الازدواجية اللغوية في الجزائر المستقلة
(دراسة سوسيـو ـ لسانية)
إعداد : الدكتور / بــوزيد ســاسي هادف
قسم اللغة العربية و آدابها
كلية الحقوق و الآداب و العلوم الاجتماعية
جامعة 8 ماي 1945 ـ قالمة ـ الجزائر
ترتبط اللغة بالمجتمع ارتباطا وثيقا، فهي المرآة التي تعكس كل مظاهر التغير و التحول في المجتمع : رقيا كان أو انحطاطا ، تحضرا كان أو تخلفا، بحيث إنها " استجابة ضرورية لحاجة الاتصال بين الناس جميعا ، و لهذا السبب يتصل علم اللغة اتصالا شديدا بالعلوم الاجتماعية ، و أصبحت بعض بحوثه تدرس في علم الاجتماع ، فنشأ لذلك فرع يسمى " علم الاجتماع اللغوي " يحاول الكشف عن العلاقة بين اللغة و الحياة الاجتماعية ، و بين أثر تلك الحياة الاجتماعية في الظواهر اللغوية المختلفة " (1) . و مما لا شك فيه أن الإنسان لا يولد متكلما بفطرته ، بل يكتسب لغة المجتمع الذي نشأ فيه ، فمن نشأ في مجتمع عربي يكتسب العربية ، و من نشأ في مجتمع فرنسي يكتسب الفرنسية و هكذا ... كما أن للتقليد و المحاكاة دورا كبيرا في اكتساب اللغة، بمعنى أن الطفل يكتسب اللغة من الجماعة اللغوية التي يعيش بينها بكل سمات و ملامح الواقع اللغوي لهذه الجماعة من صحة أو خطأ، و ما بينها من درجات التفاوت والتباين.
فاللغة هي وعاء الفكر،و هي وسيلة تواصل بين أفراد المجتمع و مؤسساته المختلفة و تبادل المعلومات و الأفكار بينها . فهي كالعملة في التبادل التجاري ، فكلما كانت العملة قوية و موحدة في البلاد ، أصبح التبادل التجاري أيسر و أكثر نشاطا . و نظرا للأهمية التي تحظى بها اللغة في المجتمع نالت اهتمام الكثير من العلماء على اختلاف مذاهبهم و مشاربهم ، فعالجها علماء اللسان ، و علماء النفس و علماء الأنتروبولوجيا ، و علماء الجغرافيا ، و رجال السياسة ، و علماء الاجتماع . و نظرا للصلة الوطيدة التي تربط اللغة بجميع نواحي المجتمع ، رأيت أن تكون مداخلتي موسومة بـ " الازدواجية اللغوية في الجزائر المستقلة (دراسة سوسيو ـ لسانية ) " ، أحاول خلالها توضيح العلاقة التي تربط المجتمع الجزائري باللغة العربية الفصحى الأصلية ، و اللغة الفرنسية لغة المحتل الدخيلة ، محاولا في الوقت نفسه استنطاق التاريخ ، و اختصار المسافات الزمنية لفترة ما بعد استقلال
الجزائر إلى يومنا هذا ، لما فيها من صراعات لغوية ، بين أنصار اللغة العربية ،و أنصار اللغة الفرنسية ، و ما تولد عن هذا الصراع من تصادم في المصالح الضيقة التي كثيرا ما حجبت الحقيقة ، وأعمت الأعين و البصائر عن الهدف المنشود التي دفعت الجزائر من أجله تضحيات جسام ، و هو أن تحيا الجزائر حرة عربية مسلمة ، متخذا مطية لذلك مناهج اللسانيات الاجتماعية الحديثة باعتبارها " تأخذ بعين الاعتبار حالة المتكلم كمعطى اجتماعي من حيث أصله السلالي ، و وضعيته الاجتماعية و مستواه المعيشي و الثقافي ... و ربط هذه الحالة بنوع اللغة التي يستعملها انطلاقا من مجموع القواعد التي نضبطها لأنها دائما تحدد في زمان و مكان و بيئة اجتماعية معينة..." (2) . و لكونهاتختلف في دراسة الظواهر اللغوية عن اللسانيات العامة ، فهي لا تدرسها دراسة موضوعية معزولة عن البيئة اللغوية ـ كما هو الحال في اللسانيات العامة ـ و إنما " تدرس اللغة باعتبارها" تتحقق" في" مجتمع ", أي أنها تدرس " الظاهرة " اللغوية حين يكون هناك " تفاعل " لغوي ، أي لابد أن يكون هناك " متكلم "و" مستمع "، أو متكلمون و مستمعون ، و إذن لابد أن يكون هناك "موقف" لغوي " يحدث" فيه الكلام و تتوزع فيه "الأدوار " و "الوظائف" وفق " قواعد " متعارف عليها داخل المجتمع "(3).
و لمعالجة هذه الظاهرة قسمت مداخلتي إلى تمهيد و أربعة مباحث رئيسة تتخللهما مطالب عدة .
خصصت التهميد لشرح مصطلحات و مفاهيم كل من:اللغة العربية الفصحى،و اللهجة ، والثنائية
اللغوية ، و الازدواج اللغوي ، علها تكون نبراسا منيرا يستضاء به في قراءة هذه المداخلة .
و عرضت في المباحث الأربعة أسباب تكريس الازدواجية اللغوية في جزائرنا المستقلة .
خصصت المبحث الأول لمعالجة العامل التاريخي و دوره في تكريس الازدواجية اللغوية ،و قصرته في الاحتلال بطرقه و أساليبه المختلفة ، سواء أكان ذلك احتلال الاستعمار الفرنسي للجزائر ، و بعض الدول المغاربية ، أم احتلال آخر لدول عربية أخرى ، و تلك الصيحات المتعالية هنا و هناك محذرة من خطر التعامل باللغة العربية الفصحى ، واصفة إياها بأبشع النعوت ، و محملة إياها أسباب تخلف المجتمع العربي برمته .
و عالجت في المبحث الثاني العامل السياسي و دوره في تكريس هذه الازدواجية ، و حاولت حصره في غياب الإرادة السياسية الشاملة ، ووجود الفرانكوفونية التغريبية متمثلة في وجود بعض الدوائر الجزائرية الرسمية الفاعلة ، التي تصدت بكل ما أوتيت من قوة في وجه بعض النيات الصادقة التي حاولت إعطاء اللغة العربية في الجزائر مكانتها اللائقة بها .
وأما المبحث الثالث فعرضت فيه بالتحليل و المناقشة للعامل الاجتماعي ، حاولت خلاله تشريح واقع المجتمع الجزائري ، مبرزا حضور اللغة الفرنسية بقوة لدى شرائح معتبرة من الجزائريين بدرجات متفاوتة ، و هذا على حساب اللغة العربية التي تعيش محيطا موبوءا ، أصبحت خلاله لا تؤدي أبسطوظائفها المتمثلة في التواصل بين أفراد المجتمع الواحد ، محذرا من انعكاسات ذلك على وحدة الشعب الجزائري و تماسكه .
وأما المبحث الرابع و الأخير، فخصصته للعامل النفسي ، محاولا خلاله إبراز تأثير كل من العامل التاريخي ، و السياسي ، و الاجتماعي ،على نفسية الجزائري الذي أصبح يحس بالاغتراب و الإحباط و الانهزامية وسط أبناء وطنه و جلدته ، لا لشيء إلا لكونه اتخذ العربية ـ لغة وطنه ـ لسانا له .
و فيما يلي تعريف موجز لتلك المصطلحات اللسانية .
1 ـ اللغة العربية الفصحى : la langue arabe classiqueهي لغة القرآن الكريم و التراث العربي جملة ، و التي تستخدم اليوم في المعاملات الرسمية ، و في تدوين الشعر و النثر و الإنتاج الفكري(4) .
2 ـ اللهجة : Dialect أو العامية ، وهي التي تستخدم في الشؤون العادية ، و التي يجري بها الحديث اليومي . فهي "عبارة عن مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة ،و يشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة " (5). أو هي :" نمط من الاستخدام اللغوي داخل اللغة الواحدة ، يتميز عن غيره من الأنماط داخل نفس اللغة بجملة من الخصائص اللغوية الخاصة ، و يشترك معها في جملة من الخصائص العامة "(6) . مما يؤكد على أن العلاقة بين اللهجة و اللغة هي علاقة عموم و خصوص ،حيث تشمل اللغة الواحدة عدة لهجات متباينة في خصائصها اللغوية ، مع اشتراكها في صفات لغوية أخرى (7) . و يتخذ مصطلح العامية أسماء عدة عند بعض اللغويين المحدثين (8) . و على الرغم من تعدد المصطلحات التي تطلق على لغة الحديث و التعامل اليومي نجد أحد الباحثين في هذا المجال يقول :" و إننا نفضل استعمال كلمة (الدارجة ) على ( العامية ) لما تتضمنه الكلمة الأخيرة من دلالة طبقية ، و صفات تحقيرية ، استهجانية ، لا تليق بالبحث العلمي المجرد " (9) . أما عن المعايير التي تحدد إن كانت هذه اللغة لهجة أو فصحى فيرجع بالدرجة الأولى إلى موقف أفراد الجماعة اللغوية من هذه اللغة أو تلك ، و كيفية استخدامها و توظيفها في مجالات مختلفة ، فـ " إن أي نظام لغوي يتكون من أصوات تكون كلمات تؤلف جملا لأداء معنى ، و من هذا الجانب نجد أية لغة و أية لهجة داخلة في هذا الإطار . و الشيء الأساسي الذي يجعل نظاما لغويا ما يصنف باعتباره لهجة أو على أنه لغة فصيحة هو موقف أبناء الجماعة اللغوية منه، و معنى هذا أنه ليس في بنية اللهجة أو اللغة ما يحتم تصنيفها ـ بالضرورة ـ هذا التصنيف ، و لكن مجالات الاستخدام عند أبناء الجماعة اللغوية هي التي تفرض هذا التصنيف . فالنظام اللغوي الذي يستخدم في مجالات الثقافة و العلم و الأدب الرفيع هو ما يصنف اجتماعيا بأنه فصيح ، والنظام اللغوي الذي يقتصر استخدامه على مجالات الحيات اليومية هو بالضرورة ما يصنف اجتماعيا بأنه لهجة أو بأنه عامية " (10) .
3 ـ الثنائية اللغوية La diglossie: ونعني بالثنائية اللغوية في الوطن العربي أن يتكلم الناس في البلد لغتين الأولى العربية التي ستخدم في المجالات الرسمية كالحياة والتعليم والإعلام والبرلمان وكتابة القوانين. والثانية لغة محلية (غيرعربية) تستخدمها مجموعة من المواطنين للتواصل فيما بينها، بينما تستخدم اللغة السائدة للتواصل مع الآخرين (11) .
4 ـ الازدواج اللغوي Le bilinguisme: لقد اختلف اللسانيون حول مفهوم مصطلح ( الازدواج اللغوي ) فبعضهم يطلقه على وجود مستويين لغويين في بيئة لغوية واحدة، أي لغة للحديث وأخرى للعلم والأدب والثقافة والفكر، وبعضهم يطلقه على وجود لغتين مختلفتين ( قومية وأجنبية) عند فرد أو جماعة ما في آن واحد، أي إنه ومصطلح ( الثنائية ) يتبادلان الموقع عند الباحثين، وأفضل إطلاق مصطلح الازدواج اللغوي على المفهوم الأول لأنه أشيع بين الباحثين ولأن المعجم يدعم هذا .
و يقصدبـ "ازدواجية اللغة "(le biliguisme ) وجود لغتين مختلفتين ،عند فرد ما ، أو جماعة ما ، في آن واحد (12) ، و من دون الدخول في بحث المعايير التي بوساطتها نستطيع أن نؤكد أو ننفي وجود الازدواجية بين لغتين معينتين (13)، فإن بعض الباحثين يرفضون استعمال مصطلح " الازدواجية " الذي يستخدمه الكثير من اللغويين(14) للدلالة على شكلي اللغة العربية : الفصحى و العامية (15) . ذلك أن العامية و الفصحى فصيلتان من لغة واحدة، و الفرق بينهما بالتالي فرق فرعي ، لا جذري . و عليه ، فالازدواجية الحق لا تكون إلا بين لغتين مختلفتين ، كما بين الفرنسية و العربية ، أو الألمانية و التركية . أما أن يكون للعربي لغتان إحداهما عامية ،و الأخرى عربية فصيحة ، فذلك أمر لا ينطبق مفهوم الازدواجية عليه(16) ، إنه بالأحرى ضرب من " الثنائية اللغوية " diglossie(17) . فيرون أن أمر الفصحىو العاميةنوع من الثنائية، و ذلك لأنهما فصيلتان من لغة واحدة ، في حين أن الازدواجية لا تكون إلا بين لغتين مختلفتين كالعربية و الفرنسية .
ومن بين أبرزالعوامل التي عملت على تكريس الازدواجية اللغوية في الجزائر المستقلة، نذكر ما يلي :
أولا : العامل التاريخي : و يتجلى لنا دور العامل التاريخي في تكريس الازدواجية اللغوية في جزائر ما بعد الاستقلال فيما يلي :
1 ـ الاحتلال بأشكاله و أساليبه المختلفة: و يتمثل لنا ذلك في تلك الطرائق و الأساليب الجهنمية التي يتعامل بها الاحتلال، أينما وجد، وحيثما حل، إذ أول ما يقوم به المحتل هو ضرب لغة الدولة المُحْتَلَة ، لأنه يعرف من أين تأكل الكتف ، يعرف جيدا أن اللغة عامل توحيد و تفريق في آن واحد، لهذا نراه يركز بإتقان فرض لغته قولا و فعلا . فأما القول فيتجلى في تلك الدعوات التي تتعالى هنا و هناك ، على ألسنة المستشرقين وأتباعهم الحاقدين على اللغة العربية ، كما هو الحال في مصر ، و سورية و لبنان ... و التي تحذر من مخاطر التعامل باللغة العربية باعتبارها سبب تخلف الشعوب التي تتكلم بها . و أما الفعل ، فيتجسد في الميدان عن طريق فرض لغة المستعمر بالقوة على الأهالي و السكان الأصليين ، و تضييق الخناق على لغتهم الأصلية ، كما حدث في الجزائر و غيره من الدول المغاربية المجاورة ، فالاستعمار يدرك إدراكا جيدا أنه :"ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ ، ولا انحطّت إلاّكان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّةالمستعمَرة ، ويركبهم بها ، ويُشعرهم عظمته فيها ، ويستلحِقهم من ناحيتها ، فيحكمعليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ : أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجناًمؤبّداً ، وأمّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً
ونسياناً ،وأمّا الثالثفتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها ،فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ "(18) .
وكانت فرنسا تعتقد واهمة إلحاق الجزائر بفرنسا الكبرى، حيث كانت تصفعاصمتها بباريس الصغرى و لم يخطر ببال الفرنسيين أن يأتي يوم يضطرون فيه لمغادرةالجزائر"الفرنسية" ، لذا فقد حاربت اللغة العربية و حاولت فرنسة الأرض والشعب، كماأجبرت الجزائريين تعلم الفرنسية ،ومنعت تدريس العربية حتى في المساجد، بل و حولتالصراع بين العربية والفرنسية إلى تناحر بين العربية و الأمازيغية وبين الفصحىوالعامية.لأن فرنسا كانت تعتبر بلدنا الجزائر في تلك الحقبة الاستعمارية، جزءا لا يتجزأ من ترابها .وهذا يعني في عبارة مختصرة أن التعليم في الجزائر كان لا يخالف ، أو لا يكاد ، التعليم في فرنسا ، نفس البرنامج ، و نفس الإطار ، و نفس الهدف . و إذا كان هناك فرق فإنما في كون الطفل الفرنسي كان حرا في تكوينه و اختياراته و عواطفه في حين أن الطفل الجزائري كان لا يملك هذه الحرية لا قليلا و لا كثيرا ، فقد كان مفروضا عليه أن يتعلم الفرنسية كلغة وطنية ، و ممنوعا عليه أن يحاول تعلم العربية لسبب واحد و هو أنها لغة أجنبية في الجزائر ، بل هي أقل من اللغات الأجنبية الأخرى كالإنجليزية و الإسبانية و الإيطالية و الألمانية (19) .
فإذا كان الاحتلال في الماضيالقريب يسمح للمستعمر برسم سياستنا التعليمية. فإن اليوم ما يسمى بالمعوناتالاقتصادية واتفاقيات الشراكة يعطي للمستعمر الجديد الفرصة نفسها. والكلام عنمعوناتغير مشروطة كلام تنقصه الأمانة والوطنية معا، فلقد " كانت اللغة و ما زالت هدفا من أهداف سياسة الاستعمار الإدماجي "(20) .
2 ـ الدعوة إلى التخلي عن اللغة العربية الفصحى ، و استبدالها بلهجة أو لغة أخرى أكثر سهولة ، و تناسبا مع متطلبات العصر. فلقد تفنن المحتل ـ في مشارق الأرض و مغاربها ـ في إقناع بعض العرب بالتخلي عن اللغة العربية الفصحى ، متخذا في ذلك طرائق و أساليب جهنمية شتى ، مبطنة بكلام معسول ، يصوره على أنه المهدي المنتظر ، الذي جاء رحمة للعرب كافة ، لتخليصهم من جهلهم و تخلفهم و سباتهم العميق ، و ليأخذ بيدهم إلى بر الأمان ، بر الرفاهية و الازدهار ،فهللت " الأصوات تتعالى بالهجوم على الفصحى و الترويج للهجات المحلية ، باتهام اللغة العربية أنها عسيرة معقدة ،و قواعدها و ضوابطها كثيرة مشتتة ، يتعذر استيعابها و الانقياد لها في حياتهم اللغوية ، إن أرادوا الإبداع و الانطلاق في التعبير علما و أدبا و ثقافة " (21) . و من بين هذه الصيحات و الدعوات التي تتعالى هنا و هناك ، والتي تتهم اللغة العربية الفصحى بالجمود و القصور على الالتحاق بركب الحضارة ،والتي تدعو بملء فيها إلى التخلي عنها ، نذكر :
أ ـ الدعوة إلى التخلي عن حركات الإعراب : و تتجلى في بعض الأصوات المأجورة التي تدعو بين الفينة و الأخرى إلى إلغاء الإعراب من اللغة العربية كلية ، باعتباره يطبعها ـ في نظرهم ـ بالصعوبة و التعقيد ، و الاستعاضة عنه بتسكين أواخر الكلمات بدعوى الإصلاح و التيسير ـ مثلها في ذلك مثل اللغات الحية قبلها ـ " و لكي لا ينخدع شبابنا المثقف بهذه الأكذوبة الخداعة ، أحب أن ألفت نظرهم إلى أن هذا الإعراب المعقد ، لا تنفرد به العربية الفصحى وحدها ، بل هناك لغات كثيرة ، لا تزال تحيا بيننا ، و فيها من ظواهر الإعراب المعقد ما يفوق إعراب العربية بكثير ، كاللغة الألمانية مثلا ..."(22) . كما أن اللغة العربية قد اعتمد على الإعراب باعتباره أرقى ما وصلت إليه اللغات في الوضوح و الإبانة ، و ذلك لأن اللغة العربية تتوخى الإيضاح و الإفصاح و إزالة الغموض و اللبس ، إذ أن " الإعراب إحدى وسائلها لتحقيق هذه الغاية ... و الإفصاح عن صلات الكلمات العربية بعضها ببعض ، و عن نظم تكوين الجمل بالحالات المختلفة لها " (23) .
ب ـ الدعوة إلى العامية على حساب اللغة العربية الفصحى :لقد اتهمت اللغة العربيةالفصحى في الداخل و الخارج ـ زورا و بهتاناـ بالقصور والعجز، و الصعوبة و التعقيد ، و تعالت صيحات هنا و هناك من أفواه و أقلام عربية وغير عربية ، تدعو إلى التخلي عن العربية الفصحى و إحلال العامية محلها ، فـ " اتهموها و ما زالوا يتهمونها بالصعوبة والتعقيد،وأخذوا يشككون أهلها في قدرة لغاتهم على مجاراة العصر،و الاتساع للتعبير عن مستحدثات الحضارة ،و بذلوا جهدهم في إحلال العامية محلها ، بدعوى جمود الفصحى ، و انتمائها إلى عصور بادت و انقرضت ، و عدم صلاحيتها للحياة وسط هذا الخضَمّ الهائل ، من النظريات الفلسفية و الاجتماعية و السياسية التي يموج بها القرن العشرون " (24) . مما رسخ في بعض أذهان رجال الفكر العرب اعتقادا ، أن العربية عاجزة عن التعبيرعن العلوم الحديثة ،و تطور هذا الاعتقاد عند بعض أذناب المستعمر،من ذوي الأقلام المأجورة إلى حد الدعوة العلنية إلى التخلي عنها بدعوى أنها سبب تخلفنا العلمي و القومي و الحضاري (25) .
و لقد بدأت الدعوة إلى العامية سنة 1880م عندما نشر المستشرق الألماني ( ولهلم سبيتا(Wilhelm Spita) ( 1818 ـ 1883م ) الذي كان مدير دار الكتب المصرية ، كتابه المسمى ( قواعد اللغة العامية في مصر ) .و قد رأى سبيتا في كتابه هذا أن العربية الفصحى لغة صعبة ، تقعد بالأمة العربية عن التطور و التقدم الحضاري ، و طالب بأن تكون العامية لغة التعليم ، و بخاصة للمبتدئين .و انتقد ما سماه ( طريقة الكتابة العقيمة بحروف لهجاء المعقدة ) و حاول طمأنة جمهور المسلمين بأن لغة الصلاة و العبادات الدينية ستظل كما هي في كل مكان.
و في سنة 1881م دعا يعقوب صروف ( 1852 ـ 1927م ) صاحب مجلة" المقتطف " إلى استبدال العامية بالفصحى ،في كتابة العلوم ، مدعيا أن الاختلاف بين لغة النطق و لغة الكتابة هو علة تأخرنا . و دعا رجال الفكر إلى بحث هذا الاقتراح و مناقشته (26) . و في سنة 1980م ، نشر المستشرق الألماني فولرز (K. VOllers) ( 1857 ـ1909م) كتابه( اللهجة العامية الحديثة في مصر) مؤكدا فيه أفكار سبيتا السابقة . و في سنة 1893م ، ألقى مهندس الري الإنجليزي( وليام ولكوكسWilliam Willcoks)( 1852 ـ 1932م ) ، محاضرة في نادي الأزبكية ، في مصر ، بعنوان " لم لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن " ، خلاصتها أن سبب عدم وجود هذه القوة هو استخدام المصريين اللغة العربية الفصحى في الكتابة و القراءة . و دعا إلى نبذ هذه اللغة لصعوبتها ، و ذهب إلى القول بأن ما يعيق المـصـريـيـن عــن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى ...وأعلن في آخر المحاضرة عن مسابقة للخطابة بالعامية، ومــن تكون خطبته جيدة ناجحةًفله أربع جنيهات، كان ذلك عام 1893 .ومن العجب أن (ولكوكس) هذا كان يصدرُ مجلة اسمها:(الأزهر)، وكان يدعو إلى العامية من خلالها(27( و غيرهم من العرب أذناب أولئك المستشرقين الحاقدين على اللغة العربية ، أمثال : فخري البارودي الذي تولّى فيدمشق إصدار صحيفة أسبوعية باللهجة العامية ، وكسعيد عقل في لبنان، وآخرون من خريجيالجامعة الأمــريكية ببيروت.
و نرد على هذه الصيحات والدعوات ، قائلين لهم ، أية عامية تقصدون ؟ فالعامية عاميات ، و اللهجة لهجات ، فـ " اللغة العامية تختلف باختلاف الشعوب ، و تختلف في الشعب الواحد باختلاف مناطقه ، فعامية العراق لا يكاد يفهمها المصريون و المغاربة ... و في البلد الواحد تختلف اللهجات العاميةباختلاف طوائف الناس ، و باختلاف المناطق ..."(28). فهل من السهل على المغربي ، أو اللبناني ، أن يفهم العامية العراقية ، أو يكتب بها ، إذا اعتمدناها فصحى جديدة بدلا من العربية الفصحى (29) . هذا بالإضافة إلى أن اللغة العامية مهما بلغت من الرقي ، تظل لغة فقيرة في مفرداتها ، لا يشتمل متنها عل أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي (30) .
و نقول لهؤلاء الحاقدين على اللغة العربية ، الذين يتهمونها بالعجز و القصور ـ مستشرقين و عرب ـ أن التاريخ لم يسجل لنا أن هناك لغة عاجزة ، و إن العجز ـ إن وجد ـ يعود في المقام الأول إلى أهل هذه اللغة ، و لهذا عوض أن توجه هذه التهم إلى اللغة ، توجه إلى أهلها و الناطقين بها ، فاللغة العربية كانت و ما زالت قادرة على مواكبة ركب الحضارة و التقدم ، إذ من يتصفح تاريخها بكل موضوعية يجدها قد استطاعت " أن تكون أداة لكل ما نقل من علوم الفرس و الهند و اليونان و غيرهم . و في نحو ثمانين سنة من بدء العهد العباسي ، كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونة بالعربية ... "(31) . " و اللغة العربية التي صمدت دهورا بمواجهة محاولات الغزو الثقافي ، و استطاعت أن تكون حاضنة للفكر العربي ، و الحضارة العربية ، كأرقى ما يكون الاحتضان ، لم تكن ،في يوم من الأيام، جامدة و لا متحجرة . و إنما استطاعت أن تتطور ، بيسر و سلاسة ، في مفرداتها و معانيها ، و تراكيبها ، و أساليبها ، و أن تكون معينا ثرا ، يغرف منه حتى المتحدثون بالعامية في شؤونهم العادية ، من المثقفين ، عندما تخذلهم العامية في التعبير عن الأفكار و الحقائق " (32) .
ج ـ الدعوة إلى استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني : فلم يتوقف الأمر بالحاقدين على اللغة العربية عند حد مناداتهم بالتخلي عن الفصحى و إعرابها ، لكونهما ـ في زعمهم ـ من أسباب صعوبتها ، و تخلف أهلها عن الركب الحضاري ، بل ذهب بهم الأمر إلى حد الدعوة إلى التخلي عن الكتابة بالحرف العربي ، و استبداله باللاتيني ، فـ "حتى خطها ، الذي شرق و غرب ، و استحسنته أمم غير عربية ، فكتبت به لغاتها ، لم يسلم هو أيضا من الطعن فيه ، و الدعاء بأنه هو سبب تأخر العرب ، و بذل الجهود في محاولة تنحيته عن الساحة ، و أن يستبدل به الخط اللاتيني ، حتى إذا ضاعت اللغة ،و ضاع الخط العربي ،فقد تهدمت أقوى قلاع هذا الشرع الشريف "(33) . و إن الدعوة إلى الكتابة بالحرف اللاتيني ، قديمة نسبيا تعود إلى حوالي سنة 1880م ، عندما اقترح ( ولهلم سبيتا Wilhelm Spitta) الذي كان مديرا لدار الكتب المصرية آنذاك ، كتابة العامية التي يدعو إليها بالحرف اللاتيني . و سار على نهجه ـ فيما بعد ـ كل من المستشرق الألماني( كارل فولرز K. VOllers) ، سنة 1890 ، الذي كان هو أيضا مديرا لدار الكتب المصرية آنذاك ، و القاضي الإنجليزي في مصر ( سلدن ولمور Seldon Wilmore) سنة 1901م . و من المتحمسين العرب إلى تجسيد هذه الدعوة على أرض الواقع ، نذكر : عبد العزيز فهمي ، الذي اقترح سنة 1943م على مجمع اللغة العربية في القاهرة ، استخدام الحرف اللاتيني بدلا من الحرف العربي ، متمثلا بما فعله مصطفى كمال في تركيا (34).
فبالإضافة إلى الأضرار الجسيمة التي تلحق هذه الدعوة باللغة العربية و أهلها ،كمسح كل الإنجازات البشرية المسجلة باللغة العربية ، محو الذاكرة العربية و القضاء على فنون الخط العربي التي بلغت عبر القرون غاية الكمال الفني... و غيرها من الأخطار التي تتربص بالأمة العربية كلها جراء هذه الصيحات و الدعوات ، نقول : إذا كتبنا لغتنا بالحروف اللاتينيةفإننا لن نصير أوروبيين، كما أننا لن نبقى عربا. سنصبح كالغراب المطلي بالبياض ، أو كالغراب الذي أراد أن يقلد في مشيته مشية الحمامة ،فعجزعن ذلك ،و في الوقت نفسه اختلط عليه الأمر، و فقد مشيته الأولى ، وأصبح ينط نطا .
إن الحرف اللاتيني الذي دعا إليه المسترقون و أذنابهم من العرب، و أصروا على إحلاله محل الحرف العربي، فيه من العيوب ما جعله سخرية عند الناطقين به ، إذ أن" ما تعانيه اللغتان الفرنسية و الإنجليزية ، مثلا ، من جرائه قد يفوق ما في غيرهما ، حتى إن بعض لغوييهم قد عد مشكلة الرسم عند الناطقين بهاتين اللغتين كارثة وطنية"(35). فمن خصائص اللغات الأجنبية كالفرنسية و الإنجليزية فيها من الحروف التي تكتب في الكلمة دون النطق بها مثل ( gh) في كلمة (light )، و write ) ) ، و أن في معظم اللغات التي تكتب يالحروف اللاتينية كلمات تلفظ فيها أصوات دون أن تكون مكتوبة ، أو كلمات فيها أحرف بينما تنطق بأصوات لا تدل عليها من قريب و لا من بعيد ، مثل كلمة (Rouph) ( تلفظ رف ، مع أنه ليس فيها ما يرمز لصوت الفاء ) هذا بالإضافة إلى أن كثيرا من الحروف الأجنبية ( اللاتينية) لها قيم مختلفة ، فمثلا حرف (C) ينطق سينا مرة كما في كلمة ( cerise) و كافا مرة أخرى مثل ( ِchicago ) ...الخ (36) .و هذا ما يجعلها أكثر صعوبة من اللغة العربية في التعلم ، لعدم احتوائها مثل هذه الحروف التي تكتب و لا تلفظ إلا في ألفاظ قلية ،
و هذا ما جعل الفيلسوف الإنجليزي برنارد شو يسخر من اللغة الإنجليزية لكونها اتخذت الحرف اللاتيني المبهم رسما لها ، و " إن سخرية برناردو شو هذه تشير إلى المأساة التي يعاني منها
الناطقون باللغة الإنجليزية ، فهذه اللغة لا تعتمد ـمثلها في ذلك اللغة الفرنسية في مواضع كثيرة ـ حرفا واحدا للصوت الواحد ، كما أنها لا تعتمد صوتا للحرف الواحد . بل قد ترمز للصوت الواحد بأكثر من حرف واحد " (37) .
و لقد أتى الرد على هؤلاء المستشرقين و من حذا حذوهم من أتباعهم العرب الحاقدين على الحرف العربي ، على لسان بعض المستشرقين ،الذين يعالجون الأمور بكل روية و اعتدال و موضوعية ، مثل ما جاء على لسان المستشرق ( شارل بيلا ) الذي اشتغل أستاذا بجامعة السوربون الفرنسية عندما قال : " إن مثل هذا المشروع مكتوب عليه الفشل لأن العربية غير التركية ، و أيقنت أن الحرف العربي سيدوم إلى أن يرث الله الأرض و من عليها " (38) .
ثانيا ـ العامل السياسي : و يتجلى لنا بوضوح فيما يلي :
1 ـ غياب الإرادة السياسية الشاملة : فإذا كانت الازدواجية اللغوية في السنوات الأولى لاستقلال الجزائر ضرورة حتمية ، لا مفر منها ، لغياب الوسائل الضرورية ، المادية منها و البشرية ، و لوجود اتفاقيات تكفل لها حق الاستمرار في جزائر ما بعد الاستقلال لأجل مسمى ، كما هو الحال مع " اتفاقيات إيفيان "(39) ، فإن الازدواجية في جزائر اليوم ، جزائر العزة و الكرامة أصبحت اختيارا ، و لكنه اختيار مفروض بطريقة و أخرى ، يلجأ إليه الفرد الجزائري مرغما أخوك لا بطل و"إن الإزدواجية الخطرة هي التي نفرضها ،لا حسب الإمكانيات التي تتوفر عليه من المدرسين أو الكتب، بل التي نفرضها كمبدأ ، و ننطلق إليها من مسلمة نفسية لا علمية " (40) .
لقد تراوحت نظرة الدوائر الرسمية التي تداولت على السلطة في جزائر ما بعد الاستقلال تجاه هذه القضية الحساسة ، و أعني بها ( الازدواجية اللغوية ) بين المرونة و اللين حينا ، و التشدد و التصلب أحيانا أخرى ، حسب مذاهب الحكام الذين تداولوا على السلطة و مشاربهم الإيديولوجية . فرفعت الشعارات ، و عينت الهيئات ، و سنت القوانين و المواثيق و الدساتير، التي تمجد التعريب ، و تعطي اللغة العربية المكانة التي تليق بها ، ولكن كل هذا لا يحقق الهدف المنشود إذا لم تتوافر للسلطات السياسية الحاكمة ، نية صادقة ، و إرادة فولاذية ، تسهر بجد و حزم ، على جعل اللغة العربية لغة رسمية يتعامل بها بين مختلف شرائح المجتمع الجزائري ، و توظيفها توظيفا سليما في مختلف المؤتمرات و المحافل الوطنية و الدولية المختلفة ، وتجسيد ذلك في الميدان ، تطبيقا و ممارسة ، لا قولا و تنظيرا . و حتى و إن توافرت النية الصادقة عند البعض منهم ، إلا أنها سرعان ما تختفي ، لكونها لم تجد الدعم الكافي الذي يجعلها تتجسد في الميدان ، بل على عكس ذلك ، تجد صدا من طرف بعض القوى الفاعلة في البلاد ، التي تعمل بكل ما أوتيت من قوة لوأدها في المهد ، خوفا وطمعا . فـ " المواثيق وحدها لا تكفي ،و إن البرامج النظرية مهما كانت سعتها و دقتها و مهما بلغت من الكمال و الشمولية لا يمكن أن تتمخض عن نتائج إيجابية ما لم تكن هناك الوسائل البشرية و المادية الضرورية لإنجازها في جميع المراحل ، و رغم كل المعوقات و العراقيل "(41) .
و من بين الدروس و العبر التي تلقاها بعض الجزائريين المشرفين على عقد المؤتمرات ، و توقيع الاتفاقيات الدولية المختلفة ، و التي أوقعتهم في حيصَ بيصَ ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر :
تلك الحادثة التي تناقلتها معظم الجرائد و الصحف الوطنية و التي مفادها : " أن أحد المتدخلين الإيطاليين في مؤتمر دولي عقد في الجزائر، و أثناء إلقائه لمداخلته باللغة الإيطالية ـ لكونه يحب لغته و يقدسها ـ لاحظ أن المترجم يترجم مداخلته إلى اللغة الفرنسية ، حينئذ توقف عن إلقاء محاضرته و طالب المشرفين على تنظيم ذلك المؤتمر ترجمة مداخلته إلى اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية في الجزائر المستقلة " مما أحدث إحراجا للمشرفين على تنظيم هذا الملتقى .
كما لا يفوتني في هذه المداخلة أن أذكر ما حدث لبعض الأطراف الجزائرية الفاعلة ، بسبب تفضيلهم اللغة الفرنسية عن العربية في عقد الاتفاقيات و إبرام العقود ، مثل ما حدث مع وفد ألماني رفيع المستوى امتنع أن يوقع على اتفاقية مع أحد الأطراف الجزائرية لصياغتها باللغة الفرنسية و أشترط هذا الوفد لكي يتم ذلك أن تعاد صياغتها باللغة العربية ، فكان لهم ما أرادوا. و السيناريو نفسه نراه يتكرر مع وفد برلماني موريتاني عندما رفض رفضا قاطعا أن يوقع اتفاقية مكتوبة باللغة الفرنسية مع شركة( سوناطراك) الجزائرية يقضي بموجبه استغلال هذه الأخيرة حقول نفط موريتانية إلا بعد أن رضخت هذه الشركة للأمر الواقع و أعادت صياغتها باللغة العربية اللغة الرسمية للجزائر المستقلة ، و لكن ليس حبا فيها ، بل طمعا في تحقيق مآربها و مصالحها .
و الدروس كثيرة ، و العبر أكثر، لكن الاعتبار ظل غائبا ، أو بالأحرى ، مغيبا لسبب و آخر .
و هنا لا يسعني إلا أن أقول : إذا كنا نقلد الفرنسيين في التحدث بلغتهم ، فلماذا لا نقلدهم في كيفية الحفاظ و الغيرة عليها . فالقانون الفرنسي يعاقب المعلم و الأستاذ و الصحفي إذا أخطأ في نطق اللغة الفرنسية ، و معلمونا و أساتذتنا و صحفيونا يخطأون في اليوم مائة مرة ، و لا وازع ولا رادع . فإذا كان المتخصص عاجزا عن مواصلة الحديث بالعربية و الالتزام بقواعدها ، فكيف يطلب من غيره الالتزام بقواعد العربية ؟"(42) . زد على ذلك أن مسؤوليهم يعملون كل ما في وسعهم للحفاظ على لغتهم ، و جعلها في مصاف اللغات العالمية التي يجب احترامها ، و هنا أفتح قوسا لأذكر ذلك الموقف الشهم للرئيس الفرنسي الأسبق (جاك شيراك) الذي انسحب من أحد الاجتماعات بعد ما وجد أن اللّغة الفرنسية مغيّبة عنه، عكس بعض رِؤسائنا و من ورائهم بعض أعضاء حكوماتهم ، الذين يتكلمون لشعبهم بلغة أجنبية.
3 ـ وجود الفرانكوفونية التغريبية : التي تتمثل في وجود بعض الدوائر الجزائرية الرسمية القوية ، و التي وظفت كل جهودها لعرقلة تطبيق قوانين تعريب العمل بالدوائر الرسمية، بدلا من لغة المستعمر السابق ، فقد صدر قانون تعميم استخدام اللغة العربية يوم 5-7-1998 بتوقيع الرئيس السابق الأمين زروال، وجاءت المصادقة على هذا القانون بعد سنوات من تجميد قانون سابق لتعميم اللغة العربية كان البرلمان قد صادق عليه عام 1990. متحججين بنقص الكفاءات التي بمقدورها القيام بهذه المهمة ، و ما يمكن الإشارة إليه في هذا الصدد أن قضية التعريب في بلادنا ظلت " سنوات طويلة موضوع نقاش بين طرفين لا يفهم أحدهما الآخر ، فكان شبيها ـ كما يقولون ـ بنقاش الصم الذين لا يسمع بعضهم بعضا ، و لكن كل واحد يرد على الآخر بما يتوهم من أفكاره ، أو ما يطن أنه قاله ، أو ما يعتقد أنه خليق بقوله " (43) . فهو عبارة عن صراع دائر بين التيار الإسلامي و الوطني من جهة وبين التيار العلمانيالفرانكوفوني من جهة أخرى حول قضية تعميم اللغة العربية ، و هذا الصراع أتبعهبالضرورة صراع لغوي بين اللغة العربية الوطنية و اللغة الفرنسية الدخيلة .
يقول الدكتور محمد العربي الزبيري موضحا أسباب الصراع بين المعربين والمفرنسين ، " ... و من جملة تلك الفقرات واحدة تأتي مباشرة بعد تحديد مفهوم الثقافة ، و تشير إلى أن اللغة العربية
قد تأخرت باعتبارها وسيلة ثقافة علمية عصرية ، و هي بذلك قد تتسبب في شل التعليم و تزيد في
خطورة الجهل الموروث عن الهيمنة الاستعمارية " (44) .فهذه الفقرة و أمثالها من الفقرات التي تبدو صغيرة في حجمها و بسيطة من حيث معناها ، إلا أنها في حقيقة أمرها تمثل عائقا أساسيا في طريق البناء و التشييد."فقد تحول موضوع تعريب التعليم إلى مصدر للصراع بين المعربين و المفرنسين بينما هو ، حسب برنامج طرابلس و ميثاق الجزائر و غيرها من الوثائق الرسمية ، وسيلة ضرورية و حتمية لبناء الثقافة الوطنية " (45) .
4 ـ ضعف مناهج التدريس و قصورها في منهجية تعليم اللغة العربية ، و النظرة التربوية القاصرة عن إدراك أهمية تعليمية الأطفال في مراحل دراساتهم الأولى ، و دورها الفعال في بناء الكيان التربوي السليم للطفولة البريئة .إذ كثيرا ما نجد القائمين على هذا القطاع الحساس ـ عكس الدول المتقدمة ـ يعينون معلمين من ذوي المستويات الدنيا لتعليم هذه الشريحة الهامة ، جاهلين أو متجاهلين أن فاقد الشيء لا يعطيه ، إذ " إننا ما زلنا نظن أن تعليم الطفل أهون أنواع التعليم ، و أدى هذا إلى أننا أصبحنا نقيس مقدار المعلم بعمر الطفل الذي يتولى تربيته و تعليمه ، صعودا و هبوطا ، فمعلم الإعدادي أكثر احتراما من معلم الابتدائي ، و أقل مركزا من مدرس المدارس الثانوية ... و هي فكرة ساذجة مدمرة لنفسية هذا المعلم ، الذي وضعنا بين يديه هذه العجينة اللينة ـ طفل اليوم و رجل المستقبل ، ليجعل منه مواطنا صالحا أو شيطانا ماردا " (46) . فيجب على الدولة أن تهتم اهتمام كبيرا و جديا في إعداد مدرس اللغة العربية، و معالجة التدريس المتدني بكل قوة و صراحة فمن المؤلم أن نجد معلم العربية سواء في المدرسة الابتدائية ، أو الثانوية أو حتى الجامعة يتحدث بالعامية و هو يقوم بواجبه ، و من البديهي أنه لا يمكن و الحال هذه أن يحاسب طلبته على أخطائهم اللغوية و النحوية و الإملائية (47) .
5 ـ تنامي سيطرة اللغات الأجنبية ، و ترويج فكرة أهمية اللغة الأجنبية على حساب اللغة العربية ، خاصة في السنوات الأولى من التعليم ، إذ " لتعجب ، حين ترى بعض المتعلمين ، ينطق اللغة الأجنبية على وجهها الصحيح ، حتى إذا رام الحديث بالعربية الفصحى ، تلعثم و ارتبك ، و أخطأ و لحن ، و صحّف و حرّف ، و خلطها بالرديء من الأساليب العامية ، كمن يخلط عملا صالحا بآخر سيء . و ما ذلك إلا لأنه لا يسمع الفصحى إلا فيما ندر في حجرة الدراسة ، حتى إذا خرج إلى الشارع ، ملأت العامية سمعه و بصره في كل مكان ، فخلطت عليه أمره ، و ردته الفصحى أيما رد، و عاقته عن تملك زمامها ، و السيطرة عليها " (48) .لقد أثبتت التجارب أن الطفل الذي يقبل على تعلم لغة أجنبية ثانية قبل أن يتعلم بإتقان اللغة الأولى (الأم) ينعكس ذلك سلبا على اكتساب و تعلم اللغتين كلتيهما . ولذا فإن تعليم اللغة الثانية بعداتقان اللغة الأولى في مصلحة اللغتين في آن واحد. فـ" إن ما يتفق فيه علماء التربية أننا نطبع عقل الطفل بطابع اللغة التي يتعلمها و يستعملها قبل غيرها من اللغات الأخرى . فإذا علمناه لغة أجنبية قبل اللغة الوطنية ستبقى دائما ثانوية في ذهنه و تصوره و سلوكه العقلي والنفسي أيضا ،و إذا تعلم اللغة الوطنية ثم الأجنبية ما شاء من السنين، فإن اللغة الوطنية ستبقى عنه مستحكمة،حتى ولوتعلم بعدها لغات عديدة أجنبية،لا لغة واحدة"(49) .
ثالثا : العامل الاجتماعي :
إذا كانت اللغة نشاطا اجتماعيا ، من حيث إنها استجابة ضرورية ، لحاجة الاتصال بين الناس جميعا ،
فإنها تعد ـ أيضا ـ من أهم الروابط المتينة التي تربط أفراد الجماعة اللغوية بعضها ببعض ،فـ" إن وجود اللغة يشترط وجود مجتمع ، وهنا يتضح الطابع الاجتماعي للغة ، فليس هناك نظام لغوي يمكن أن يوجد منفصلا عن جماعة إنسانية تستخدمه و تتعامل به ، فاللغة ليست هدفا في ذاتها ، و إنما هي وسيلة للتواصل بين أفراد الجماعة الإنسانية " (50) .
فإذا نظرنا إلى المجتمع الجزائري وجدناه يتكلم خليطا بين الفرنسية والعربية واللهجات المحلية باختلاف مناطق الوطن، فقد تجد في العائلة الواحدة، المعرب، والمفرنس، والمزدوج اللغة، ومن لا يحسن لا الفصحى ولا اللغة الأجنبية أو يجمع قليلا من الاثنين؛ وليس بمقدور أحد أن يعطي نسبةالمتكلمين بهذه اللغة أو تلك . و مهمايكن من أمر ، فإن اللغة الفرنسية بمعية لهجات محلية كثيرة ، تسجل حضورها بقوة في جزائر ما بعد الاستقلال ، مما يجعل اللغة العربية و من اتخذها لسانا له محاصرين ، و عاجزين عن أداء أبسط وظائفهم المتمثلة في التواصل و التعبير عن رغباتهم وآلامهم ، خاصة إذا سلمنا بأن"للغة أثرا فعالا في حياة الفرد و المجتمع ، فهي بالنسبة للفرد وسيلة لاتصاله بغيره ، و عن طريق اتصاله بغيره يدرك الفرد أغراضه و يحصل على رغباته ، كما أنها وسيلته التي يعبر بها عن آماله و آلامه و عواطفه ،و اللغة تهيئ للفرد فرصا كثيرة للانتفاع بأوقات فراغه ، و ذلك عن طريق القراءة و المطالعة و الاستمتاع بالمقروء ، فيغذي الفرد بذلك عواطفه ، و هي أداته التي يقنع بها غيره في مجالات المناظرة و المناقشة و تبادل الرأي ، كما أنه أداته التي ينصح بها الآخرين و يرشدهم و ينشر بوساطتها المبادئ بينهم و يؤثر فيهم ..." (51) .
فالسواد الأعظم من المواطنين الجزائريين في جزائر ما بعد الاستقلال يعيشون الاغتراب وسط أبناء وطنهم ، و لا ذنب لهم في ذلك إلا كونهم اتخذوا اللغة العربية لسانا لهم دون غيرها من اللغات و اللهجات الأخرى المنتشرة في ربوع هذا الوطن ،و هي كثيرة . فاللغة العربية عند هذه الفئة من الناس لم تحقق وظيفتها ، ليست لكونها قاصرة عن ذلك ، و إنما لوجودها محاصرة بين اللغة الفرنسية من جهة ، و تلك اللهجات المختلفة من جهة أخرى ، مما جعل هذه الفئة و كأنه تسبح ضد التيار ، أو تعيش على الهامش . لكن " الظواهر الاجتماعية لها قوة قاهرة آمرة ، تفرض بها على أفراد المجتمع ، ألوانا من السلوك والتفكير والعواطف ،و تحتم عليهم أن يصبوا سلوكهم و تفكيرهم و عواطفهم ، في قوالب محدد مرسومة ـ على حد تعبير علماء الاجتماع ـ و يدل على وجود القهر في الظواهر الاجتماعية ـ في نظرهم ـ أن الفرد إذا حاول الخروج على إحدى هذه الظواهر الاجتماعية ، فإنه سرعان ما يشعر برد فعل مضاد من المجتمع الذي يعيش فيه ، ذلك لأن المجتمع يشرف على سلوك أفراده ، و يستطيع توقيع العقاب ، على كل من تسول له نفسه الخروج عليه، و أهون صور هذا العقاب ، هو التهكم الشديد أو السخرية المرة " (52) .
و عملا بهذه النظرة الاجتماعية، يكون الخارج عن السلوك اللغوي ـ في عرف المجتمع الجزائري الحديث ـ خارجا على الظواهر الاجتماعية نفسها. و إذا استمر الحال على ما هو عليه ، دون وضع قوانين ردعية ، تصلح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان ، بإمكاننا التنبؤ بأن ما يمكن أن يحدث لأفراد الشعب الجزائر في المستقبل القريب ، يشبه تلك الحادثة الطريفة المستنبطة من التراث العربي ، التي تحكي قصة أبي علقمة الثقفي ، الذي اشتهر باستعمال الغريب و الوحشي من الألفاظ ، في حواره مع طبيب جاءه يشكو إليه من مرض ألم به، فقد" دخل أبو علقمة على أَعْيَن الطبيب ، فقال له : أمْتَعَ الله بك! إني أَكَلْتُ منْ لُحُوم هَذه الْجَوازل ، فَطَسئْتُ طَسْأةً ، فَأَصَابَني وَجَعٌ مَا بَيْن الْوَابلة إلَى دأْيَة العُنُق ، فلَمْ يَزَلْ يَرْبو و يَنْمي حتى خَالَطَ الخلْبَ و الشَّراسيفَ ، فَهَلْ عنْدَكَ دَوَاءٌ؟ فقال أَعْيَنُ : نَعَمْ ، خُذْ خَرْبَقًا و شَلْفَقًا و شبْرَقًا ، فَزَهْرقْهُ و زَقْزقْهُ ، و اغْسلْهُ بمَاء رَوْث و اشْربْهُ . فَقَالَ أبو عَلْقَمَةَ : لَمْ أَفْهَمْ عَنْكَ ، فقالَ أَعْيَنُ : أفْهَمْتُكَ كَمَا أَفْهَمْتَني " (53) .
فهذه القصة تصدق على شرائح معتبرة من أفراد المجتمع الجزائري التي أصبحت تعيش صراعا مريرا مع جبهات شتى . صراع مع الذات ، لكونها تحس باغتراب داخلي وسط أبناء وطنها و جلدتها و صراع مع الأخر ، و الآخر هنا ليس أمريكيا أو فرنسيا ، بل جزائريا تفرنس قلبا و قالبا ، و تجلت فرنسيته في تنشئته الاجتماعية ، و لغته و ثقافته ، و نظرته إلى كل ما هو عربي ، خاصة إذا كان هذا العربي جزائريا لا ذنب له إلا أنه تعلم العربية ، و حاول أن يتواصل بها مع أفراد مجتمعه .
و هذا أمر خطير يؤجج الخلافات ،و يغرس الكراهية ، و يفرق أكثر مما يوحد . و الأخطر من هذا و الأنكى هو أننا إذا عرفنا أن اللغة أية لغة ، تعد من أهم " عوامل الوحدة السياسية للجماعات ، فالجماعة مهما اختلفت في الدين أو الجنس أو البيئة فإن كانت لغتها واحدة تظل متماسكة متحدة ..."(54) . قلت إذا عرفنا ذلك و سلمنا بصحته ، تنبأ أخي الجزائري ، أختي الجزائرية ، بكل موضوعية ، وبعيدا عن الذاتية التي غالبا ما تخرج من يتسلح بها عن جادة الصواب ، ماذا سيصيب ـ لا قدر الله ـ جزائرنا المستقلة ، جزائر العزة و الكرامة .
ثالثا : العامل النفسي : إن العامل النفسي الذي كرس الازدواجية اللغوية في الجزائر المستقلة ـ جراء تراكمات كل من العامل التاريخي، و السياسي ، و الاجتماعي ـ يتجلى لنا بوضوح في :
1 ـ الشعور الذي انتاب الجزائريين ـ شأنهم في ذلك شأن سكان البلاد العربية ـ بصعوبة اللغة العربية الفصحى ، لما تحويه من قواعد نحوية و صرفية و إملائية جامدة معقدة ، مما جعلهم يعزُفون عنها . و هذا الشعور الذي ولّد عندهم النفورَ منها ، و الرغبةَ عنها ، وليد الاستعمار بأنواعه المختلفة و أذنابه في الداخل و الخارج ، فقد أصبح " الاعتزاز باللغة العربية هزيلا ـ إن لم نقل منعدما ـ يقابله مد زاخر قاهر من الإعجاب باللغات الأوروبية ، و التأثر بها و الاقتباس منها ، بمناسبة و غير مناسبة "(55) .
2 ـ الإحساس بالانهزامية النفسية لدى مستخدمي اللغة العربية ، جراء تلك الصيحات المتعالية هنا وهناك ،زاعمة أن اللغة العربية الفصحى ليست لغة علم و تطورو حضارة ، بل هي لغة متحفية و ظاهرة انتروبولوجية تُدرّسُ و فقط . مما أدى إلى توليد مركب نقص لديهم ، جعلهم يشعرون بالدونية . بل كثيرا ما نلاحظ و نسمع أن طلاب معهد اللغة العربية و آدابها أصبحوا محبطين نفسيا لأنهم يدرسون اللغة العربية التي أصبحت في مجتمعنا ينظر إليها بعين الريبة ، و في المقابل نجد طلاب اللغات الأجنبية ، يفتخرون ويعتزون ، لكونهم يدرسون اللغة الفرنسية أو الإنجليزية باعتبارهما لغتي علم و تطور ،و أصبحوا يعدون تعلم اللغة العربية موضة قديمة أكل عليها الدهر و شرب ، مما أدى إلى العزوف عن تعلمها ، بل إلى حد اعتبار ذلك مضيعة للوقت . هذا بالإضافة إلى عقدة النقص التي تجذّرت في معظم نفوس الجزائريينجراء الاحتلال الفرنسي المرير ، والتي " تعمل فينا دون وعي ،و تتعمق منا في اللاشعور، و ينطبق بها علينا قانون ابن خلدون الرهيب من أن المغلوب مولع بتقليد الغالب في ملبسه و مأكله و أحوال معاشه . و بما أننا مغلوبون ـ حضاريا ـ للأوربيين بعد أن كنا مغلوبين لهم سياسيا وعسكريا ،فإننا لكي نبرهن لأنفسنا و للفرنسيين أيضا و للعالم المتحضر كله بأننا لسنا متأخرين و متخلفين ، لا نكتفي بأن نلبس و نستضيء بالكهرباء بل نحن نتكلم أيضا لغتهم " (56) . و لكن هذا الأمر إذا كان مقبولا نوعا ما في السنوات الأولى التي تلت الاستقلال ، لوجود الداعي إليه ، فإنه أصبحاليوم أمرامرفوضا، يجب التخلص منه، خاصة إذا حاولنا إجراء مقارنة موضوعية بين جزائر الأمس و جزائر اليوم ، فـ " بينما كنا في ظل الاحتلال الفرنسي نتكلم العربية في بيوتنا و حياتنا اليومية ، و ��لفرنسية في الإدارة و الحياة العامة لوجود الفرنسية كلغة احتلال يسيرنا بها الفرنسيون ، حرصنا اليوم على ألا تتغير هذه الوضعية كثيرا ، و لكن بدلا من أن يكون الفرنسيون هم الذين يفرضون علينا لغتهم أصبحنا نحن الذين نفرضها على أنفسنا و على أطفالنا " (57) .
مما تقدم يتضح لنا أن مشكل الازدواج اللغوي في جزائر اليوم أصبح مشكلا عويصا يصعب حله ، و داءا خطيرا يجب الإسراع في معالجته من الجذور،و هذا لا يتأتى إلا بتضافر الجهود. فلا يستطيع ذلك اللساني وحده ، كما يستعصي على السياسي لوحده كذلك ، بل يجب أن يجلس كلاهما على طاولة واحدة للنقاش الهادئ ، و الحوار البناء ، و التشاور المثمر ، لإخراج جزائرنا العربية المسلمة المستقلة من هذا المأزق الخطير الذي أراه يتنامى و يكبر يوما بعد يوم . و لكن هذا لا يعني أنني ضد تعلم اللغات الأجنبية، باعتبارها ضرورة يستدعيها الانفتاح على الثقافات الأخرى أخذاً وعطاء ، بل أنا من دعاة ذلك ، و شعاري دائما هو " من تعلم لغة قوم أمن شرهم ". بل كثيرا ما أعمل على تشجيع طلبتي في الجامعة على تعلم اللغات الأجنبية ، وأسعى جاهدا في ترجمة بعض المصطلحات اللسانية إلى الفرنسية و الإنجليزية علني آخذ بيدي طلبتي للتزود بمعارف وعلوم بلغات أخرى ، و أخفف عنهم ذلك الإحباط و الانهزامية المفروضة ، جراء تلك النظرات الاشمئزازية المؤلمة التي تحاصر طلبة معهد اللغة العربية و آدابها من مختلف شرائح المجتمع الجزائر عامة ، و زملائهم طلبة معاهد الفرنسية و الإنجليزية على وجه الخصوص . و لكن إذا راجت بيننا اليوم مقولة أن (لا مكان في عالم اليوم لمن لا يتسلح باللغات) ، فإن الأصحّ من هذه المقولة أنه (لا مكان لمن يدخل بيوت الآخرين ، بعد أن نسف بيته ، وأتى على بنيانه من القواعد) .
ـــــــــــــــــ
الهوامش و الإحالات :
(1) ـ د/ عبد السلام المسدي ، اللسانيات من خلال النصوص ، النشرة الأولى ، الدار التونسية للنشر ، عام 1984م ، ص 172
(2) ـ د/ عبده الراجحي ، علم اللغة التطبيقي و تعليم العربية ، طبعة دار المعرفة الجامعية ، 1996م ، 24
(3) ـ د/ رمضان عبد التواب ، المدخل إلى علم اللغة و مناهج البحث اللغوي ، ط3 ، مكتبة الخانجي ، 1997م ، ص 125
(4) ـ د/ إميل بديع يعقوب ، فقه اللغة العربية و خصائصها ، ط1 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان ، 1985م ، ص 144
(5) ـ د/ إبراهيم أنيس ، في اللهجات العربية ، مطبعة أبناء وهبة حسان ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، 2003 ، 15
(6) ـ د/ محمد محمد داود ، العربية و علم اللغة الحديث ، دار غريب للطباعة و النشر و التوزيع ، القاهرة ،2001م ص 64
(7) ـ انظر المرجع نفسه ، ص 66
(8) ـ للمزيد انظر : د/ د/ إميل بديع يعقوب ، فقه اللغة العربية و خصائصها ، ص 144، 145 ، فقد جمع عدة مصطلحات أطلقت على هذا المستوى اللغوي .
(9) ـ الطيب البكوش ، إشكاليات الفصحى و الدارجات ، بحث جاء في كتاب "من قضايا اللغة العربية المعاصرة" ص 174
(10) ـ د/ محمود فهمي حجازي ، مدخل إلى علم اللغة ـ المجالات و الاتجاهات ـ ط4 ، دار قباء الحديثة للطباعة و النشر و التوزيع ، القاهرة ، 2007م ، ص 18
(11) ـ انظر محمد علي الخولي "الحياة مع لغتين"، ط 1، جامعة الملك سعود، الرياض، 1988، ص17-18
(12) ـ Jean Dubois et autres : Dictionnaire de linguistique, P,65
(13) ـ يرجع بعضهم هذه المعايير إلى ثلاثة : لغوي و نفسي و اجتماعي . انظر في هذا الصدد :
Sélim Abou; le Bilingusme arabe français au Liban ;P.U.F. Paris; 1962; pp3-7
(14) ـ انظر مثلا : أنيس فريحة ، نحو عربية ميسرة ، ص 134 ، 135 ، 137 ، و غيرها . و كمال الحاج ، في فلسفة اللغة ، ص 222.
(15) ـ انظر : Sélim Abou , le bilinguisme Arabe Français au Liban ; p223
(16)ـ كمال الحاج ، في فلسفة اللغة ، ص 156
(17) ـ Vincent Monteil ; L'arabe modern ; Librairie C.Kinckseick; Paris; 1960; p.69
(18) ـ مصطفى صادق الرافعي ، وحيالقلم 3/33-34
(19) ـ د/ محمد مصايف ، في الثورة و التعريب ، ط2 ، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع ، الجزائر ، 1981م .
(20) ـ د/ محمود عبد المولى ، مقالات و أبحاث ، تونس ، 1982م ، ص 69
(21) ـ د/ فخر الدين قباوة ، المهارات اللغوية و عروبة اللسان ـ البحوث و دراسات في علوم اللغة و الأدب ـ ط1 دار الفكر ، دمشق ، سورية ،1420هـ/ 1999م ، 16
(22) ـ د/ رمضان عبد التواب ، بحوث و مقالات في اللغة ، ص 266
(23) ـ د/مجد محمد الباكيرو البرازي ، فقه اللغة العربية ، دار مجدلاوي للنشر و التوزيع ، عمان ، الأردن ، ص 26
(24) ـ د/ رمضان عبد التواب ، بحوث و مقالات في اللغة ، ص 265
(25) ـ اتهم سلامة موسى اللغة العربية الفصحى ، بمسؤوليتها عن التخلف و الجنون و الإجرام في مجتمعنا . انظر : سلامة موسى ( البلاغة العصرية و اللغة العربية ، ص 55 ـ 64)
(26) ـ مجلة المقتطف ، اللغة العربية و النجاح ، القاهرة ، تشرين الثاني ، 1981م ، ص 352 ـ 354
(27) ـ الصراع بين القديم والجديد في الأدب الغربي ، للكتاني ، ج2 ، 761،ولماذا يزيفون التاريخ، لإسماعيل
الكيلاني ، 317. ،
(28) ـ د/ علي عبد الواحد وافي ، فقه اللغة ، ط11 ، دار نهضة مصر للطبع و النشر ، القاهرة ،1988م ص 158
(29) ـ د/ محمد أسعد النادري ، فقه اللغة مناهله و مسائله ،ط1 المكتبة العصرية ، صيدا ، بيروت ، لبنان ، 1425هـ/ 2005م ، ص 356
(30) ـ انظر : د/ علي عبد الواحد وافي ، فقه اللغة ، ص 157
(31) ـ أحمد أمين ، ضحى الإسلام ، ج1/ ص 291
(32) ـ د/ محمد أسعد النادري ، فقه اللغة مناهله و مسائله ، ص 357
(33) ـ د/ رمضان عبد التواب ، بحوث و مقالات في اللغة ، ط2 ، مكتبة الخانجي بالقاهرة ، 1988م ، ص 165
(34) ـ انظر : د/ إميل بديع يعقوب ، فقه اللغة العربية و خصائصها ، ص 244، 245
(35) ـ د/ عصام نور الدين ، علم وظائف الأصوات اللغوية ـ الفونولوجيا ـ ط1 ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، لبنان ، 1992م ، ص 134
(36) ـ انظر: د/ سميح أبو مغلي ، في فقه اللغة و قضايا العربية ، ص 62 ‘ 63 و د/ عصام نور الدين ، علم وظائف الأصوات اللغوية ـ الفونولوجيا ـ ص134 ، 135
(37) ـ د/ عصام نور الدين ، علم وظائف الأصوات اللغوية ـ الفونولوجيا ، ص 135
(38) ـ د/ عفيف بهنسي ، الحرف العربي و جولاته في العالم ، مجلة اللسان العربي ، ص 77
(39) ـ هذه الاتفاقية تكرس الإبقاء على مجموعة كبيرة من مدراء المدارس كانوا فرنسيي الجنسية أو المتمتعين بازدواجيتها ،و من ثمة ، فإنهم كانوا لا يدخرون جهدا في عرقلة كل المساعي الرامية من قريب أو بعيد إلى زحزحة اللغة الفرنسية.
(40) ـ د/ عبد الله شريط ، نظرية حول سياسة التعليم والتعريب ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر ، 1984م ، 62
(41) ـ د/محمد العربي الزبيري ، الغزو الثقافي في الجزائر ( 62 ـ 82) ، مقال منشور في مجلة الرِؤيا ، مجلة فصلية تعنى بشؤون الفكر ، يصدرها اتحاد الكتاب الجزائريين ، العدد 3 ، 1983م ، ص 18
(42) ـ انظر : د/ محمد محمد داود ، العربية و علم اللغة الحديث ، ص 267
(43) ـ د/ عبد الله شريط ، نظرية حول سياسة التعريب و التعليم ، ص 6
(44) ـ د/ محمد العربي الزبيري ، الغزو الثقافي في الجزائر ، مجلة الرؤيا ، ص 18
(45) ـ د/ محمد العربي الزبيري ، الغزو الثقافي في الجزائر ، مجلة الرؤيا ، ص 19
(46) ـ د/ رمضان عبد التواب ، دراسات و تعليقات في اللغة ، ص 228 ، 229
(47) ـ د/ هادي نهر ، الأساس في فقه اللغة العربية و أرومتها ، ص 317
(48) ـ د/ رمضان عبد التواب ، دراسات و تعليقات في اللغة ، ص 237
(49) ـ د/ عبد الله شريط ، نظرية حول سياسة التعليم و التعريب ، ص 42
(50) ـ د/ محمود فهمي حجازي ، مدخل إلى علم اللغة ـ المجالات و الاتجاهات ـ ص 16
(51) د/ سميح أبو مغلي ، في فقه اللغة و قضايا العربية ، ط1 ـ دار مجدلاوي للنشر و التوزيع ، عمان ، الأردن ، 1987م ، ص 256
(52) ـ د/ رمضان عبد التواب ، المدخل إلى علم اللغة و مناهج البحث اللغوي ، ص 126 ، 127
(53) ـ انظر : عيون الأخبار لابن قتيبة ، طبعة القاهرة ، 1928ـ 1930 ، 2/ 162
(54) ـ د/ سميح أبو مغلي ، في فقه اللغة و قضايا العربية ، ص 257
(55) ـ د/ فخر الدين قباوة ، المهارات اللغوية و عروبة اللسان ، ص 18
(56) ـ د/ عبد الله شريط ، نظرية حول سياسة التعليم و التعريب ، المؤسسة الوطنية للكتاب،الجزائر، 198م ، ص 11
(57) د/ عبد الله شريط ، نظرية حول سياسة التعليم و التعريب ، ص 12
المصدر : http://www.allesan.org/default.aspx?tabId=EUn2PLiMwrg=
سلام الله عليك،
ردحذفأعتقد أن هناك خلطا اصطلاحيا في لغة الدارسين العرب؛ إذ لا يتم التمييز بين الازدواجية والثنائية اللغوية؛ فالأولى نتحدث عنها حال حديثنا عن اللغة في علاقتها باللهجة التي تناسلت عنها نحو حديثنا عن العربية في علاقتها باللهجة العربية الجزائرية، أما الثنائية فيتعلق الحديث عنها لما نكون بصدد تناول لغتين من عائلتين مختلفتين نحو تأثير الفرنسية في العربية وغيرها.
اخي الكريم هل تستطيع أن تفيدني في هذا الموضوع
حذفوهو كذلك
حذف