاب، إذ تبدت أمام عينيه المجهودات الفرنسية في هذا المجال علي الرغم من تأخرها النسبي عن نظيراتها الكندية والأمريكية، وبدا له أن ' أي تأخر في ولوج عالم الوسائط المتفاعلة في حقلنا الثقافي العربي لايمكن إلا أن يضاعف تأخرنا عن المشاركة في عالم 'التواصل' الحديث، فكان الأقدام علي هذه المغامرة، نشر هذا الكتاب.
وقد أشار يقطين إلي الجهود التي سبقتها في هذا الميدان، كما في بعض أعمال حسام الخطيب، لكن هناك جهودا لم يشر إليها يقطين، ومنها جهود القاص الأردني محمد سناجلة علي مستوي التنظير والإبداع، فقد كتب روايته 'ظلال الواحد' كما كتب دراسة نقدية بعنوان 'رواية الواقعية الرقمية' (نشر الكتاب بنسخته الرقمية عام 2003م، ونشر بنسخته الورقية عام 2005م) لكن هذه الجهود تظل نوعية، ويأتي كتاب يقطين ليعطي تأسيسا معرفيا أكثر شمولا، وهو في هذا السباق يعد استكمالا ¬ من بعض الزوايا ¬ لكتابات نبيل علي، ومنها:
'العرب وعصر المعلومات' (1994) و'الثقافة العربية وعصر المعلومات'، (2001م).
ويبدو أن عدم التواصل الكافي بين المشرق والمغرب جعل يقطين لاينتبه إلي أن المؤتمر الدولي الثاني للنقد الأدبي الذي عقد بالقاهرة في نوفمبر عام 2002م قد خصص أحد محاوره للموضوع تحت عنوان ' النص التشعبي'، وأسهم فيه بعض الباحثين الغربيين والعرب.
الثقافة العربية ورهانات المستقبل
يتميز كتاب يقطين بأنه ينقل عن الثقافة الغربية علي نحو يعي هموم الثقافة العربية، ويسعي إلي إدراجها في المنظومة الكونية، ومن ثم يري في الباب الأول أن أمام الثقافة العربية رهانين اثنين يمكن اعتمادهما أساسا للتفكير في ما أنجز، واتخاذهما ركيزة للعمل فيما ينبغي أن تكون عليه الأمور في التصور والممارسة لتضطلع هذه الثقافة بدورها في المجتمع العربي هذان الرهانات هما:
1 ¬ دخول العصر، والعصر الإلكتروني، أو مايسمي عصر المعلومات.
2 ¬ أن يكون لها موقع، ووجود وتأثير ضمن باقي الثقافات.
ويرد يقطين علي من يناونون ذلك الموقف، إذ يرون هذين الرهانين نوعا من التهافت علي كل ماهو غربي، بأن الإنتاج الثقافي والمعرفي في كافة أشكاله ذو بعد إنساني وأنه يتفاوت بتفاوت التجارب والأمم،وأن تلك التجارب تتبادل التأثير والتأثر هذا الموقف الجوهري من المعرفة يدفع يقطين إلي استبعاد مفهوم 'المحاكاة' علي الصعيد الثقافي ليحل محله مفهرم 'التفاعل'.
هذا يعني أن الكتاب يحاول أن يضع 'الأنا' العربية في مقابل 'الآخر'، بدون إحساس بالضعة والأنهزام، وبدون إشهار سلاح الرفض الجاهز، بل يقدم رؤية منفتحة تقدر إنجاز الآخر
(الذي أفاد بدوره من الأنا العربية وسيظل قابلا لأن يأخذ إذا ما أصبح لنا موقع متميز فعال علي خارطة الثقافة الإنسانية المعاصرة)، كما تبدو رؤية متفائلة بالقدرة الذاتية علي الأخذ والعطاء (أو لنقل التفاعل).
النص المترابط
رؤية العالم والنقد الأدبي
لم يتم تأسيس النص المترابط في إطار تطورات تكنولوجية فرضت نفسها وحسب، بل تم تأسيسه في إطار رؤية كلية للعالم تربط كل عناصره الطبيعية وغير البيعية (الآلية)، ويحاول يقطين إثبات تلك العلاقة الوشيجة بتأكيده أن النص المترابط نشأ في حضن الثورة السيبرنطيقية التي لاحت بداياتها منذ عام 1940م وهذه الفكرة جوهرية لأنها ستكشف لنا أن التحول من النص الكتابي (علي مستوي الإبداع) ليس متعسفا بل يرتبط علي نحو وثيق برؤية العالم.
ولقد سبق أن استخدم الناقد الفرنسي 'جيرار جنيت' مصطلح المتعاليات النصية للإشارة إلي مختلف العلاقات بين النصوص، وجعل من الإمكانات التي تندرج تحته 'التعلق النصي' و'التناص'، وهما مفهومان أساسيان في مجال النقد الأدبي. لكن دخول النص الإلتكروني بقوة إلي السياق المعرفي يدفع المهتمين به¬ ومن بينهم يقطين¬ إلي تبني مصطلح جديد هو التفاعل النصي' في مقابل 'المتعاليات النصية'، وإلي استخدام الترابط النصي' في مقابل 'التعلق النصي'.
السبب في ذلك أن العلاقات التي سبق أن أشار إليها جنيت تربط ¬ في علاقة خطية ¬ بين نص لاحق وآخر سابق، وهي علاقة وثيقة الصلة بالنصين الشفاهي والمتابي، أما النص الالكتروني فأدي إلي وجود علاقات ومفاهيم جديدة، فالترابط النصي بتجسد ¬ في النص الإلكتروني ¬ من خلال الروابط التي تتم من داخل النص نفسه، ويسمح لنا هذا بالانتقال داخل النص وفقا تستدعيه عملية القراءة، كذلك لايتيح لنا التحرك بين النصوص اللفظية فقط، بل الانتقال كذلك بين علامات غير لفظية.
وإذا كان النص الإلكتروني المترابط يتسم ¬ من ناحية العلاقة بالنصوص ¬ بأنه 'يتضمن' نصوصا مثلما يفعل النص العادي، فإنه يختلف عنه في أنه 'ليس خطيا' كما أنه لايعتمد علي 'التلفيظ' أي نقل النص الآخر من نظام العلامات غير اللغوي ومنحه بعدا لفظيا، بل يعتمد علي 'تعدد الوسائط'
النص المترابط بين التراث
وطرائق القراءة الجديدة
يحاول الكتاب أن يكشف الجذور الكامنة في التراث العربي، والتي يمكن أن تعد تمهيدا لإبداع تفاعلي، وهو يقوم بذلك من منطلق محاولة قراءة القديم في ضوء ما توافر من معرفة جديدة.
وهي رؤية تفتح الباب أمام تغيير بعض مفاهيمنا حول تشذر الشعر القديم وحول بعض الإبداعات التي شغلت بالتشكيل البصري وعدها بعض الباحثين إهدارا للشعرية.
إن ظهور أنواع مختلفة للنص المترابط يدعو بالضرورة الي ممارسة أشكال جديدة من القراءة فمن أنواع النص المترابط نمط بسيط يضم النص التوريقي والشجري والنجمي، وكل منها نوع يقترب من الكتاب المطبوع، فهو 'يخضع لبنية شبه خطية ولمسارات مضبوطة ومحدودة، كما أن الروابط فيه محدودة ومقيدة بقيود دلالية أومنطقية أو سببية أو ما شاكل ذلك من العلاقات التي تتحدد بواسطتها الصلات بين العقد'
أما النوع الآخر فإنه مركب، ومنه النص التوليفي والجدولي والشبكي، وكل منها بعد 'أبعد ما يكون عن الكتاب المطبوع وعلي كافة المستويات، لذلك يمكن اعتباره التنص الذي تتحقق فيه السمات الجوهرية للنص الإلكتروني الجدير بهذه الصفة فعدد روابطه لاحد له، وهو منفتح علي كل مكوناته، ويسمح للقاريء بأن يتفاعل معه بصورة لانجدها في أي نص آخر وهذا النمط المركب هو المقصود (ضمنا أومباشرة) بالنص المترابط في مختلف الدراسات أوالابحاث التي ترصده أو تنظر له'
وعلي هذا يمكن القول إن دور المتلقي جوهري في إنتاج النص، إذ يصبح ¬ أي المتلقي ¬ ممتلكا لامكانات هائلة في الحركة والخلق تجل عن الحصر.
النص المترابط: إرهاص بأنواع أدبية
كذلك يدعونا ظهور النص المترابط بأنواعه المتعددة إلي إمكان الحديث عن ' الادب التفاعلي بوصفه 'جنسا جديدا في الإبداع الادبي، ويتجسد من خلال الرواية التفاعلية (Hyperfietion) أو المسرح التفاعلي (Hyperdraman) وسواهما من الانواع الادبية الجديدة، التي يبدعها الادباء الجدد (أمريكا / أوروبا. آسيا) في توافق تام مع مقتضيات 'التفاعل' وضروراته برمجيا وإلكترونيا وجماليا ودلاليا، وبقصد خاص للإنتاج في ضوء مايقدمه من إمكانات.
ويلفت يقطين نظرنا إلي أن عدم اتكاء نص ماعلي الترابط يقصيه تلقائيا عن مفهوم النص الجديد وهذه مسألة جوهرية تلفتنا إلي أن ممايروج له في سياق إعلامنا المتواضع (وعلي الصفحات العربية بالشبكة العالمية نفسها) ليس سوي غثاء لايستحق ماينفق فيه من مداد (أعني ضربات علي لوحة المفاتيح).
خاتمة لابد منها
وإذا كان الكتاب يستخدم كلمة 'مدخل' في عنوانه الفرعي، ومن ثم يعطي بعض الأفكار المؤسسة للموضوع، كما يناقش ماقد يراه كثيرون بدهيات أو استطرادات زائدة, فإنه يقدم كذلك بعض الاسهامات اللافتة خصوصا فيما يتعلق بربط الموضوع بإنجازات النقد الحديث وبالتراث كذلك كما أنه يتحمل مسئولية رصد أزمات الإبداع العربي المعاصر ويقترح الحلول التي ترتبط بفرضياته، كذلك يؤسس الجهاز المفاهيمي والاصطلاحي في سياقه ببذل جهد يحسب له.
الطريف في الأمر أن المشاكل التي رصدها يقطين يؤكد صدقها أن كتابه نفسه لم يلق أي اهتمام يذكر علي الشبكة العالمية حتي الان، وتستطيعون بأنفسكم أن تبحثوا عن شيء ذي بال (أو غير ذي بال) لتتيقنوا من هذا الزعم وهذه إشارة أخري تدعونا إلي التواصل الحقيقي مع هذا الكتاب والتعامل مع قضاياه بجدية، وتلقيه تلقيا جادا بوصفه دعوة صادقة إلي معرفتنا بذواتنا، وإلي العمل علي الانخراط في العصر 'بوعي ومسئولية'.
د. سعيد الوكيل.
خطوة جريئة لربط الثقافة بالفضاء التخيلي:
تشهد الحضارة الإنسانية حالة تحول من الشفاهية إلي الكتابية إلي الرقمية، وهي حالة لا يمكن أن تكون مفصلية باترة، إذ تمتد عبر الزم حتي تصل إلي هيمنة أدوات اتصالية بعينها تترك أثرها المباشر في طرائق الإبداع وتجلياته وتحتاج حالة التحول هذه إلي من يستكشفها ويبحث آفاقها المستقبلية، أي إلي رائد لا يكذب أهله.
وفي سياق الثقافة العربية يبدو سعيد يقطين رائدا يضع أقدامنا علي أول الطريق نحو معرفة راسخة موثقة واثقة من مساراتها في طريق علاقة الثقافة واللغة والأدب بالواقع الافتراضي، وذلك من خلال كتابه
'من النص إلي النص المترابط: مدخل إلي جماليات الإبداع التفاعلي، الصادر هذا العام (2005م).
من المتلقي إلي المبحر المتفاعل
ولعل عنوان الكتاب يذكرنا بكتاب الناقد الفرنسي رولان بارت 'من العمل إلي النص' الذي وضع أيدينا علي مفهوم جديد للنص بكشف عن انفتاح دلالاته في مقابل العمل المغلق وكأن يقطين يريد أن يشير إلي نوع من التحول في إبداع النص وتلقيه، وكذلك في مفهومه من قبل ومن بعد، ويثير العنوان بعض التساؤلات حول المفاهيم، إذ يشير إلي 'النص المترابط' الذي يعني النص الناجم عن استخدام الحاسوب وبرمجياته التي تمكن من إنتاج 'النص' وتلقيه بكيفية تبني علي 'الربط' بين بنياته الداخلية والخارجية 'أما الإبداع التفاعلي فهو مجموع الإبداعات (والادب من أبرزها) التي تولدت مع توظيف الحاسوب، ولم تكن موجودة قبل ذلك، أو تطورت من أشكال قديمة، ولكنها اتخذت مع الحاسوب صورا جديدة في الانتاج والتلقي'.
ينطلق الكتاب من فرضية تري أن 'توظيف أداة جديدة للتواصل يؤدي إلي خلق أشكال جديدة للتواصل' (ص 10) هذه الفرضية يتم التحقق منها عبر بحث العلاقة بين الاداة الجديدة (الحاسوب)، والاشكال الجديدة للتواصل التي تبدو في النص المترابط الجامع بين اللغة والصورة والصوت والحركة ويفترض في تحقيق التواصل مع النص المترابط وجود عدة أطراف متلازمة هي المبدع (بديلا عن الكاتب)، والنص المترابط (بديلا عن النص) والمتلقي والحاسوب (بوصفة قناة الاتصال التي لايتحقق بدونها وجود النص المترابط) وتؤدي كفاءة علاقة كل تلك الاطراف إلي تحقيق 'الإبداع التفاعلي'
وقد رصد يقطين واقع الإبداع الشعري والسردي، وانتهي إلي وجود أزمة حقيقية في التواصل تستدعي استلهام مفهوم التفاعل في ظل ترقب إنتاج إبداعات تفاعلية تنهل من التراث وتفيد من الطبيعة الخاصة للإبداع التفاعلي، من حيث إمكان الإفادة من مجموعة من المكونات اللفظية وغير اللفظية، لتحقيق صور متعددة من التفاعل بين المبدع والمتلقي، بشرط تحقيق الكفاءة علي مستوي كليهما ومع الإبداع التفاعلي يمكن الحديث عن الفن المتكامل الذي يتجاوز فيه الصوت والصورة والحركة، حيث المتلقي جزء أساسي من عملية الإبداع، فهو يشارك فيها كمبدع تتحقق إبداعيته من خلال مساهمته في العملية نفسها. لم يبق المتلقي مكتفيا بمتابعة النص بعينه، إنه 'يكتب' النص بطريقته الخاصة وهو ينقر علي الفأرة ويتحرك في جسد النص وفق اختياراته وإمكاناته، وبذلك يبدع نصه من خلال النص الذي يقرأ (هل نقول الآن بصريح اللفظ: 'النص الذي ينتج'، لأن لفظة 'الإنتاج' تكتسي هنا وضعا أوضح من السابق. هذا الإبداع التفاعلي هوهان الإبداع غدا'.
واقع علاقة الثقافة العربية بالفضاء التخيلي
هدف الكتاب ¬ بحسب يقطين نفسه ¬ هو 'دفع كل من المبدع والملتقي العربيين إلي تكوين فكرة وتحصيل معرفة أولي عن النص المترابط وعن الإبداع التفاعلي وعن الوسائط المتفاعلة والي خوض غمار 'التجريب'، تجريب مغامرة جديدة في الإبداع والتلقي، أي في التواصل'.
يأتي هذا الكتاب ضمن 'حزمة' من الجهود العربية للولوج إلي هذا العالم الخصب، عالم الفضاء التخيلي في علاقته بالأدب، وفي هذا السياق تجدر الاشارة إلي أن فكرة إنجاز هذا الكتاب ¬كما يقول يقطين ¬ كانت جاهزة للإعداد النهائي في أواخر سنة 1999، وناقش بعض أفكاره في لقاءات فكرية متنوعة ثم كان وجوده في فرنسا خلال الموسم الجامعي
2002 ¬ 2003 م حافزا لإنهاء الكتاب، إذ تبدت أمام عينيه المجهودات الفرنسية في هذا المجال علي الرغم من تأخرها النسبي عن نظيراتها الكندية والأمريكية، وبدا له أن ' أي تأخر في ولوج عالم الوسائط المتفاعلة في حقلنا الثقافي العربي لايمكن إلا أن يضاعف تأخرنا عن المشاركة في عالم 'التواصل' الحديث، فكان الأقدام علي هذه المغامرة، نشر هذا الكتاب.
وقد أشار يقطين إلي الجهود التي سبقتها في هذا الميدان، كما في بعض أعمال حسام الخطيب، لكن هناك جهودا لم يشر إليها يقطين، ومنها جهود القاص الأردني محمد سناجلة علي مستوي التنظير والإبداع، فقد كتب روايته 'ظلال الواحد' كما كتب دراسة نقدية بعنوان 'رواية الواقعية الرقمية' (نشر الكتاب بنسخته الرقمية عام 2003م، ونشر بنسخته الورقية عام 2005م) لكن هذه الجهود تظل نوعية، ويأتي كتاب يقطين ليعطي تأسيسا معرفيا أكثر شمولا، وهو في هذا السباق يعد استكمالا ¬ من بعض الزوايا ¬ لكتابات نبيل علي، ومنها:
'العرب وعصر المعلومات' (1994) و'الثقافة العربية وعصر المعلومات'، (2001م).
ويبدو أن عدم التواصل الكافي بين المشرق والمغرب جعل يقطين لاينتبه إلي أن المؤتمر الدولي الثاني للنقد الأدبي الذي عقد بالقاهرة في نوفمبر عام 2002م قد خصص أحد محاوره للموضوع تحت عنوان ' النص التشعبي'، وأسهم فيه بعض الباحثين الغربيين والعرب.
الثقافة العربية ورهانات المستقبل
يتميز كتاب يقطين بأنه ينقل عن الثقافة الغربية علي نحو يعي هموم الثقافة العربية، ويسعي إلي إدراجها في المنظومة الكونية، ومن ثم يري في الباب الأول أن أمام الثقافة العربية رهانين اثنين يمكن اعتمادهما أساسا للتفكير في ما أنجز، واتخاذهما ركيزة للعمل فيما ينبغي أن تكون عليه الأمور في التصور والممارسة لتضطلع هذه الثقافة بدورها في المجتمع العربي هذان الرهانات هما:
1 ¬ دخول العصر، والعصر الإلكتروني، أو مايسمي عصر المعلومات.
2 ¬ أن يكون لها موقع، ووجود وتأثير ضمن باقي الثقافات.
ويرد يقطين علي من يناونون ذلك الموقف، إذ يرون هذين الرهانين نوعا من التهافت علي كل ماهو غربي، بأن الإنتاج الثقافي والمعرفي في كافة أشكاله ذو بعد إنساني وأنه يتفاوت بتفاوت التجارب والأمم،وأن تلك التجارب تتبادل التأثير والتأثر هذا الموقف الجوهري من المعرفة يدفع يقطين إلي استبعاد مفهوم 'المحاكاة' علي الصعيد الثقافي ليحل محله مفهرم 'التفاعل'.
هذا يعني أن الكتاب يحاول أن يضع 'الأنا' العربية في مقابل 'الآخر'، بدون إحساس بالضعة والأنهزام، وبدون إشهار سلاح الرفض الجاهز، بل يقدم رؤية منفتحة تقدر إنجاز الآخر
(الذي أفاد بدوره من الأنا العربية وسيظل قابلا لأن يأخذ إذا ما أصبح لنا موقع متميز فعال علي خارطة الثقافة الإنسانية المعاصرة)، كما تبدو رؤية متفائلة بالقدرة الذاتية علي الأخذ والعطاء (أو لنقل التفاعل).
النص المترابط
رؤية العالم والنقد الأدبي
لم يتم تأسيس النص المترابط في إطار تطورات تكنولوجية فرضت نفسها وحسب، بل تم تأسيسه في إطار رؤية كلية للعالم تربط كل عناصره الطبيعية وغير البيعية (الآلية)، ويحاول يقطين إثبات تلك العلاقة الوشيجة بتأكيده أن النص المترابط نشأ في حضن الثورة السيبرنطيقية التي لاحت بداياتها منذ عام 1940م وهذه الفكرة جوهرية لأنها ستكشف لنا أن التحول من النص الكتابي (علي مستوي الإبداع) ليس متعسفا بل يرتبط علي نحو وثيق برؤية العالم.
ولقد سبق أن استخدم الناقد الفرنسي 'جيرار جنيت' مصطلح المتعاليات النصية للإشارة إلي مختلف العلاقات بين النصوص، وجعل من الإمكانات التي تندرج تحته 'التعلق النصي' و'التناص'، وهما مفهومان أساسيان في مجال النقد الأدبي. لكن دخول النص الإلتكروني بقوة إلي السياق المعرفي يدفع المهتمين به¬ ومن بينهم يقطين¬ إلي تبني مصطلح جديد هو التفاعل النصي' في مقابل 'المتعاليات النصية'، وإلي استخدام الترابط النصي' في مقابل 'التعلق النصي'.
السبب في ذلك أن العلاقات التي سبق أن أشار إليها جنيت تربط ¬ في علاقة خطية ¬ بين نص لاحق وآخر سابق، وهي علاقة وثيقة الصلة بالنصين الشفاهي والمتابي، أما النص الالكتروني فأدي إلي وجود علاقات ومفاهيم جديدة، فالترابط النصي بتجسد ¬ في النص الإلكتروني ¬ من خلال الروابط التي تتم من داخل النص نفسه، ويسمح لنا هذا بالانتقال داخل النص وفقا تستدعيه عملية القراءة، كذلك لايتيح لنا التحرك بين النصوص اللفظية فقط، بل الانتقال كذلك بين علامات غير لفظية.
وإذا كان النص الإلكتروني المترابط يتسم ¬ من ناحية العلاقة بالنصوص ¬ بأنه 'يتضمن' نصوصا مثلما يفعل النص العادي، فإنه يختلف عنه في أنه 'ليس خطيا' كما أنه لايعتمد علي 'التلفيظ' أي نقل النص الآخر من نظام العلامات غير اللغوي ومنحه بعدا لفظيا، بل يعتمد علي 'تعدد الوسائط'
النص المترابط بين التراث
وطرائق القراءة الجديدة
يحاول الكتاب أن يكشف الجذور الكامنة في التراث العربي، والتي يمكن أن تعد تمهيدا لإبداع تفاعلي، وهو يقوم بذلك من منطلق محاولة قراءة القديم في ضوء ما توافر من معرفة جديدة.
وهي رؤية تفتح الباب أمام تغيير بعض مفاهيمنا حول تشذر الشعر القديم وحول بعض الإبداعات التي شغلت بالتشكيل البصري وعدها بعض الباحثين إهدارا للشعرية.
إن ظهور أنواع مختلفة للنص المترابط يدعو بالضرورة الي ممارسة أشكال جديدة من القراءة فمن أنواع النص المترابط نمط بسيط يضم النص التوريقي والشجري والنجمي، وكل منها نوع يقترب من الكتاب المطبوع، فهو 'يخضع لبنية شبه خطية ولمسارات مضبوطة ومحدودة، كما أن الروابط فيه محدودة ومقيدة بقيود دلالية أومنطقية أو سببية أو ما شاكل ذلك من العلاقات التي تتحدد بواسطتها الصلات بين العقد'
أما النوع الآخر فإنه مركب، ومنه النص التوليفي والجدولي والشبكي، وكل منها بعد 'أبعد ما يكون عن الكتاب المطبوع وعلي كافة المستويات، لذلك يمكن اعتباره التنص الذي تتحقق فيه السمات الجوهرية للنص الإلكتروني الجدير بهذه الصفة فعدد روابطه لاحد له، وهو منفتح علي كل مكوناته، ويسمح للقاريء بأن يتفاعل معه بصورة لانجدها في أي نص آخر وهذا النمط المركب هو المقصود (ضمنا أومباشرة) بالنص المترابط في مختلف الدراسات أوالابحاث التي ترصده أو تنظر له'
وعلي هذا يمكن القول إن دور المتلقي جوهري في إنتاج النص، إذ يصبح ¬ أي المتلقي ¬ ممتلكا لامكانات هائلة في الحركة والخلق تجل عن الحصر.
النص المترابط: إرهاص بأنواع أدبية
كذلك يدعونا ظهور النص المترابط بأنواعه المتعددة إلي إمكان الحديث عن ' الادب التفاعلي بوصفه 'جنسا جديدا في الإبداع الادبي، ويتجسد من خلال الرواية التفاعلية (Hyperfietion) أو المسرح التفاعلي (Hyperdraman) وسواهما من الانواع الادبية الجديدة، التي يبدعها الادباء الجدد (أمريكا / أوروبا. آسيا) في توافق تام مع مقتضيات 'التفاعل' وضروراته برمجيا وإلكترونيا وجماليا ودلاليا، وبقصد خاص للإنتاج في ضوء مايقدمه من إمكانات.
ويلفت يقطين نظرنا إلي أن عدم اتكاء نص ماعلي الترابط يقصيه تلقائيا عن مفهوم النص الجديد وهذه مسألة جوهرية تلفتنا إلي أن ممايروج له في سياق إعلامنا المتواضع (وعلي الصفحات العربية بالشبكة العالمية نفسها) ليس سوي غثاء لايستحق ماينفق فيه من مداد (أعني ضربات علي لوحة المفاتيح).
خاتمة لابد منها
وإذا كان الكتاب يستخدم كلمة 'مدخل' في عنوانه الفرعي، ومن ثم يعطي بعض الأفكار المؤسسة للموضوع، كما يناقش ماقد يراه كثيرون بدهيات أو استطرادات زائدة, فإنه يقدم كذلك بعض الاسهامات اللافتة خصوصا فيما يتعلق بربط الموضوع بإنجازات النقد الحديث وبالتراث كذلك كما أنه يتحمل مسئولية رصد أزمات الإبداع العربي المعاصر ويقترح الحلول التي ترتبط بفرضياته، كذلك يؤسس الجهاز المفاهيمي والاصطلاحي في سياقه ببذل جهد يحسب له.
الطريف في الأمر أن المشاكل التي رصدها يقطين يؤكد صدقها أن كتابه نفسه لم يلق أي اهتمام يذكر علي الشبكة العالمية حتي الان، وتستطيعون بأنفسكم أن تبحثوا عن شيء ذي بال (أو غير ذي بال) لتتيقنوا من هذا الزعم وهذه إشارة أخري تدعونا إلي التواصل الحقيقي مع هذا الكتاب والتعامل مع قضاياه بجدية، وتلقيه تلقيا جادا بوصفه دعوة صادقة إلي معرفتنا بذواتنا، وإلي العمل علي الانخراط في العصر 'بوعي ومسئولية'.
د. سعيد الوكيل.
لمعرفة المزيد http://www.ta5atub.com/t1313-topic#ixzz2cv0VS6wl
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق