مفاهيم مصطلحية
في مجال الإعلام والاتصال *
للأستاذ الدكتور عباس محمد الصوري
1- الحركة
المصطلحية في اللغة العربية:
من
أهم القضايا التي تواجه الوضع الثقافي للأمة العربية، حاليًا، الموقف من
التفاعل اللغوي مع الحياة العصرية بكل ملابساتها التكنولوجية المعقدة وكيف تستطيع
الأداة اللسانية العربية أداء وظيفتها العصرية ومحاورة العلوم والمعارف الحديثة
بلغة علمية مواكبة، قوامها المصطلح الدقيق والعبارة الدالة .
لم
تعد اللغة العربية تعطي بنفس الزخم والثراء اللذين عرفتهما أيام النهضة العلمية في
تاريخها الأثيل. فهي الآن تأخذ كثيرًا وتكاد لا تعطي إلا النزر اليسير، وإذا كان
الرصيد العلمـي الـذي تسعى إلى تكوينـه قد
حصل بفعل
الاستعارة من لغات أخرى وعن طريق النقل
منها، فلا غرابة أن ينصب البحث على إشكالية إيجاد المعادل المصطلحي للكلم الأجنبي
حيث يغزر الإنتاج في مجال العلوم الحديثة ومن ضمنها ميدان الإعلام والمعلوماتية …
.
فالعربية
ما فتئت تأخذ عن غيرها مثل سائر اللغات الحية التي تأخذ وتعطي بناء على مبدأ
التأثير والتأثر الجاري به العمل في سائر الثقافات، والعربية حاليًا في أمس الحاجة
للانفتاح على غيرها من اللغات، فهي مجبرة على استقبال أرتال من الكلمات الوافدة،
فتعمل على تكييفها واستيعابها، فتتعرب ويكتب لها مقام طيب بـرحاب لغـة الضاد .
وبعض
|
المفردات
الوافدة تستعصي على الاندماج فتبقى غريبة محتفظة بزيها الأعجمي دخيلة، لكن اللغة
العربية تحتاج إليها وإلى مثيلاتها المعربات لما لها من خطورة في النفاذ إلى
الحياة المعاصرة. ولقد دعت الحاجة إلى هذه المرونة حتى تستطيع اللغة العربية
التصدي إلى هذا الكم الهائل من الألفاظ المستحدثة التي تتدفق في كل المجالات
العلمية وبوتيرة مذهلة تتطلب ملاحقة دينامية وبنفس السرعة وعلى نفس الوتيرة.
وإذا
كان توفير المعادل المصطلحي في العربية ليس مستعصيًا في بعض العلوم الإنسانية مثل
اللغويات والأدب والاجتماعيات إلخ… بحكم ما تراكم في اللغة العربية من مخزون
معجمي غني وكاف لكي يمنح منه المصطلحيون بكل ارتياح، فإن الأمر يختلف في مجال
العلوم التجريبية والتقنية التي نمسي فيها ونصبح على كم غزير يستحدث بلا انقطاع،
تحاول اللغة العربية أن تلاحقه ولو على مستوى المواكبة، أما الإنتاج فهو يتوقف
طبعًا على مستوى البحث العلمي الذي توضع بمقتضاه المفاهيم والتي تبنى عليها
المصطلحات .
ليست
المشكلة إذن في المصطلحات الجديدة بقدر ما هي في المفاهيم التي تعبر عنها، وسنحاول
أن نستدل على ذلك من خلال هذه الدراسة التي تتخذ لها كموضوع مشروع إعداد قائمة
بأهم المصطلحات الرائجة في الإعلام والاتصال التي تعالج مفاهيم تعبر عن الثقافة
العربية والإسلامية .
2- الإعلام
والاتصال : المفاهيم والمصطلحات:
لقد أصبح الإعلام علمًا
قائمًا بذاته، له مبادئه ومجالاته ومناهجه وله مصطلحاته التي تحدد تصوراته
العلمية. والتحكم في هذه المصطلحات يجب أن يمر عبر مفاهيم دقيقة خصوصًا عندما
يتعلق الأمر بالتعبير عن التراث الإسلامي، وهو مجال ثقافي معقد ومتداخل يتسم بنوع
من الراهنية السياسية والإيديولوجية (1) تروج له لغة مستحدثة عبر
الوسائط المكتوبة والمرئية والمسموعة من الصعوبة الاقتناع ببراءتها. ذلك أن
مصطلحات الإعلام ليست كلها تقنية، فنسبة كبيرة منها تحيل إلى مفاهيم لها أبعاد ثقافية ترتبط بالهوية العربية والإسلامية التي تعكسها اللغة العربية، وهي في نظر
كثير من المفكرين" تشكل أحسن أداة لنقل مبادئ القومية"(2).
ولقد نبتت هذه المصطلحات أصلاً وترعرعت في مناخ فكري ذي منظور غربي ينطلق من
تصورات مغايرة تحاول اللغة العربية استيعابها من أجل توطينها وتعريبها. لكن عملية
التوطين هذه ليست عملية هينة ولا ميسرة، فهي قد تمت بالنسبة لهذه النوعية من
المصطلحات عن طريق النقل والترجمة، وعملية الترجمة تقتضي الالتزام بمنهجية صارمة
تساعد على الحد مما يعتري المفاهيم المنقولة من جنوح أو خلل، وهذا ما يستدعي
الوقوف على عينة من القضايا المصطلحية التي نسعى من خلالها أولاً إلى استجلاء
المادة المعجمية المختارة لاختبار مدى صلاحيتها لنقل هذه المفاهيم في إطار
مرجعيتها الثقافية، ومن هذه القضايا نسوق ما يلى :
3- في الإحالة المعجمية للمصطلح
الإعلامي:
كان
المتن المصطلحي الذي اشتغلنا عليه يتألف من زهاء ثمانمائة وخمسين مصطلحًا (850)،
قمنا بجرده من عينة اختيرت من عدة قوائم مصطلحية في مجال الإعلام والاتصال متنوعة
في عدة معاجم متنوعة، لكن التركيز كان أساسًا على خمسة منها، وهي :
-
المعجم الموحد لمصطلحات الإعلام: إصدار
مكتب تنسيق التعريب بالرباط سنة 1999م.
-
المعجم الموحد لمصطلحات المعلوماتية: إصدار مكتب
تنسيق التعريب بالرباط سنة 1999م.
-
معجم المصطلحات الإعلامية .د. كرم شلبي -
دار الشروق . ط. 1. 1989م .
-
Glossairedetermes des
telecommun-ications (F.A.A.E).
(UIT-UAT-PNUD-FADSE)
Genéve 87.
-
أعمال ندوة : الإعلام الإسلامي والعلاقات
الإنسانية، ط، 2. الرياض. د . ت .
ولقد اتضح لنا خلال عملية التحليل لهذه
المادة المصطلحية أن المصطلح الإعلامي يتسم بالغزارة في مساحة واسعة من المحاور
المتعدد يمكن للباحث أن يتيه في أرجائها، وأن هذه المحاور، إذا ما لقيت العناية
الجديرة بها فهي قمينة أن تعقد لكل محور منها دراسة مستقلة بها، فهناك مثلاً:
الإعلام الصحافي المكتوب - والإعلام الإذاعي والتلفزي - والبريد- والقنوات
الفضائية - والإنترنيت … إلخ ثم إن المصطلحات الرائجة بهذه المحاور
منها ما هو تقني محض كالمسميات المتصلة بالوسائط والأجهزة والآلات، ومنها ما هو
إحالي ثقافي، يعبر عن دخول مصطلحات جديدة تروج لمفاهيم يختلط فيها السياسي والفكري
والعلمي، مثل ( الحركات الإسلامية) و(الأصولية) و (الإرهاب) و(المجتمع المدني)
و(حقوق المرأة وحقوق الطفل) … إلخ.
وهذا النوع من المصطلحات يطرح
جديًّا عدة قضايا، على رأسها: نوعية العلاقة بين المعجم والمصطلح من جهة، وبين
المصطلح وما يحيل إليه من مفاهيم من جهة أخرى. خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالبعد
الاجتماعي والثقافي الذي يتحرك فيه هذا المصطلح. فالسياق الاجتماعي والثقافي يعكس
نوعية المفاهيم التي ينقلها المصطلح على مستوى الحياة التي يعيشها المستعملون له
أفرادًا وجماعات، كما يعكس أيضًا نوعية العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى
الاجتماعي (3)، ومما يؤخذ على اللسانيات النظرية، وهي تهتم بالمعنى،
أنها اتخذت لها منهجًا داخليًّا (يعتمد في تفسير المتغيرات على ظواهر لغوية محضة) (4)،
أي أن هذا المنهج يغفل السياق أو الموقف أو المقام، فاللسانيات الاجتماعية هي التي
تعطي أهمية للسياق الذي يحدث فيه الاتصال اللغوي، والمقصود به اعتبار الموقف أو
المقام .
ونحن
عندما نتحدث عن الموقف لا يمكن تصوره دون العوامل الفاعلة فيه، وهي العوامل الاجتماعية
التي تؤثر في النص الملفوظ وبه تحدث صياغة العبارة ونوع الأسلوب المستعمل كالأمر
والنهي والإقناع والتأكيد … إلخ من هذه الزاوية الخارجية لعملية الاتصال.
ينظر ج. ما طوري إلى مفردات
المعجم، فهو يرى أن دراستها هي دراسة المجتمع، وأن (الانطلاق من دراسة المفردات
إنما يكون لمحاولة تفسير مجتمع معين)(5). فالمعجمية تتناول اللغة
كظاهرة اجتماعية، وبالتالي فالمعجم -حسبه- لا يدرس لذاته وإنما يدرس لتفسير
المجتمع، كيف ذلك؟ .
ينظر
ج. ما طوري إلى المفردات باعتبارها أفعالاً اجتماعية، وهي تصنف في مجموعات تسمى
حقولاً، وتصنف هذه الحقول (حسب التصورات والمفاهيم الخاصة بكل مجتمع والخاصة بكل
حقبة زمانية) (6) ومعنى هذا أن اللغات يمكن أن تلتقي في أمور عامة،
لكنها تختلف في تصوراتها ومفاهيمها الخاصة، والذي يهم في اختلاف اللغات (هو في
رؤية العالم) وبالنسبة للمصطلحات، فجورج ما طوري لا ينظر إليها باعتبارها مفردات
مجردة، وإنما ينظر إلى القيمة الاجتماعية التي تمنحها أهميتها، بمعنى أن أهمية كل
مفردة إنما تحدث بفعل وضعها داخل السياق الاجتماعي والثقافي للغة التي يتحرك فيها
المصطلح، أما خارجه فهي–كما يقول- مجرد سديم.
4- المعنى المعجمي والمفهوم المصطلحي:
رأينا سابقًا كيف أن الألفاظ
عمومًا تتأثر بسياقها الاجتماعي، والسياق الاجتماعي مشروع بنوعية التصورات
والمفاهيم السائدة، وقد أشار ج. ما طوري إلى إمكانية إيجاد قواعد مشتركة بين
اللغات على المستوى النحوي والصرفي بل وحتى البلاغي، لكن المستوى المعجمي يتميز
بحمولته الثقافية الخاصة بكل شعب حسب عاداته وتصوراته وقيمه. فالنظام المعجمي-
يختلف عن النظام النحوي (وهو نظام قاعدي)، فالأول مفتوح (7)، وقواعده
التي تحكمه لا يقصد بها محدودية هذه القواعد على غرار القواعد النحوية والصرفية،
فالتقابلات في المعجم مثلاً واردة لكنها تحمل مدلولاً مختلفًا من التقابلات التي
تحكم النظام النحوي، فإذا أخذنا مثلاً مجال "السكن" كحقل من الحقول
الدلالية فهو يشتمل على عدة مفردات، منها كلمة "منزل" التي لا تقابل
كلمة "عمارة" مثلاً…
تتسم
المعاني المعجمية نسبيًّا بالخصوصية وهي لا تجمعها قاعدة واحدة على نحو ما نجد في
القواعد النحوية التي تتصف بالنظامية والاطراد (8)، لذلك جعله اللغوي
بلومفيلد مجرد ذيل للنحو يتضمن قائمة من الاستثناءات الأساسية (9).
فالمعجم إذن نظام مفتوح لما يتضمنه من معان تتغير وتتلون بحسب التجارب والأحقاب
إلى حد يمكن وضع مخطط لحركية المفاهيم التي تعبر عنها الألفاظ.
والمعجميون يميزون بين
التحليل المعجمي والتحليل المصطلحي والتعريف المصطلحي، فالألفاظ على مستوى التعريف
المعجمي تساوي مدلولاتها حتى بين اللغات المختلفة وإلا استحال النقل من لغة إلى
أخرى وبالتالي يصعب تصور فكرة "الترادف الكوني"، ومعنى هذا المفهوم هو
افتراض أن لكل لفظ ما يوجد مرادف بالضرورة وبالقوة مرادف له، فإن لم يوجد
بالفعل فهو كائن بالقوة، ويجب استنباطه (10).
وهذا الافتراض يتصل بافتراض آخر يتعلق بإمكانية الاستنساخ الثقافي الذي يطرأ
بواسطة الترجمة أي إمكانية الرحلة من ثقافة إلى أخرى دون اعتبار لما بينهما من
اختلافات عن طريق الترجمة .
هذا
عن التعريف المعجمي، أما التعريف المصطلحي فهو "تعريف يختص بالألفاظ التي
تتصل بمجال من المجالات المعرفية في العلوم الطبيعية أو الإنسانية لدى جماعة من
الباحثين في ميدان معين" (11)، يتحدث هذا التعريف عن المجالات
المعرفية أي المفهومية، فالمفاهيم هي موضوع التحليل المصطلحي، يقول هـ. فيلبر أن
التعريف المصطلحي ينبني على إيجاد " صيغة تصف مفهومًا بواسطة مفاهيم أخرى
معلومة وتميزه عن المفاهيم داخل المجال المفهومي، كما تحدد موضعه فيها" (12)
فالمصطلح يحاول ضبط المفهوم في مجال محدد ولذلك تجده يشكل المادة الأساسية للمعاجم
المتخصصة، وتتميز هذه المعاجم بطابعها الاختزالي حتى لا يقع تشويش على المفهوم
وعلى تحديده بدقة وصرامة مثلما نجد في المعاجم الطبية والبيولوجيا والفيزياء
وغيرها… فالتركيز في هذه المعاجم على المفهوم العلمي
جعل الصلة بالمظاهر اللغوية الأخرى في عملية الشرح ضئيلة، فالذي يهم هو "أن
يحدد المصطلح بلغة واصفة بواسطة مفاهيم أخرى محددة"(13).
فإذا
كانت المفاهيم تشكل قوام التعريف المعجمي والمصطلحي، فما دورها في التعريفات
الموسوعية؟ الواقع أن التدقيق في المفاهيم يحتل مرتبة ثانوية في التعريف الموسوعي؛
لأنه بطابعه يتعارض مع الاختزال والإيجاز، ويميل أكثر إلى التفصيل، ويتطرق إلى عدة
مجالات بلا ضابط معين، فهو يستثمر كل المعلومات التي يراها المؤلف تهم القارئ في
المدخل الذي يحرره.
وسنأخذ
مثالاً لمادة "حمْل Grossesse"، كيف عولجت في معجم لغوي، ثم في معجم
مصطلحي وآخر موسوعي؟
الأول-
في المنجد:
الحمْل: مص. ما في البطن، ثمر الشجر. ج.
أحمال وحِمَال وحُمُول.
الثاني-في معجم الطب لاروس: الحمْل
(Grossesse): حالة المرأة الحامل: يبدأ مع التلقيح وينتهي مع الولادة (تدوم
فترة الحمل من 270 إلى 280يومًا).
الثالث- في معجم لاروس الموسوعي:
1-"الحمْل: حالة المرأة الحامل من التلقيح إلى الولادة، مدة الحمل الطبيعية
280يومًا.
2- الحَمْل خارج الرحم حيث تستقر البويضة
خارج الرحم وهناك تنمو/ الحمل العصبي هو
مجموعة من المظاهر العصبية التي تشي بحالة الحمل دون أن يكون هناك تلقيح، وهي تتصل
بحوافز, لا شعورية. يبدأ الحمل بتعشيش البويضة الملقحة في الرحم …. تتحَّول البويضة إلى مضغة، في حدود الشهر الثالث يتشكل الجنين
الذي يحمل معه تحولات في جسم المرأة، فالرحم يتسع رويدًا ويتخذ حجمًا أكبر إلى حد
يملأ البطن في الشهر التاسع. وابتداء من الشهر الرابع يمكن للمرأة أن تحس بحركات
الجنين في بطنها الذي يسبح في السائل الأمنيوتيكي كما يمكن للطبيب أن يسمع دقات
قلبه، في نهاية الشهر التاسع يصل الحمل إلى نهايته مع الولادة، وهي عملية الدفع
بالجنين خارج الرحم" .
مفهوم الحمل لا يتغير في المعاجم الثلاثة،
لكن منهجية المعالجة اختلفت فيها سواء من حيث نوعية المعلومات أو كمها.
في
المنجد اقتضى الشرح ثمانية ألفاظ مع الجمـع بين حَمْـل الإنسـان
وحَمْل النبات (الإِثمار) .
في
المعجم المصطلحي: ارتفع عدد
الكلمات إلى أربع عشرة كلمة، مع حذف
معنى إثمار النبات من عملية الحمل، وهذا طبيعي؛ لأن المعجم يحدد المفهوم في مجال
محصور هو مجال الطب.
أما
في المعجم الموسوعي، فقد بلغ عدد المفردات إلى ما يفوق مئة وعشر كلمات وفيه عولج الحمل جسديًّا
ونفسيًّا وفيزيولوجيًّا وعلاجيًّا … إلخ.
انطلاقًا
من هذه المعطيات المنهجية والإجرائية عمدنا إلى حصر مفاهيم الإعلام في المجال
الإسلامي، وعند فرز المصطلحات التي انتقيناها كعينة ممثلة مما ينيف عن عشرين ألف
مصطلح، لم نجد في المعالجة التي بين
أيدينا منهجًا واضحًا يمكن الاستناد إليه، فالمصطلحات تارة تعالج من وجهة لغوية،
ولاسيما إذا كانت تدل على الآلات والأجهزة، مثل : خط - هاتف- سلك- كشاف - كراس -
قرص مدمج- تلفاز- بث - لازمة إعلانية … إلخ.
وتارة من وجهة مصطلحية يغلب عليها طابع
القصد والإيجاز- كما هو مألوف في المعاجم
المخصصة، لكننا وجدنا نسبة كبيرة من المفاهيم اختلطت في معالجتها المعايير، لا من
ناحية النوع، ولا من ناحية الكم، والسبب حسبما رأينا يعود إلى طبيعة المفاهيم
المنقولة أساسًا عن المناخ الفكري، الذي أنتجت فيه، ومنه هاجرت إلى اللغة العربية
بحكم الجدل السياسي في وسائل الإعلام والذي لا بد أن يكون للثقافة العربية موقف
منه، سواء على مستوى المصطلح أو على مستوى المفهوم الذي ينقله المصطلح. بالنسبة
للمستوى الأول يجد الباحث نفسه أمام قضية كيفية صياغة لفظ المصطلح بقطع النظر عن
مفهومه، هل يتم ذلك عن طريق التأصيل والتأثيل أو بواسطة تعريب المصطلح وتدجينه؟
وبالنسبة للمستوى الثاني يقتضي الأمر من
الاقتناعات التي يحملها وقد تكون صادمة أحيانًا كثيرة لما يؤمن به من أفكار
ومبادئ .
5- تأصيل المصطلح الإعلامي في الثقافة
العربية:
هنالك
هرمية تلتزم بها جل المنهجيات التي توظف في وضع المصطلح ينطلق فيها مكتب تنسيق
التعريب من مبدأ "إعطاء الأسبقية للمصطلحات التي وضعتها المجامع ثم المصطلحات
التراثية "ويلخصها مجمع العراق في: "تفضيل اللفظ العربي على المولد،
والمولد على الحديث، واستعمال اللفظ العربي الأصيل إذا كان المصطلح الأجنبي
مأخوذًا عنه…"(14). وهو نفس ما أكدت عليه
قرارات اتحاد المجامع في مبدئها الأول الذي ينص على " الحرص على ما جاء في
التراث العربي من مصطلحات عربية أو معربة، وتفضيل المصطلحات التراثية على
المولدة" (15).
والواقع
الذي نلمسه في لغتنا أنها لم تتحرج في الأخذ عن غيرها، والكلمات الوافدة تعرف
اللغة العربية كيف تستوعبها، ولقد حاول علماؤنا منذ القديم اللجوء إلى ما هو متاح
من وسائل الصرف والاشتقاق والنحت والاستعارة: وإذا أعوزتهم الحيلة عرَّبوا. أما التراث اللغوي فمن
الصعوبة استسهال التصرف فيه على غرار ما فعل الأوربيون مع تراث اللغتين اليونانية
واللاتينية الميتتين. فتراثنا، رغم القرون السالفة، ما يزال حيًّا في وجداننا
بلفظه وبمفاهيمه، وما يتطلبه المصطلح من تخصيص وشفافية في التدليل يتعارض مع ألفاظ
التراث التي ما تزال تجنح إلى التعبير وإلى الإبداع، مما يؤدي بحكم التاريخ
والمجاز إلى تعدد الدلالة، وتعدد الدلالة في الألفاظ عملية غير اصطلاحية؛ لأن
تحديد المفهوم فيها يرتبط بالسياق وليس بالميدان التخصصي الذي تندرج فيه، من هنا كان التعامل مع الألفاظ
التراثية صعبًا، فمما يروج في صحافتنا العربية حاليًّا وبإلحاح مصطلحات مثل:
إرهاب، أصولية، صحوة، إسلامي… إلخ، لها مفاهيم قدحية عند الغرب ونحن
ننقلها أحيانًا بظلالها العنصرية دون احتراز، وهناك مصطلحات ترجمت إلى العربية على
عجل وشاعت، مع أن لها مفهومًا خاصًّا في الثقافة الإسلامية مثل: (استنساخ)
المأخوذة عن (clonage) : والمصطلح علمي يشير إلى هذه التجربة التي
تمت على حيوان ثديي (نعجة) استخرج منه
العلماء حيوانًا مماثلاً انطلاقًا من خلية له ناضجة (نعجة أخرى سموها دولِّي)، وقد
أثارت عملية "الاستنساخ" الحيواني زوبعة من الردود السلبية والإيجابية
خوفًا من أن تمتد العملية إلى الإنسان… لكن المصطلح قُبِل دون اعتراض، مع أن مادة
"نسخ" ومزيدها "استنسخ" لا تعني "المماثلة" وإنما
حسب المعجم تعني "الإزالة والإبطال والمسخ" وقد كان شيوخنا يطلقون على
نسخ العقود مصطلحًا آخر هو "النظير" (الأصل ونظيره) للابتعاد عن معنى
"الإبطال" الذي يوحي بها مدلول "النسخ".
هناك
أيضًا كلمة "السخرية" لها مفهوم قدحي في الثقافة الإسلامية، لكنها في
الثقافة الإعلامية ترجمت عن "satire" وهي تعني نصًّا مكتوبًا أو ملفوظًا يعمد فيه صاحبه إلى نقد
معاصريه من المشاهير والسخرية من صورهم ومن أفعالهم وأقوالهم. وفي الإذاعة
والتلفزة برامج خاصة يومية لتمثيل الشخصيات البارزة بشكل كاريكاتوري وفي مواقف
هزلية تشيع مثالبهم… أما الألفاظ الأخرى مثل "أصالة"
و"قومية" و"سني" و"شيعي" و"سلفي"… إلخ، والتي يشيع لها
الغرب بمفاهيم قدحية، فهي في الثقافة الإسلامية لها عمقها التاريخي. المجيد. لكنها
بحكم مفهومها التراثي والتاريخي يصعب التعامل معها كمصطلحات عصرية وإلاّ وقعنا في
الشرك الثقافي العربي، ثم إن المنهج
الاصطلاحي في حد ذاته ينفر من المنهج التاريخي التحاقبي على اعتبار أنه لا يتجاوز
في التدليل "الحالة المعاصرة لنظم المفاهيم والمصطلحات الدالة عليها" (16)
فالتعامل مع التراث لتحيين مصطلحاته عملية جذابة من الناحية النظرية، لكنها
عمليًّا تدفع إلى مسالك وعرة قد لا يكون المحصول في أهميته على قدر ما فيه من جهد
ووقت.
6- تأصيل المفاهيم
هل
هناك حاجة إلى تأصيل المفاهيم التي تعبر عنها المصطلحات؟ هل هي قابلة لذلك أصلاً؟
من البديهي معرفة أن المفاهيم تتعارض وفكرة التعدد، وبالتالي فهي عصية عن التغيير.
فالمفروض في المفهوم أن يكون دقيقًا وواضحًا "وقد بلغت العلوم الدقيقة ما
بلغته اليوم بفضل التطور الذي شهدته مفاهيمها في مستوى الدقة والوضوح" (17)
وحتى يتحقق ذلك يجب الابتعاد عن الإبهام وتعدد المفهومات في الدلالة على نفس
المصطلح، وكذلك السقوط في تعدد المصطلحات للدلالة على نفس المفهوم. في الصحافة
المكتوبة والمنطوقة رُوِّج أخيرًا (مثلاً) لمصطلح "المعتزلة الجدد" فما
الذي يميز هؤلاء عن القدماء؟ ولماذا الابتعاد عن مصطلح "السلفية" الذي
يحمل بعدًا فكريًّا ونهضويًّا مشرقًا؟ هل يمكن اعتبار مصطلح التأميم الذي خبا وهجه
في المعترك السياسي مقابلاً للخوصصة (أوالخصخصة)؟
هنالك
مصطلحات كثيرة تروج لها الصحافة المكتوبة والمسموعة بإهاب تراثي، يراد لها أن تدل
على مفاهيم مستحدثة ومستوردة، بدافع استنباتها في الثقافة العربية الإسلامية مثل: "الردة"
و"السلفية الجديدة" "السبئية" إلخ … وقد عالج نماذج منها الشيخ عبد الله
العلايلي في كتاب له تحت عنوان "مقدمات لا محيد عن درسها لفهم التاريخ
العربي" وشرح فيه عينة من هذه المصطلحات القديمة في إطار قومي عربي …
وحتى
تتضح البلبلة التي لحقت بالاتصال المفهومي في الإعلام العربي الحديث نسوق هنا–على
سبيل المثال– مصطلحًا أثار زوبعة من التأويلات التي تصل
أحيانًا إلى حد التناقض من حيث فهمه وتأويله، ونعني به مصطلح "المجتمع
المدني" الذي شغل جمهور المعلقين والمحللين العرب، وسنعرض لثلات صور لتأويل
هذا المصطلح الطارئ على الثقافة السياسية العربية بقلم ثلاثة صحافيين من ألمع الكتاب والمحللين
المشهورين العرب، وفي أعداد متفاوتة
في صدورها، نكتفي بتأمل النص فهو يغنينا عن الإحالة إلى كاتبه أو الصحيفة التي نشر
بها :
النص الأول:
المجتمع المدني: مصطلح قديم
نسبيًّا، غامض في تعريفه ومفهومهٍ الحديث، لكن لندع المفهوم جانبًا لندرك أنه تعبير مؤدب وخجول عن مطالبة المثقفين بالديمقراطية
ودولة القانون والنظام ومجتمع المساواة في الفرص والحقوق والواجبات والحريات..
النص الثاني:
تدور
هذه الأيام نقاشات متفاوتة الحدة والعمق
حول "المجتمع المدني" حاولت البحث عن تعريفه … فيما أقتني من قواميس … المفاجأة الكبرى أنه لا وجود لهذا المصطلح. هناك القانون المدني (روما)
والهندسة المدنية والمدن والحقوق المدنية، لكن لا وجود "للمجتمع
المدني". ربما لأن القضية غير مطروحة في الأساس. وأحد تعريفات كلمة
"مدني"… أنها "كل ما ليس عسكريًّا أو
كهنوتيًّا"، غير أن التعريف الوحيد الذي عثرت عليه في كتاب فرنسيس فوكوياما
(صاحب نهاية التاريخ) … يعرف المجتمع المدني بأنه "مجموعة من
المؤسسات التطوعية والمعاهد"….
… ومفهوم المجتمع المدني مصطلح أوربي ولد في
النصف الثاني من القرن الثامن عشر للتعبير عن تحول حكومات أوربا الغربية من الحكم
الفردي والاستبدادي المطلق إلى الديمقراطية البورجوازية. وفي أواخر القرن التاسع
عشر اختفى ذلك المفهوم ولم يعد للحياة إلا في مطلع القرن العشرين على يد المفكر
الإيطالي غرامشي الذي أراد الرد على ستالين وإثبات خصوصية علم اليسار الأوربي في
مجتمعات كرست بعض أشكال التقاليد الديمقراطية والتعددية(18).
إذا
تأملنا هذه النصوص الثلاثة نجد أن الهاجس الذي تعبر عنه ليس هو حصر المفهوم بقدر
ما هو العمل على إيجاد تصور له في الواقع، والمصطلح كما أسلفنا إنما ينبني على
مفهوم متجذر في الواقع وفي مجال محدد، وليس موجودًا على مستوى الافتراض. تعبر هذه
النصوص، أيضًا، عن البحث على ملامسة المفهوم
داخل الحقل الثقافي العربي بإيجاد جذور له وأصول، فيصيب الباحث أحيانًا
ويختل التحليل عنده كثيرًا، وهذا نموذج لمحاولة صريحة لتأصيل مفهوم مصطلح آخر
مستحدث هو "حقوق الطفل" من خلال (وثيقة إسلامية بديلة لاقتراح الأمم
المتحدة)، وبهذا النص الرابع، نختم هذا الحديث :
النص الرابع:
أعدت اللجنة الإسلامية
العالمية للمرأة والطفل بالمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة وثيقة إسلامية
للطفل تكون بديلاً عن وثيقة الأمم المتحدة للطفل…. وقد قال المدير العام للمجلس الإسلامي
العالمي (بصدد هذه الوثيقة البديل): … إن وثيقة الأمم المتحدة لم تشر إلى الدين
بأنه عامل فعال من عوامل تنمية الطفل بل اعتبرت الأديان والعقائد من العوامل التي تدعو إلى التفرقة
بين الأطفال …
ولم
تـؤكد ( هذه الوثيقة ) على
البعد الروحي والاجتماعي لتربية الطفل
بنفس المعدل الذي أكدت فيه على أبعاد
الانحلال الأخلاقي
…. ولم تركز على دور الأسرة في تنشئة الأطفال بل ركزت على الأسرة
البديلة… ولفظ الأسرة البديلة غير الشرعية ذكر في 106
بنودٍ من بنود الوثيقة وذكرت لفظ الأسرة صراحة 12 مرة. فوثيقة الأمم المتحدة تعطي
الطفل انطباعًا سلبيًّا لإخراجه من الأسرة بنفس الطريقة التي أخرجت بها المرأة في
وثيقة مؤتمرات المرأة- ولا تذكر هذه الوثيقة تعريفًا للأسرة على أنها وحدة مكونة
من رجل وامرأة مرتبطين بعلاقة زواج شرعي ولكنها استخدمت بديلاً بأن للأسرة عدة
أنماط مختلفة، وبذلك يشيع الأطفال والأبناء والأطفال غير الشرعيين في مجتمعاتنا
الإسلامية مثل ما حدث في الغرب.
عباس محمد الصوري
عضو المجمع المراسل من المغرب
الهوامش:
1-
يقول د. محمد المنجي الصيادي في كتابه:
التعريب وتنسيقه في الوطن العربي. بيروت 1980 ص370
: "إن التعريب إنما هو اختيار سياسي وحضاري".
2-
نفس المرجع . ص 375 .
3-
د. عباس الصوري: الرصيد المعجمي في اللغة
العربية، الرباط 1995 .
4-
د. نهاد الموسي: نحو اللسانيات
الاجتماعية في اللغة العربية. مجلة "الدراسات اللغوية"، الخرطوم 1985.
5-
جورج ماطوري: منهج المعجمية، ترجمة د. عبد العلي
الودغيري 1993 .
6-
المرجع نفسه .
7-
موسوعة:“La
pleiade” ص
284.
8-
د. علي القاسمي: علم اللغة وصناعة المعجم
. ص : 6 .
9-
المرجع السابق .
10-
د. عباس الصوري: بين التعريب والتوحيد، ضمن ندوة "قضايا المصطلح في الأدب والعلوم الإنسانية " سنة 2000م .
11-
د. حلام الجيلالي: تقنيات التعريب بالمعاجم
العربية المعاصرة (منشورات اتحاد الكتاب العرب) 1999 ص: 137 .
12-
نفس المرجع .
13-
نفس المرجع .
14-
د. محمود أحمد السيد: المبادئ الأساسية
في وضع المصطلح وتوليده، مجلة "التعريب"، العدد 19/200.
15-
ندوة "إقرار منهجية موحدة لوضع
المصطلح العلمي العربي وسبل توحيده وإشاعته" المنعقدة بدمشق أكتوبر
1999.
16-
د. محمود فهمي حجازي: الأسس اللغوية لعلم
المصطلح .
17-
د. علي وطفة: إشكالية المفهوم/ مجلة "التعريب
19/2000.
اخترنا هذه النصوص الثلاثة وما يليها من
أعداد متفرقة لجريدة "الشرق الأوسط" الذائعة في جل الدول العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق