مدونة تهتم باللسانيات التداولية التفاعلية الاجتماعية تحاول ان ترسم طريقا مميزا في معالجة الاشكالات المعرفية المطروحة في هذا النسق العلمي بالمناقشة والرصد والتحليل والمتابعة
الاثنين، 6 يونيو 2011
الصراع اللغوي
الصراع اللغوي
د.ابراهيم علي عبدالله الدبيان
------------------------------------------------------------------------------------
أ) مفهوم الصراع اللغوي :
اللغة كائن حي ، يطرأ عليها ما يطرأ على الكائنات الحية من ولادة إلى قوة ثم ضعف ، واللغة كائن حي ليس معنزلاً عن الناس بل حي كائن اجتماعي يتغذى بالمجتمع والمجتمع لا يقوم إلا بها ، وقد يقدر أن تقوم لغتان في مجتمع فتتأثر كل واحدة منها بالأخرى ويحدث ما يسمى بالصراع اللغوي الذي على أثره تكون هناك لغة منتصرة ولغة مغلوبة وليس شرطاً على كل حال ، بل قد تعيش اللغتان كلتهما جنباً إلى جنب ولكن هذا لا يمنع من الاحتكاك والتأثر ، وحتى في اللغة المنتصرة لا تسلم من تأثيرات اللغة المغلوبة لابد وأن تنفذ إليها كثيراً من ألفاظ وتراكيب وصور اللغة المغلوبة .
ب) مراحل الصراع اللغوي :
يضع علماء اللغة لهذا الصراع مراحل ، تظهر في كل مرحلة عوامل تساعد على إنحلال اللغة المقهورة ، وتؤدي إلى القضاء عليها :
ففي المرحلة الأولى : تطغى مفردات اللغة المنتصرة وتحل محل اللغة المقهورة شيئاً فشيئاً ، وقد يكون الصراع بين اللغتين شديداً وطويل الأمد هنا يكون للغة المقهورة قدر واسعٌ من المفردات تدخل في اللغة الغالبة ، وقد يكون الصراع ضعيفاً ، فاللغة المغلوبة لا تبدي أي مقاومة في اللغة الغالبة .(1)
والأمثلة على الصراع الشديد بين اللغتين ما حدث للبلغاريين حينما نزحوا إلى البلقان ، وامتزجوا بشعوب الصقالبة أخذت لغتهم تنهزم شيئاً فشيئاً أمام لغة هذه الشعوب حتى انقرضت ، وكانت السيادة للغة الصقالبة ولكن ها التغلب لم يتم إلا بصعوبة وبعد أمد طويل وصراع عنيف خرجت منه اللغة الغالبة مشوهة محرفة بعيدة بعداً كبيراً عن صورتها القديمة .(2)
أما المثال على الصراع الضعيف ما حدث للغة الإغريقية العالمية التي انتصرت عليها اللغة العربية وخرجت الأخيرة من الصراع سالمة ولم تكن تتأثر بشيء من خصائص اللغة الإغريقية إلا عدداً محدداً من الكلمات الإغريقية . (3)
المرحلة الثاني : تتغير مخارج الأصوات ويقترب النطق بها ، من أصوات اللغة الجديدة شيئاً فشيئاً ، حتى تصبح على صورة تطابق أو تقارب التي هي عليها في اللغة المنتصرة ، وذلك بأن يتصرف المغلوب تصرف الغالب في النطق بالأصوات .
وهذه المرحلة تعد أخطر مراحل الصراع اللغوي ، إذ يزداد فيها انحلال اللغة المغلوبة ، ويشتد قربها من اللغة الغالبة .
المرحلة الثالثة : في هذه المرحلة تفرض اللغة المنتصرة قواعدها وقوانينها اللغوية الخاصة بالجمل والتراكيب ، وبهذا نزول معالم اللغة المقهورة وحينئذ تبدأ اللغة المنتصرة في إحلال أخليتها واستعاراتها ومعانيها المجازية محل الأخيلة والاستعارات للغة القديمة التي تموت شيئاً فشيئاً .
إلا أن النصر لا يتم للغة من اللغات ، إلا بعد أمدٍ طويل ، قد يصل أحياناً إلى أكثر من أربعة قرون ، فالرومان أخضعوا بلاد الجال في القرن الأول الميلادي ، ولكن لم تتم الغلبة للغة اللاتينية إلا في القرن الرابع .(1)
* العوامل التي تتحكم في الصراع :
هناك عدة عوامل ذكرها العلماء تتحكم في نتيجة الصراع اللغوي فمن ذلك الصراع اللغوي الناتج عن الحرب ، فإذا حدث غزو من شعب ضد شعب آخر ، وكان الشعب الغازي يتحدث لغة غير لغة أصحاب البلاد ، فإنه يبدأ مع مرور الوقت صراع بين اللغتين ، وليس من الضروري أن ينتهي هذا الصراع على غرار نتيجة المعركة الحربية ، فقد يكون الشعب المغلوب أصلب عوداً في تمسكه بلغته ، وقد يكون ضعيفاً مستسلماً ولا بد من أحد احتمالين .
1) إما أن تنتصر إحدى اللغتين على الأخرى ، وتصبح هي اللغة السائدة بين الجميع.
2) وإما أن تستويا في القوة ، فلا تتمكن إحداهما من هزيمة الأخرى فتتعايشان معاً .
ويتحكم في هذه النتيجة أحد عاملين ، أو هما معاً :
1) التقدم الحضاري .
2) التفوق العددي .
فإذا تساوي الشعبان في الناحية الحضارية ، بأن كانا متخلفين ، فإن نتيجة الصراع سوف تعتمد على كثرة العدد لأن العدد القليل سوف يغرق وسط طوفان بشري .
مثال ذلك : عندما زحفت قبائل الأنجلو من أواسط أوربا إلى انجلترا لم تلبث لغتهم أن تغلبت على القبائل الكلتية للسكان الأصليين ، بسبب أن عدد الكلتيين لم يكن شيئاً بجوار عدة الغزاة .
أما إذا كان الشعب الغالب ، أرقى من الشعب المغلوب حضارة وثقافة فإن هذا التفوق الكيفي يكتسح أمامه أي تفوق كمي ، على شريطة أن تدوم غلبته وقوته زمناً كافياً يمكن معه تحقيق نتيجة حاسمة للصراع اللغوي .
مثال ذلك : فتوحات العرب في صدر الإسلام للشام والعراق ومصر يواكبها اكتساح اللغة العربية لجميع اللغات التي كانت سائدة في تلك البقاع ، فاكتسحت القبطية في مصر والبربرية في شمال أفريقيا والكوشية في الشرق .(1)
كذلك أجد أن للموقف السياسي أهمية كبرى ، فإن بعض الشعوب يتمسك بهذه اللغة دون تلك ، مثل ذلك الأقطار البلقانية وفي أيرلندة ، حيث تتجه حركة وطنية إلى إحياء اللغة القديمة للبلاد تخلصاً من لغة أعدائهم الإنجليز .
وإلى جانب هذه العوامل ، هناك عامل عاطفي له أثره في الحدافظة على سلامة الكثير من اللغات وبقائها ، وهو عامل الهيبة ، وكثيراً ما يكون مستمداً من القيمة الذاتية للغة .
مثال ذلك اللغة التركية مع أنها كانت لغة الفاتحين سياسياً وحربياً ، وكذلك لم يتمكن الاحتلال التركي للشرق ، خلال قرون عديدة من القضاء على اللغة العربية ، وإحلال العربية محلها ، لأن التركية ليس بأية حال من الأحوال ، من لغات الحضارات الكبيرة بخلاف العربية.(2)
* الصراع اللغوي بين العربية وغيرها قديماً وحديثاً :
أولاً : الصراع اللغوي بين العربية وغيرها – قديماً .
أتِيْحَ للغة العربية من قبل الإسلام ومن بعده فرص كثيرة للاحتكاك بلغارت أخرى من فصيلتها وغير فصيلتها ، وقد توثقت العلاقات المادية و الثقافية بين العرب وجيرانهم قبل الإسلام ، فكان من الطبيعي أن تتأثر اللغتان إحداهما بالأخر وفقاً لنواميس علم اللغة ، وكان الصراع الدائم بين الآرامية والعربية والذي انتهى بانتصار الأخيرة ، غير أن اللغة المغلوبة تركت أثراً واضحاً في اللغة الغالبة .
أما بعد الإسلام ، فقد أدت الفتوح العربية إلى امتزاج العرب بكثير من الشعوب ، فاشتبكت لغتهم من جراء ذلك في صراع مع اللغات الآرامية في سوريا ولبنان والعراق والقبطية في مصر والبربرية في شمال أفريقيا والفارسية في إيران ، والتركية ببلاد الغول ، وكانت النتيجة أن قضت اللغة العربية على الآرامية والقبطية والبربرية، ولكنها خرجت من صراعها وهي متأثرة باللغات التي صرعتها تأثراً يختلف قوة وضعفاً باختلاف اللغات .
أما عن صراع العربية مع الفارسية ، فقد ترك في كلتيهما آثاراً واضحةً من الأخرى ، على الرغم من أنه لم ينته بتغلب واحدة منهما . غير أن أثر العربية بالفارسية كان أوسع نطاقاً من أثر الفارسية بالعربية .
وقد تركت اللغة العربية أثراً جلياً في اللغة التركية من ناحية المفردات ولم يكن حظ التركية في العربية إلا نزرًا قليلاً تمثل في اللهجات العامية المنشعبة عن اللغة العربية .(1)
واللغة العربية لم تكن قد واجهت في أي قطر من المنطقة ، أي مقاومة من اللغات الأجنبية التي استوطنت تلك الأقطار ، وإنما كان المواجهة مع اللغات الوطنية للشعوب التي دخلت في الإسلام .
ولم يكن موقف الشعوب من لغة العرب أن فرطت في ألسنتها فجأة أو أكرهت على التخلي عنها بحد السيف ، وإنما الصراع اللغوي مر بمراحله الطبيعية التي تحكمها سنن الاجتماع ، فبدأ بمرحلة عزلة تفاوتت من قطر إلى أخر وفي تلك المرحلة كانت العربية مع أهل الأقطار المفتوحة عن طريق التراجمة .
ولم تطل فترة العزلة اللغوية ، والقرآن الكريم يفتح للعربية قلوب من أسلموا ، وحصل أن هناك هجرات جماعية للقبائل العربية إلى الأقطار المفتوحة ، ومع هذه القبائل الوافدة نفدت العربية إلى مواطنها الجديدة .
وفي هذه المرحلة كانت العربية تتعامل مع اللغات الوطنية مباشرة دون مترجم ، ثم ما لثبت العربية أن اجتازت مرحلة التبادل أخذاً وعطاءً ، تأثراً وتأثيراً ، لتنتصر على اللغات الوطنية التي تركت المجال لهذه اللغة القومية المنتصرة المستجيبة لحاجات حياتهم اللغوية في يسر سخاء . (1)
وأثر اللغة العربية في اللغات الشرقية كالفارسية والأفغانية والهندستانية جاء من ناحيتين .
أولاً : من ناحية المعاملات الفقهية والتنظيمات السياسية والمفاهيم الأخلاقية والدنية .
ثانياً : من ناحية الحرف العربي ، باعتبار ، أداة لكتابة لغات الشعوب الإسلامية فأصبحت اللغة الفارسية والتركية والأوردية وغيرها تكتب بالحروف العربية .(2)
* الصراع اللغوي بين العربية وغيرها – حديثاً :
وفي المجتمع الحديث الذي كثر فيه الاتصال بين الأمم وسهل ، نتيجة للانقلاب الصناعي ، والمخترعات الحديثة وسرعة المواصلات وازدياها ولسوى ذلك من العوامل ، نجد أن اللغة العربية ظلت في صراع محتدم مع غيرها من اللغات .(3)
وكان من نتيجة هذا الصراع أنه تم انتقال اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية بمصطلحاتها وتعابيرها ليس وحده ما نقل ، بل لقد انتقل إلى الغرب استعمال أرقام العربية والكسور العشرية ، وبقيت أسماؤها مع لحقها من التعديل .
وكان أبرز ما واجه العربية في العصر الحديث الصراع اللغوي الذي صحبه صراع حربي شرس يريد منح الشخصية القومية وبتر أبناء الأمة عن ماضيهم وتراثهم وتاريخهم .
فأما مصر والشرق ، واجهت العربية حملات ضارية صمدت لها فاستطاعت أن تنجو من التفريط في لسان قوميتها ، وإن لم تستطع بعد أن تتخلص من آثار الغزو الفكري ، ومن عزل العربية عن الكليات العلمية بجامعات المشرق ، باستثناء الجامعة السورية .
أما في أقطار المغرب ، فكان جهد الاستعمار أن يسلخها عن قوميتها العربية وشخصيتها الإسلامية ، ومن ثم اتجهت الحملة الضارية إلى حرمان بلاد المغرب من لسان قوميتها وعزلها عن ماضيها .
لكن معركة التحرير الباسلة ، كانت وحدها كافية لأن تكشف لذوي البصيرة منا ، عن وجه الحقيقة التي غابت كثيرًا زمناً كان يُقرأ فيه لكتاب الجزائر ما تنشره مطابع فرنسا لهم وتروج له ، لا يعنيها منه أن يلعنوها بقدر ما يعنيها أنهم أضاعوا لسان قوميتهم . (1)
ونخلص من هذا كله أن العربية واجهت صراعات عديدة كانت أسبابها الحملات الحربية والأساليب الحياتية ، واستطاعت العربية أن تحافظ على كينونتها وجوهرها بحفظ القرآن لها .
الهوامش
(1) ينظر : المدخل إلى عالم اللغة ومناهج البحث اللغوي . د/ رمضان عبد التواب ، صـ 174 .
(2) ينظر : www.moqotel.com
(3) ينظر : الفصحى لغة القرآن . أنور الجندي ، صـ 65 .
(1) ينظر : الدخل إلى علم اللغة ، صـ 175 .
(1) ينظر : www.moqotel.com .
(2) ينظر : المدخل إلى علم اللغة ، صـ 172 .
(1) ينظر : فقه اللغة ، علي عبد الواحد وافي ، صـ 123 – 124 – 125 .
(1) ينتظر لغتنا والحياة د/ بنت الشاطئ ، صـ 62 ، 63 ، 64 .
(2) ينظر : اللغة والمجتمع د/ محمود العمران ، صـ 178.
(3) ينظر : الضحى لغة القرآن ، صـ 97 .
(1) ينظر : لغتنا والحياة ، صـ 173 – 174 – 175 – 177 .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق