مدخل الى الأنثروبولوجيا الاجتماعية :
إن اصطلاح الانثروبولوجيا هو اصطلاح شامل وواسع حيث أنه يشمل دراسة التطور البيولوجي والحضاري للإنسان، العلاقات البيولوجية والمبادئ التي تحكم علاقات الشعوب بعضها ببعض. تتكون الانثروبولوجيا من كلمتين لاتينيتين هما َ (Anthropos وتعني الإنسان ، logos وتعني العلم)
أي أن رالانثروبولوجيا تعني علم الإنسان، وهي كعلم تنقسم إلى قسمين :
الانثروبولوجيا الفيزيقية أو البيولوجية.
الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.
تهتم الانثروبولوجيا الفيزيقية بدراسة تطور الانسان وسلوكه وكذلك الخصائص البيولوجية التي يتباين فيها البشر القدامى والمحدثين، أما الانثروبولوجيا الاجتماعية فتنقسم إلى ثلاثة اقسام هي :
علم اللغويات : يبحث في تحليل اللغات وتصنيفها.
علم الآثار Archéologie: يدرس الفترات التاريخية في حياة المجتمعات والثقافات بالاعتماد علة وثائق قديمة والشواهد من المواقع الثرية كالمدن القديمة والبنايات، والمتوجات المادية بها وإعادة رسم صورة ثقافات ما قبل التاريخ.
الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية: تهتم بدراسة المجتمعات والثقافات الكثيرة المتنوعة التي تسير عليها المجتمعات، وقد اختصت وعرف عليها أنها تهتم بدراسة المجتمعات البدائية.
فالانثروبولوجيا عامة تجتمع في علم واحد وتحت اسم واحد بين نظرتي كل من العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية، فتركز مشكلاتها من ناحية على الإنسان ككائن بيولوجي وعلى سلوك الإنسان ككائن اجتماعي.
أول من استعمل كلمة الانثروبولوجيا الاجتماعية فو فريزر سنة 1908 في محاضرة تحت عنوان : مجال الانثروبولوجيا الاجتماعية، وعرفها بأنها "محاولة الكشف عن تسمية القوانين العامة التي تحكم الظاهرات وتفسر ماضي مجتمعات الإنسان حتى نتمكن بفضلها من أن نتنبأ بمستقبل البشرية استنادا إلى تلك القوانين السوسيو العامة التي تنظم تاريخ الإنسان" أما رادكليف براون فيقول " يمكننا أن نعرف الانثروبولوجيا الاجتماعية بأنها دراسة طبيعة المجتمع الإنساني دراسة منهجية منظمة تعتمد على مقارنة الأشكال المختلفة للمجتمعات الإنسانية بالتركيز على الأشكال الأولية للمجتمع البدائي"
والانثروبولوجيا كعلم تتميز بدراستها للإنسان والمجتمعات البشرية استنادا إلى بعض المفاهيم التي أصبح لها بعد عنصري واستعماري (الفوارق العرقية من خلال حجم الجمجمة ولون الجلد، المركزية الثقافية، لبدائية...)
وأيضا أجريت الكثير من الأبحاث الانثروبولوجية بهدف استنباط طرق ووسائل لتنفيذ سياسات الإدارة الاستعمارية فهي اختصت بدراسة الأشكال الأولى للمجتمعات البشرية والمتمثلة في الوقت الحاضر في المجتمعات البدائية المتخلفة، المجتمعات التي لا تعرف الكتابة، المجتمعات ذات الثقافة الشفوية، المجتمعات غير الغربية، أي تهتم بدراسة الآخر المتوحش.
الانثروبولوجيا بهذا الاسم مزدهرة أكثر في بريطانيا فقد عرفت تطورا كبيرا على حساب علم الاجتماع في حين تعرف في الولايات المتحدة الأمريكية باسم الانثروبولوجيا الثقافية لأنها تهتم بدراسة ثقافة الشعوب على شاكلة المدرسة الثقافية، في حين تعرف في فرنسا باسم الاثنولوجيا وهي كلها أسماء تشير إلى الانثروبولوجيا الاجتماعية التي تتميز بدراساتها وأبحاثها الميدانية المتعلقة بالمجتمع.
الانثروبولوجيا وعلاقتها بالعلوم الأخرى
الانثروبولوجيا هي دراسة الإنسان بشكل عام تقسم إلى انثروبولوجيا طبيعية (دراسة الإنسان في مظهره البيولوجي) وانثروبولوجيا اجتماعية وثقافية (تعنى بالطريقة التي تطورت بها النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والألسنية (اللسانيات)) ويدخل هذا العلم في إطار العلوم الاجتماعية كما يدخل في العلوم الطبيعية لذا نجده يحتل مكانة متميزة بين العلوم، واهتمامنا ينصب على القسم الاجتماعي من الانثروبولوجيا أي الانثروبولوجيا الاجتماعية وسوف نحاول عرض علاقته بالعلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى.
الانثروبولوجيا والفلسفة: الفلسفة سابقة للأنثروبولوجيا وهي أهم العلوم ولكن أي معرفة إذا أصبحت ممكنة في ميدان ما حتى تخرج عن مسمى الفلسفة ووتخذ لنفسها موضوعا وإطارا مستقلين. والانثروبولوجيا كانت ضمن التراث الفلسفي تأسست كعلم قائم بنفسه في القرن 19 لينفتح مجال للمجابهة لأن أساس البحث الانثروبولوجي العمل الحقلي الميداني مقابل الفرضيات المجردة للفلسفة، حتى أن مارسيل موس عبر عن أمله في أن الانثروبولوجيا الكاملة قد تحل محل الفلسفة لكونها تتوصل بالتحديد إلى فهم تاريخ الفكر البشري التي تفترض الفلسفة وجوده ". ولكن الواقع يشير إلى أن التجربة الانثروبولوجية تنطوي على بعد فلسفي واضح لأنه موجود داخل إطار من الأفكار والمبادئ الأساسية والبديهيات الأولية المنتمية للفلسفة، فليس هناك من نظرية انثروبولوجية متحررة بالكامل من فلسفة الظل حسب ميشال فوكو إضافة إلى كون عين الملاحظ عضو في تراث فكري، فهل يمكننا حقا بناء علم مستقل عن الفلسفة؟
الانثروبولوجيا والتاريخ : يدرسان الإنسان والمجتمع ولكن يختلفان في كيفية الاقتراب، فالتاريخ يدرس ماضي الشعوب في حين أن الانثروبولوجيا تدرس المجتمعات البدائية الباقية هذه المجتمعات لم تدخل التاريخ حسب الطرح الغربي وبالتالي حرمت الانثروبولوجيا من التاريخ حتى فيما يخص مجتمعات لها نسق تاريخي مغاير للنسق التاريخي الغربي كالمجتمعات العربية والتركية والصينية. بعد تجدد الانثروبولوجيا أصبحت تتجنب المقابلة القديمة بين المجتمعات البدائية الجامدة (الباردة أي بدون تاريخ) والمجتمعات المعقدة الحيوية (ذات تاريخ) وهذا باكتشاف البعد التاريخي للمجتمعات المدروسة في الحين (التغير الاجتماعي، التغير الإثني والتغيات الحاصلة في المجتمات الريفية) إضافة إلى أنها تحولت إلى دراسة المجتمعات القريبة وبالتالي أصبحت ملزمة بالنظر في التاريخ والذاكرة المكتوبة لمعرفة الحاضر.
من جانب آخر تجدد علم التاريخ بتوسعه لدراسة الواقع العميق للجماهير والظواهر الاجتماعية ، كما أدخل المدة الطويلة في تحاليله بحيث أصبح المؤرخ يستشف البنى الخفية والحركات التي تفعل المجتمع، فالتاريخ لم يعد صدفة أو حدثا فجائيا ولكن يصبح بعدا داخليا للمجتمع، كما توسع التاريخ في مجال كان مهمشا من قبل كالأساطير والممارسات الشعبية التي أصبحت ذات معنى عند المؤرخ..
الانثروبولوجيا وعلم الاقتصاد :علم الاقتصاد هو وصف ميكانيزمات إنتاج وتوزيع ثروات المجتمعات الحديثة (من أين تأتي ثروات الأمم وكيف يتم توزيعها على مختلف الفئات الاجتماعية). وهو يفترض أن الانسان الاقتصادي هو فاعل يتصرف بعقلانية ويختزل المجتمع في السوق والمجال الذي تتم فيه عملية العرض والطلب، كما يقر عالم الاقتصاد عالمية الممارسات والسلوكات الاقتصادية العقلانية المبنية على العلاقة العامة بين بين الامكانات والغايات وعلى مضاعفة الرغبات المرادة.
الجانب الاقتصادي في المجتمع موجود في الانثروبولوجيا ولكن يتسم ببعده الاجتماعي والثقافي، فالانثوبولوجيا لا تربط الحاجة والندرة بالجانب البيولوجي النفعي العالمي وإنما هما حسبها أمران نسبيان يختلفان من ثقافة لأخرى، وكمثال على ذلك النظام الغذائي للمجتمع لا يرتبط باقتصاده أي الثمن والعرض والطلب وإنما بإطار ثقافي أكبر.
الانثروبولوجي ساهلين SAHLIN أثبت أن المجتمعات البسيطة مكتفية اقتصاديا أو تعيش الوفرة لأنها تنتج ما تحتاج إليه فهي تمارس الوفرة بتحديد منتوجاتها وهذا ما لا ينطبق على المجتمعات الرأسمالية لأن نظامها الاقتصادي للإنتاج التجاري يخلق اصطناعيا حاجات إما من أجل إعادة بعث الإنتاج أو لتوظيفها على أعلى ريتم، وميكانزمات هذا النظام تتم مثلا بالطرح المستمر لمنتوجات جديدة تستجيب لنفس الحاجة، خلق حاجات متسلسلة، استعمال منتوج يفرض استعمالا آخر.
فالانثروبولوجيا عكس الاقتصاد تنظر إلى الممارسات الاقتصادية (العرض، الطلب، الإنتاج، التبادل والاستهلاك)في إطار ثقافي اجتماعي بعيدا عن فكرة الإنسان الاقتصادي المنفعة الاقتصادية وعالمية الممارسة الاقتصادية العقلانية.
الانثروبولوجيا وعلم النفس : مرت كل من الانثروبولوجيا وعلم النفس بمسار مشابه انطلق تحت تأثير العلوم الطبيعية وكلاهما يدرس السلوك الإنساني. فعلم النفس بأنواعه (علم النفس، التحليل النفسي، علم النفس الاجتماعي) يدرس السلوك الفردي، الشعور، الشخصية، واللاوعي في مستوى الفرد مهملا بذلك المستوى الاجتماعي (ما عدا علم النفس الاجتماعي) ولكن تطوره جعل علماء النفس يهتمون أكثر بالبيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الأفراد والخبرات المشتركة بين الناس ليقتربوا أكثر من علماء الاجتماع والانثروبولوجيين.
نتائج علم النفس حول معايير الشخصية لا يمكن أن تعمم لأنها اعتمدت على دراسة أفراد نشؤوا في ظل الحضارة الحديثة، فلجأوا إلى الانثروبولوجيين ليمدوهم بنتائج أخرى بينت نسبية ما توصلوا إليه ما جعل علم النفس يصل إلى فهم أفضل للمبادئ التي يقوم عليها تشكيل الشخصية على المدى الواسع من الأشكال التي تتخذها شخصيات البدائيين والأفراد العاديين، كما اكتشفوا النسق الحضاري من خلال تحليل بعض الأمراض النفسية المرتبطة بالجذور الاجتماعية، فتفسير فرويد الأحلام قاد العلماء إلى تاريخ المجتمعات الإنسانية (دراسة الأحلام،الرموز و المرض...)كما أرجع قانون الهلوسة والمرض إلى عوامل اجتماعية لا نفسية كالاحتلال والظلم.
أما الانثروبولوجيا فأصبحت تنظر للفرد كناقل للثقافة وليس كعنصر سلبي وهذا بفضل علم النفس الذي جعلها تهتم بالفروق بين الأنماط الأساسية للشخصية في المجتمعات المختلفة وهذا ما ساعدها على حل مشكلة الأسباب التي تجعل مجتمعات معينة تطور محاور اهتمام خاصة بها، فتقبل وترفض تجديدات معينة، وهي أيضا قدمت خدمة كبرى لعلم النفس الاجتماعي بطرحها في شكل نفسي دراسات حول الاندماج الثقافي (غياب التوترات النفسية لمرحلة المراهقة) جعلها تستخدم مفاهيم نفس اجتماعي، ثم قدمت بعد ذلك أمثلة وتغيرات لعلماء النفس الاجتماعي الذين يعتبرون فرضياتهم في إطار ضيق (المجتمعات الحديثة) مما جعلهم يقيسونها بما هو موجود في أطر أخرى لمعرفة قيمة نتائجه.
علاقة الانثروبولوجيا بعلم الاجتماع: كلاهما يبحث في المجتمعات الإنسانية، كيف تعمل؟ وكيف ولماذا تتغير الثقافات؟ فما هي نقاط التقارب والاختلاف بينهما؟
نقاط الاختلاف :
في مستوى التفكير : علم الاجتماع أقدم وأشد نزوعا إلى الاتجاه الفلسفي ويرتبط دائما بالنظريات الفلسفية العامة وهو أكثر تطورا وتفوقا في نوع المفاهيم والنظريات.
أما الانثروبولوجيا الاجتماعية فأفضل ما يهمها في البحث هو الوفرة والثراء في المعطيات الميدانية التي يجمعها الباحث في بحثه الحقلي، كما أنها تتميز بارتباطها الدائم بخلفيتها الطبيعية لذلك نجدها تجعل من الوصف ضرورة علمية ملحة في حين أن عل الاجتماع لا يلتزم بذلك.
على مستوى الموضوع : الانثروبولوجيا تدرس المجتمعات البدائية على مستوى الميكرو سوسيولوجي ، في حين يدرس علم الاجتماع المجتمعات الحديثة على مستوى الماكرو سوسيولوجي (الماكرو = العام).
الانثروبولوجيا تكون تجانسا في موضوعها ومنهجها عكس علم الاجتماع الذي يدرس موضوعا أكثر تعقيدا نظرا للتعقيد الشديد في مشاكل المجتمعات الحالية وبالتالي يصعب عليه استخراج إجابات من خلال منهج مقارنة نسقية كما هو الحال في المجتمعات البسيطة المغلقة.
الانثروبولوجيا تدرس ثقافة غريبة أي تستكشف سلم المعايير وتلاحظ إطار الممارسات وتلجأ إلى الشرح المعمق لكل المظاهر الثقافية حتى اليومية منها، ففي ميدان مجهول العادي (التافه) يصبح ذا قيمة وأهمية في حين أن علم الاجتماع يهمل الجوانب اليومية (العادية، الجزئية) المعروفة حسب اعتقاد العلماء.
على مستوى المنهج : الانثروبولوجيا تقرر تجانس المجتمع بتقطيع طبيعي أو اصطناعي كما تتميز بمنهج فريد يستند على الحميمية والاقتراب المعمق الذي يجمل بعدا كيفيا وهذا ما انعكس على أدوات وتقنيات البحث المستعملة حيث يميل الانثروبولوجي إلى استخدام الملاحظة بالمشاركة، الإقامة الطويلة، المقابلة المعمقة، قصة الحياة، ويصبح الباحث أيضا فاعلا وملاحظا في آن واحد.
أما علم الاجتماع فيميل أكثر إلى المناهج الكمية كما لا يقصي أي فئة بل يعتمد على مبدأ العينة ولكي يصل إلى مستوى التعميم يعتمد أكثر على الاستمارة لأنها تمس أكبر قدر ممكن من المبحوثين.
نقاط التشابه :
كلاهما يدرس المجتمع في كليته ويكملان بعضهما البعض بحيث يقدم علم الاجتماع للانثروبولوجيا مستقبل المجتمعات البدائية في حين يقدم الثاني للأول أصل نشوء وماضي المؤسسات والبنى الاجتماعية والأديان والقيم والعادات.
هناك الكثير من المفاهيم والنظريات المشتركة انتقلت من الانثروبولوجيا إلى علم الاجتماع والعكس (الوظيفية، لبنيوية، التطورية...) وأيضا هناك الكثير من المواضيع المشتركة (الأساطير، الخيال، الثقافة...)
هناك تشابه كبير بين علم الاجتماع البدوي والانثروبولوجيا الاجتماعية.
التغيرات الاجتماعية الحديثة ساهمت كثيرا في التقارب بين العلمين ما أنتج مفهوم علم الاجتماع الانثروبولوجي, وعلى العمم هناك تقارب وتداخل كبيرين بين العلمين ما جعل أنثروبولوجيا كبيرا بحجم رادكليف براون يقول "أن الانثروبولوجيا الاجتماعية هي علم الاجتماع المقارن".
الانثروبولوجيا والعالم المعاصر
استهل كل من فيليب لابورت تولرا و جون بيار فاريني كتابهما "الاثنولوجيا، الانثروبولوجيا" بسؤال مفاده : هل ستختفي الاثنولوجيا مع أواخر البدائيين، الذين حددت لنفسها مهمة دراستهم؟.
فراح الانثروبولوجيون في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين يبحثون عن إثنيات قد تكون في منأى عن هجمات الحضارة، في تلك الفترة كان المتوحش وعالم الاثنولوجيا الطفيلي الذي يتغذى من تقاليده مسجلين على لائحة الأجناس المرشحة للانقراض.
حقيقة أصبح الميدان المفضل للانثروبولوجيين يندر شيئا فشيئا ولكن هذا الأمر وعوامل أخرى جعلتهم ينفتحون أكثر فاكثر على العالم المعاصر أو العوالم المعاصرة كما يحلو لانثروبولوجيي اليوم تسميته، كانوا يتخيلون أنهم مسافرون في الزمان، فيما هم يسافرون في المكان (مارك أوجيه وكولاين) لأن المعاصرة هو فعل العيش في الفترة نفسها وتقاسم المعايير المشتركة.
هناك معايير يتقاسمها البشر اليوم وهذا رغم وجود معالم محلية، فالانثروبولوجيا تعترف بتعددية الثقافات كما تعترف بمعاييرها المشتركة (تشترك في ثقافة عالمية تستند إلى معايير أخرى) وبالاختلافات الداخلية في ثقافة محلية بعينها.
وقوة التحليل الانثروبولوجي تكمن في الوصف الدقيق للتصرفات الإنسانية في مساقها التاريخي والثقافي من جهة، والمقارنة بأشكال أخرى في الزمان والمكان من جهة أخرى.
لقد تغيرت الانثروبولوجيا لأن العالم (الواقع الاجتماعي) تغير، فالمجتمعات لتقليدية احتكت بالحضارة ومسها الغزو الثقافي، فلم يعد هناك وجود لثقافات مستقلة خارج السياق العالمي وهذا ما جعل الانثروبولوجيا تنتقل من دراسة الشعوب إلى دراسة المواضيع واستخدام ميادين جديدة.
تغير العالم حتى أصبح كل البشر حتى البدائيين منهم يرون شروط حياتهم وقد تحددت بقرارات تنتج بعيدا عنهم وهم يخضعون لسيطرة اقتصادية وسياسية وثقافية تمارس من قبل سلطات وقوى خارجية (الأزمة الاقتصادية، العولمة، التكنولوجيا...) وهذا ما يقارب بين المجتمعات البدائية والتقليدية والحديثة ضحايا القوى نفسها، فهي تعيش نفس المظاهر والمشاكل وهذا ينطبق على حقول الانثروبولوجيا الجديدة ذاتها سواء القاسية منها (ضواحي المدن، اللاجئين، الهجرات السرية، المخدرات، الدعارة...) أو الهانئة (سياسة، موسيقى عالمية، حركات ثقافية وفنية...) لذا تدرس الانثروبولوجيا العلاقات التذاوتية بين المعاصرين سواء كانوا بدائيين أو من سكان المدن، سواء كانوا قراء أو أغنياء، أميين أو مثقفين، علاقات الغيرية والهوية التي تنتج في سيرورة متواصلة ضمن عمل مستمر يعبر عن عمل لا ينقطع داخل كل مجتمع من أجل تحديد الذات والآخر.
انثروبولوجيا اليوم تدرس المجتمعات التقليدية لأنها تخترع تقاليد لكي تبرر التحديث كما تدرس المجتمعات الحديثة (لعصرية) التي تلجأ للتحديث لكي تبرر ممارسات قديمة وهذا ما جعل برونو لاثور يعنون كتابه "نحن لم نكن عصريين أبدا".
انتقلت الانثروبولوجيا من دراسة الآخر وأصبحت اليوم تهتم بالأنا والإنسان عامة، ومن الشعوب إلى المواضيع، ومن المحلي إلى المحلي في سياق عالمي، ومن العالم البدائي إلى عوالم معاصرة.
ميادين الانثروبولوجيا
إذا قلنا أن علم الإنسان يختص بدراسة المجتمعات البدائية التقليدية البسيطة، المجتمعات المنعزلة اجتماعيا، فيتبادر إلى اذهاننا أن هذا العلم ليس عمليا ولا يفيد عمليا، ولكنه على العكس من ذلك هو علم ما بعد حداثي فتح الكثير من الآفاق للعلوم الأخرى، لأن مجرد دراسة سلسلة من القبائل البدائية مع ما يتبع ذلك من مقارنات وتحليلات قد يزودنا بمعلومات ثرية وقيمة عن العناصر الحقيقية التي تدوم طويلا، ولكن لظروف وأسباب علمية وعملية تفتحت على ميادين ومواضيع جديدة عليها، لتواصل بذلك في سيرورة تطورها وتطويرها للفكر الإنساني.
تنوع المواضيع المعالجة في انثروبولوجيا اليوم يؤكد أنها تخصص متصاعد، وحسب مارك أوجيه و كولاين هذه المواضيع ليست مجالات خاصة وإنما هي مجالات مترابطة لذا الخلفية الانثروبولوجية المتمثلة في اعتبار الإنسانية كحقل تحتم أبعادها بكاملها(فكرة رؤية انثروبولوجيا موحدة)ومن بين المواضيع الهامة نذك ما يلي :
انثروبولوجيا الأدب : ظهر الأدب كموضوع بحث للانثروبولوجيا منذ بداياتها، فالمجتمعات البدائية ذات التراث الصغير، ذات الثقافة الشفوية : كلام، خطاب، غناء، فكتابات الأثر منبعها التناقل الشفوي، ثم انتقل البحث الانثروبولوجي للمجتمعات الحديثة ليدرس الخطاب المتجسد في الكتابة عن طريق تجميع النصوص وتحليل القراءات التي أجريت عليها، أو بإنتاج النصوص ونتائج الكتابة في تكون الأشكال الثقافية.
انثروبولوجيا السياسة : الاهتمام بالجانب السياسي في الانثروبولوجيا بدأ مع مورغان الذي اكتشف خصائص سياسية مجهولة عن المجتمعات البدائية، محورها أن صلات القرابة تشكل البنية الأساسية لكل الشأن الاجتماعي وبالتالي السياسي (التميز بين المجتمعات القرابية أو العرقية ومجتمعات الدولة) ثم أصبحت الانثروبولوجيا السياسية تهتم بالعمل أكثر من البنى كما جاء في تعريفها (سوارتز، تورنر، تادن) هي دراسة عمليات فرضتها الخيارات وتحقيق الأهداف العامة والاستعمال التفضيلي للسلطة من قبل أفراد المجموعة المعنيين بهذه الأهداف. لقد تم التركيز في العمل السياسي على التفاعل الفردي والجماعي في توازنات السلطة فالسياسة كلعبة لها نوعان من القواعد : القواعد المعيارية والعملية (العنف، الإضراب عن الطعام، المسيرات...)
انثروبولوجيا الاقتصاد :الانثروبولوجيا أعطت في بدايتها أهمية كبيرة للوسائل التقنية، أدوات العمل وأنماط التصرف، لكن هذا الاهتمام ذو البعد الطبيعي والذي ينظر إلى هذه الأدوات كأحد أهداف تحسين العلاقة مع الطبيعة، وإنما تدخل في الميكانيزمات الاجتماعية والسياسية والطقوسية، فأصبحت تحلل المظاهر القديمة للاقتصاد بهدف تأسيس نظرية عامة بين الاقتصاد والمجتمع أو الثقافة (الشكلانيين) أو تعتبر الأنظمة الاقتصادية هي في حالة تقطع متواصلة لانتظامها عبر إجراءات غير اقتصادية.
لقد اهتمت الانثروبولوجيا الاقتصادية بالجانب المادي للمجتمع بكل أشكاله: الإنتاج، التقنيات، الهبة، الاستهلاك، الندرة، إعادة التوزيع، البيئوية الثقافية. كما أعطت أهمية مميزة لعملية التبادل الموجود في كل زمان ومكان (الاقتصاد السياسي، علاقات القرابة)
انثروبولوجيا المعرفة : تبرز مقولات العقل المدركة قبل تدجينها عبر فكرة عالمة، فهي تحاول الإجابة على السؤال الرامي إلى معرفة كيفية تكون العالم لطبيعي محليا.
منهجية البحث في الأنثروبولوجيا
البحث في الأنثروبولوجيا ما هو إلا حالة خاصة من البحث في العلوم الاجتماعية، فهو يخضع لنفس النموذج والذي يحتوي على أربعة مراحل :
1. مشروع البحث :
قبل الانطلاقة الفكرية لأي بحث أنثروبولوجي يحدد الباحث الأهداف الحقيقية التي تتبعها الدراسة سواء كانت أهداف علمية كاختبار نظرية، تجربة أساليب مستحدثة أو أهداف عملية العلاقات العرقية والتحضر، يجب عليه تحديد الموضوع الذي يريد دراسته ويتجه فيما بعد إلى الميدان لاختيار الجماعة الأولى أو المجال الذي يقيم عليه الدراسة.
2. تقنيات ومناهج البحث :
في هذه المرحلة يضطر الباحث إلى اختيار منهج بحث معين يتماشى وطبيعة الموضوع المراد دراسته ومع القناعات المنهجية للباحث، ثم يختار من بين الأدوات المنهجية (تقدير البحث) أساليب جمع البيانات التي يراها مناسبة وفعالة في هذا الموضوع بالذات ومن أهم هذه الأساليب المتوفرة في الأنثروبولوجيا ما يلي :
أ- الملاحظة بالمشاركة: يعتمد الباحث في هذا الأسلوب على ملاحظة حياة المجتمع المبحوث عن طريق الاندماج فيه وبالتالي يصبح عنصرا كباقي العناصر التي تكون هذا المجتمع فيعيش وينام ويأكل بنفس الطريقة التي يعيشها أفراد هذا المجتمع. وقد جاءت هذه التقنية مع مالينوفسكي الذي رفض قطعيا وبدل أن يأتي بالمبحوث إلى مقر سكناه توجه هو إلى ميدان المبحوث وعاش حياته بطريقة عادية حتى أن بعض الباحثين استعملوا حيلا وإغراءات من أجل الحصول على قدر كبير من البيانات كإخفاء أدوات التسجيل وشراء المعلومات وسرقة بعض الأدوات، ويظهر من خلال هذه التقنية أن الباحث بقوم بوظيفتين مختلفتين، تتمثل الأولى في المشاركة والثانية في الملاحظة.
ب- المقابلة: يعتبر الحوار والاستجواب م النقاط الضرورية في البحث الأنثروبولوجي، وتميل هذه المقابلة لأن مقابلة غير موجهة لأنها تشتمل على الحديث الهادئ وتوجيه أسئلة ذات نهايات مفتوحة تعطي فرصة للمبحوث لإبداء رأيه في مختلف المواضيع المطروحة وتتميز المقابلة في البحث الأنثروبولوجي بأنها أكثر مرونة بحيث يتغاضى الباحث على جهل المبحوث الذي يخرج عن الموضوع، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن النقطة الرئيسية في المقابلة هي تولد الثقة بين الباحث والمبحوث.
ج- تاريخ الحياة: تعالج الأنثروبولوجيا عملية نمو الفرد في إطار الثقافة أو المجتمع من جانبين، يركز الجانب الأول على دورة الحياة وعلى تاريخ الحياة، ففي دورة الحياة يعالج الباحث أسلوب المجتمع في تنشئته وتهيئته للصغار ليصبحوا أعضاء منتمين إليه من خلال التنشئة الاجتماعية. أما تاريخ الحياة فيعتمد على رواية أحد الإخباريين لقصة حياته من فترة الطفولة ومرحلة النضج، ويسرد الإخباري ذكرياته والأحداث المؤثرة في حياته الفعلية ويسجل الباحث كل التفاصيل الجزئية التي يقوم بتحليلها للكشف عن الروابط الوثيقة بين الشخصية والثقافة.
د- الطريقة الجينيالوجية: وضع هذه الطريقة ريفرز وهو يعمل ضمن بعثة جامعة كمبردج عام 1898 وهي تقوم على أساس تتبع العلاقات بين الإخباري وسائر المرتبطين به قرابيا وتسجيل ما يراه مناسبا من بيانات تشمل الأسماء والأنواع وتواريخ الميلاد والزواج والطلاق والوفاة والإقامة والعمل وغير ذلك من البيانات التي تفيد موضوع الدراسة وهي توضع في صورة تخطيط هندسي يأتي على الشكل التالي:
ه- استخدام الآلات الحديثة: أدخلت في الدراسات الحقلية الأنثروبولوجية بعض الآلات والتجهيزات الحديثة كاستخدام آلات التصوير في كل مراحل البحث وأسلوب الأفلام السينمائية في عرض التجارب الإثنوغرافية وآلات التسجيل الصوتي.
3. تحديد البيانات:
تبدأ بوادر التحليل في مرحلة مشروع البحث لأن الباحث يضع في بداية الدراسة اختيارات خاصة بالموضوع، الموقع الجغرافي والنظرية التي تؤدي إلى تعريف وتحديد الميدان. أما في مرحلة ما بعد البحث الميداني ينتقل الباحث إلى تحليل البيانات الكيفية والكمية التي تختبر الفروض أو التساؤلات التي طرحها الباحث في الدراسة وتنتشر في الأنثروبولوجيا التحاليل الكيفية التي تفيء إجابات المقابلات المفتوحة ومعطيات الطريقة الجينيالوجية.
4. عرض النتائج (تقرير الدراسة):
تشمل هذه المرحلة الأخيرة على حوصلة شاملة لمختلف مراحل الدراسة حيث يبدأ الباحث تقريره بمرحلة بناء الموضوع، أهداف الدراسة، الإشكالية، الفرضيات إن وجدت النظرية، ثم يعرف المناهج وأساليب جمع المعطيات التي اختارها ليخلص إلى تحليل البيانات وتبيين النتائج التي وصل إليها من خلال هذه الدراسة.
الاتجاه التطوري
أخذ التطوريون على عاتقهم مهمة أساسية هي تفسير وفهم المؤسسات الاجتماعية من حيث نشأتها وتطورها في الزمان، ويرى التطوريون أن المجتمعات الإنسانية قد طورت أنساقا ثقافية واجتماعية معقدة من بدايات بسيطة وهذا من خلال فكرة اعتبار أن الإنسان قادر على الاختراع وتحقيق الابتكارات في أي مكان إذا ما هيأت له الطبيعة الظروف المواتية وتنوع هذه الأخيرة هو ما يؤدي إلى تفاوت المستويات الاقتصادية والثقافية.
مبادئ التطورية :
1. وجود قوانين ودية تحكم الثقافة الإنسانية التي تمر بمراحل تطورية حتمية متمايزة.
2. التغير الثقافي حتمي يرجع إلى اختلاف المراحل التطورية.
3. العقل البشري قادر على اكتساب السمات الثقافية.
4. إمكانية الاستعارة من السمات الثقافية لثقافات أخرى.
مراحل التطور الثقافي حسب مورغان:
هناك ثلاث مراحل أساسية تمر بها المجتمعات الإنسانية وهي مراحل حتمية لا مفر منها:
1. المرحلة الهمجية: تبدأ من فترة ما قبل اكتشاف النار واختراع اللغة إلى مرحلة استخدام الأقواس والسهام.
2. المرحلة البربرية: تبدأ من فترة صنع الفخار إلى بداية استخدام الحديد.
3. مرحلة الحضارة: تبدأ من بداية الحضارة الأوربية والأمريكية وبداية استخدام الطباعة والكتابة.
نقد التطورية:
· يقول أوجيه: «أصبح كل من مورغان وتيلور مؤرخين للحضارات فهما يريان في المجتمعات الإنسانية مراحل على طريق تطور أحادي الخط، كما لو أن الإنسانية قد توافقت على غاية واحدة هي خلق المجتمع الغربي».
· تطورية القرن 19 والقرن 20 بفكرتها المركزية للتاريخ، أعطت غطاء علميا لخطاب إيديولوجي يهدف إلى تقنين (ضرورة) أو (عقلانية) الاستعمار.
· خطأ تفسير ما هو مختلف انطلاقا من تجربة تاريخية خاصة وتقييم الآخرين بمقياس خاص وهذا ما أنتج ثنائية المجتمع: البسيط والبدائي من جهة، والمعقد والمتطور من جهة أخرى.
· الاعتماد على مصادر غير دقيقة وغياب الدراسات الميدانية.
· التركيز على مفهوم المركزية الإثنية الذي يقول بأفضلية المجتمع الغربي خاصة المجتمعين البريطاني والأمريكي.
· يرى مالينوفسكي أن التطوريين اختاروا بعض السمات الثقافية وانتزعوها من سياقها الاجتماعي الكلي وقاموا بالمقارنة بينها بشكل غير علمي لإثبات فروق مسبقة تتعلق بالتطور الاجتماعي.
المدرسة الانتشارية
ظهرت المدرسة الانتشارية في النصف الثاني من القرن 19 في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا، وهي تنطلق من فكرة مشتركة مفادها أن نمو المجتمعات يتم أكثر ما يتم عن طريق التقليد والاستعارة وذلك بفعل الاحتكاكات الثقافية بين الشعوب (الهجرات والحروب). ويعتقد الانتشاريون بالمساواة بين البشر والتفاوت بين الثقافات، وهذا التفاوت يتحدد بدرجة الاحتكاك والقدرة على الاستعارة ضاربين عرض الحائط عبقرية الإنسان وقدرته على التقدم الدائم عن طريق الاختراعات.
تتجسد فكرة الانتشار في وجود مركز حضاري أو ثقافي تنتقل من خلاله السمات الثقافية إلى مجتمعات أخرى (الهلال الخصيب في العصر الحجري، مصر في العهود القديمة، والغرب في العصر الحديث) وهذا ما يعني طمس وإنكار جميع الحضارات اللاعقلانية ما قبل العلمية وتحويلها تابعا للنمط الغربي المصنع، فكانت جهود الانتشاريين منصبة حول البحث عن صيغ الانتشار من ثقافة أخرى بنظرة تاريخية تتناول كيفية حصول التغير عبر الزمن لتصبح فيما بعد نظرة جغرافبة فلم يعد السؤال مقتصرا على أسباب تنوع الثقافات بل صار بشكل آخ كيف كان لهذا التنوع أن يحصل؟ وأهم ما جاء في هذا الاتجاه هو التأكيد على أهمية الاتصال الثقافي وكون النظم والبنى الاجتماعية والسمات الثقافية كثيرا ما تستعار وتنتقل وهذا من خلال ملاحظة التشابهات السطحية لتأكيد التقارب الثقافي بتوزيع الدوائر الثقافية (هي دوائر جغرافية تتسم بتماسك الصفات الثقافية).
عرفت المدرسة الانتشارية ثلاث مدارس واتجاهات :
1. المدرسة البريطانية: يرى أصحابها (إليوت سميت، بيري، ريفرز) أن هناك مركزا رئيسيا للحضارات هو مصر القديمة والتي كانت أساسا للانتشار الثقافي.
2. المدرسة الألمانية والنمساوية: (راتزل، غرونبر، فروبينيوس) هناك دوائر ثقافية تمثل مراكز حضارية تشترك في سمات ثقافية واحدة وتزداد درجتها كلما اقتربنا أكثر من المركز.
3. المدرسة الأمريكية: (ويسلر، غروبنر، كلاكهون) هم تلامذة بواس صاحب المدرسة الأمريكية، يرى أصحاب هذا الاتجاه أن السمات المميزة لثقافة ما قد وجدت أولا في مركز جغرافي ثقافي محدد ثم انتقلت إلى مناطق أخرى لكنهم في نفس الوقت لم ينفوا إمكانية التطور الموازي المستقل كون البشر مبتكرين بطبعهم.
نقد الأفكار الانتشارية:
· يرى بوارييه أن المسلمات الانتشارية مبالغ فيها إذ يقول أن المسافة الجغرافية لا أهمية لها بالنسبة للانتشار مهما كانت كبيرة.
· نوهت المدرسة الانتشارية بالثوابت لثقافية واختزلت جهود الإنسان في التقليد والاتباع وجعل تاريخ البشرية مجرد سلسلة من الاستعارات الثقافية دون الاعتراف بالإبداع البشري وقدرته على الابتكار.
· انطلق إليوت سميث وبيري من فكرة وجود مركز حضاري (مصر الفرعونية) انتشرت من خلاله المؤسسات والتقنيات والأفكار وهذا ما ينفي وجود نمو قائم بذاته، لكن الاكتشافات الفنية والأثرية بينت أم هناك بؤر حضارية أخرى في العالم عرفت نموا مستقلا وهذا ما يلاحظ مثلا في الفنون الإفريقية بالبنين والتي تختلف كليا عن تلك المعروفة في مصر.
المدرسة الوظيفية
ظهرت المدرسة الوظيفية في العلوم الاجتماعية مع منتسكيو وتجلت أكثر مع مماثلة سبنسر
الوظيفية بالمعنى البيولوجي وهو المعنى الذي أكد عليه سبنسر، هي الدور الذي يقوم به عضو من الأعضاء ضمن النشاط العام الذي يزاوله جسم من الأجسام وقد حملت فيما بعد ثلاث دلالات مختلفة :
أ- الحد الأدنى، ويقتصر على مجرد السعي لإقامة الصلة بين ظواهر معينة ودراسة فعلها المتبادل بينها.
ب- الوظيفة لا تقتصر على إبراز العلاقة بل تصبح وسيلة متكيفة مع خدمة ظاهرة معينة أي هي المساهمة التي يقدمها نشاط جزئي للنشاط الكلي الذي يندرج ضمنه باعتباره جزءا منه.
ج- إضافة إلى الشروط السابقة يضيف مالينوفسكي شرط الاستجابة لحاجات المجتمع بما فيها حاجاته الأولية البيولوجية.
الوظيفية هي تشكيل نظري ومنهجي يستنبط من واقع وجود علاقات اتصال وظيفية بين الوقائع الاجتماعية تقوم بتحليل متزامن لهذه الوقائع دون النظر في تاريخ نشأتها أو الاستعانة بأي نهج تاريخي وهي تستند إلى عدة فرضيات:
1. الإنسان في المجتمع يمكن أن يكون موضوع علم وضعي على شاكلة علوم الطبيعة الحتمية.
2. تلجأ إلى التماثل العضوي لتفسير الواقع الاجتماعي استنادا على مبدأ وحدة المادة بين المجتمع و العضو الحي.
3. ترتبط بمفهوم موحد للعالم الاجتماعي أي أن كل المجتمعات تخضع لقوانين عمل متشابهة.
4. تعطي أولوية للكل على الجزء.
5. تتبنى موقفا مناهضا للتاريخ (لأن التاريخ مشكوك فيه نظرا لعدم توفر الشواهد التاريخية).
الوظيفية المطلقة:
يرى مالينوفسكي أن كل مجتمع يختلف تماما عن المجتمعات الأخرى بثقافته الأصلية المتميزة، والشيء الذي يمنح الثقافة هو الترتيب المحدد لأجزائها والمكان الذي يشغله كل عنصر والأسلوب الذي ترتبط من خلاله هذه العناصر بعضها ببعض، وقد شكلت هذه الفكرة ثلاث قضايا هامة :
1. جوانب الثقافة لا تدرس منفصلة بل يجب أن تفهم في سياقها الداخلي أي لا يمكن عزل جوانبها بعضها عن بعض.
2. عدم الاعتماد على الوصف الذي يدلي به الإخباري فالناس تفعل ما لا تقول.
3. سياق الثقافة يكشف عن عقلية متميزة للبدائي.
وقد أدت دراسات مالينوفسكي وأبحاثه إلى بناء ثلاث مسلمات أساسية:
1. الوحدة الوظيفية: كل عنصر من المجتمع يؤدي حتما وظيفة إيجابية للنظام الاجتماعي بمجمله.
2. الوظيفة الكلية: كل عنصر له وظيفة داخل المجتمع.
3. الوظيفة الضرورية: كل عنصر من المجتمع هو جزء أساسي منه ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عنه أو عن وظيفته.
الوظيفية البنائية:
راد كليف براون أول من نظر للبنية وقرنها بالمفهوم الوظيفي، لذا انصرف علماء الأناسة البريطانية إلى دراسة التنظيمات بدل الثقافات. فهو توجه سوسيولوجي يتقاسمه مع دوركايم إذ يعتبر استحالة بناء علم للثقافة ويقترح علما خاصا بالأنساق المجتمعية. رفض راد كليف براون على غرار مالينوفسكي نظريات التطوريين والانتشاريين، ووقف مثله ضد المقاربة التاريخية، لكنهما لم يفهما مفهوم الوظيفة فهما واحدا لأن راد كليف براون كان يرى أن الثقافة مفهوم فضفاض غير واضح المعالم بحيث يتعذر التقرب إليه بصورة علمية، لذا قام بدراسة البنية الاجتماعية معتقدا بأن العلوم المجتمعية قادرة على إنتاج قوانين ذات صفة جامعة.
الوظيفة عند راد كليف براون هي مساهمة العضو الاجتماعي الواحد في عمل الأعضاء الاجتماعية الأخرى والمساهمة في الحفاظ على حياة الجسم الاجتماعي بمعنى أن كل مؤسسة أو نسق يساهم في الحفاظ على استمرارية المجتمع لكن الوظيفة عنده لا تفهم إلا مع مقولة البنية لأن الأولى تضمن استمرارية الثانية والبنية عنده تظهر من المعاينة المباشرة التي تبين أن الكائنات البشرية تتوحد ضمن شبكة معقدة من العلاقات المجتمعية وعبارة البنية المجتمعية إنما تدل على هذه الشبكة من العلاقات القائمة بالفعل، فبالبنية المجتمعية :
· تحدد بعلاقات مجتمعية متصلة بالأفراد أو بالجماعات.
· العلاقات محكومة بالتمايز المجتمعي، أي تمايز الأفراد والطبقات من حيث الأدوار المجتمعية التي يقومون بها.
· هذه العلاقات تتصف بضرب من الاستمرارية من حيث المكان والزمان فهي ليست ظرفية طارئة أو عابرة.
نقد النظرية الوظيفية :
تعرضت النظرية الوظيفية لكثير من الانتقادات من طرف المعارضين والأتباع وهذه أهم الانتقادات :
1. المماثلة: يرى إيفانز بريتشارد أن المجتمعات هي أنظمة معنوية وليست طبيعية ودراستها تنتمي إلى النوع التأويلي أكثر من التفسيري، وهذا ما أكده ساهلينز أنها البعد والرمزي في المجتمع مكتفية بوصف خصائص التنظيم الاجتماعي.
2. الحتمية الوظيفية: يقول ليفي ستروس «إن القول بأن المجتمع يعمل هو أمر بديهي ولكن القول بأن كل شيء في المجتمع يعمل هذا أمر عبثي». كما أكد ليش على «أن الاستخدام الوظيفي للوظيفية يقوم على التباس منطقي يغطي فئتين مختلفتين وقائع مرئية وغايات محتملة». وبين لويس مير أيضا أن «مفهوم الوظيفة اتخذ دلالات شديدة الاختلافات حالت دون تمتعه بفعالية إجرائية كافية».
3. التوازن: هناك نظرة تفاؤلية مفرطة فيما يخص التأكيد على التوازن ونكران الخلافات والتوترات، لذا ركز الماركسيون في انتقاداتهم على عجز الوظيفية في تفسير وتبيان التوترات والتناقضات والتغير الاجتماعي كما أكد على ذلك الوظيفيون الجدد من أمثال غلوكمان لذي أكد على أهمية الخلافات والتناقضات من خلال وجود دينامية داخلية وهذا ما ذهب إليه سبرتشا من خلال وجود التضاد والتكامل في مجتمع "النوير بالسودان".
4. اللاتاريخانية: أكد باحثون ماركسيون ووظيفيون من أمثال غلوكمان على أهمية التاريخ في دراسة المجتمعات الإنسانية وأدانوا الخيار الوظيفي المناهض للتاريخ.
5. نقد المسلمات الوظيفية روبرت ميرتون:
أ- هناك عناصر يمكن أن تكون وظيفية بالنسبة لجماعات وغير وظيفية بالنسبة لجماعات أخرى كالدين الذي يؤدي وظيفة اندماج اجتماعي كما يمكن أيضا أن يكون مصدرا للصراع.
ب- يمكن أن يكون هناك عنصر لا وظيفي.
ج- هناك بدائل وظيفية تسمح بتوقع تحولات في الوضعيات الاجتماعية (مثل تربية الأبناء، دور الحضانة، المربيات...)
الاستاد قرار كريم جامعة المسيلة استاد الانتربولوجيا
إن اصطلاح الانثروبولوجيا هو اصطلاح شامل وواسع حيث أنه يشمل دراسة التطور البيولوجي والحضاري للإنسان، العلاقات البيولوجية والمبادئ التي تحكم علاقات الشعوب بعضها ببعض. تتكون الانثروبولوجيا من كلمتين لاتينيتين هما َ (Anthropos وتعني الإنسان ، logos وتعني العلم)
أي أن رالانثروبولوجيا تعني علم الإنسان، وهي كعلم تنقسم إلى قسمين :
الانثروبولوجيا الفيزيقية أو البيولوجية.
الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.
تهتم الانثروبولوجيا الفيزيقية بدراسة تطور الانسان وسلوكه وكذلك الخصائص البيولوجية التي يتباين فيها البشر القدامى والمحدثين، أما الانثروبولوجيا الاجتماعية فتنقسم إلى ثلاثة اقسام هي :
علم اللغويات : يبحث في تحليل اللغات وتصنيفها.
علم الآثار Archéologie: يدرس الفترات التاريخية في حياة المجتمعات والثقافات بالاعتماد علة وثائق قديمة والشواهد من المواقع الثرية كالمدن القديمة والبنايات، والمتوجات المادية بها وإعادة رسم صورة ثقافات ما قبل التاريخ.
الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية: تهتم بدراسة المجتمعات والثقافات الكثيرة المتنوعة التي تسير عليها المجتمعات، وقد اختصت وعرف عليها أنها تهتم بدراسة المجتمعات البدائية.
فالانثروبولوجيا عامة تجتمع في علم واحد وتحت اسم واحد بين نظرتي كل من العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية، فتركز مشكلاتها من ناحية على الإنسان ككائن بيولوجي وعلى سلوك الإنسان ككائن اجتماعي.
أول من استعمل كلمة الانثروبولوجيا الاجتماعية فو فريزر سنة 1908 في محاضرة تحت عنوان : مجال الانثروبولوجيا الاجتماعية، وعرفها بأنها "محاولة الكشف عن تسمية القوانين العامة التي تحكم الظاهرات وتفسر ماضي مجتمعات الإنسان حتى نتمكن بفضلها من أن نتنبأ بمستقبل البشرية استنادا إلى تلك القوانين السوسيو العامة التي تنظم تاريخ الإنسان" أما رادكليف براون فيقول " يمكننا أن نعرف الانثروبولوجيا الاجتماعية بأنها دراسة طبيعة المجتمع الإنساني دراسة منهجية منظمة تعتمد على مقارنة الأشكال المختلفة للمجتمعات الإنسانية بالتركيز على الأشكال الأولية للمجتمع البدائي"
والانثروبولوجيا كعلم تتميز بدراستها للإنسان والمجتمعات البشرية استنادا إلى بعض المفاهيم التي أصبح لها بعد عنصري واستعماري (الفوارق العرقية من خلال حجم الجمجمة ولون الجلد، المركزية الثقافية، لبدائية...)
وأيضا أجريت الكثير من الأبحاث الانثروبولوجية بهدف استنباط طرق ووسائل لتنفيذ سياسات الإدارة الاستعمارية فهي اختصت بدراسة الأشكال الأولى للمجتمعات البشرية والمتمثلة في الوقت الحاضر في المجتمعات البدائية المتخلفة، المجتمعات التي لا تعرف الكتابة، المجتمعات ذات الثقافة الشفوية، المجتمعات غير الغربية، أي تهتم بدراسة الآخر المتوحش.
الانثروبولوجيا بهذا الاسم مزدهرة أكثر في بريطانيا فقد عرفت تطورا كبيرا على حساب علم الاجتماع في حين تعرف في الولايات المتحدة الأمريكية باسم الانثروبولوجيا الثقافية لأنها تهتم بدراسة ثقافة الشعوب على شاكلة المدرسة الثقافية، في حين تعرف في فرنسا باسم الاثنولوجيا وهي كلها أسماء تشير إلى الانثروبولوجيا الاجتماعية التي تتميز بدراساتها وأبحاثها الميدانية المتعلقة بالمجتمع.
الانثروبولوجيا وعلاقتها بالعلوم الأخرى
الانثروبولوجيا هي دراسة الإنسان بشكل عام تقسم إلى انثروبولوجيا طبيعية (دراسة الإنسان في مظهره البيولوجي) وانثروبولوجيا اجتماعية وثقافية (تعنى بالطريقة التي تطورت بها النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والألسنية (اللسانيات)) ويدخل هذا العلم في إطار العلوم الاجتماعية كما يدخل في العلوم الطبيعية لذا نجده يحتل مكانة متميزة بين العلوم، واهتمامنا ينصب على القسم الاجتماعي من الانثروبولوجيا أي الانثروبولوجيا الاجتماعية وسوف نحاول عرض علاقته بالعلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى.
الانثروبولوجيا والفلسفة: الفلسفة سابقة للأنثروبولوجيا وهي أهم العلوم ولكن أي معرفة إذا أصبحت ممكنة في ميدان ما حتى تخرج عن مسمى الفلسفة ووتخذ لنفسها موضوعا وإطارا مستقلين. والانثروبولوجيا كانت ضمن التراث الفلسفي تأسست كعلم قائم بنفسه في القرن 19 لينفتح مجال للمجابهة لأن أساس البحث الانثروبولوجي العمل الحقلي الميداني مقابل الفرضيات المجردة للفلسفة، حتى أن مارسيل موس عبر عن أمله في أن الانثروبولوجيا الكاملة قد تحل محل الفلسفة لكونها تتوصل بالتحديد إلى فهم تاريخ الفكر البشري التي تفترض الفلسفة وجوده ". ولكن الواقع يشير إلى أن التجربة الانثروبولوجية تنطوي على بعد فلسفي واضح لأنه موجود داخل إطار من الأفكار والمبادئ الأساسية والبديهيات الأولية المنتمية للفلسفة، فليس هناك من نظرية انثروبولوجية متحررة بالكامل من فلسفة الظل حسب ميشال فوكو إضافة إلى كون عين الملاحظ عضو في تراث فكري، فهل يمكننا حقا بناء علم مستقل عن الفلسفة؟
الانثروبولوجيا والتاريخ : يدرسان الإنسان والمجتمع ولكن يختلفان في كيفية الاقتراب، فالتاريخ يدرس ماضي الشعوب في حين أن الانثروبولوجيا تدرس المجتمعات البدائية الباقية هذه المجتمعات لم تدخل التاريخ حسب الطرح الغربي وبالتالي حرمت الانثروبولوجيا من التاريخ حتى فيما يخص مجتمعات لها نسق تاريخي مغاير للنسق التاريخي الغربي كالمجتمعات العربية والتركية والصينية. بعد تجدد الانثروبولوجيا أصبحت تتجنب المقابلة القديمة بين المجتمعات البدائية الجامدة (الباردة أي بدون تاريخ) والمجتمعات المعقدة الحيوية (ذات تاريخ) وهذا باكتشاف البعد التاريخي للمجتمعات المدروسة في الحين (التغير الاجتماعي، التغير الإثني والتغيات الحاصلة في المجتمات الريفية) إضافة إلى أنها تحولت إلى دراسة المجتمعات القريبة وبالتالي أصبحت ملزمة بالنظر في التاريخ والذاكرة المكتوبة لمعرفة الحاضر.
من جانب آخر تجدد علم التاريخ بتوسعه لدراسة الواقع العميق للجماهير والظواهر الاجتماعية ، كما أدخل المدة الطويلة في تحاليله بحيث أصبح المؤرخ يستشف البنى الخفية والحركات التي تفعل المجتمع، فالتاريخ لم يعد صدفة أو حدثا فجائيا ولكن يصبح بعدا داخليا للمجتمع، كما توسع التاريخ في مجال كان مهمشا من قبل كالأساطير والممارسات الشعبية التي أصبحت ذات معنى عند المؤرخ..
الانثروبولوجيا وعلم الاقتصاد :علم الاقتصاد هو وصف ميكانيزمات إنتاج وتوزيع ثروات المجتمعات الحديثة (من أين تأتي ثروات الأمم وكيف يتم توزيعها على مختلف الفئات الاجتماعية). وهو يفترض أن الانسان الاقتصادي هو فاعل يتصرف بعقلانية ويختزل المجتمع في السوق والمجال الذي تتم فيه عملية العرض والطلب، كما يقر عالم الاقتصاد عالمية الممارسات والسلوكات الاقتصادية العقلانية المبنية على العلاقة العامة بين بين الامكانات والغايات وعلى مضاعفة الرغبات المرادة.
الجانب الاقتصادي في المجتمع موجود في الانثروبولوجيا ولكن يتسم ببعده الاجتماعي والثقافي، فالانثوبولوجيا لا تربط الحاجة والندرة بالجانب البيولوجي النفعي العالمي وإنما هما حسبها أمران نسبيان يختلفان من ثقافة لأخرى، وكمثال على ذلك النظام الغذائي للمجتمع لا يرتبط باقتصاده أي الثمن والعرض والطلب وإنما بإطار ثقافي أكبر.
الانثروبولوجي ساهلين SAHLIN أثبت أن المجتمعات البسيطة مكتفية اقتصاديا أو تعيش الوفرة لأنها تنتج ما تحتاج إليه فهي تمارس الوفرة بتحديد منتوجاتها وهذا ما لا ينطبق على المجتمعات الرأسمالية لأن نظامها الاقتصادي للإنتاج التجاري يخلق اصطناعيا حاجات إما من أجل إعادة بعث الإنتاج أو لتوظيفها على أعلى ريتم، وميكانزمات هذا النظام تتم مثلا بالطرح المستمر لمنتوجات جديدة تستجيب لنفس الحاجة، خلق حاجات متسلسلة، استعمال منتوج يفرض استعمالا آخر.
فالانثروبولوجيا عكس الاقتصاد تنظر إلى الممارسات الاقتصادية (العرض، الطلب، الإنتاج، التبادل والاستهلاك)في إطار ثقافي اجتماعي بعيدا عن فكرة الإنسان الاقتصادي المنفعة الاقتصادية وعالمية الممارسة الاقتصادية العقلانية.
الانثروبولوجيا وعلم النفس : مرت كل من الانثروبولوجيا وعلم النفس بمسار مشابه انطلق تحت تأثير العلوم الطبيعية وكلاهما يدرس السلوك الإنساني. فعلم النفس بأنواعه (علم النفس، التحليل النفسي، علم النفس الاجتماعي) يدرس السلوك الفردي، الشعور، الشخصية، واللاوعي في مستوى الفرد مهملا بذلك المستوى الاجتماعي (ما عدا علم النفس الاجتماعي) ولكن تطوره جعل علماء النفس يهتمون أكثر بالبيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الأفراد والخبرات المشتركة بين الناس ليقتربوا أكثر من علماء الاجتماع والانثروبولوجيين.
نتائج علم النفس حول معايير الشخصية لا يمكن أن تعمم لأنها اعتمدت على دراسة أفراد نشؤوا في ظل الحضارة الحديثة، فلجأوا إلى الانثروبولوجيين ليمدوهم بنتائج أخرى بينت نسبية ما توصلوا إليه ما جعل علم النفس يصل إلى فهم أفضل للمبادئ التي يقوم عليها تشكيل الشخصية على المدى الواسع من الأشكال التي تتخذها شخصيات البدائيين والأفراد العاديين، كما اكتشفوا النسق الحضاري من خلال تحليل بعض الأمراض النفسية المرتبطة بالجذور الاجتماعية، فتفسير فرويد الأحلام قاد العلماء إلى تاريخ المجتمعات الإنسانية (دراسة الأحلام،الرموز و المرض...)كما أرجع قانون الهلوسة والمرض إلى عوامل اجتماعية لا نفسية كالاحتلال والظلم.
أما الانثروبولوجيا فأصبحت تنظر للفرد كناقل للثقافة وليس كعنصر سلبي وهذا بفضل علم النفس الذي جعلها تهتم بالفروق بين الأنماط الأساسية للشخصية في المجتمعات المختلفة وهذا ما ساعدها على حل مشكلة الأسباب التي تجعل مجتمعات معينة تطور محاور اهتمام خاصة بها، فتقبل وترفض تجديدات معينة، وهي أيضا قدمت خدمة كبرى لعلم النفس الاجتماعي بطرحها في شكل نفسي دراسات حول الاندماج الثقافي (غياب التوترات النفسية لمرحلة المراهقة) جعلها تستخدم مفاهيم نفس اجتماعي، ثم قدمت بعد ذلك أمثلة وتغيرات لعلماء النفس الاجتماعي الذين يعتبرون فرضياتهم في إطار ضيق (المجتمعات الحديثة) مما جعلهم يقيسونها بما هو موجود في أطر أخرى لمعرفة قيمة نتائجه.
علاقة الانثروبولوجيا بعلم الاجتماع: كلاهما يبحث في المجتمعات الإنسانية، كيف تعمل؟ وكيف ولماذا تتغير الثقافات؟ فما هي نقاط التقارب والاختلاف بينهما؟
نقاط الاختلاف :
في مستوى التفكير : علم الاجتماع أقدم وأشد نزوعا إلى الاتجاه الفلسفي ويرتبط دائما بالنظريات الفلسفية العامة وهو أكثر تطورا وتفوقا في نوع المفاهيم والنظريات.
أما الانثروبولوجيا الاجتماعية فأفضل ما يهمها في البحث هو الوفرة والثراء في المعطيات الميدانية التي يجمعها الباحث في بحثه الحقلي، كما أنها تتميز بارتباطها الدائم بخلفيتها الطبيعية لذلك نجدها تجعل من الوصف ضرورة علمية ملحة في حين أن عل الاجتماع لا يلتزم بذلك.
على مستوى الموضوع : الانثروبولوجيا تدرس المجتمعات البدائية على مستوى الميكرو سوسيولوجي ، في حين يدرس علم الاجتماع المجتمعات الحديثة على مستوى الماكرو سوسيولوجي (الماكرو = العام).
الانثروبولوجيا تكون تجانسا في موضوعها ومنهجها عكس علم الاجتماع الذي يدرس موضوعا أكثر تعقيدا نظرا للتعقيد الشديد في مشاكل المجتمعات الحالية وبالتالي يصعب عليه استخراج إجابات من خلال منهج مقارنة نسقية كما هو الحال في المجتمعات البسيطة المغلقة.
الانثروبولوجيا تدرس ثقافة غريبة أي تستكشف سلم المعايير وتلاحظ إطار الممارسات وتلجأ إلى الشرح المعمق لكل المظاهر الثقافية حتى اليومية منها، ففي ميدان مجهول العادي (التافه) يصبح ذا قيمة وأهمية في حين أن علم الاجتماع يهمل الجوانب اليومية (العادية، الجزئية) المعروفة حسب اعتقاد العلماء.
على مستوى المنهج : الانثروبولوجيا تقرر تجانس المجتمع بتقطيع طبيعي أو اصطناعي كما تتميز بمنهج فريد يستند على الحميمية والاقتراب المعمق الذي يجمل بعدا كيفيا وهذا ما انعكس على أدوات وتقنيات البحث المستعملة حيث يميل الانثروبولوجي إلى استخدام الملاحظة بالمشاركة، الإقامة الطويلة، المقابلة المعمقة، قصة الحياة، ويصبح الباحث أيضا فاعلا وملاحظا في آن واحد.
أما علم الاجتماع فيميل أكثر إلى المناهج الكمية كما لا يقصي أي فئة بل يعتمد على مبدأ العينة ولكي يصل إلى مستوى التعميم يعتمد أكثر على الاستمارة لأنها تمس أكبر قدر ممكن من المبحوثين.
نقاط التشابه :
كلاهما يدرس المجتمع في كليته ويكملان بعضهما البعض بحيث يقدم علم الاجتماع للانثروبولوجيا مستقبل المجتمعات البدائية في حين يقدم الثاني للأول أصل نشوء وماضي المؤسسات والبنى الاجتماعية والأديان والقيم والعادات.
هناك الكثير من المفاهيم والنظريات المشتركة انتقلت من الانثروبولوجيا إلى علم الاجتماع والعكس (الوظيفية، لبنيوية، التطورية...) وأيضا هناك الكثير من المواضيع المشتركة (الأساطير، الخيال، الثقافة...)
هناك تشابه كبير بين علم الاجتماع البدوي والانثروبولوجيا الاجتماعية.
التغيرات الاجتماعية الحديثة ساهمت كثيرا في التقارب بين العلمين ما أنتج مفهوم علم الاجتماع الانثروبولوجي, وعلى العمم هناك تقارب وتداخل كبيرين بين العلمين ما جعل أنثروبولوجيا كبيرا بحجم رادكليف براون يقول "أن الانثروبولوجيا الاجتماعية هي علم الاجتماع المقارن".
الانثروبولوجيا والعالم المعاصر
استهل كل من فيليب لابورت تولرا و جون بيار فاريني كتابهما "الاثنولوجيا، الانثروبولوجيا" بسؤال مفاده : هل ستختفي الاثنولوجيا مع أواخر البدائيين، الذين حددت لنفسها مهمة دراستهم؟.
فراح الانثروبولوجيون في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين يبحثون عن إثنيات قد تكون في منأى عن هجمات الحضارة، في تلك الفترة كان المتوحش وعالم الاثنولوجيا الطفيلي الذي يتغذى من تقاليده مسجلين على لائحة الأجناس المرشحة للانقراض.
حقيقة أصبح الميدان المفضل للانثروبولوجيين يندر شيئا فشيئا ولكن هذا الأمر وعوامل أخرى جعلتهم ينفتحون أكثر فاكثر على العالم المعاصر أو العوالم المعاصرة كما يحلو لانثروبولوجيي اليوم تسميته، كانوا يتخيلون أنهم مسافرون في الزمان، فيما هم يسافرون في المكان (مارك أوجيه وكولاين) لأن المعاصرة هو فعل العيش في الفترة نفسها وتقاسم المعايير المشتركة.
هناك معايير يتقاسمها البشر اليوم وهذا رغم وجود معالم محلية، فالانثروبولوجيا تعترف بتعددية الثقافات كما تعترف بمعاييرها المشتركة (تشترك في ثقافة عالمية تستند إلى معايير أخرى) وبالاختلافات الداخلية في ثقافة محلية بعينها.
وقوة التحليل الانثروبولوجي تكمن في الوصف الدقيق للتصرفات الإنسانية في مساقها التاريخي والثقافي من جهة، والمقارنة بأشكال أخرى في الزمان والمكان من جهة أخرى.
لقد تغيرت الانثروبولوجيا لأن العالم (الواقع الاجتماعي) تغير، فالمجتمعات لتقليدية احتكت بالحضارة ومسها الغزو الثقافي، فلم يعد هناك وجود لثقافات مستقلة خارج السياق العالمي وهذا ما جعل الانثروبولوجيا تنتقل من دراسة الشعوب إلى دراسة المواضيع واستخدام ميادين جديدة.
تغير العالم حتى أصبح كل البشر حتى البدائيين منهم يرون شروط حياتهم وقد تحددت بقرارات تنتج بعيدا عنهم وهم يخضعون لسيطرة اقتصادية وسياسية وثقافية تمارس من قبل سلطات وقوى خارجية (الأزمة الاقتصادية، العولمة، التكنولوجيا...) وهذا ما يقارب بين المجتمعات البدائية والتقليدية والحديثة ضحايا القوى نفسها، فهي تعيش نفس المظاهر والمشاكل وهذا ينطبق على حقول الانثروبولوجيا الجديدة ذاتها سواء القاسية منها (ضواحي المدن، اللاجئين، الهجرات السرية، المخدرات، الدعارة...) أو الهانئة (سياسة، موسيقى عالمية، حركات ثقافية وفنية...) لذا تدرس الانثروبولوجيا العلاقات التذاوتية بين المعاصرين سواء كانوا بدائيين أو من سكان المدن، سواء كانوا قراء أو أغنياء، أميين أو مثقفين، علاقات الغيرية والهوية التي تنتج في سيرورة متواصلة ضمن عمل مستمر يعبر عن عمل لا ينقطع داخل كل مجتمع من أجل تحديد الذات والآخر.
انثروبولوجيا اليوم تدرس المجتمعات التقليدية لأنها تخترع تقاليد لكي تبرر التحديث كما تدرس المجتمعات الحديثة (لعصرية) التي تلجأ للتحديث لكي تبرر ممارسات قديمة وهذا ما جعل برونو لاثور يعنون كتابه "نحن لم نكن عصريين أبدا".
انتقلت الانثروبولوجيا من دراسة الآخر وأصبحت اليوم تهتم بالأنا والإنسان عامة، ومن الشعوب إلى المواضيع، ومن المحلي إلى المحلي في سياق عالمي، ومن العالم البدائي إلى عوالم معاصرة.
ميادين الانثروبولوجيا
إذا قلنا أن علم الإنسان يختص بدراسة المجتمعات البدائية التقليدية البسيطة، المجتمعات المنعزلة اجتماعيا، فيتبادر إلى اذهاننا أن هذا العلم ليس عمليا ولا يفيد عمليا، ولكنه على العكس من ذلك هو علم ما بعد حداثي فتح الكثير من الآفاق للعلوم الأخرى، لأن مجرد دراسة سلسلة من القبائل البدائية مع ما يتبع ذلك من مقارنات وتحليلات قد يزودنا بمعلومات ثرية وقيمة عن العناصر الحقيقية التي تدوم طويلا، ولكن لظروف وأسباب علمية وعملية تفتحت على ميادين ومواضيع جديدة عليها، لتواصل بذلك في سيرورة تطورها وتطويرها للفكر الإنساني.
تنوع المواضيع المعالجة في انثروبولوجيا اليوم يؤكد أنها تخصص متصاعد، وحسب مارك أوجيه و كولاين هذه المواضيع ليست مجالات خاصة وإنما هي مجالات مترابطة لذا الخلفية الانثروبولوجية المتمثلة في اعتبار الإنسانية كحقل تحتم أبعادها بكاملها(فكرة رؤية انثروبولوجيا موحدة)ومن بين المواضيع الهامة نذك ما يلي :
انثروبولوجيا الأدب : ظهر الأدب كموضوع بحث للانثروبولوجيا منذ بداياتها، فالمجتمعات البدائية ذات التراث الصغير، ذات الثقافة الشفوية : كلام، خطاب، غناء، فكتابات الأثر منبعها التناقل الشفوي، ثم انتقل البحث الانثروبولوجي للمجتمعات الحديثة ليدرس الخطاب المتجسد في الكتابة عن طريق تجميع النصوص وتحليل القراءات التي أجريت عليها، أو بإنتاج النصوص ونتائج الكتابة في تكون الأشكال الثقافية.
انثروبولوجيا السياسة : الاهتمام بالجانب السياسي في الانثروبولوجيا بدأ مع مورغان الذي اكتشف خصائص سياسية مجهولة عن المجتمعات البدائية، محورها أن صلات القرابة تشكل البنية الأساسية لكل الشأن الاجتماعي وبالتالي السياسي (التميز بين المجتمعات القرابية أو العرقية ومجتمعات الدولة) ثم أصبحت الانثروبولوجيا السياسية تهتم بالعمل أكثر من البنى كما جاء في تعريفها (سوارتز، تورنر، تادن) هي دراسة عمليات فرضتها الخيارات وتحقيق الأهداف العامة والاستعمال التفضيلي للسلطة من قبل أفراد المجموعة المعنيين بهذه الأهداف. لقد تم التركيز في العمل السياسي على التفاعل الفردي والجماعي في توازنات السلطة فالسياسة كلعبة لها نوعان من القواعد : القواعد المعيارية والعملية (العنف، الإضراب عن الطعام، المسيرات...)
انثروبولوجيا الاقتصاد :الانثروبولوجيا أعطت في بدايتها أهمية كبيرة للوسائل التقنية، أدوات العمل وأنماط التصرف، لكن هذا الاهتمام ذو البعد الطبيعي والذي ينظر إلى هذه الأدوات كأحد أهداف تحسين العلاقة مع الطبيعة، وإنما تدخل في الميكانيزمات الاجتماعية والسياسية والطقوسية، فأصبحت تحلل المظاهر القديمة للاقتصاد بهدف تأسيس نظرية عامة بين الاقتصاد والمجتمع أو الثقافة (الشكلانيين) أو تعتبر الأنظمة الاقتصادية هي في حالة تقطع متواصلة لانتظامها عبر إجراءات غير اقتصادية.
لقد اهتمت الانثروبولوجيا الاقتصادية بالجانب المادي للمجتمع بكل أشكاله: الإنتاج، التقنيات، الهبة، الاستهلاك، الندرة، إعادة التوزيع، البيئوية الثقافية. كما أعطت أهمية مميزة لعملية التبادل الموجود في كل زمان ومكان (الاقتصاد السياسي، علاقات القرابة)
انثروبولوجيا المعرفة : تبرز مقولات العقل المدركة قبل تدجينها عبر فكرة عالمة، فهي تحاول الإجابة على السؤال الرامي إلى معرفة كيفية تكون العالم لطبيعي محليا.
منهجية البحث في الأنثروبولوجيا
البحث في الأنثروبولوجيا ما هو إلا حالة خاصة من البحث في العلوم الاجتماعية، فهو يخضع لنفس النموذج والذي يحتوي على أربعة مراحل :
1. مشروع البحث :
قبل الانطلاقة الفكرية لأي بحث أنثروبولوجي يحدد الباحث الأهداف الحقيقية التي تتبعها الدراسة سواء كانت أهداف علمية كاختبار نظرية، تجربة أساليب مستحدثة أو أهداف عملية العلاقات العرقية والتحضر، يجب عليه تحديد الموضوع الذي يريد دراسته ويتجه فيما بعد إلى الميدان لاختيار الجماعة الأولى أو المجال الذي يقيم عليه الدراسة.
2. تقنيات ومناهج البحث :
في هذه المرحلة يضطر الباحث إلى اختيار منهج بحث معين يتماشى وطبيعة الموضوع المراد دراسته ومع القناعات المنهجية للباحث، ثم يختار من بين الأدوات المنهجية (تقدير البحث) أساليب جمع البيانات التي يراها مناسبة وفعالة في هذا الموضوع بالذات ومن أهم هذه الأساليب المتوفرة في الأنثروبولوجيا ما يلي :
أ- الملاحظة بالمشاركة: يعتمد الباحث في هذا الأسلوب على ملاحظة حياة المجتمع المبحوث عن طريق الاندماج فيه وبالتالي يصبح عنصرا كباقي العناصر التي تكون هذا المجتمع فيعيش وينام ويأكل بنفس الطريقة التي يعيشها أفراد هذا المجتمع. وقد جاءت هذه التقنية مع مالينوفسكي الذي رفض قطعيا وبدل أن يأتي بالمبحوث إلى مقر سكناه توجه هو إلى ميدان المبحوث وعاش حياته بطريقة عادية حتى أن بعض الباحثين استعملوا حيلا وإغراءات من أجل الحصول على قدر كبير من البيانات كإخفاء أدوات التسجيل وشراء المعلومات وسرقة بعض الأدوات، ويظهر من خلال هذه التقنية أن الباحث بقوم بوظيفتين مختلفتين، تتمثل الأولى في المشاركة والثانية في الملاحظة.
ب- المقابلة: يعتبر الحوار والاستجواب م النقاط الضرورية في البحث الأنثروبولوجي، وتميل هذه المقابلة لأن مقابلة غير موجهة لأنها تشتمل على الحديث الهادئ وتوجيه أسئلة ذات نهايات مفتوحة تعطي فرصة للمبحوث لإبداء رأيه في مختلف المواضيع المطروحة وتتميز المقابلة في البحث الأنثروبولوجي بأنها أكثر مرونة بحيث يتغاضى الباحث على جهل المبحوث الذي يخرج عن الموضوع، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن النقطة الرئيسية في المقابلة هي تولد الثقة بين الباحث والمبحوث.
ج- تاريخ الحياة: تعالج الأنثروبولوجيا عملية نمو الفرد في إطار الثقافة أو المجتمع من جانبين، يركز الجانب الأول على دورة الحياة وعلى تاريخ الحياة، ففي دورة الحياة يعالج الباحث أسلوب المجتمع في تنشئته وتهيئته للصغار ليصبحوا أعضاء منتمين إليه من خلال التنشئة الاجتماعية. أما تاريخ الحياة فيعتمد على رواية أحد الإخباريين لقصة حياته من فترة الطفولة ومرحلة النضج، ويسرد الإخباري ذكرياته والأحداث المؤثرة في حياته الفعلية ويسجل الباحث كل التفاصيل الجزئية التي يقوم بتحليلها للكشف عن الروابط الوثيقة بين الشخصية والثقافة.
د- الطريقة الجينيالوجية: وضع هذه الطريقة ريفرز وهو يعمل ضمن بعثة جامعة كمبردج عام 1898 وهي تقوم على أساس تتبع العلاقات بين الإخباري وسائر المرتبطين به قرابيا وتسجيل ما يراه مناسبا من بيانات تشمل الأسماء والأنواع وتواريخ الميلاد والزواج والطلاق والوفاة والإقامة والعمل وغير ذلك من البيانات التي تفيد موضوع الدراسة وهي توضع في صورة تخطيط هندسي يأتي على الشكل التالي:
ه- استخدام الآلات الحديثة: أدخلت في الدراسات الحقلية الأنثروبولوجية بعض الآلات والتجهيزات الحديثة كاستخدام آلات التصوير في كل مراحل البحث وأسلوب الأفلام السينمائية في عرض التجارب الإثنوغرافية وآلات التسجيل الصوتي.
3. تحديد البيانات:
تبدأ بوادر التحليل في مرحلة مشروع البحث لأن الباحث يضع في بداية الدراسة اختيارات خاصة بالموضوع، الموقع الجغرافي والنظرية التي تؤدي إلى تعريف وتحديد الميدان. أما في مرحلة ما بعد البحث الميداني ينتقل الباحث إلى تحليل البيانات الكيفية والكمية التي تختبر الفروض أو التساؤلات التي طرحها الباحث في الدراسة وتنتشر في الأنثروبولوجيا التحاليل الكيفية التي تفيء إجابات المقابلات المفتوحة ومعطيات الطريقة الجينيالوجية.
4. عرض النتائج (تقرير الدراسة):
تشمل هذه المرحلة الأخيرة على حوصلة شاملة لمختلف مراحل الدراسة حيث يبدأ الباحث تقريره بمرحلة بناء الموضوع، أهداف الدراسة، الإشكالية، الفرضيات إن وجدت النظرية، ثم يعرف المناهج وأساليب جمع المعطيات التي اختارها ليخلص إلى تحليل البيانات وتبيين النتائج التي وصل إليها من خلال هذه الدراسة.
الاتجاه التطوري
أخذ التطوريون على عاتقهم مهمة أساسية هي تفسير وفهم المؤسسات الاجتماعية من حيث نشأتها وتطورها في الزمان، ويرى التطوريون أن المجتمعات الإنسانية قد طورت أنساقا ثقافية واجتماعية معقدة من بدايات بسيطة وهذا من خلال فكرة اعتبار أن الإنسان قادر على الاختراع وتحقيق الابتكارات في أي مكان إذا ما هيأت له الطبيعة الظروف المواتية وتنوع هذه الأخيرة هو ما يؤدي إلى تفاوت المستويات الاقتصادية والثقافية.
مبادئ التطورية :
1. وجود قوانين ودية تحكم الثقافة الإنسانية التي تمر بمراحل تطورية حتمية متمايزة.
2. التغير الثقافي حتمي يرجع إلى اختلاف المراحل التطورية.
3. العقل البشري قادر على اكتساب السمات الثقافية.
4. إمكانية الاستعارة من السمات الثقافية لثقافات أخرى.
مراحل التطور الثقافي حسب مورغان:
هناك ثلاث مراحل أساسية تمر بها المجتمعات الإنسانية وهي مراحل حتمية لا مفر منها:
1. المرحلة الهمجية: تبدأ من فترة ما قبل اكتشاف النار واختراع اللغة إلى مرحلة استخدام الأقواس والسهام.
2. المرحلة البربرية: تبدأ من فترة صنع الفخار إلى بداية استخدام الحديد.
3. مرحلة الحضارة: تبدأ من بداية الحضارة الأوربية والأمريكية وبداية استخدام الطباعة والكتابة.
نقد التطورية:
· يقول أوجيه: «أصبح كل من مورغان وتيلور مؤرخين للحضارات فهما يريان في المجتمعات الإنسانية مراحل على طريق تطور أحادي الخط، كما لو أن الإنسانية قد توافقت على غاية واحدة هي خلق المجتمع الغربي».
· تطورية القرن 19 والقرن 20 بفكرتها المركزية للتاريخ، أعطت غطاء علميا لخطاب إيديولوجي يهدف إلى تقنين (ضرورة) أو (عقلانية) الاستعمار.
· خطأ تفسير ما هو مختلف انطلاقا من تجربة تاريخية خاصة وتقييم الآخرين بمقياس خاص وهذا ما أنتج ثنائية المجتمع: البسيط والبدائي من جهة، والمعقد والمتطور من جهة أخرى.
· الاعتماد على مصادر غير دقيقة وغياب الدراسات الميدانية.
· التركيز على مفهوم المركزية الإثنية الذي يقول بأفضلية المجتمع الغربي خاصة المجتمعين البريطاني والأمريكي.
· يرى مالينوفسكي أن التطوريين اختاروا بعض السمات الثقافية وانتزعوها من سياقها الاجتماعي الكلي وقاموا بالمقارنة بينها بشكل غير علمي لإثبات فروق مسبقة تتعلق بالتطور الاجتماعي.
المدرسة الانتشارية
ظهرت المدرسة الانتشارية في النصف الثاني من القرن 19 في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا، وهي تنطلق من فكرة مشتركة مفادها أن نمو المجتمعات يتم أكثر ما يتم عن طريق التقليد والاستعارة وذلك بفعل الاحتكاكات الثقافية بين الشعوب (الهجرات والحروب). ويعتقد الانتشاريون بالمساواة بين البشر والتفاوت بين الثقافات، وهذا التفاوت يتحدد بدرجة الاحتكاك والقدرة على الاستعارة ضاربين عرض الحائط عبقرية الإنسان وقدرته على التقدم الدائم عن طريق الاختراعات.
تتجسد فكرة الانتشار في وجود مركز حضاري أو ثقافي تنتقل من خلاله السمات الثقافية إلى مجتمعات أخرى (الهلال الخصيب في العصر الحجري، مصر في العهود القديمة، والغرب في العصر الحديث) وهذا ما يعني طمس وإنكار جميع الحضارات اللاعقلانية ما قبل العلمية وتحويلها تابعا للنمط الغربي المصنع، فكانت جهود الانتشاريين منصبة حول البحث عن صيغ الانتشار من ثقافة أخرى بنظرة تاريخية تتناول كيفية حصول التغير عبر الزمن لتصبح فيما بعد نظرة جغرافبة فلم يعد السؤال مقتصرا على أسباب تنوع الثقافات بل صار بشكل آخ كيف كان لهذا التنوع أن يحصل؟ وأهم ما جاء في هذا الاتجاه هو التأكيد على أهمية الاتصال الثقافي وكون النظم والبنى الاجتماعية والسمات الثقافية كثيرا ما تستعار وتنتقل وهذا من خلال ملاحظة التشابهات السطحية لتأكيد التقارب الثقافي بتوزيع الدوائر الثقافية (هي دوائر جغرافية تتسم بتماسك الصفات الثقافية).
عرفت المدرسة الانتشارية ثلاث مدارس واتجاهات :
1. المدرسة البريطانية: يرى أصحابها (إليوت سميت، بيري، ريفرز) أن هناك مركزا رئيسيا للحضارات هو مصر القديمة والتي كانت أساسا للانتشار الثقافي.
2. المدرسة الألمانية والنمساوية: (راتزل، غرونبر، فروبينيوس) هناك دوائر ثقافية تمثل مراكز حضارية تشترك في سمات ثقافية واحدة وتزداد درجتها كلما اقتربنا أكثر من المركز.
3. المدرسة الأمريكية: (ويسلر، غروبنر، كلاكهون) هم تلامذة بواس صاحب المدرسة الأمريكية، يرى أصحاب هذا الاتجاه أن السمات المميزة لثقافة ما قد وجدت أولا في مركز جغرافي ثقافي محدد ثم انتقلت إلى مناطق أخرى لكنهم في نفس الوقت لم ينفوا إمكانية التطور الموازي المستقل كون البشر مبتكرين بطبعهم.
نقد الأفكار الانتشارية:
· يرى بوارييه أن المسلمات الانتشارية مبالغ فيها إذ يقول أن المسافة الجغرافية لا أهمية لها بالنسبة للانتشار مهما كانت كبيرة.
· نوهت المدرسة الانتشارية بالثوابت لثقافية واختزلت جهود الإنسان في التقليد والاتباع وجعل تاريخ البشرية مجرد سلسلة من الاستعارات الثقافية دون الاعتراف بالإبداع البشري وقدرته على الابتكار.
· انطلق إليوت سميث وبيري من فكرة وجود مركز حضاري (مصر الفرعونية) انتشرت من خلاله المؤسسات والتقنيات والأفكار وهذا ما ينفي وجود نمو قائم بذاته، لكن الاكتشافات الفنية والأثرية بينت أم هناك بؤر حضارية أخرى في العالم عرفت نموا مستقلا وهذا ما يلاحظ مثلا في الفنون الإفريقية بالبنين والتي تختلف كليا عن تلك المعروفة في مصر.
المدرسة الوظيفية
ظهرت المدرسة الوظيفية في العلوم الاجتماعية مع منتسكيو وتجلت أكثر مع مماثلة سبنسر
الوظيفية بالمعنى البيولوجي وهو المعنى الذي أكد عليه سبنسر، هي الدور الذي يقوم به عضو من الأعضاء ضمن النشاط العام الذي يزاوله جسم من الأجسام وقد حملت فيما بعد ثلاث دلالات مختلفة :
أ- الحد الأدنى، ويقتصر على مجرد السعي لإقامة الصلة بين ظواهر معينة ودراسة فعلها المتبادل بينها.
ب- الوظيفة لا تقتصر على إبراز العلاقة بل تصبح وسيلة متكيفة مع خدمة ظاهرة معينة أي هي المساهمة التي يقدمها نشاط جزئي للنشاط الكلي الذي يندرج ضمنه باعتباره جزءا منه.
ج- إضافة إلى الشروط السابقة يضيف مالينوفسكي شرط الاستجابة لحاجات المجتمع بما فيها حاجاته الأولية البيولوجية.
الوظيفية هي تشكيل نظري ومنهجي يستنبط من واقع وجود علاقات اتصال وظيفية بين الوقائع الاجتماعية تقوم بتحليل متزامن لهذه الوقائع دون النظر في تاريخ نشأتها أو الاستعانة بأي نهج تاريخي وهي تستند إلى عدة فرضيات:
1. الإنسان في المجتمع يمكن أن يكون موضوع علم وضعي على شاكلة علوم الطبيعة الحتمية.
2. تلجأ إلى التماثل العضوي لتفسير الواقع الاجتماعي استنادا على مبدأ وحدة المادة بين المجتمع و العضو الحي.
3. ترتبط بمفهوم موحد للعالم الاجتماعي أي أن كل المجتمعات تخضع لقوانين عمل متشابهة.
4. تعطي أولوية للكل على الجزء.
5. تتبنى موقفا مناهضا للتاريخ (لأن التاريخ مشكوك فيه نظرا لعدم توفر الشواهد التاريخية).
الوظيفية المطلقة:
يرى مالينوفسكي أن كل مجتمع يختلف تماما عن المجتمعات الأخرى بثقافته الأصلية المتميزة، والشيء الذي يمنح الثقافة هو الترتيب المحدد لأجزائها والمكان الذي يشغله كل عنصر والأسلوب الذي ترتبط من خلاله هذه العناصر بعضها ببعض، وقد شكلت هذه الفكرة ثلاث قضايا هامة :
1. جوانب الثقافة لا تدرس منفصلة بل يجب أن تفهم في سياقها الداخلي أي لا يمكن عزل جوانبها بعضها عن بعض.
2. عدم الاعتماد على الوصف الذي يدلي به الإخباري فالناس تفعل ما لا تقول.
3. سياق الثقافة يكشف عن عقلية متميزة للبدائي.
وقد أدت دراسات مالينوفسكي وأبحاثه إلى بناء ثلاث مسلمات أساسية:
1. الوحدة الوظيفية: كل عنصر من المجتمع يؤدي حتما وظيفة إيجابية للنظام الاجتماعي بمجمله.
2. الوظيفة الكلية: كل عنصر له وظيفة داخل المجتمع.
3. الوظيفة الضرورية: كل عنصر من المجتمع هو جزء أساسي منه ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عنه أو عن وظيفته.
الوظيفية البنائية:
راد كليف براون أول من نظر للبنية وقرنها بالمفهوم الوظيفي، لذا انصرف علماء الأناسة البريطانية إلى دراسة التنظيمات بدل الثقافات. فهو توجه سوسيولوجي يتقاسمه مع دوركايم إذ يعتبر استحالة بناء علم للثقافة ويقترح علما خاصا بالأنساق المجتمعية. رفض راد كليف براون على غرار مالينوفسكي نظريات التطوريين والانتشاريين، ووقف مثله ضد المقاربة التاريخية، لكنهما لم يفهما مفهوم الوظيفة فهما واحدا لأن راد كليف براون كان يرى أن الثقافة مفهوم فضفاض غير واضح المعالم بحيث يتعذر التقرب إليه بصورة علمية، لذا قام بدراسة البنية الاجتماعية معتقدا بأن العلوم المجتمعية قادرة على إنتاج قوانين ذات صفة جامعة.
الوظيفة عند راد كليف براون هي مساهمة العضو الاجتماعي الواحد في عمل الأعضاء الاجتماعية الأخرى والمساهمة في الحفاظ على حياة الجسم الاجتماعي بمعنى أن كل مؤسسة أو نسق يساهم في الحفاظ على استمرارية المجتمع لكن الوظيفة عنده لا تفهم إلا مع مقولة البنية لأن الأولى تضمن استمرارية الثانية والبنية عنده تظهر من المعاينة المباشرة التي تبين أن الكائنات البشرية تتوحد ضمن شبكة معقدة من العلاقات المجتمعية وعبارة البنية المجتمعية إنما تدل على هذه الشبكة من العلاقات القائمة بالفعل، فبالبنية المجتمعية :
· تحدد بعلاقات مجتمعية متصلة بالأفراد أو بالجماعات.
· العلاقات محكومة بالتمايز المجتمعي، أي تمايز الأفراد والطبقات من حيث الأدوار المجتمعية التي يقومون بها.
· هذه العلاقات تتصف بضرب من الاستمرارية من حيث المكان والزمان فهي ليست ظرفية طارئة أو عابرة.
نقد النظرية الوظيفية :
تعرضت النظرية الوظيفية لكثير من الانتقادات من طرف المعارضين والأتباع وهذه أهم الانتقادات :
1. المماثلة: يرى إيفانز بريتشارد أن المجتمعات هي أنظمة معنوية وليست طبيعية ودراستها تنتمي إلى النوع التأويلي أكثر من التفسيري، وهذا ما أكده ساهلينز أنها البعد والرمزي في المجتمع مكتفية بوصف خصائص التنظيم الاجتماعي.
2. الحتمية الوظيفية: يقول ليفي ستروس «إن القول بأن المجتمع يعمل هو أمر بديهي ولكن القول بأن كل شيء في المجتمع يعمل هذا أمر عبثي». كما أكد ليش على «أن الاستخدام الوظيفي للوظيفية يقوم على التباس منطقي يغطي فئتين مختلفتين وقائع مرئية وغايات محتملة». وبين لويس مير أيضا أن «مفهوم الوظيفة اتخذ دلالات شديدة الاختلافات حالت دون تمتعه بفعالية إجرائية كافية».
3. التوازن: هناك نظرة تفاؤلية مفرطة فيما يخص التأكيد على التوازن ونكران الخلافات والتوترات، لذا ركز الماركسيون في انتقاداتهم على عجز الوظيفية في تفسير وتبيان التوترات والتناقضات والتغير الاجتماعي كما أكد على ذلك الوظيفيون الجدد من أمثال غلوكمان لذي أكد على أهمية الخلافات والتناقضات من خلال وجود دينامية داخلية وهذا ما ذهب إليه سبرتشا من خلال وجود التضاد والتكامل في مجتمع "النوير بالسودان".
4. اللاتاريخانية: أكد باحثون ماركسيون ووظيفيون من أمثال غلوكمان على أهمية التاريخ في دراسة المجتمعات الإنسانية وأدانوا الخيار الوظيفي المناهض للتاريخ.
5. نقد المسلمات الوظيفية روبرت ميرتون:
أ- هناك عناصر يمكن أن تكون وظيفية بالنسبة لجماعات وغير وظيفية بالنسبة لجماعات أخرى كالدين الذي يؤدي وظيفة اندماج اجتماعي كما يمكن أيضا أن يكون مصدرا للصراع.
ب- يمكن أن يكون هناك عنصر لا وظيفي.
ج- هناك بدائل وظيفية تسمح بتوقع تحولات في الوضعيات الاجتماعية (مثل تربية الأبناء، دور الحضانة، المربيات...)
الاستاد قرار كريم جامعة المسيلة استاد الانتربولوجيا
انموضوع شيق يفتح شهية البحث أكثر نشكر الأستاذ المحترم كما نطلب من طلبتنا الأعزاء غير مأمورين المشارك في إثراء هذا الموضوع المهم خاصة أهل التخصص ماستر تحليل الخطاب
ردحذفهل يمكنك أن تعطيني معلومات عن الانتربولوجيا التواصلية ...شكرا
ردحذف