التحليل عبر اللساني بين الجملة والنص
توصيف ومناقشة
د. هـواري بلقندوز
جامعة سعيدة( الجزائر)
لا
شك أن التتويج المعرفي الذي حازه النص الأدبي انطلاقا من احتكاكه
باللسانيات والنقد الأدبي، قد مكن النص الأدبي نفسه من تصعيد الرؤية
وتعميقها حول بنيته ووظيفته. وعلاوة على ذلك، لا ينبغي أن تغمط حقوق
البلاغة في محاولاتها الأولى منذ القرن الأول الميلادي في التوفيق بين
النظرة اللسانية والنظرة النقدية للأدب؛ إذ كان لكونتليان Quintilian قصبات
السبق في مناقشة مسائل تتعلق بالتنظيم الداخلي للنص، من مثل الوضوح،
والفصاحة، والرشاقة، والملائمة؛ وكذا إشارته لمبدأ المفاضلة بين النصوص
وعلاقته بقدرة المبدع على التصرف بالمادة المستخدمة في كتابة النص1.
1- نحو منظور لسانيات الوحدات الكبرى:
ثمة حقيقة مؤداها أن نحو النص وإن كان قد قد من نحو الجملة2،
إلا أنه ظل -في الغالب الأعم- يراهن على استقلالية تصوراته النظرية
والمنهجية في إطار ضبط الحدود الفاصلة بين نظام الجملة ونظام النص، من جهة
اعتبار خاصية التجريد والملابسات السياقية والمقامية للبنية النصية. ولهذا
تطلب استدعاء موضوع الدرس ومنهجه في نحو النص، إمكانية البحث في ما يكون به
الملفوظ نصا مع رهان كبير على سلطة المقام في عملية التلفظ. وعندئذ يرتد
مستوى التحليل من الجمل النظامية Micro-propositions إلى قضايا
Macro-propositions منجزة بالفعل في المقام، بكل ما تمتلكه من خصائص سياقية
يقوم عليها الفهم والإفهام.
كل
ذلك سيطرح قضية أساسا تتعلق بشرعية وجود نحو النص إلى جانب نحو الجملة،
حيث يسعى إلى بناء نسق تجريدي يصف كل ما هو من جنس الملفوظ، بغية توسيع
نطاق المستوى النحوي، والجهاز اللغوي الواصف على السواء3. وفي ضوء هذا التمايز التقابلي بين المنحيين اللذين سلكهما الدرس اللساني المعاصر، تسجل نظرية النحو الوظيفي4 حفظاتها
المنهجية إزاء هذا الانشقاق الابستمولوجي بين المنحيين، ساعية إلى رفع
الحواجز بين لسانيات الجملة ولسانيات النص، وتحويل الانقطاع بينهما إلى
تقاطع5. وبموجب هذا التمييز بين الحقلين بإمكاننا أن نفهم
الحدود الفاصلة في الدرس اللغوي العربي بين النحو الذي بنا أطر شبكته
المفهومية على نظام الجملة تنظيرا وإجراء، والبلاغة التي سعت إلى تطويع
كيانها المعرفي ضمن مساحة أوسع هي النص، من حيث أسهمت في توجيه النظر إلى
العلاقات الداخلية في النصوص إثر حديثها عن بعض الصيغ النحوية للتشبيه
والاستعارة، و كذا الكشف عن الترابط القائم بين سلسلة من الأقوال المؤلفة
لفقرة، أو مجموعة أجزاء من العمل الأدبي. وبإمكاننا أن نلامس هذه الحقيقة
في أجلى صورها في منجز حازم القرطاجني، ولا سيما حديثه عن بنية القصيدة
العربية ضمن الفضاء العام للنظرية الشعرية العربية. ضمن هذا الإطار استطاعت
الإنجازات البلاغية أن تقارب وصف النصوص وتحديد وظائفها حتى أضحت تنعت –
بوجه من الوجوه- نظرية النص. ولعل هذا ينطبق على البلاغة العربية، مثلما
ينطبق على بلاغات أخرى6.
وتأسيسا
على ما سلف، يمكن القول إن البلاغة الجديدة هي الحقل المؤهل لتحليل البنى
النصية ووظائفها ضمن نظريات الخطاب، إذا ما اهتدى أشياعها إلى لطائف الحكمة
في تشكيل رؤية منهجية قوامها إعادة التشييد الابستمولوجي لمقولات البلاغة
العربية ضمن مستجدات البحث المنهجي في لسانيات النص ونحو النص، بهدف
التأصيل الفعال والإيجابي للتراث اللغوي العربي؛ وما أحوجنا إلى ذلك.
وعندئذ كانت النتائج ستكون عظيمة في رحاب ذلكم التفاعل المنهجي والتضافر
المعرفي بين البلاغة واللسانيات والفلسفة والمنطق وفق استراتجيات مشتركة
ذات خطاطات مفهومية قادرة على إثراء البحث اللغوي المعاصر. من هذا المنطلق،
سنسعى في هذا القسم من بحثنا إلى الحديث عن النص من حيث هو بناء لأنموذج
لغوي، وعن الفهم من حيث هو نشاط معرفي لتلقي هذا الأنموذج، اهتداء بمقاربة
لسانية معرفية تستمد أصولها النظرية من إسهامات المدرسة الفرنسية.
2- نظرية التلفظ، المنطلقات النظرية والتعميقات المنهجية:
كثيرة
هي النصوص البيبليوغرافية التي تطرقت إلى نظرية التلفظ عرضا وتفسيرا، ولذا
لا نكاد نجد حرجا في تجاوز ذلك الكلام المكرور الذي ظلت تتعاطاه الكتابات
بدرجات متفاوتة من تمثل القيمة المعرفية لأنساق هذه النظرية ترجمة وتأليفا.
وعلاوة عل ذلك، يبدو أن هناك مبررا آخر من شأنه أن يفسر هذه الرؤية
الاختزالية، وهو مبرر يقتضيه التصور المنهجي لإشكالية بحثنا المتعلق
باستراتيجية التحليل عبر اللساني Translinguistique للوحدات الكبرى.
بالإضافة إلى أن الخطاطة الإجرائية التي قدمها بنفينيست تمثل قاعدة نظرية
للسانيات الجيل الثاني، بوصفها جسر العبور بين لسانيات الجملة ولسانيات
النص. ويبدو أن الاتجاه السائد في لسانيات التلفظ قد سعى بكل متصوراته
المنهجية إلى تجاوز الرؤية الاختزالية في اللسانيات البنوية، ذلك من خلال
تصعيد الرؤية النظرية بالانفتاح الفعال على العلوم الإنسانية، ولا سيما علم
الاجتماع وعلم النفس، سعيا لرسم معالم السيميائيات الألسنية في ملامحها
النسقية مع ب.شارودو P.Charaudeau، و الحوارية في مراحلها المعمقة مع
فرانسيس جاك F.Jaques7.
تأسس
منظور بنفينيست من خلال رؤيته للسان بوصفه نظاما تجريديا أو طاقة مخزونة
في ذهن المتخاطبين Interlocuteurs سرعان ما يؤول إلى موجود بالفعل في رحاب
الممارسة التلفظية، على مبدأ تجاوز حدود لسانيات الملفوظ التي تمتد عبر
مساحة الوقائع اللغوية التي يقوم بها المتكلم في مواقف خطابية محددة، وفق
تشكيلة من الجمل المحققة، إلى إمكانية توسيع نطاق موضوع البحث اللساني
ليشمل كل الظواهر المتعلقة بشروط إنتاج الخطاب، بوصفها إستراتيجية مناسبة
لوصف توظيف اللغة عن طريق فعل استعمال فردي في إنتاج الملفوظات، ضمن الشروط
المقامية الخاصة بعملية التلفظ ذاتها.
لا
شك أننا إذا رمنا مناقشة معنى الوحدات اللسانية بمنظور بنفينيست، نجد
أنفسنا مضطرين بحكم الضرورة المنهجية إلى تعليق هذه الإشكالية بعوامل خارج
لسانية Extralinguistique من مثل تلك التي تتعلق بالمرجع والتغطية المقامية
للمتلفظ. ومن ثمة أضحت عملية تحليل الوحدات اللسانية في علاقتها مع شروط
إنتاجها تفترض نظرية للتلفظ تسعى إلى سترجة8التحليل
اللساني وفق تقطيع جديد يميز بين ما هو لساني وما هو خارج لساني، أي ما هو
خطاب بشروط إنتاجه. وفي هذا السياق يقترح بنفينيست تعريفا للتلفظ بوصفه: " إجراء توظيف اللسان بمقتضى فعل فردي في الاستعمال"9
ولا شك أن التلفظ بهذا المعنى يتضمن مجموعة من الجمل والعبارات قيد
الاستعمال في الخطاب؛ ومن ثمة كانت الملفوظات جملا محققة ومنجزة في
الاستعمال الفردي للمتخاطبين10.
بهذا
المفهوم يتحول اللسان بوصفه نظاما تجريدا من الأدلة إلى إنية الخطاب
Instance de discours، وذلك بفعل الممارسة التلفظية التي يضطلع بها الفرد
من جهة امتلاكه لها. فالتلفظ هو النظرية العامة التي تتناول بالدراسة
والتحليل العناصر اللغوية التي تتحدد دلالتها المرجعية من خلال السياق من
مثل: الإشاريات الشخصية، والإشاريات الزمانية، والإشاريات المكانية،
وإشاريات الخطاب، وكذا الإشاريات الاجتماعية من مثل: أنا، وأنت، وهنا،
والآن. وكلها عناصر لا تحيل على شيء في العالم ولا على أحوال موضوعية في
الزمان والمكان، ولكنها تحيل على إنية الخطاب الذي ترد فيه، وهي إذ ذاك
تمكن المتكلم من تمثل المواقف التعاملية في المقام التواصلي. وفي هذا
الإطار يشير بنفينيست إلى أنه: " يمكن تحديد التلفظ بالنسبة للغة
بوصفه حدث امتلاك للغة، فالمتكلم يمتلك الجهاز الصوري للغته ويعلن عن موقعه
بوصفه متكلما من خلال أمارات خاصة، لكن بمجرد أن يقوم بذلك، يقوم في الآن
نفسه بتنصيب الآخر مخاطبا له أيا كانت درجة الحضور التي يحولها للآخر "11.
وانطلاقا من خاصية التلفظ، يذهب بنفينيست
1966 في تحديده للخطاب على أنه ذلك القسم الذي يعارض اللسان، من حيث إنه
يمثل المجال الذي تتحقق فيه الإبداعية والتناصية بوصفهما قيمتين جديدتين
لوحدات اللسان. وفي هذا السياق يعرف التلفظ على أنه الفعل الفردي الذي يسمح
للمتلفظ بتفعيل النظام اللساني، أو بالأحرى تحويل اللسان إلى خطاب. وحسب
هذا التصور، يغدو الخطاب تظاهرة تلفظية في كل حدث لساني تواصلي، وبمعنى
أدق، يرى بنفينيست أن المفهوم الأوسع للخطاب يتحدد في نطاق " كل تلفظ يفترض متكلما ومستمعا، وعند الأول هدف التأثير على الثاني بطريقة ما "12. ذ
ذاك تتوقف الجملة عن كونها موضوعا للدراسة اللسانية، وتحل محلها وحدة ما
بعد الجملة هي وحدة الخطاب. ومع هذا الاستكشاف الجديد، والتعميق المنهجي،
تم توسيع نطاق موضوع البحث في اللسانيات، أو بالأحرى فك عزلتها من مضايقات
النزعة المعيارية المجردة إلى دينامية الاستعمال الخلاق للغة. ولا يفوتنا
أن نسجل في هذا المقام، أن الظواهر المرتبطة بمقولتي الزمان والمكان لم تحظ
بالاعتناء المطلوب في الدراسات اللغوية العربية قديمها وحديثها، والسبب في
ذلك يعود حسب رأي المتوكل إلى تعدد أبعاد هاتين المقولتين وتباينها،
واستعصائها على الضبط والصورنة. ويكفي أن نسجل ما لاحظه أحد الباحثين من أن
الصيغ المتوافرة في اللغة العربية للتعبير عن المقولتين متداخلتين نمطان
أساسيان: صيغ اشتقاقية، وصيغ إلصاقية13.
وعلى
غرار ذلك، ينبغي أن نتوخى التأبي الدقيق للفواصل المنهجية بين اللسانيات
بمفهومها العام ولسانيات التلفظ، على نحو ما يحيلنا ديكرو على أننا: " عندما
نتحدث عن لسانيات التلفظ فإننا نتناول هذا المصطلح بمعناه الضيق، فلا نأخذ
المظهر الفيزيائي لبث الكلام واستقباله الذي يندرج ضمن علم النفس اللساني
أو أحد تفرعاته ولا التحولات التي تطرأ على المعنى العام للكلام بسبب
الوضعية، وإنما المقصود هو العناصر التي تنتمي إلى اللغة وتتنوع دلالتها من
كلام إلى آخر من مثل، أنا، أنت، هنا، الآن،؛ إن الشيء الذي تحتفظ به
الدراسة اللسانية هو البصمة التي تتركها عملية التلفظ في الكلام"14. ن يتضح دور الإشاريات بوصفها عناصر مقامية تشرف على تحديد دلالات الملفوظات اللسانية في الاستعمال.
من
اللافت للنظر أن للمتكلم دورا رياديا في نظرية التلفظ من جهة كونه مرجعية
لكل ملفوظ، وفاعلا في الخطاب؛ هذه المرجعية تشتغل وفق خاصية التناظر، إذ
يتحول المتكلم إلى مستمع، والمستمع إلى متكلم بوصفهما جزأين من الحالة
التلفظيةSituation d’énonciation ، وذلك بعد عملية تضمين الشخص الآخر كبعد
ثاني في العملية التلفظية ضمن إطار العلاقة التذاوتية Intersubjective ،
أو ما أضحى ينعت في حقل الدراسات السوسيولسانية بـ: المخيال اللساني Imaginaire linguistique الذي يعبر عن علاقة الفاعل اللافظ باللسان في رحاب الفعل الخلاق للغة قيد الاستعمال15.
ا أن الإشكال النظري الذي ما فتىء يربك الأنموذج التلفظي المقترح من قبل
بنفينيست قد سمح لبعض الباحثين بإعادة تشييد مقولة التلفظ وصقل محور
المؤشرات اللسانية؛ مما سمح بتعميق المجال التطبيقي للتلفظ وتوسيعه. وفي
هذا السياق يشير كلايبر G.Kleiber إلى إمكانية تجاوز
الإطار الزمكاني وكذا الأطراف المشاركة في عملية التلفظ، إلى مقام التلفظ
بوصفه الموضوع الأساس الذي تهدف إليه هذه الدراسة.
على
هذا الأساس، يبدو حسب G.Kleiber أن هذه العناصر بإمكانها أن تتمتع بحضور
فيزيائي أو ذهني ضمن عملية التلفظ. ومن ثمة فإن توسيع نطاق الإشاريات
سيؤول من الناحية النظرية إلى ما أضحى ينعت بـ " الذاكرة الخطابية " للمتلفظ أو بالأحرى " المعارف المشتركة
" بين المرسل والمتلقي، التي تمثل كل المعطيات الخطابية المتعلقة بالمعارف
الثقافية والموسوعية للذاكرة الجماعية التي توضع قيد عملية التواصل. و
نحسب أن هذا التصور يقترب كثيرا من نظرية الأطر عند مينسكي، ومفهوم المدونات عند روجي شانك، وكذا مفهوم الخطاطات عند يول وبراون وبهاتن،
والتي طبقت في أبحاث الذكاء الاصطناعي وعلم النفس المعرفي بوصفها إجراءات
عملية لتنشيط المعرفة الخلفية في بناء انسجام الخطاب وتأويله16.
لا
شك أن دراسة بنفينيست للعامل اللامرئي المتحرك والمتعلق بالزمن من حيث
تقسيمه إلى الزمن التاريخي أو زمن المحكي Récit ، وزمن الخطاب قد شكلت
موضوع انتقاد وتعديل من لدن نخبة من الباحثين في حقل لسانيات التلفظ. يتعلق
الأمر في هذا السياق بالزمن الماضي المركب Passé composéالذي يوظف في
الخطاب بالكيفية نفسها التي يوظف بها في محكيات السيرة الذاتية
Autobiographie. وعلى هذا الأساس، يبدو في نظر André Petit Jean
أن الماضي المركب زمن ذو وجهين في الاستعمال؛ استعمال خطابي، واستعمال
تاريخي. يتجلى الزمن في اللغة بواسطة القرائن التي تتحدد بجوار الأفعال، أو
من خلال الظروف (ظروف الزمان) التي نصطلح عليها عادة بالمؤشرات الزمانية
من مثل: الآن، اليوم، غد، أمس، ونحو ذلك17.
أما ما يتعلق بلحظة الخطاب فتبقى المحور الذي ترتب بموجبه مؤشرات الزمن، ولتحديد مختلف هذه المؤشرات تبعا لأزمنتها تقترح Kerbrat Orcchioni
صنافة متميزة لهذه المؤشرات ن حيث توظيفها من أجل توزيع جديد يعتمد وظيفة
المرجع لحظة التلفظ من جهة، وبحسب إجراء المؤشرات القائم على تفسير
التعارض بين الآنيSimultanéité : حيث يبدو استعمال المؤشرات مقترنا
بالحاضر، والمتضمن في الزمنAntériorité : حيث زمن المؤشرات قبليا، وما
يأتي بعد الزمن Postériorité : حيث لم ينقض زمن المؤشرات بعد، أو بالأحرى
تفسير مدى التعارض بين هذه المستويات وما يمثل الحياد في الزمن Neutre 18 لمؤشرات التي يبدو زمنها غير محدد، كونها تتميز عن المؤشرات المحددة بسبب اختلافها وتميزها.
وعلى
غرار ذلك، ثمة أطروحة أخرى لبنفينيست، تعرضت لنقاش جدري من قبل بعض
الباحثين، تلك التي تعنى بفحص إمكانية الحديث عن تلفظ واضح وشفاف Limpide
من صنف المحكيات المحددة بغياب إسهام المتلفظ. وبتعبير أدق، فإنه يستحيل
حسب ديكرو O.Ducrot أن نتقبل فكرة السرد التاريخي من
منظور بنفينيست، وإلا نعتبرها من قبيل الأفق الأسطوري لبعض الخطابات، ذلك
في حدود التسليم بأن كل ملفوظ يفترض مسبقا الشخص الذي تلفظه بالضرورة.
وعندئذ ينشأ المحكي حسب O.Ducrot من تلفظ هجين ومعقد حيث يتم استعراض
ظاهرة الدخيل بين سجلين لسانيين أكثر بروزا في مجالي الدلاليات والتداوليات
اللذين طالما عملا على فسح مجال المؤشرات اللسانية للتعبير عن حضور طرفي
العملية التواصلية (المرسل والمتلقي).
على
الرغم من الانتقادات والنقاشات التي تعرضت لها بعض مقولات نظرية بنفينيست،
إلا أن لهذا الباحث دورا حاسما في رسم الحركية النسقية لتفسير الظواهر
اللسانية قيد الاستعمال والإنجاز وفق رؤية تنطلق من واقع الخبرة التي
قوامها التأمل المحايث للخطاب، إثر معاينة التوظيف الخلاق للغة؛ ذلك من
خلال مغادرة فضاء الجملة واقتحام فضاء الخطاب. وقد سمح العمق المعرفي الذي
حظي به منظور بنفينيست باستقطاب نخبة من الباحثين ولا سيما المشتغلين في
حقل لسانيات التلفظ؛ فراح ثلث منهم يعمل على تعميق فرضيات البحث في مقومات
الفعالية اللغوية عموما ونظرية التلفظ على وجه الخصوص. وفي هذا الصدد،
يؤكد كيليوليCulioli 19 على غرار
بنفينيست، على أن التلفظ هو بناء فضاء مكاني وزماني، ثم توجيه، فتحديد شبكة
من القيم المرجعية وكذا تأسيسها ، أو بالأحرى هو نسق استعلامي Système de
repérage يتحدد بموجبه المتلفظ والمتلفظ المشارك وزمان التلفظ ومكانه.
ومن
ثمة فإن وصف فعالية موضوع ما، تقتضي بالضرورة تشخيص تلك الفعالية بكل
العوامل التي تتحكم فيها، وفي مقدمتها الملفوظات - بوصفها تحقيقا للفعالية
اللغوية - والتي تم بناؤها انطلاقا من نسق القواعد النحوية التي بات
يستهدفها التحليل اللساني. لا شك أن عملية بناء الملفوظات تتم ضمن إطار
المقام التلفظي بين المتلفظ والمتلفظ المشارك ( المتلفظ الممكن) الذين من
خلالهما يتم تبادل فحوى الخطاب. وعليه فإن معنى ملفوظ ما غير قابل للتعريف
في غياب إحالة على مقام معين. ويبدو أن اعتقاد كيليولي الراسخ بمفهوم مقام
التلفظ هو الذي سمح له بفسح المجال للقيم المرجعية (الزمن، الصيغة، التصور،
الكمية) بوصفها بنى معرفية منجزة من قبل الفاعل20.
وفي مقابل المحور الثنائي المتعارض في النظرية التوليدية التحولية عند تشومسكي
(اللسان/الكفاءة، والكلام/الأداء)، يقترح A.Culioli ثنائية (الإنتاج
Production، والتعرف Reconnaissance)، التي تعني الكلية الكونية لإنتاج
النصوص وتأويلها من قبل الفواعل Les sujets. وعلى غرار، مقولتي المتلفظ
والمخاطب يضيف A.Culioli مصطلحا آخر وهو المثبت Asserteur ، وهو الشخص
الذي يشرف – بالمعنى الدقيق للمصطلح – على تحديد معنى الملفوظ؛ إذ يفترض
فعل الإثبات شخصا متلفظا ... فالإثبات في نظر بعض الباحثين أن يوضع القول
محل الصدق أو الكذب، وهو لا يتعلق بإيصال حقيقة معينة، بقدر ما يسهر على
ضمانها؛ ومن ثمة، فإن " جملة الإثبات Ph.assertive على
سبيل المثال، والتي تمثل من حيث هي كذلك، صورة للواقع العلمي، لا يمكنها
أن تكون كاذبة أو صادقة. يجب على الفلسفة أن تتلفظ بجمل لها معان. وتنقسم
هذه الجمل إلى قضايا تركيبية Propositions synthétiques لها قيمة الصدق أو الكذب، وقضايا تحليلية تتوفر على قيمة الصدق دائما "21يربط
الإثبات في الغالب الأعم بالأقوال ذات الصيغ الدالة على الحاضر، وهي صيغ
تحتوي على فعل إنشائي ثلاثي الأبعاد، ومن هنا فإن المتكلم " يحمل المخاطب على الاهتمام بما يقول، كما يفترض مسبقا بأنه مستعد لتمثيل ما هو مصرح به؛ ومن ثم فهو طامع في ثقة الآخر "22
فكل من المتلفظ، والمخاطب، والمثبت ينحدر من العالم الواقعي، ويتميز عن
الفاعل النحوي للملفوظ، على نحو يغدو بموجبه المتلفظ طرفا أساسا، وفاعلا
ينتج أو يتعرف انطلاقا من سعيه لبناء شروط الإنتاج والتعرف على الملفوظات
ضمن مسار العملية التلفظية. أما المخاطب، فهو ذلك الشخص الذي يتكلم، وعلى
نحو أدق، ذلك الذي يشرف على عملية إنتاج الملفوظات فيزيائيا وجغرافيا.
من
اللافت للنظر أن A.Culioli يؤسس منظور أبحاثه حول العلاقات التذاوتية ضمن
استراتيجية اقتراض نظرية وظائف اللغة عند ر.جاكوبسون، ولا سيما الوظيفة
الانفعالية أو التعبيرية، والوظيفة الإفهامية التي تسعى إلى توجيه الخطاب
وجهة المخاطب. وفي هذا الصدد يرى A.Culioli أن العلاقة مرسل/متلقي تتحدد
بين قطبين منخرطين ضمن إجراء تواصلي معين؛ وحيث يسلك المخاطب سبيل دلالة
واضحة ومتميزة، يتعين على المتلقي فك التشفير اللساني، ولا سيما التمييز
بين ما يفترض ذكره مسبقا وبين ما هو مصرح به. وعندئذ يجدر بالمتلقي أن
يقتفي نوايا ومقاصد المتلفظ من أجل اختزال مساحة الغموض والإبهام في
الخطاب.
إن
المتلفظ وهو يقوم بإنتاج ملفوظ ما، يدفع شريكه المتلفظ إلى تأسيس علاقة
مرجعية بين الملفوظ والحدث الذي يحيل عليه في الواقع. وتأسيسا على ما سلف،
فإن تصور الكلام بوصفه نشاطا مزدوجا على النحو لذي حدد به سلفا يرجع إلى " رفض
اعتبار موضوع اللسانيات كلا متجانسا منغلقا على نفسه، وهي رؤية مطردة
نجدها في الحذر التوزيعي الذي يكتفي بدراسة صرفية وتركيبية شديدة النقص كما
نلاحظ في مزاعم بعض النظريات الدلالية أو الفلسفية للكلام وقطعه جذريا عن
الواقع المناسب له، أي نكران كل أضرب الوجود أو على الأقل أهمية هذه
الحقيقة المافوق لسانية23 إنعملية تعديل الأنساق الاستعلامية بين
المتلفظين تتموقع من منظور A.Culioli في عمق كل فعل من أفعال اللغة، وتؤسس
للسانيات التلفظ حيث يمكننا تلخيصها في المصطلحات التالية: الفواعل
المتلفظة، زمن التلفظ، مكان التلفظ، بوصفها أنساقا استعلامية تشرف على
تشحين الملفوظات الممكنة بقيمها المرجعية.
بعد
هذا العرض السريع والمكثف للمقاربة التلفظية، بإمكاننا أن نخلص في الأخير
إلى أن كرونولوجيا البحث في التلفظ قد شهد بشكل متواتر وسريع عدة تعميقات
منهجية ضمن مسار البحث اللساني المعاصر ولاسيما لسانيات الجيل الثاني، وذلك
منذ اختماره فكرة في خلد مؤسسها الأول بنفينيست، من خلال تصعيد اهتمامه
بالإشاريات، مرورا بمفاهيم المضمر والافتراض السابق لدى ديكرو، ومفهوم
الوحدات الذاتية في نظرية اوريكيوني، إلى تجسده وجودا مكتملا مع نظرية
الأنساق الاستعلامية لدى كيليولي. وفي رحاب كل هذه التعميقات المنهجية ظلت
المقاربة التلفظية تراهن على تشكيل القطيعة المنهجية مع اللسانيات المحايثة
التي ركزت اهتمامها على معاينة الملفوظات بوصفها وحدات لسانية نظامية
تجريدية، ذلك من أجل طرح تصور بديل يعرف بلسانيات الخطاب ضمن استراتيجية
دراسة الملفوظات المرتبطة بالشروط السياقية لإنتاجها، أو ما شاع بالتداول
في أدبيات تحليل الخطاب باستراتيجية التسييق.
وعلى
غرار ذلك، ظلت النظرية التلفظية تبحث عن معالم تحدد أطرها المرجعية،
وموضوعاتها ومفاهيمها في علاقتها بالعلوم الأخرى، وذلك لرسم منهجها وتشييد
مقولاتها من خلال ممارساتها الإجرائية التي تمتد على نطاق أوسع ضمن نظرية
تحليل الخطاب. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن النظرية التلفظية ولا
سيما نظرية بنفينيست، تسعى لأن تكون حقلا شارحا لإنتاج الخطاب، ذلك من خلال
رهانها الكبير على تدشين القواعد النظرية اللازمة لتمثل المرجع في تحليل
العلاقة بين العناصر الفعالة في العملية التواصلية. إن الفاعل المتكلم
يتموقع مجددا في عمق الملفوظات، في اللحظة نفسها التي يعاد فيها استثمار
المعطى الاجتماعي ضمن الممارسة الكلامية. وإذ ذاك، فإن المحلل اللساني
يهتدي إلى مفهوم التلفظ المقترح إما من أجل تفسير التحول الذي يطرأ على
الفاعل في الملفوظات، وإما من أجل تفسير علاقة المتكلم بالمخاطب في الخطاب،
أو تعليل موقف الفاعل بالنظر إلى ملفوظه بهدف تعليل مدى مشروعية العلاقات
التي تتأسس بين المتلفظ والمتلفظ له.
3- لسانيات النص ومشروع التحول الابستمولوجي:
على
الرغم من كل ذلك، يرى بعض الباحثين بأن بنفينيست ما فتىء يسير في اتجاه
المقاربة السوسورية للجملة التي شهدت طرحا اختزاليا ضمن لسانيات الكلام.
ومن هذا المنطلق، يبدو منظور بنفينيست قريبا من منظور سوسير، من حيث إن
الأول انفرد عن نظيره بمحاولة تأسيسه لتقسيم أساس ضمن اللسان يختلف تماما
عن ذلك الذي اقترحه سوسير بين اللسان والكلام؛ إذ يتعين علينا التمييز في
لسانيات التلفظ بين المجال السيميائي والمجال الدلالي، أي التمييز بين
سيميائيات التلفظ Sémiotique de l’énonciation، ودلاليات التلفظ Sémantique
de l’énonciation 24في هذا الصدد تبدو رؤية بنفينيست
واضحة من حيث ضرورة التمييز بين لسانيات النظام اللساني بوصفه نسقا
سيميائيا حيث يكون اشتغال اللسان بصفة محورية استبدالية انطلاقا من وحدته
الأساس وهي العلامة اللسانية؛ وبين لسانيات الخطاب أو الدلاليات التي ترسم
إجراءات التواصل، وحيث تكون الوحدة الأساس للتحليل اللساني هي الجملة
بالمفهوم الوظيفي؛ ولعل هذا ما حذا ببنفينيست أن يعبر عن هذا المنظور
بسيميولوجيا الجيل الثاني Sémiologie de deuxième génération .24
وخلاصة القول ينبغي " تجاوز
التصور السوسوري للعلامة كمبدأ أساس، حيث ترتبط البنية والوظيفة على
السواء باللسان. ولا شك أن هذا التجاوز يتم عبر مسلكين: الأول في مستوى
التحليل داخل اللسان، من خلال الانفتاح على بعد جديد من أبعاد التدليل،
يتعلق بالخطاب، وهو الذي نصطلح عليه بالدلاليات، يتميز مبدئيا عن ذلك الذي
ارتبط بالعلامة من حيث كونه نسقا سيميائيا. والثاني في مستوى التحليل عبر
اللساني للنصوص والأعمال الإبداعية من خلال بلورة دلاليات واصفة تتأسس في
غضون دلاليات التلفظ؛ مما سيشكل سيميولوجيا الجيل الثاني، حيث يتسنى
لأدواتها ومنهجها مسايرة ركب تطور الفروع الأخرى للسيميولوجيا العامة .25 من
هذا الإطار،تأسس منظور البحث في لسانيات التلفظ جسر العبور بين لسانيات
الجيل الأول (التحليل داخل اللسان)، ولسانيات الجيل الثالث (التحليل عبر
اللساني /التداوليات).
لا
شك أن الفحوص الأولى للمفاهيم الإجرائية بالاعتماد على الجهاز الصوري
للتلفظ، كان بمثابة وضع اللمسات الأخيرة للسانيات التلفظ نحو منظور جديد
للتفكير السيمولوجي عند سوسير. ومع ذلك لم يكن في وسع بنفينيست أن يفتح
مجال التحليل داخل اللسان Intralinguistique على دلالات التلفظ؛ وعليه يمكن
القول إن نظرية التلفظ قد حددت موضوع بحثها سلفا، والمتمثل في إنتاج
الملفوظات لا في نص الملفوظ، هذا الأخير الذي سيصبح موضوع دراسة لفرع ثالث
من فروع البحث اللساني. وبالمقابل يختزل الخطاب في نظام الجملة بوصفها وحدة
أساس لفرع آخر من فروع اللسانيات. ضمن هذا الإطار يسعى بنفينيست إلى تقسيم
الحقل العام للسانيات إلى ثلاثة مجالات حيث تحتل لسانيات التلفظ مركز
الصدارة ضمن هذا التقسيم. بإمكاننا أن نمثل هذا التصور بالخطاطة التالية:
يوضح
لنا هذا المخطط البياني العلاقة التقابلية بين مجالين مختلفين ضمن الحقل
العام للتحليل اللساني هما: سيميولوجيا اللسان/السيميولوجيا، والتدليل
الواصف للنصوص والأعمال الإبداعية/الدلاليات الواصفة أو الإيحائية، على أن
تظل هذه العلاقة ذات التباعد الابستمولوجي Discontinuité بحاجة ماسة إلى
حقل وسيط من شأنه أن يزيل هذا التباعد، ويسعى إلى تحقيق الانسجام والترابط
بين مجالي البحث اللساني، ألا وهما: حقل سيميولوجيا التلفظ، وتدليل
الخطاب/الدلاليات، وعندئذ تتحدد العلاقة التكاملية في البحث اللساني وفق
المعادلة التالية:
الحقل العام للسانيات = التحليل داخل اللسان + التحليل عبر اللساني.
يبدو
أن لسانيات الخطاب بالاعتماد على دعامة لسانيات التلفظ، بإمكانها أن تنفتح
– من جهة - على مجال أوسع ممثلا في التحليل عبر اللساني للنصوص Analyse
translinguistique des textes، ومن جهة ثانية على التحليل عبر اللساني
للأعمال الإبداعية Analyse translinguistique des oeuvresبوصفها إنتاجات
أدبية للغة انطلاقا من التسليم بمركزية اهتمام اللسانيات بدراسة اللغة
الشعرية منذ سنة 1968، من مثل تلك التي أنجزها كل من بارث 1966،
وج.كريستيفا 1969. إلا أن اعتراض بنفينيست ظل قائما على محدودية هذا
الانفتاح بحجة أن معظم الممارسات التي قدمت في هذا المجال ظلت وفية بشكل من
الأشكال للمقولات الموظفة في تحليل اللغة العادية، ومن ثم صعوبة التعامل
مع اللغة الشعرية بمنطق تحليل اللغة العادية. وعلى هذا الأساس يقترح
بنفينيست وضح جهاز مفاهيمي جديد يمكن اعتماده في التحليل عبر اللساني
للنصوص، مع ضرورة اعتماد استراتيجية تعمل على تجاوز مقولات اللسان إلى
المقولات النصية.
من
المؤكد أن حقل لسانيات النص الذي يعمل على تصعيد رؤيته المنهجية في دراسة
اللغة باطراد، ظل يشير إلى تحول ابستيمولوجي مميز من الاتجاه القالبي إلى
الاتجاه التفاعلي. حيث إن الانشغال السابق بالصور المجردة للجمل التوضيحية
المنعزلة عن السياق التواصلي للنصوص، سرعان ما تحول إلى اهتمام مستجد بحدوث
التجليات العادية للغات الطبيعية من خلال النصوص26. ومهما اشتملت وقائع
استعمال اللغة على تركيب سطحي من كلمات أو جمل وتراكيب، فإنها تقع - دون
أدنى شك – في نطاق نصوص، أو بالأحرى ضمن أشكال لغوية ذات معان تواصلية. وفي
رحاب هذا التحول اتجه رهان البحث اللساني حول إجراءات الاستعمال لنماذج
اللغة التواصلية، أي الأنساق اللسانية الموجودة بالفعل بدلا من التركيز على
معاينة الأنساق اللسانية المجردة الموجودة بالقوة في أذهان المتخاطبين.
ومن ثمة، أضحت الحدود التقليدية الضيقة للسانيات تتلاشى أمام انفتاحها على
العلوم الإنسانية والدقيقة على حد سواء، من مثل علم النفس وعلم الاجتماع
والفلسفة والإعلام الآلي والسيبرنيطيقا وغيرها.
لا
شك أن التعميقات المنهجية التي شهدتها اللسانيات في هذه المرحلة مكنتها من
إعادة التشييد الابستيمولوجي لجهازها المفاهيمي، والعمل على تطويعه وفق
حركية الممارسات اللغوية في التواصل النصي، ولا أدل على ذلك من مفهوم
النظام الذي طالما استقر في أبحاث اللسانيين بكيفيات مختلفة مع كل من:
سوسير، وبنفينيست، وفيرث، وهاليداي، وكلارك، وفاندايك...وغيرهم؛ حيث شهد
هذا المفهوم نقلة ابستيمية من مجال النسق التجريدي إلى مجال السياق
السوسيوثقافي؛ وفي هذا الصدد، بات ينظر للغة على أنها اهتمامات معرفية تدور
حول حركية كائن معين من مثل الضبط، والتعرف Identification، والتعميم
Généralisation، والوصف Description، والتفسير Explication، والتوقع
Prediction، وإعادة البناء Reconstruction. 27
تجدر
الإشارة، إلى أن اللسانيات في المراحل الأخيرة حاولت أن تتجاوز النظرة
التجزيئية لمستويات أبحاثها وصفا وتحليلا، من مثل المستوى الصوتي،
والدلالي، والنحوي؛ على أن يتم استنباط هذه المستويات وتنظيمها بوصفها
مجالا متكاملا للبحث. وعندئذ لم يعد لمجالي النحو والدلالة ذلك الطابع
الاستقلالي الذي طالما حظيا به في معالجة اللغات المنطقية الصورية؛ بل
اقتضت الضرورة الابستيمولوجية في معالجة اللغات الطبيعية قيد الاستعمال
(العادية) تنظيم كل المستويات اللسانية في شكل نظام متشابك تتوقف صلاحيته
على تكافل الأنظمة المكونة، ولا سيما النحو والدلالة؛ وذلك وفق ضوابط
داخلية (الروابط ومراتب المعنى)، وضوابط خارجية (الأغراض النفعية) تعمل على
تنظيم تكافل ذلك النظام مع أنظمة أخرى. ومن المؤكد أن الضوابط الخارجية
نحو تلك المتعلقة بالسياق والأغراض النفعية للكلم ستحظى باهتمام بالغ إذا
ما ألحقت بحقل التداوليات الذي يؤسس للمعنى في الاستعمال؛ وهو بذلك يعد
مجالا خصبا للنشاط المعرفي والإنساني ولا سيما في حقل تخطيط النصوص بوصفها
مطايا لأفعال لغوية ذات مقاصد وغايات.
يبدو
أن مسألة تنازع النحو والدلالة ضمن أبحاث لسانيات الجيل الثاني، ظلت -
بحال من الأحوال – تعكس منطقة تنازع اللغة والخطاب في التراث اللغوي
العربي، وعلى نحو أدق، تنازع المنطق والنحو، وهو المجال الذي لم لم يبلغ
النحاة والمناطقة الأوائل التفاوض الإيجابي حوله، " وما زالت أصداء
مناظرة السيرافي العالم النحوي الكبير ومتى بن يونس شيخ المناطقة في عصره
تتردد في أرجاء هذه المنطقة من تنازع اللغة والخطاب. لقد خرج السيرافي من
مناظرة متى مقتنعا بأنه حسم الأمر لصالح النحو، معتبرا المنطق مجرد نحو
للغة أمة اليونان، في حين خرج متى مقتنعا بأن النحوي عاجز عن إدراك البعد
الكوني للمنطق. لقد تغيرت الظروف وتكشفت شيئا فشيئا منطقة تداخل صالحة
لتعايش المنطق والنحو، هذه المنطقة هي التي سميت علم المعاني والبيان
".28 ولما كان مشروع السكاكي (علم الأدب) أول محاولة لخلق منطقة التعايش
الحميمي بين المنطق والنحو، حق لنا أن نقول: إن هذا المشروع البلاغي الرائد
يمثل تصورا مبكرا للبلاغة الجديدة أو لسانيات النص هذه الأخيرة التي حاولت
أن تنقذ البلاغة من مأزق الرؤية الاختزالية في صف الآداب الجميلة طورا،
ومن إنزلاق موضوع بحثها طورا آخر.
مراجع البحث
- ينظر إبراهيم خليل، في اللسانيات ونحو النص، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة الأردن ط1 2007 ص 185.
- لا مندوحة أن تأخذ بعين الاعتبار نظرية الربط العاملي في اللسانيات التوليدية والتحويلية بوصفها مثالا عن جسر العبور المنهجي بين نحو الجملة ونحو النص، إذ عمل كثير من الباحثين في هذا الإطار النظري على ولوج النص من خلال المبادئ التي قامت عليها تلك النظرية من مثل مفهوم العمل والربط في النحو العلائقي، بالإضافة إلى الدراسات المتعلقة بالإحالة Anaphore في مختلف وجوهها.
- ينظر الأزهر زناد، نسيج النص المرجع السابق ص ص 18/19.
- انطلقت أصداء هذه النظرية من إسهامات نخبة من الباحثين الغربيين في هولندا بزعامة سيمون دايك، ثم اتشرت في ما بعد بفضل التواصل والاغتناء المعرفيين لتشمل مختلف أنحاء العالم. أما في العالم العربي يبدو أن المغرب يحتل صدارة الدول العربية التي احتضنت المنحى الوظيفي في الأبحاث اللسانية تنظيرا وتطبيقا وذلك بزعامة نخبة من الباحثين المغربيين أبرزهم د.أحمد المتوكل.
- ينظر أحمد المتوكل، الوظيفية بين الكلية والنمطية، منشورات دار الأمان الرباط/المغرب ط1 2003 ص 15.
- ينظر إبراهيم خليل المرجع السابق ص 185.
- جان سيرفوني، الملفوظية ترجمة قاسم المقداد، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق/ سورية 1998 ص 17.
- على وزن الصيغة الاشتقاقية العربية "فعلل " التي تفيد دلالة التحويل والتفعيل ، وتعني في هذا المقام تمكين التحليل اللساني من استراتجية جديدة.
- http://manifest.univ-ouargla.dz/index.php/seminaires/archive/facult%C3%A9-des-lettres-et-des-langues/29-%D8%A7%D9%84%D9.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق