اللغة
العربية
وجدلية
الانحسار والانتشار
إعداد
الأستاذ
المساعد الدكتور أحمد هاشم السامرائي
جامعة
تكريت ـ كلية التربية / سامراء ـ قسم اللغة العربية
المقدمة
تعد
مسألتا الانتشار والانحسار من المسائل المهمة التي تتعرض لها اللغات العالمية ، لما
تواجهه من تحديات داخلية وخارجية ، فممَّا لا شكَّ فيه أن اللغة كائن حيٌّ ، فهي تمر
بعصور وأدوار أشبه ما تكون بأدوار الكائن الحي ، ومن ضمنها الاتساع والاختصار ، ولكن
يتوقف حجمهما على قوة اللغة وتمكنها في متكلميها ، فإذا ضعفت في نفوسهم واستهانوا بالدفاع
عنها صارت عرضة للانحسار ثم الانقراض بعد ذلك ، وهذا حال كثير من اللغات ، والعكس صحيح
، فإذا قويت في نفوسهم وتكاتفوا للدفاع عنها ، فضلاً عن العناية بها وبدراساتها صمدت
أمام موجات الانحسار ، وصارعت اللغات الأخرى ، بل احتلت مكان غيرها في الشعوب الأخرى
.
تخضع
هاتان المسألتان لظروف حددها علم اللغة الحديث ، من خلال دراسة اللغة الأم ولهجاتها
، فهي بين تولُّد وتجمُّع ، وكانت اللغة العربية من بين هذه اللغات ، ولأهمية دراسة
مثل هذه الموضوعات في رفد دراسات أصول اللغة وعلومها بنظريات يمكن اعتمادها علاجًا
لما يصيب لغتنا العربية في العصر الحديث ، عصر التكنولوجيا والتقدم العلمي ، عقدت العزم
على دراسة هذا الموضوع ، وتقديمه إلى المجلس العالمي لإفادتي من خبرة أعضائه وخبرائه
المعتمدين ، فوسمت البحث بـ
اللغة
العربية وجدلية الانتشار والانحسار
فالعناية
بدراسة مستقبل اللغة العربية في زمن المتغيرات الحاصلة والظروف الحالية ، واستنادًا
إلى خلاصة التاريخ القريب ، ظاهرة تعبّر عن درجة عالية من التطور في فهم مقتضيات الحاضر
ومتطلبات المستقبل ، وهو توجه سليم يؤدي إلى نتائج إيجابية تدعم خدمة لغتنا ، بل هي
ضرورة من ضرورات الرقي الحضاري .
اقتضت
طبيعة البحث أن يكون مقسمًا على تمهيد وقسمين وخاتمة ، وعلى النحو الآتي :
التمهيد
: تناولت فيه مسألة الانحسار والانتشار في اللغات العالمية ، وركزت على : الانتشار
اللغوي والحضارة ، والتأثر والتأثير اللغوي .
القسم
الأول : تناولت فيه ( الانتشار في اللغة العربية ) من ناحية : اللغة العربية ولهجاتها
، وأسباب الانتشار ، واللغة العربية والواقع العربي الحديث .
القسم
الثاني : تناولت فيه ( الانحسار في اللغة العربية ) من ناحية : عوامل الانحسار ، واللغة العربية ولهجاتها .
الخاتمة
: ذكرت فيها أهم النتائج والتوصيات التي خرجت بها من هذا البحث .
تكمن
أهمية البحث في مثل هذه الموضوعات بما تقدمه من كشف لخفايا أمور تهمُّ اللغة وتاريخها
، وفي مثل هذه الدراسة نجد أنَّ اللغة ، وبحسب تاريخها الطويل ، تواجه بين أوان وآخر
تيارين متضادَّين ، هما : الانتشار والانحسار ، فتارة تنتشر حتى تصبح لغة سائدة في
أرجاء واسعة من الأرض ، وتارة أخرى تنحسر حتى لا نكاد نسمع الفصحى إلاَّ في المحاضرات
الرسمية ، وبطريقة مشوهة في أكثرها .
وفي
الختام أدعو الله العلي القدير أن يوفقني في عملي هذا ، وأن يلهمه القبول في مشاركته
، وأن يوفِّق العاملين على المؤتمر لما يحبه ويرضاه .
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الباحث
التمهيد
الانحسار
والانتشار في اللغات العالمية
إن
اللغة كائن حي ، ويعتري هذه اللغة ما يعتري الأحياء ، من غنى وفقر ومن سعة وضيق ومن
انتشار أو انحسار ، ومن تجمع وتفرق ، ومن عزة وذلة ، ومن حياة وموت( ) .
تعدُّ
شكوى الانحسار اللغوي من المشاكل المهمة التي تجتاح العالم ، فقد نجدها من قلب أوروبا
نفسها ، ولاسيما فرنسا ، ففي (( المجتمعات الأوربية الراقية يدور حديث المثقفين بلغة
هي الفصحى في أصواتها وصرفها ومعجمها ، وإن كانت أبسط [ كذا ] منها في نحوها ، ويحاول
كل مثقف الارتفاع عن اللون المحلي في لهجته ، ليتوسل في حديثه باللغة الفصحى ))( ) .
غير
أن ذلك لم يعن بطبيعة الحال غياب القلق على وضع اللغة العربية ، لا أظن اللغة العربية
مهددة بالانقراض ، لكنها تعيش انحسارًا لا يحتاج إلى بينات كثيرة ، بينات تشهد بها
المفردات المنتشرة ولوحات الإعلانات وأسماء المحلات ولغة الإنترنت ، بل مفردة الإنترنت
نفسها ، ضمن ما لا يحصى من الشواهد .
ومما
لا يخفى على كلِّ دارس العلاقة الوثيقة بين المجتمع ولغته ، فكلُّ (( اللغات تنتشر
في المجتمعات اللغوية التي تتحدث بها ، وأنَّ اللغة ، بعد أن يتعلمها المتحدث ، تصبح
عملية تلقائية لا شعورية ، وأنَّ لكلِّ لغة من اللغات مناطق جغرافية تنتشر فيها وطبقات
اجتماعية تتحدث بها ))( ) .
الانتشار
اللغوي والحضارة
تتأثر
اللغة بحضارة أمتها ، من حيث نظمها وتقاليدها واتجاهاتها العقلية ودرجة ثقافتها وشؤونها
الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، فيبحث كل تطور في ناحية من هذه النواحي ، فاللغات
أصدق سجل لتاريخ الشعوب .
وكلما
اتسعت حضارة أمة ، نهضت لغتها وسمت أساليبها ، وتعددت فيها فنون القول، ودخلت فيها
ألفاظ جديدة عن طريق الوضع ، والاشتقاق والاقتباس أو الاقتراض للتعبير عن المسميات
والأفكار الجديدة ، فتحيا هذه اللغة وتتطور عبر الزمن وتصبح أكثر مناعة وصلابة ضد أي
صراع لغوي مع اللغات الأخرى .
ومن
الواجب في هذا الموضع أن نعرف أنَّ الاهتمام بالتخطيط للمستقبل اللغوي لأيِّ أمة من
الأمم يعكس مستوى راقيًا من الوعي بمتطلبات التغيير والتجديد اللغوي ، مع إعادة البناء
على أسس ثابتة وراسخة ، وبهذا يعبّر التفكير في استشراف آفاق المستقبل اللغوي واستطلاع
آماده ، عن نضج عقليّ لدى الدارسين ، فتتبلور إرادة ذاتية في الانتقال من طور لغوي
إلى طور آخر على مستويين يتمثلان بالخاص والعام ، وينحوان نحو بناء الذات وترسيخ الكيان
، وتقوية القدرات اللغوية الكامنة في النفس والمجتمع .
التأثر
والتأثير اللغوي
ويرى
فندريس أن تطور اللغة مستمر في معزل عن كل تأثير خارجي ، يعد أمرا مثاليا لا يكاد يتحقق
في أية لغة ، بل على العكس من ذلك ، فإن الأثر الذي يقع على لغة ما من لغات مجاورة
لها ، كثيرا ما يؤدي دورا هاما في التطور اللغوي ، ذلك لأن احتكاك اللغات ضرورة تاريخية
، واحتكاكها يؤدي حتما إلى تداخلها( ) .
لا
أحد منا ينكر أن اللغات تتداخل وتتلاقح كلما اتصلت إحداها بالأخرى بصورة مباشرة أو
غير مباشرة ، وأن أية لغة من اللغات في العالم كما تؤثر في غيرها ، فإنها أيضًا تتأثر
، وإنه (( من المتعذر أن تضل لغة بمأمن من الاحتكاك كلغة أخرى ))( ) .
القسم
الأول
الانتشار
في اللغة العربية
اعتنى
المسلمون باللغة العربية وانكب العلماء على تسهيلها وتيسيرها ، فوضعوا المعاجم التي
تفسر معاني مفرداتها ، وقعَّدوا القواعد التي تبين معنى الجملة العربية ، وطريقة تركيبها
والتعبير الفصيح والصحيح فيها ، وفعل البلاغيون الشيء ذاته ، إذ بيَّنوا الفرق بين
الأسلوبين الجميل وغير الجميل ، فتوالت العلوم المختلفة ، من نظرية وعملية ، وتكلم
المسلمون جميعًا بالعربية ، ويكتبون ويؤلفون بها ، وانتشرت اللغة العربية في كل مكان
سطعت عليه شمس ، فقد قال الأب أنستاس الكرملي (( إنَّ لسان العرب فوق كلِّ لسان ، ولا
تُدَانيها لسان أخرى من ألسنة العالم جمالاً ، ولا تركيبًا ، ولا أصولاً ))( ) .
وتفتح
كتب التراجم فترى آلاف الأسماء من العلماء الذين من غير العرب في جذورهم ، ولكنهم كانوا مسلمين في عقيدتهم ، وقد
خلَّفوا لنا تراثًا ضخمًا رائعًا وخالدًا في شتى العلوم والفنون باللغة العربية ، ولعلَّ
ما رواه الجاحظ عن موسى بن سيَّار الأسواري
(( وكان من أعاجيب الدنيا ، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية ،
وكان يجلس في مجلسه المشهور به ، فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره ، فيقرأ الآية
من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية ، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية
، فلا يدري بأي لسان هو أبين ))( ) .
ويكفي
اللغة العربية فخرًا أنها لغة القرآن الكريم وحديث رسوله الحبيب ، ولغة هذه الأمة التي
لم يعرف التاريخ عنها إلا الخير والحب والنور ورائع الحضارة ونفع بني البشر ، فإذا
(( تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف
والرقة ما يملك على جانب الفكر ، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر ))( ) .
يعدُّ
التفكير في مستقبل اللغة العربية من المسائل المهمة التي تواجه الدارسين ، فضلاً عمَّا
تقدمه من خدمة للفكر العربي الإسلامي المعاصر ، ولها صلة وثيقة بسيادة الأمة العربية
الإسلامية على ثقافتها وفكرها ، فهذه ليست مجرد قضية لغوية وأدبية وثقافية ، لأنَّ
مستقبل اللغة العربية بالمعنى السياسي والسيادي والجغرافي العام مسألة سيادية ، فحياة
الأمم في حياة لغاتها وقوتها وازدهارها ، فإذا ماتت اللغة أو ضعفت أو انهارت ضاعت الأمة
ضياعًا لا يُبقي لها أثرًا في الحياة .
اللغة
العربية ولهجاتها
تربط
اللهجات باللغة الأم بمجموعة من الروابط الوثيقة ، فتنشأ هذه الروابط منذ ولادة اللهجات
وقيامها بالدور اللغوي ، سواء أكان دور هذه اللهجات بارزًا في رفد اللغة بالألفاظ والأساليب
، أم هامشيًّا ؟
ليس
من السهولة تحديد الحقبة التي تنشا فيها اللهجة( ) ، لأنَّها تمرُّ بمراحل حتَّى تختص
بالسمات التي تميزها من اللهجات الأخرى من جهة ، ومن اللغة الأم من جهة أخرى . ولعلَّ
من أهم هذه المراحل ( مرحلة التطوُّر ) ، وهي بلا شكٍّ مرحلة يحدد قدمها بقدم اللغة
، فلا يمكن تحديد مراحل نشأة اللهجات العربية إلا بعد تحديد مرحلة نشوء اللغة العربية
، وهذا أمر ليس بالسهل ، ولاسيَّما أنَّنا نفتقد النصوص التاريخية التي تحدد هذه المرحلة
، فما وصلنا من نصوص تمثل مرحلة الازدهار ، أو مرحلة النضج ، وهي مرحلة الإبداع الأدبي
للغة( ).
لذلك
أرى أن مسألة ولادة اللهجات وتكونها مهمة لانتشار اللغة ، وأُجمل أسباب تكونها بما
يأتي :
1.
الاتصال البشري :
يعدُّ
الاتصال البشري من أهم أسباب ظهور اللهجات ، فالإنسان بحاجة إلى إنسان آخر لقضاء متطلبات
حياته ، فيكون اتصالهما مباشرًا ، ويؤدِّي هذا الاتصال إلى ظهور ألفاظ لم تكن معهودة
في كلامهم ، لسدِّ الحاجة التي يرونها قائمة في وقت الاتصال ، سواء أكان المتصلان من
لغة واحدة أم من لغتين مختلفتين ، وكما يجري هذا الحكم على اتصال الأفراد ، يجري على
اتصال الجماعات .
ولعل
حالات الحروب التي تمرُّ بها الشعوب أقرب وسيلة هذا الاتصال ، فالمنتصر وسيطرته وسطوته
، وما يقابله من ضعف المنهزم وخضوعه ، وجهان يوضِّحان سيطرة اللغات وسيادتها ، وأوضح
دليل عليه الفتوحات الإسلامية ، وسيادة العرب على الأمم الأخرى ، فضلاً عن سيادة لغتهم ، التي هي لغة رسالتهم
إلى العالمين ، وقيام عملية التقارض اللغوي بينهم ( ) .
2.
اختلاف البيئات البشرية :
أعطى
جماعة من المحدثين أهمية كبيرة لهذا العامل في نشوء اللهجات ، وتحدد أهميته بطول المدَّة
التي يقضيها الإنسان في الظرف الجغرافي الواحد( ) ، وذهب دي سوسير إلى أنَّ العامل
الجغرافي وتنوعه أوَّل مسألة لحظها علم اللغة في اختلاف اللهجات واللغات( ) ، لأنَّ الواقع الأرضي لسكن المجتمعات
البشرية يؤثر في واقع المفردات اللغوية ، إذ تختلف ألفاظ القاطنين بالمناطق الجبلية
عن ألفاظ القاطنين بالمناطق الصحراوية ، أو السهلية ، أو البحرية ، لذلك نجد تأثير
البيئات الجغرافية في ولادة اللهجات واضحًا .
وممَّا
يؤيده ما نجده في اللغة العربية ، فألفاظ العربي البدوي تختلف عن ألفاظ العربي الحضري
، لأنَّ تأثير البداوة واضح في النطق ، ولاسيَّما في الأصوات ، إذ يميل البدوي إلى
الأصوات الشديدة ، كما نراه في ( العجعجة ) و( الكشكشة ) وغيرها .
3.
تنوع الظروف الاجتماعية :
لا
بدَّ للغة من الاتصال الوثيق بالمجتمع ، لعدم تحقق أحدهما من غير الآخر ، فلا نجد لغة
بلا مجتمع ، ولا مجتمعًا بلا لغةٍ ، ولهذا الارتباط تُولَد اللهجات بتأثير الطبقات
المختلفة للمجتمع ، فمنها العامية وما دونها ، والفصيحة وما علت ، وما بين العامية
والفصيحة ، فضلاً عن وجود الطبقات الصناعية والتجارية والزراعية وغيرها ، ولكل طبقة
لهجة خاصة بها( ) .
وفي
ظل هذه الأمور رأى بعض المحدثين أنَّ القيود والقواعد التي يضعها المتكلمون للغتهم
هي أحد أسباب ولادة اللهجات( ) .
ونستنتج
من هذا كلِّه (( أن اللهجات العامية لا ينبغي أن يرخى لها العنان ، لتبتعد بالمجتمع
والناس عن لغتهم التراثية والمتجددة في آنٍ معًا ، ولا أن نحارب منطق القمع الذي يتنافى
مع منطق التاريخ ، وإنَّما يكون سعي رجالات الفكر والثقافة والتربية في تضييق الهوة
الفاصلة بين اللغتين ، لصالح لغة وسط لا تطمس الفصحى ولا تباعدُ ما بينها وبين قوانينها
، ولا تحدُّ من قانون التجدد اللغوي ، الذي يعبّر عنه باللهجات العامية أحيانًا ، أو
بالتطور الذاتي للهجة الرسمية ( اللغة الفصحى ) ))( ) .
هذه
هي أهم العوامل التي تؤدي إلى ولادة اللهجات ، لتُكوِّنَ مع لغتهم شيئًا محسوسًا ،
فهي مجموعة من الجزئيات والتراكيب ، فكل جزء من هذا المحسوس يدلُّ على شيء من العام
، فأعطت الدلالة للهجات مكانة بارزة في الدراسات اللغوية ، حتى (( كان للمعنيين بهذا
الموضوع من الفرنجة نظرتهم العامة إلى اللهجات ، إذ يرون أنَّ لهذه اللهجات ، على اختلافها
وتشعبها ، حياتها واستقلالها ، وهم ينكرون قول من يقول : إنّ اللهجات العامية أو المحكية
لغة حادثة مشوهة عن الفصحى مثلاً ، وقد توسَّعوا في هذه الناحية ، حتَّى ذهبوا إلى
تأسيس علم جديد سُمِّي ( علم اللهجات ) ، وموضوعه : وصف اللهجات ، وتعريفها ، وصلتها
بأمِّها التي انشقت عنها ))( ) .
أسباب
الانتشار :
من
دراسة متعمقة لواقع اللغة العربية قديمًا وحديثًا ، رصدت مجموعة من الأسباب التي أدَّت
إلى انتشارها وذيوعها عبر العصور ، غير ناسين أنَّ واقعها في العصر الحديث يختلف عن
واقعها في قديمًا ، وهو ما يسمَّى بعصر الازدهار الإسلامي ، بسبب ما آلت إليه الأمة
الإسلامية ، ولكي يقف القارئ على أسباب الانتشار ، ويحاول أعادتها ، لإعادة مجد اللغة
، أوردها تباعًا ، وهي :
1. شيوعها :
بقيت
العربية سائدة في العالم لقرون عديدة ، حتى أصبحت لغة العلم والثقافة والتأليف والترجمة
وغيرها ، فكانت ثمرة من ثمرات الحضارة العربية الإسلامية ، وفي عرس دائم في تلك القرون
، فأصبحت لغة الشرق والغرب ، لغة العلماء والشعراء والكتاب ، وذوي الخيالات المجنحة
والمبدعين في أيِّ مجال من مجالات الحياة ، فبعد الفتوحات الإسلامية (( نقلت اللغة العربية من مجالها البدوي المحدود
في شمال [ كذا ] الجزيرة العربية ، لتصبح بمضي الوقت أهم لغات الحضارة في العصور الوسطى
))( ) .
ومع
كل هذا رغب الكثير من غير العرب بدراستها ، ومنهم البابا بيوس الثاني عشر، الذي رحل
إلى الأندلس ، وأقام فيها حقبة من الزمن بغية تعلم اللغة العربية ، والإفادة من كتب
المسلمين .
2. التأليف فيها :
لم
يقتصر التأليف بهذه اللغة على الكتب الإسلامية ، وإنَّما تعدتها إلى العلوم كافة ،
فأصبحت بعد مدَّة وجيزة من نزول القرآن الكريم لغة العلوم العقلية كـ ( الطب ، والكيمياء
، والفلك ، والطبيعة ) وغيرها ، مثلما هي لغة العلوم النقلية كـ ( الفقه ، والتفسير
، والكلام ، والأدب ) ، بل غدت لغة العلم الأولى التي لا تضاهيها لغة في القرون الوسطى
، وخلَّفت آثارًا تشهد بعبقرية علماء المسلمين على مرِّ العصور ، فألف بها : الخوارزمي
، والرازي ، وابن سينا ، والزهراوي ، وابن البيطار وغيرهم من غير العرب ، فكانت هذه
الكتب سائدة في العالم ، وتدرس في معظم جامعات الغرب قرونًا عديدة ، ولا يزال كثير
منها يدرس إلى يومنا هذا ، وسيظل يدرس طوال الدهر ، وعلى مدى بقاء اللغة العربية في
هذه الدنيا( ) .
3. دقة قواعدها وغزارة ألفاظها :
زاد
اللغة العربية جمالاً أن قواعدها تميزت بالدقة ، ومفرداتِها بالغزارة ، ومناهجَها بالخِصب
والتنوع والقدرة على التوليد والاشتقاق والتجديد ، وصدرَها بالسعة والقدرة على النقل
والتعريب والتصوير ، وأسلوبَها بالجمال والبلاغة وحسن العبير ، فقد (( تكفلت القواعد
التي وضعها النحاة العرب في جهد لا يعرف الكلل ، وتضحية جديرة بالإعجاب ، بعرض اللغة
الفصحى وتصويرها في جميع مظاهرها ، من ناحية الأصوات ، والصيغ ، وتركيب الجمل ، ومعاني
المفردات على صورة محيطة شاملة ، بحيث بلغت القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال
لا يسمح بزيادة لمستزيد ))( ) .
4. عولمتها :
كانت
اللغة العربية في تلك الأيام في سعتها وانتشارها في أرجاء العالم ، تشبه عولمة اللغة
الإنكليزية اليوم من حيث الانتشار والتسابق إلى تعلمها ، فإلى (( جانب النشاط الأدبي
في الدوائر العربية عرفت الجماعات الأخرى أفرادًا كثيرين دفعهم نزوعهم الفني إلى تعلم
العربية ، لكي ينظموا بها شعرًا يفيدهم في حياتهم الشخصية ويرفع مكانتهم في المجتمع
))( ).
ولكن
على الرغم من هذه العولمة ، إلاَّ أنَّ اللغة العربية لم تتجاوز حدودها اللغوية ، وآفاقها
الحضارية ، ولم تحمل نزعة الشر والأذى والسيطرة الاقتصادية والعسكرية ، والسياسية ،
والإنسانية لمخلوق ، كما تحمله عولمة هذه الأيام .
اللغة
العربية والواقع العربي الحديث
حظيت
اللغة العربية في القرن العشرين بانتشارٍ مقروءٍ ومسموعٍ ومنظورٍ غير مسبوقٍ في التاريخ
، وقد سَاعَدَ هذا الانتشار في إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات ، ففي الوقت الذي
كانت القوى الغربية تشنُّ هجومًا على اللغة العربية (( كان حال اللغة الفصحى في المدارس
والصحف والنوادي من القوة بحيث لم تكتف بردِّ الهجمات ، بل زادت إلى ذلك نموًّا في
قوتها وانتشارها وتمكنها في النفوس تمكنًا ما يزال يقوى على الرغم من التشكيك والعراقيل
والمكايد والأحابيل ))( ) .
فضلاً
عن العناية الفائقة بمسائلها ، من خلال التأليف والترجمة والتحقيق ، فظهرت كتب التراث
، حتى صارت في متناول الدارسين والقرَّاء ، وفي خضم معركة التسابق بين اللغة العربية
وخصومها ، نجد أن أبناءها بدؤوا يطورون وسائل الانتشار يومًا بعد يوم ، فظهرت عدَّة
وسائل ، ومنها :
1. الصحافة : تعدُّ الصحافة وسيلة مهمة من وسائل
النشر الثقافي والعلمي ، فضلاً عن أنَّه وسيلة من وسائل الهدم العلمي والأخلاقي ، وقد
كانت في أول عهدها مدارسَ شعبية للغة العربية من خلال كتابات الأدباء والمثقفين فيها
، ويمكن أن نعدَّها الموجِّه الهادف للطبقة الشابة والمثقفة في ذلك الوقت ، والمتطلع
إلى أي صحيفة منها يجد الأدب والتراث والدين والثقافة وغيرها ، فلم يقتصر أثرها ((
على تأليف الناس على الفصحى ، بل ارتفع بهم إلى مستوى أدبي ، إن صح التعبير ))( )
.
فصدرت
المجلات والجرائد الأدبية والثقافية الراقية ، والتي كانت منتدى لأقلام كبار الكتاب
والأدباء والشعراء والباحثين في الحقول المختلفة ، كاللغة والثقافة والأدب والفكر والفن
وغيرها ، فقام بعضها بتوثيق الصلات بين شعوب الأمة العربية ، ونشر آخر الثقافة والعلم
، ومن هذه الصحف :
أ. ( مجلة المنار )( ) التي وصلت إلى المثقفين
في إندونيسيا والصين وجنوب أفريقيا والشعوب الإسلامية في آسيا الصغرى وفي شرق أوروبا
، فحملت إلى القارئ نصوصًا راقية المستوى باللغة العربية .
ب. ( جريدة
المقتبس )( ) التي كانت مدرسة موجِّهة موعِّية منوِّرة للعامة والخاصة من الناس
.
ت. ( مجلة الرسالة )( ) التي وصلت إلى بلدان المهجر
في أمريكا اللاتينية ، فنقلت إلى المثقفين الأدب العربي والثقافة العربية .
ث. ( مجلة الفتح )( ) التي وصلت إلى بلدان أوروبية
وأفريقية وآسيوية بعيدة عن الوطن العربي ، فكانت السلطات الاستعمارية في كثير من البلدان
العربية الإسلامية تحظر دخولها إليها ، لمَا كان لها من تأثير في نفوس القرَّاء .
ج. ( مجلة المقتطف ) التي تترجم الفصول والمقالات
العلمية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ، فتساهم بذلك في تطعيم اللغة العربية
بالمفردات الجديدة وتطويعها لاستيعاب المضامين والمفاهيم الحديثة في العلوم المختلفة
، فظلت تصدر نحو سبعين سنة ، وقد كان لهذه المجلة دور متميّز في نشر الثقافة العلمية
باللغة العربية .
فضلاً
عن الكثير من المجلات والجرائد التي صدرت في العراق ومصر ولبنان وغيرها( ) .
2. الإذاعة : كان لظهور الإذاعة إسهام كبير في نشر
اللغة العربية في مختلف الأصقاع من خلال نشرات الأخبار ، والأحاديث الدينية ، والبرامج
الثقافية والأدبية ، والمسرحيات التاريخية والاجتماعية ، فقدمت لمستمعيها برامجَ باللغة
العربية ، فكان الجمهور يتذوقها ويفهمها ، فكان تأثيرها (( أوسع ، لوجودها في كل دار
، يستمع إليها الذكور والإناث، الصغار والكبار كل يوم أكثر من مرَّة ))( ) .
3. التلفزيون : لا يقل ظهور التلفزيون أهمية عن
الصحافة والإذاعة ، وكان أوَّل ظهور له في مصر مع مطلع الستينيا ت، فقدم وظيفة أساسية
في نشر اللغة العربية على نطاق واسع .
4. تدريس اللغة العربية : ويعزز الانتشار للغة الضاد
ظهورُ أقسام للغة العربية وآدابها في الجامعات العربية والإسلامية ، وفي بعض الجامعات
الغربية التي تهتم بتدريس اللغة العربية والثقافة العربية والحضارة الإسلامية ، ففي
النصف الأول من القرن العشرين أنشئت الجامعات التي فتحت فيها كليات للآداب ، فكان الأساس
الذي قامت عليه دراسة اللغة العربية وآدابها في المقام الأول ، إذ كان (( إنشاء دار
العلوم محاولة لتكوين مدرس اللغة العربية والدين الإسلامي ، على نحو حديث نسبيًّا يخالف
ما عرفه الأزهر آنذاك ، فدخل مجموعة من العلوم الحديثة برامج التدريس في دار العلوم
، وكانت بهذا أول معهد عالٍ لتخريج مدرسي اللغة العربية في العالم العربي الحديث
)) ( ) .
5. الطباعة والنشر : كان من المفروض أمام هذه الثورة
في الانتشار اللغوي أن تزدهر حركة الطباعة والنشر باللغة العربية على نطاق واسع ، فظهرت
دور النشر المختلفة في عدَّة بلدان ، كالعراق ومصر ولبنان وغيرها ، فقامت بنشر الكتب
والصحف والمجلات العربية ، وصاحب الطباعة اتساع نشرها ، ممَّا ضاعف من ذيوع اللغة العربية
في الآفاق( ) .
6. المجامع اللغوية : في النصف الثاني من القرن
التاسع عشر ظهرت الحاجة إلى إنشاء مجامع للغة العربية ، لما فرضتها المسائل اللغوية
، وبعد أن بدأ العالم العربي يصحو وتتفتح أعينهم على النهضة الأوربية ، فتأسست مجامع
اللغة العربية ، وهي :
أ. مجمع اللغة العربية بدمشق ، في العام (
1918 م ) .
ب. المجمع العلمي العراقي ببغداد ، في العام (
1921 م ) .
ت. مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، في العام (
1932 م ) .
ث. مجمع اللغة العربية الأردني ، في العام (
1976 م )( ) .
كان
تأسيس هذه المجامع مهمًّا لخدمة اللغة العربية ، إذ ساعد على تحقيق أمهات كتب التراث
العربي الإسلامي ونشرها ، فبدأت هذه الحركة في مصر في الثلث الأول من القرن التاسع
عشر ، وازدهرت واتسع نطاقها في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين ، وظهرت معاجم
لغوية عربية جديدة ، وشرع في وضع المعجم التاريخي للغة العربية ، وإن كان العمل فيه
قد تعثر ثم توقف في بدايته .
وبالنتيجة
لا بدَّ من القول : إنَّ عصر ازدهار اللغة العربية بدأ في النصف الأول من القرن العشرين
، ولكنه سرعان ما خفت ضياؤه وخبا لمعانه ، بما شاب الحياة العقلية والأدبية والثقافية
من انحرافاتٍ وانعكاسات ، لاستشراء الفساد العام ، ونتيجة لتدفق موجات من الغزو الفكري
والاجتياح الثقافي والاستلاب الحضاري ، فضعفت اللغة العربية ، وتراجع دورها في الحياة
العقلية والأدبية ، ممَّا أدّى إلى ضعف مستوى التعليم في جميع مراحله ، وإلى غلبة اللهجات
العامية .
القسم
الثاني
الانحسار
في اللغة العربية
انحسر الرقعة التي عرفتها اللغة العربية بانحسار
مدّ النهضة والتطور الحضاري وبانحرافهما عن مسارهما الطبيعي ، بعد دخول الوطن العربي
والعالم الإسلامي في متاهات من الارتباك والقلق ، فحين أطلَّ القرن الثامن عشر الميلادي
كانت (( البلاد العربية تغِطُّ مع سائر الأقطار التي شملها الحكم التركي العثماني في
نوم عميق ، الأمية منتشرة شاملة ، والسلطة استبدادية إقطاعية ، … ، وكان في كلِّ بلد
أفراد طلبوا شيئًا من الفقه وعلوم الآلة يقيمون للناس صلواتهم وخطب الجمع والأعياد
وبقية الشعائر ))( ) ، وبهذا الانتقال من مرحلة الاستقرار والانصراف إلى تجديد البناء
الحضاري ، إلى مرحلة الاضطراب وخلخلة البنيات التحتية للمجتمعات العربية الإسلامية
، انتقلت اللغة العربية من مرحلة المدّ إلى مرحلة الجزر، على المستويات كافة .
عوامل
الانحسار
الوضع
الحالي للغة العربية واقع لا ينكره أحد ، إذ أدَّى الضعف اللغوي إلى ضعف في جميع مفاصل
الحياة العربية والإسلامية ، ومنها : العقلية والثقافية ، وسبب ذلك تداخل فيه عوامل
كثيرة ، ويعود في تعقيداته إلى عناصر متشعبة وأسباب يرتبط بعضها ببعض ، ويعود هذا الضعف
إلى عدَّة عوامل ، وهي :
1. ظهور مجموعة من الأصوات التي حاولت ردَّ الضعف
إلى قصور اللغة وضعفها وعجزها عن تلبية متطلبات العصر الحديث ، من المواد المعرفية
والعلمية والتكنولوجيا ، فضلاً عن أنَّ أهل اللغة لا يسايرون تطور العصر ، فلا يفلحون
في تجديد اللغة وتطويرها ، فكانوا يطرحون بين أوان وآخر السؤال الآتي (( كيف تصلح لغة
البداة للتعبير عن مكتشفات القرن العشرين ومخترعاته ))( ) .
2. هناك علاقة جدلية بين اللغة والحياة ، فحين ساد
الضعف في مجالات الحياة العربية كافة ، تأثرت اللغة به ، فكان لانحسار مدّ اللغة العربية
ثمرة لانحراف أهل اللغة نحو مآزق أبعدتهم عن مصادر القوة الحقيقية ، والتي تتمثل في
قوة الروح والفكر والضمير والإرادة ، فضلاً عن حماية الكيان العربي الشخصي والعام ،
وفي صون الحقوق والذود عن المصالح العليا للأمة .
3. الإهمال الشديد : انعكست حالة الضعف التي تسري
في كيان الأمَّة العربية الإسلامية على حالة اللغة العربية ، فأصبحت اللغة في وضع يجعلها
تتخلف عن العصر ، وتتعرض لإهمال شديد من أهلها الذين يعرضون عنها ، ويرمونها بكل نقيصة
، يستوي في ذلك من تعلَّم العربية وأجادها وملك ناصيتها ، ومن لم يتعلمها ، أو من تلقاها
من مصدر غير كفء .
4. هيمنة الأفكار والمذاهب الغربية : كان من الطبيعي
أن تهيمن الأفكار والمذاهب والنظم الغربية على العقل العربي والإسلامي ، لما أصاب الجسد
العربي من ضعف ووهن ، ففرضت سياسات وأملت اختيارات تَتَعَارَضُ مع الخصوصيات الثقافية
والحضارية للشعوب العربية والإسلامية ، فضلاً عن شنّ حرب على اللغة العربية ، وبمساعدة
مجموعة من العرب من جهة ، وتشجيع العناصر الأجنبية وتحريضهم من جهة أخرى ، فعملت من
أجل فرض لغاتها وثقافاتها ونظم حياتها على الشعوب غير القادرة على حماية خصوصياتها
.
5. فشو اللحن واستشراء الضعف والهزال : ونجد في
بعض الأوقات أنَّ استشراء اللحن وظهور اللحن والخروج على قواعد اللغة بلغ حدّ الاستخفاف
والاستهانة باللغة وتجريحها والمس بكرامتها ، لأن لكل لغة كرامة كما للكائن البشري
.
6. الضعف السياسي والفكري والثقافي : كان للضعف
الذي دبَّ في جسد الأمة الدور الكبير في انحسار اللغة ، إذ نجد الضعف قد استشرى في
المجتمعات العربية كافة ، فظهرت زعامات شعبية قيادية تخطب في الجماهير باللهجات المحلية
، فإذا اضطرت إلى القراءة بالعربية الفصحى أفسدت اللغة وأساءت إليها بإشاعة الخطأ ،
وفي هبوط مستوى اللغة العربية في جميع المجالات .
اللغة
العربية ولهجاتها
تُعدُّ
علاقة اللغة العربية مع لهجاتها من وسائل الانحسار اللغوي أو قل من أسبابه ، لما تتمتع
به اللهجات من مكانة كبيرة في رفد اللغة بما تحتاجه من خزين لغوي ، ففي الوقت الذي
نجد فيه اللهجات عاجزة عن رفد اللغة بما تريد ، نجد أن اللغة أصيبت بالانحسار في كثير
من جوانبها ، ومن صور عجز اللهجات حين يظهر للعيان أنَّها تنصهر اللغة ، وهو ما يطلق
عليه بـ ( توحُّد اللغة ) .
وهنا
يظهر لنا سؤال : هل تبقى اللهجات مع اللغة الأم على حالٍ واحد ؟ لا يبقى سير اللهجات
واحدًا في جميع اللغات ، فقد تتوحَّد اللهجات مع اللغة الأم ، إلاَّ أنَّ هذا التوحد
محكوم بغلبة إحدى اللهجات على أخواتها في اللغة الواحدة ، لمكانتها ، فتأخذ اللغة الأم
من هذه اللهجة الأساليب والألفاظ للتعبير عن متطلباتها ، فترتقي إلى درجة اللغة الأدبية
، ولا يمكن حصول هذا التوحد حتى تمرَّ اللغة ولهجاتها بعوامل تستدعي توحدها ، ومن خلال
مرور اللغة العربية بهذه العوامل ، يمكن أن أجملها بما يأتي :
1. العامل السياسي :
تعمل
السياسة عملها في توحيد اللهجات ، ويكون هذا التوحيد في التقارب بين المتكلمين المنتشرين
في المناطق المختلفة الخاضعة للحكم الواحد ، فيعمل حاكم البلاد على تجريد كلامه من
الكثير من الصيغ والتعبيرات والألفاظ التي تستعمل في مجموعة من ولايات حكمه دون الأخرى
، ويتكلم بلغة واحدة ليتسنى لجميع شعبه فهم كلامه ، فضلاً عن رغبة أبناء الولايات الأُخرى
الكلام بلغة أبناء العاصمة ، على أساس أنَّها اللغة الثقافية ، ويكون هذا واضحًا عند
أبناء الأرياف الذين يرومون إبراز شخصيتهم وإثبات تماسهم مع الثقافات المختلفة ، لأنَّهم لو تمسكوا بألفاظهم وتعبيراتهم
فسيواجهون بردِّ فعل المجتمع ، وأقلُّه الاستهزاء والسخرية ، لأنَّهم يتكلمون على أساس
اعتقاد أبناء العاصمة ، بلغة بدائية .
وفي
هذه الحال تكون لهجة العاصمة غالبة على جميع ، فيحصل حينئذ توحد بين اللهجات واللغة
الأم ، فتفرض لهجة العاصمة وجودها ، وأقرب مثال نلمسه على هذا التوحُّد ما نجده في
السيادة السياسية العربية لقبيلة قريش ، إذ أصبحت السيادة اللغوية لها أيضًا ، فحين
توحدت اللهجات العربية كانت الغلبة لها .
2.
العامل الأدبي :
اللغة
هي الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها الأديب عمَّا في داخله ، فهي كالفرشاة واللون عند
الفنان ، لذلك نجد التيارات الأدبية مختلفة فيما بينها ، سواء كان هذا الاختلاف في
الأسلوب أم في غيره ، ولعلَّ من أهم الاختلافات القائمة بين الأدباء اختلافهم في استعمال
نصوصهم ، فنرى مجموعة من أنصار القديم يرفضون الخروج عن نطاق اللغة المتوارثة ، ومجموعة
من أنصار الحداثة يميلون إلى استعمال الألفاظ العامية أو اللغة غير الفصيحة ، وفي ظل
هذا الاختلاف تنشب الصراعات بين المجموعتين .
3. العامل الاقتصادي :
مكَّن
العامل الاقتصادي اللغة الأم من التوحُّد مع لهجاتها ، لأنَّ استعمال اللغة الاقتصادية
في البضائع والتجارة يفرض نفسه على الجميع ، ممَّا يجعل أبناء الولايات الأخرى خاضعين
لهذا الاستعمال ، وخير مثال على ذلك أنَّ قريشًا احتلت مكانة مرموقة في الأقاليم المجاورة
للجزيرة العربية( ) ، إذ ذكرت كتب التاريخ أنَّ قوافلها كانت تسير بأمن واطمئنان ،
ناقلة مختلف أنواع البضائع إلى هذه المناطق( ) ، وأدت هذه السيطرة إلى سيطرة لغتها
وشهرتها ، لأنَّ العمل التجاري وسيلة مهمة من وسائل نقل اللغة والأفكار ، فكانت قوافلها
تسير إلى اليمن والشام والعراق ومصر( ) .
4. العامل الديني :
تتحدَّد
مكانة اللغة الدينية بمستوى الوازع الديني في نفوس شعبها ، فالدين يجمع الناس على كتاب
واحد ، يردِّدون في مناسبات معينة تراتيلهم وأناشيدهم بهذه اللغة ، فإذا ساد الشعور
الديني الشعب ، نجدهم ينكبون على تعلم اللغة الدينية ، فيتحصل حينئذٍ انحسار اللغة
التي يتكلمون بها ، حتى تغلب اللغة الدينية على نطقهم .
وليس
من المفروض أن تكون اللغة الغالبة تختلف تمامًا عن المغلوبة ، فقد يكون هذا التوحد
بإلغاء مجموعة من الألفاظ ، وإحلال ألفاظ أخرى بدلاً عنها ، وعليه نجد غلبة اللهجة
القرشية على اللهجات العربية الأخرى ، لمكانة القرشيين عند العرب ، فَهُمْ سدنة البيت
والقائمون على سقاية الحجيج ، واستضافتهم ، وتلبية كل متطلباتهم ، فكان سلطانهم معروفًا
لدى جميع العرب( ) .
بعد
أن ذكرت العوامل السابقة( ) ، نلحظ بجلاء أثرها في اللغة الأم ، وهناك مجموعة أخرى
من العوامل لا مجال لذكرها خشية الإطالة ، أو لعدم ارتقائها في الأهمية إلى ما ذكرته
سابقاً( ) .
الخاتمة
ونتائج البحث
بعد
هذه الجولة في ( اللغة العربية وجدلية الانتشار والانحسار ) لا بدَّ لنا أن نرسم مجموعة
من الخطوط التي توضح مستقبل اللغة العربية ، لأنَّنا أمام واقع لا يبشر بخير ، بعد
أن بدأت اللغة تتفلت من بين يدينا رويدًا رويدًا ، وعلينا أن نرصدها السلبيات لنعيد
جزءًا من ماضيها المشرق ، ونرسم لها المستقبل الزاهر ، لأنَّ مستقبل اللغة العربية
جزء لا يتجزّأ من مستقبل الأمة العربية الإسلامية ، وعليه نكون قد خرجنا من هذا البحث
بالنتائج الآتية :
1. ليست اللغة العربية لغة محادثة فحسب ، بل لغة
علم وثقافة وفن وأدب ، ففيها صُنِّفت الكتب العلمية الصرفة ، في الرياضيات والكيمياء
والطب وغيرها ، فضلاً عن الكتب الأخرى .
2. اعتنى غير العرب باللغة العربية عناية توازي
عنايتهم بلغتهم ، وقد نجد عنايتهم بالعربية تفوق حتى العناية بلغاتهم ، لما وجدوه من
طواعية اللغة وقدسيتها وعولمتها .
3. يعدُّ ارتباط اللغة العربية بلهجاتها من أهم
أسباب الانتشار اللغوي ، لما ترفده اللهجات من مفردات قد يحتاجها المتكلم فلا يجدها
في مخزونه اللغوي .
4. يساعد الاتصال البشري اللغات على الانتشار ،
فبعد أن يجد المتكلم نفسه أمام مجتمع يغايره في اللغة ، يحاول المزاوجة بين أسلوبه
وأسلوب غيره .
5. تعمل البيئات البشرية على تطوير المستويات اللغوية
، لأن تقاربها أو تباعدها يساعد المتكلمين على التنوع اللغوي في المفردات .
6. اجتمعت في اللغة العربية مجموعة من الأسباب التي
ساعدت على انتشارها قديمًا ، وهي : الشيوع
، والتأليف ، ودقة قواعدها ، وعولمتها .
7. أخذت اللغة العربية في العصر الحديث قالبًا مغايرًا
لما كانت عليه في القرون الماضية ، إذ اتصال العرب بالمجتمعات غير العربية ساعد في
تفكك الرابطة بين العربي ولغته ، فظهرت مجموعة من الوسائل التي حاولت إعادة اللغة إلى
المتكلم ، وهي : الصحافة، والإذاعة ، والتلفزيون ، والتدريس ، والطباعة والنشر ، والمجامع
اللغوية .
8. ومع كل ما توافر للمتكلم العربي من وسائل لإعادته
إلى لغته ، إلاَّ أن هناك مجموعة من العوامل أدت إلى إبعاده عنها ، أو انحسار اللغة
، وهي : القول بقصور اللغة ، وجدلية المتكلم والحياة ، والإهمال الشديد لها ، وهيمنة
الفكر الغربي ، وفشو اللحن ، والضعف السياسي والفكري والثقافي .
هذه
النتائج وغيرها أهم ما خرجت به من هذه الدراسة ، على أن أجد تطبيقًا عمليًّا لها ، حتى نخلص اللغة العربية من حاضرها المؤلم
.
قائمة
المصادر والمراجع
1. الآداب السامية ـ محمد عطية الأبراشي ـ مطبعة
عيسى البابي الحلبي ـ مصر ـ ط 1 / 1946 .
2. أصول اللهجة العراقية ـ محمد رضا الشبيبي ـ مجلة
المجمع العلمي العراقي ـ المجلد ـ الجزء الثاني / 1375 هـ 1956م .
3. البيان والتبيين ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
( 255 هـ ) ـ تحقيق : فوزي عطوي ـ دار صعب ـ بيروت .
4. تاريخ الأدب العربي ـ السباعي بيومي ـ مطبعة
الرسالة ـ ط 2 / 1955م .
5. تاريخ العرب العام إمبراطورية العرب حضارتهم
مدارسهم الفلسفية والعلمية والأدبية ـ ت . اسيديو ـ ترجمة : عادل زعيتر ـ مطبعة عيسى
البابي الحلبي ـ القاهرة ـ ط 2 / 1969م .
6. تاريخ اللغات السامية ـ إسرائيل ولفنسون ـ القاهرة
ـ ط 1 / 1929م .
7. تطور لغة الطفل ـ أحمد حسن أبو عرقوب ـ مركز
غنيم ـ عمان ـ 1990م .
8. الجهود اللغوية خلال القرن الرابع عشر الهجري
ـ الدكتور عفيف عبد الرحمن ـ دار الحرية للطباعة ـ بغداد ـ 1981م .
9. الخصائص ـ أبو الفتح بن جني ( 392 هـ ) ـ تحقيق
: محمد علي النجار ـ عالم الكتب ـ بيروت .
10. دراسة اللهجات العربية القديمة ـ الدكتور داود
سلوم ـ عالم الكتب ـ ومكتبة النهضة العربية بيروت .
11. السيرة النبوية ـ أبو محمد بن هشام الحميري (
213 هـ ) ـ تحقيق : الدكتور همام عبد الرحيم سعيد ، ومحمد بن عبد الله أبو صعيليك ـ
مكتبة المنار ـ الأردن ـ ط 1 / 1409 هـ ـ 1989م .
12. الطبقات الكبرى ـ أبو عبد الله محمد بن سعد بن
منيع الزهري ( 230 هـ ) ـ مطبعة دار صادر ، ودار بيروت ـ بيروت ـ 1376 هـ ـ 1957م
.
13. طرق تنمية الألفاظ في اللغة ـ محاضرات ألقاها
: الدكتور إبراهيم أنيس ـ مطبعة النهضة الجديد ـ مصر ـ 1966 م ـ 1967م .
14. العربية دراسات في اللغة واللهجات والأساليب ـ
يوهان فك ـ ترجمة : الدكتور رمضان عبد التواب ـ المطبعة العربية الحديثة ـ القاهرة
ـ 1400 هـ ـ 1980م .
15. علم اللغة العام ـ فردينان دي سوسور ـ ترجمة :
الدكتور يوئيل يوسف عزيز ـ مراجعة النص العربي : الدكتور مالك يوسف المطلبي ـ دار آفاق
عربية للصحافة والنشر ـ بغداد ـ 1985م .
16. فصول في فقه اللغة ـ الدكتور رمضان عبد التواب
ـ مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ ط 3 / 1987 م .
17. في اللهجات العربية ـ الدكتور إبراهيم أنيس ـ المطبعة
الفنية الحديثة ـ مصر ـ ط 3 / 1965م .
18. القرآن واللهجات العربية ـ الدكتور حسام النعيمي
ـ بحث منثور ضمن كتاب ( رحلة في الفكر والتراث ) مطبعة جامعة بغداد ـ 1980م .
19. لغات البشر أصولها ، طبيعتها ، تطورها ـ ماريو
باي ـ ترجمة : الدكتور صلاح العربي ـ مطبعة العالم العربي ـ القاهرة ـ 1970 م .
20. اللغة ـ فندريس ـ ترجمة : عبد الحميد الدوالي ،
ومحمد القصاص ـ مكتبة أنجلو المصرية ـ القاهرة .
21. اللغة العربية عبر العصور ـ الدكتور محمود فهمي
حجازي ـ دار الثقافة للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1978 م .
22. اللغة والمجتمع ـ الدكتور علي عبد الواحد وافي
ـ دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ـ 1364 هـ ـ 1945 م .
23. اللهجات العربية نشأةً وتطورًا ـ الدكتور عبد الغفار
حامد هلال ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ 1418 هـ ـ 1998م .
24. مدخل إلى علم اللغة ـ الدكتور محمود فهمي حجازي
ـ دار الثقافة ـ القاهرة ـ ط 2 / 1978م .
25. المسلك اللغوي ومهاراته ـ محمد أبو العزم ـ مطبعة
مصر ـ ط 1 ـ 1953م .
26. معالم التطور الحديث في اللغة العربية وآدابها
ـ محمد خلف الله أحمد ـ طبعة القاهرة ـ 1961 م .
27. المغازي ـ الواقدي ـ طهران ـ نسخة مصورة عن طبعة
جامعة إكسفورد ـ لندن ـ 1977م .
28. من حاضر اللغة العربية ـ سعيد الأفغاني ـ دار الفكر
ـ بيروت ت ط 2 / 1971 م .
29. موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ـ
الدكتور أحمد شلبي ـ مطبعة النهضة المصرية ـ 1977م .
30. نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها ـ أنستاس
ماري الكرملي ـ المطبعة العصرية ـ القاهرة ـ 1938م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق