قراءة في كتاب البناء الاجتماعيّ للهويّة الجنسيّة
نقدّم إلى القارئ العربيّ كتابًا يُعدّ حسب حسن احجيج مُراجع الترجمة العربيّة وواضع مقدّمة لها، "أوّل عمل يترجم لإرفينغ غوفمان إلى اللّغة العربيّة" (ص: 8). فقد اختارت الباحثة المغربيّة هدى كريملي مقالين نشرهما غوفمان في السبعينيات من القرن العشرين، ونقلتهما عن الترجمة الفرنسيّة، وجمعتهما بين دفّتي هذا الكتاب الذي صدر خلال هذه السنة (2019) في 143 صفحة من القطع الصغير عن "مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع". ونحاول في هذا التقديم، أن نضع هذين المقالين في سياقهما، وفيما لهما من صلة بأعمال غوفمان، مفيدين من المقدّمة المستفيضة التي كتبها حسن احجيج، إفادتنا من بعض أعمال غوفمان وبعض المراجع الإنجليزيّة التي تناولت أعماله، ساعين قدر المستطاع أن نعبّر بطريقتنا عن فحوى هذا الكتاب، وأهمّ ما جاء فيه من قضايا وأفكار.
ولعلّه من المفيد أن نذكّر -في بداية هذا التقديم- بأنّ ولادة إرفينغ مانيال غوفمان (Erving Manual Goffman) كانت عام 1922 في قرية من قرى مدينة مانفيل (Mannville) الكنديّة من أب يهوديّ مهاجر من أوكرانيا، وأنّ وفاته كانت سنة 1982. وكان التحاقه بجامعة مانيتوبا (University of Manitoba) عام 1939 أين بدأ بدراسة الكيمياء، ليتحوّل بعد ذلك إلى العلوم الاجتماعيّة، ولينتقل في مرحلة لاحقة إلى جامعة تورنتو (University of Toronto)، وبعدها إلى جامعة شيكاغو (University of Chicago)، كي يتابع دراسات الدكتوراه، بإذن من قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة بجامعة أدنبرة (university of Edinburgh) الجهة العلميّة المدعّمة للعمل الميدانيّ الذي قام به غوفمان في شتلاند (Shetland)، واستغرق عامين (1949-1951). وبعد أن حصل غوفمان على الدكتوراه عام 1953، ظلّ يدرس لمدة سنة في جامعة شيكاغو خصائص التفاعل الاجتماعيّ رفقة ويليام سوسكين (William Soskin) الأستاذ بقسم علم النفس، ليصبح في أواخر عام 1954 عالما زائرا في المعهد الوطنيّ للصحّة العقليّة بولاية ماريلاند (Maryland)، وليلتحق بداية من عام 1958 بقسم علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا ببيركلي.
وقد عرفت الكتب التي بدأ غوفمان في نشرها في مطلع الستّينيات من القرن العشرين انتشارا واسعا؛ فقد فاز كتابه "عرض الذات في الحياة اليوميّة" بجائزة أفضل كتاب في علم الاجتماع الأمريكيّ في عام 1961. ولقي كتاب "وصمة: ملاحظات حول إدارة الهويّة المصابة" (Stigma: Notes on the Management of Spoiled Identity) الصادر سنة 1963، وكتاب "ملاذات: مقالات في الوضع الاجتماعيّ للمرضى العقليّين وغيرهم من النزلاء" (Asylums) الصادر عام قبله بسنتين (1961)، والذي كان ثمرة جهود شاقّة بذلها في مستشفى سانت إليزابيث بمدينة واشنطن، لقي الكتابان صدى كبيرا جعلا من غوفمان كاتبا يحظى بشهرة واسعة عند جمهور القرّاء، وباحثا اقترن اسمه بالنظريّات الجديدة التي خرجت عن المألوف وبالحركة التي ناهضت وقتئذ الطبّ النفسيّ.
وقد توفّرت لغوفمان خلال العام الجامعيّ (1967-1966) الذي قضاه في جامعة هارفارد الفرصة، ليتحاور مع رموز نظريّة اللّعبة التي سيوظفّها بدوره في دراسة الحياة الاجتماعيّة وفهم جانب مهمّ من كيفيّة سيرها. وفي عام 1968، انتقل غوفمان إلى جامعة بنسلفانيا، ليشغل خطّة أستاذ الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، حيث أُتيحت له فرصة لقاء علَمين مهمّين من أعلام اللّسانيات الاجتماعيّة، سيكون لهما دور كبير في تنبيهه إلى أهمّية الأبعاد اللّغوية الاجتماعيّة في دراسة المجتمع، وهو ما سيظهر بوضوح في كتابه الموسوم بـ"أشكال الحديث"، نعني بذينك العلَمين دال هايمز (Dell Hymes) ووليام لابوف (William Labov).
وفي جامعة بنسلفانيا أيضا، بدأ غوفمان يولي اهتماما إلى قضايا الجندر بتأثير من عُصبة من الطلّاب الذين كانوا وقتئذ نزّاعين إلى الحركة النسويّة. وكان من ثمار هذا التأثّر مقال "الجندر في الإشهار" (Gender Advertisements) الصادر عام 1976 في مجلّة "دراسات في أنثروبولوجيا التواصل البصريّ"، ومقال "ترتيبات الجنسين" الصادر عام 1977 في مجلّة "النظريّة والمجتمع".
ولا يمكن -ونحن نعرض شيئا من سيرة غوفمان الفكريّة- ألّا نذكّر بأنّه واحد من أبرز ممثّلي التفاعليّة الرمزيّة (symbolic interactionism) التي ظهرت في جامعة شيكاغو، والتي قدّم أصحابها في إطار الدراسات الاجتماعيّة إطارا نظريّا، اتّجهت همّة الباحثين فيه إلى تدبّر العلاقات التي تنعقد بين الفاعلين الاجتماعيّين على وجه أعمّ، وإلى الكيفيّة التي يبني بها هؤلاء معنًى للعالم الاجتماعيّ الذي يقيمون فيه على وجه أخصّ. فليس المجتمع -من منظور تفاعليّ رمزيّ- كيانا موضوعيّا يوجد بشكل مستقلّ عن الفاعلين الاجتماعيّين، بلْ المجتمع بناء يُشيّده الفاعلون الاجتماعيّون ويعملون -من خلال التفاعلات الحاصلة بينهم- على تعزيزه وتثبيته.
من هنا نفهم العلّة التي جعلت غوفمان يكرّس جهوده وأعماله السوسيولوجيّة لدراسة التفاعلات اليوميّة التي يلتقي فيها الأفراد وجها لوجه، والتي تكون لها استتباعات وآثار بليغة على الكيفيّة التي تتشكّل بها ذوات أولئك الأفراد، والتي يعتبرها غوفمان نظاما قائما بذاته اكتفى به، ومضى على امتداد مؤلَّفاته يتناول عيّنات منه بالدراسة والتحليل، تاركا الأسئلة الكبرى التي ينشغل بها -في العادة- كبار علماء الاجتماع، والتي تنصبّ على فهم طبيعة المجتمع الحديث وما شهده من تطوّر وتغيّر. وإذا كان نظام التفاعل يمثّل الإطار العامّ الذي ينتظم أعمال غوفمان الاجتماعيّة، فإنّ مفهوم الذات (self) هو نقطة الارتكاز في تلك الأعمال التي لم ينفكّ غوفمان يبيّن لنا فيها كيف أنّ هذه الذات تتشكّل ملامحُها عبر تدفّق الأحداث التي تجري لحظة بلحظة أثناء التفاعلات. وراء ذلك اعتقادٌ راسخ بأنّ الذات لا يمكن تناولها بمعزل عن دراسة التفاعل.
فالغاية التي تجري إليها مختلف أعمال غوفمان هي السعي الدؤوب إلى تطوير مجال جديد في الدراسات الاجتماعيّة، والذي يتمثّل في دراسة التفاعلات التي يلتقي فيها الأفراد وجها لوجه، والتي تُكوّن بطبيعتها وحدة، وتُعتبر في حدّ ذاتها حقلا قابلا لكي يكون موضوع تحليلات منسجمة. أجل، يمثّل التفاعل وجها لوجه نظاما قائما بذاته ومجالا من الحياة الاجتماعيّة أهمّ ما يسمه "التواجد المشترك". فنحن -أثناء التفاعل- نجد أنفسنا في حضرة الآخرين ننقلُ لهم شيئا ما عن ذواتنا من خلال فحوى كلامنا، والطريقة التي نتحدّث بها إليهم، والوقفة التي نقفها أمامهم، ونوع النظرات التي نرسلها إليهم، وما نُظهره من استعداد للتفاعل معهم، بل إنّه لا مفرّ لنا -عندما نكون في حضرة الآخرين- من تسرّب هذا النوع من التعابير التي تُخبر عن ذواتنا. فحتّى ملازمتنا الصمت التام، وكفّنا عن الحركة يُنبئان الآخرين بشيء ما حول شخصنا. ومن هنا يمكن القول، بأنّ الدراسة الاجتماعيّة عند غوفمان تنهض بالأساس على الكشف عن ذلك التمازج الذي يحدث في المواقف الاجتماعيّة التي ما هي -في نهاية الأمر- سوى تلك الأطر التي يجد فيها شخصان أو أكثر أنفسهم في مواجهة مباشرة.
ويمكن أن نعتبر هذين المقالين وكتاب "وصمة" الجانب التطبيقيّ لسوسيولوجيا غوفمان القائمة على دراسة نظام التفاعل. فهذه الدراسات التطبيقيّة تسلّط الضوء على أشكال عديدة من الإقصاء الاجتماعيّ تتجلّى -أوضح ما تتجلّى- في التفاعلات اليوميّة. أجل، لقد درس غوفمان في كتابه "وصمة" فئات من الأفراد يعانون أنواعا من النبذ والإقصاء، شأن الذين شوّهت خلقتهم، والذين تتخوّنهم عاهة أو إعاقة بدنيّة، والذين فقدوا السمع أو النظر، والذين أجرموا وسجنوا في وقت سابق، والذين أدمنوا عل الكحول، والذين ينتمون إلى أقلّية عرقيّة. فجميع هؤلاء الأفراد يجدون أنفسهم في المواقف التي يتعرّضون فيها للوصم مُستبعدين لا يلقون من المجتمع القبول والاستحسان الكاملين.
ومن الجدير بالذكر، أنّ مسألة الوصم عند غوفمان مسألة تُدرج في باب الاختلاف. ولا تُصنّف في خانة الانحراف، وهي عنده ليست مجرّد أوصاف خلْقيّة أو خُلقيّة يتّصف بها الفرد، بل هي أدوار تفاعليّة يتفاوت الأفراد في أدائها، وهي وضعيّة تجدُنا -في وقت من الأوقات- نعيشها ونوضع فيها. ولهذا، فبدل السؤال عمّا إذا كان الفرد قد عاش هذه التجربة لأنّه موصوم بوصمة ما، يجدر بنا أن نسأل عن تجربة ذلك الفرد مع الوصم في تنويعاته، وعن الوضعيّات التي وجد نفسه فيها، والتي كانت بسبب من هذه الظاهرة.
نعم، جميعنا نعيش لحظات نحسّ خلالها بأنّنا أفراد مهمّشون، أو بأنّنا نحمل علامة الغريب الذي جاء من بعيد ليحطّ في أرض غير أرضه، هذا يحدث لنا في الأيّام الأولى التي ندخل فيها المدرسة أو الجامعة التي سنكمل فيها دراساتناالعليا، أو مقرّ العمل الذي نعيّن فيه. ولعلّ لكلّ واحد منّا ذكرى منقوشة في صدره، يستعيد من خلالها تلك اللّحظات التي تزعزع فيها كيانه، ودبّ الشكّ إلى نفسه، حتّى إنّه لم يعد واثقا من ذاته. نعم، هي لحظات يجد المرء فيها نفسه في وسط لم يألفه، وقد أحاط به أفراد سبقوه إلى ذلك المحيط، لا يملك إلاّ أن يشعر بأنّهم يحظون -على خلافه- بالاعتراف والقبول الكاملين. من هذا المنطلق ينحو غوفمان باللّائمة على علماء الاجتماع الذين لم يتريّثوا في استعمال مصطلح "الانحراف" (deviation)، عندما أطلقوه على الطرائق التي يتوخّاها المرء في سلوكه، وهم لا يدرون أنّ في ذلك استسهالا يترتّب عليه اعتبار الشخص الموصوم منحرفا مألوفا.
كلّا، ليس الانحراف صفة يتّسم بها الفرد، بل هو في تقدير غوفمان "انحراف اجتماعيّ" تجاه مجموعة من الأشخاص ينخرطون في ضروب شتّى من رفض النظام الاجتماعيّ، شأن المومسات والمُدمنين على المخدّرات والمنحرفين والمجرمين. وانحراف هؤلاء الأشخاص -هو عند غوفمان- نوع من المقاومة التي يستوحيها هؤلاء من الحياتين السياسيّة والثقافيّة، والتي يعبّرون بها عن اعتراضهم على المسالك المعبّدة التي يرسمها المجتمع لأفراده، كي يمرّوا بها، وعلى ما يُسمّى بخطاطات التبرير (motivational schemes) التي يستبطنها أفراد المجتمع، والتي تُعدّ محفّزا لهم فيما يأتونه من أفعال وما يسلكونه من سلوك.
فالوصم في نهاية المطاف، نظام تصنيفيّ يعتمد على خصائص مكتسبة وأخرى موروثة تظلّ تتابع الفرد أينما حلّ، كأن يكون المرء أسمر اللّون أو من الطائفة اليهوديّة. وإذا كان غوفمان لا ينزّل النساء في خانة الموصومين، فإنّ في كتابه "تحليل الإطار" (1974) ما يفيد بأنّ الأنوثة قد تمّ التعامل معها على أنّها صيغة منحرفة من قاعدة الذكورة الأساسيّة، ومن ثمّ، فهي تعدّ علامة ووسما على منزلة دنيا للكائن البشريّ. ولعلّ هذاما يفسّر لنا عدم خروج غوفمان عن النهج الذي نهجه في كتاب "وصم" عندما درس في هذين المقالين اللّذين يتكوّن منهما هذا الكتاب.
ففي المقال الموسوم بـ"ترتيبات الجنسين" كان منطلق البحث في العلاقات الجندريّة هي الممارسات التفاعليّة. وفي المقابل، لم يول غوفمان أهمّية للسلوكيات والممارسات في حدّ ذاتها وفيما تنطوي عليه من معان بالنسبة إلى الذات والمواقف الاجتماعيّة. فالذي يهمّ غوفمان ما يترتّب على الممارسات الجندريّة من آثار في إنتاج الجندر، باعتباره مؤسّسة اجتماعيّة. وقد كان غوفمان -وهو يحلّل مصادر الفروق الجندريّة- مناهضا للتصوّر الجوهرانيّ الذي يعتبر الجندر كيانا ثابتا وليس بناء اجتماعيّا، والذي قام على فرضيّة لم يتوان غوفمان في دحضها، نعني بذلك تسويغ اعتبار المرأة تابعا للرجل بتبريرات بيولوجيّة.
صحيح أن النساء -وليس الرجال- هنّ اللّواتي يحملن ويُرضعن ويحضْن، وأنّ ذلك جزء من شخصيتهنّ البيولوجيّة، وأنّ الرجل -في العموم- أضخم من المرأة، وعضلاته مفتولة أكثر منها (ص: 34). ولكن هل لهذه الحقائق المادّية للحياة نتائج وآثار اجتماعيّة ملموسة؟ يكشف لنا غوفمان كيف أنّ المجتمعات وسّعت نطاق هذه الحقائق المادّية، وبالغت فيها أيّما مبالغة، وصيّرتها مصدرا أساسيّا في التفرقة الاجتماعيّة بين الرجال والنساء. وهكذا حدث ما يُشبه عمليّة الاستيلاء على الجنس، كي يقع تحويله إلى علامة على فروقات اجتماعيّة ثابتة بين الأشخاص. وهذا ما عبّر عنه غوفمان بقوله: "إنّ الاختلافات الجسديّة بين الجنسين ليس لها في حدّ ذاتها صلة تُذكر بالقدرات البشريّة التي تقتضيها غالبيّة مشاريعنا. وعليه، يصبح السؤال المهمّ هو: كيف أصبحت هذه الاختلافات البيولوجيّة غير الحاسمة القائمة بين الجنسين في مجتمعنا الحديث تحظى بهذه الأهمّية الاجتماعيّة؟ كيف من دون تبرير بيولوجيّ بُنيت هذه الاختلافات البيولوجيّةاجتماعيّا؟" (ص: 74).
والرأي عند غوفمان أنّ الجواب عن هذه الأسئلة يستدعي الاستعانة بنظريّة الانعكاسيّة المؤسّساتية (institutional refexivity) التي يفسّر بها كيف تُبنى البيئات الاجتماعيّة على نحو يقع فيه تضخيم الفروق بين الجنسين. فهذا هو المسار الذي يُنتج المعاملة التفاضليّة على أساس الجنس، والتي يتمّ تبريرها باستخدام مفاهيم الاختلافات البيولوجيّة الفطريّة بين الذكور والإناث. ويبيّن لنا غوفمان بدقّة أكثر كيف أنّ "الممارسات المؤسّساتية المتجذّرة بعمق تمارس تأثيرا في تحويل الأوضاع الاجتماعيّة إلى مشاهد يعرض فيها الجنسان سلوكيات جندريّة، حيث يتّخذ كثير من تلك الاستعراضات شكلا طقوسيّا يعبّر عن معتقدات حول الطبيعة البشريّة المتمايزة للجنسين" (ص: 87).
فنحن إزاء ممارسات شائعة تدخل في باب العادات التقاليد. ونحن أيضا أمام معتقدات شعبيّة سائدة تنطوي على تصوّر جوهرانيّ يُسند المجتمع بمقتضاه إلى كلّ من الرجال والنساء جملة من الصفات والأمزجة. وتلك الممارسات والمعتقدات هي التي تسوّغ معاملة الذكور والإناث على أساس تفاضلّي، وهي التي تحوّل الأوهام إلى بداءة لا يشكّ فيها الناس، أو قلْ هي التي تصيّر الجندر من صناعة اجتماعيّة إلى شيء طبيعيّ متجذّر في عقول الأفراد لا يُساورهم شكّ في حقيقته.
ويقدّم لنا غوفمان خمسة أمثلة يستدلّ بها على الكيفيّة التي تشتغل بها الانعكاسية المؤسّساتية، وهي عبارة عن خاصّيات يتّسم بها التنظيم الاجتماعيّ و"يتمثّل مفعولها في ترسيخ صورنا النمطيّة الجندريّة" (ص ص: 73-74). أمّا المثال الأوّل، فهو نظام تقسيم العمل على أساس الاختلاف الجنسيّ، وهو تقسيم يساعد على طريقة في تكوين الزوج (couple) تكوينا يخلق بينهما تبعيّة متبادلة، ويجعل لكلّ واحد منهما سببا مقنعا، كي يبحث عن شريكه. ويترتّب على هذا التقسيم تعريف أنواع معيّنة من العمل المنزليّ بأنّها غير مناسبة للرجال، وتعريف أنواع أخرى من العمل مدفوعة الأجر بأنّها تخرج عن دائرة المألوف من الأعمال التي تأتيها النساء. على هذا النحو، يصبح العثور على شريك طريقة للحصول على مكافآت يجنيها الزوج من زوجته، وتجنيها الزوجة من زوجها.
أمّا المثال الثاني، فهو "الإخوة والأخوات كعناصر اجتماعيّة"، ويعني به غوفمان التنشئة الاجتماعيّة السائدة داخل الأسر؛ فالصور النمطيّة الجندريّة يتمّ ترسيخها في هذا المستوى بسلوكيات سائدة عند كثير من الأسر، شأن إعطاء الفتاة سريرا أكثر نعومة، ومنح الصبيّ جزءًا أكبر من الطعام. فبمثل هذه السلوكيات تتعلّم المرأة منذ نعومة أظافرها المكانة التي يجب أن تحتلّها، ويتعلّم الرجال منذ الصغر المكانة المخصّصة لهم. أمّا المثال الثالث الذي يقدّمه غوفمان، فيتعلّق بالحمّامات الموجودة في الأماكن العامّة، وما يتّصل بها من ممارسات وترتيبات تقوم على الفصل بين الجنسين، من غير أن يوجد شيء في البيولوجيا يحتّم مثل هذا التوزيع "فجهاز الفصل ذاك هو في كلّيته ظاهرة ثقافيّة، إذ يتعلّق الأمر بانعكاسيّة مؤسّساتية. فالفصل بين المراحيض يُقدّم بصفته نتيجة طبيعيّة للاختلاف بين الطبقات الجنسيّة، بينما هو في الواقع وسيلة لتطبيق -إن لم يكن إنتاج- هذا الاختلاف" (ص: 68).
ويمثّل نظام تحديد الوظائف القائم على الانتقاء، المثال الرابع الذي يبيّن من خلاله غوفمان كيف أنّ هذا النظام يضمن للنساء أن ينهضن بدور بارز في "اللّقاءات العامة" أين يكون لظهورهنّ أهمّية كبرى. أمّا المثال الخامس الذي يضربه غوفمان على كيفيّة انتظام المجتمع على نحو يخلق أشكالا مهيمنة للترتيبات بين الجنسين، فيتمثّل في نظام تحديد الهويّة، وهو نظام يقوم على تمييز الأشخاص على أساس الجنس والمظهر ونبرة الصوت والاسم الأوّل. وفي ذلك تصنيف للأشخاص على أساس الفئة الجنسيّة لا يخلو من تحيّز ومحاباة لجنس دون آخر.
هذه أمثلة من الانعكاسيّة المؤسّساتية التي توضّح لنا كيف أنّ الفروقات الجندريّة يقع إنتاجها وإعادة إنتاجها من خلال الممارسات والاعتقادات الاجتماعيّة التي يعدّها غوفمان هي المصدر الحقيقيّ الذي تنبع منه تلك الاختلافات المزعومة فيما يُسند إلى الجنسين من طبائع وهويّات جندريّة. وإلى هذه النتيجة خلُص غوفمان في آخر بحثه قائلا: "وبديهيّ أنّ البيولوجيا ليست مضمونة ودقيقة إلّا لفرز أعضاء المجتمع. إنّ الأحداث والأجوبة -التي تبدو وكأنّها مستمدّة بشكل طبيعيّ من خطوط التوزيع نفسها- هي نتيجة لتنظيم المجتمع" (ص: 96).
ويمكن اعتبار الفصل الثاني من هذا الكتاب المعنون بـ"طقسنة الأنوثة"، بل الكتاب الذي اقتطف منه هذا الفصل، والذي يحمل عنوان "الجندر في الإشهار" تناولا للهويّة الجندريّة، لا من جانب الممارسات المؤسّساتية والمعتقدات الشعبيّة التي تُنتج هذه الهويّة على غرار الفصل السابق الذي كنّا بسبب منه، بل من حيث طرائق استعراض الهويّة الجندريّة أثناء التفاعلات. فنحن -حسب غوفمان- نتوخّى طرائق في قيادة أنفسنا. وهذه الطرائق التي تُصبح بفعل العادة والزمن في عداد المسلّمات هي التي تكشف عن الأنوثة، شأن إمالة الرأس بطريقة أنثويّة مميّزة، وهي التي تترجم عن الرجولة، ومثل إمساك شيء من الأشياء بطريقة ذكوريّة فيها عناد وإصرار.
ويتناول غوفمان -في هذا الفصل المعرّب وسائر فصول الكتاب- بالتحليل الطرائق التي يتمّ بها تمثيل الجنس، وتمثيل الأنوثة على وجه أخصّ في الإعلانات الإشهاريّة، وفي أنواع أخرى من الصور العامّة. وقد قاد تقليب غوفمان النظر في تلك الإعلانات والصور إلى استخلاص جملة من الخصائص التي تميّز الاستعراض الجنسيّ، والتي نذكر منها المرأة التابعة أو المساعدة للرجل، والمرأة المختفّية خلف شيء ما أو خلف شخص ما، والمرأة البعيدة المنسحبة من مجرى التواصل، والمرأة الخاضعة، والمرأة الطيّعة، والمرأة الطفل، والمرأة اللّعبة، والمرأة اللّاعبة.
ومثلما كانت غاية غوفمان من الفصل السابق، أن يبيّن لنا كيف أنّ الجندر تصنعه الممارسات المؤسّساتية والمعتقدات السائدة التي تكرّس فكرة الربط بين الجندر والجنس الطبيعيّ، وتجعل الناس يعتقدون في أنّ الأوّل نتيجة طبيعيّة وحتميّة للثاني، كانت غايته في هذا الفصل أن يفتح أعيننا على حقيقة مهمّة، ألا وهي كون تلك الوضعيّات الاجتماعيّة التي تعرضها الإعلانات الإشهاريّة ليست تعبيرات طبيعيّة لتلك الطبيعة الجوهرانيّة المفترضة حول الأنوثة والذكورة، بل هي -عند تفحّصها- لا تعدو أن تكون "نماذج توضيحيّة لوحدات سلوكيّة من النوع الطقوسيّ تقدّم تصورا مثاليّا للجنسين وللعلاقة البنيويّة القائمة بينهما" (ص: 137).
فمدار الأمر على أجندة تضبط للرجال والنساء طرائق تمثيل الجنس؛ فالأشخاص باعتبارهم أفرادا يحملون هويّة جنسيّة يؤدّون مجموعة من الاستعراضات الجنسيّة تمثّل جداول تناسب الهويّة التي يحملونها. وفي ذلك دليل على أنّ تلك الاستعراضات الجنسيّة طريقة يعزّز بها المجتمع الترتيبات التي أقامها بين الجنسين، ويمكّن -بين الحين والحين- للتصوّرات التي انتهى إليها بشأن طبيعة الأشخاص، ويثبّت النساء في مواقعهنّ، حتّى لا يبرحنها.
ولعلّ أطرف ما في هذا الفصل، دفع غوفمان هذه الفكرة إلى منتهاها، نعني مفهوم "طقسنة الأنوثة" الذي استعمله عنوانا لهذا الفصل، والذي عبّر عنه بوضوح في خاتمة الفصل التي قال فيها: "زدْ على ذلك، أنّ المُعلنين لا يفعلون غير إكساب اتّفاقاتنا طابعا تقليديّا، وتنميط ما هو منمّط سلفا، واستعمال صور مجتثّة من سياقها استعمالا طائشا. باختصار إنّ سلعتهم التافهة هي الطقسنة الفائقة" (ص: 139). وقد وجد غوفمان في طبْع الوضعيّات الاجتماعيّة والفروق الجنسيّة بطابع احتفاليّ وطقوسيّ القاسم المشترك بين ما يقوم به المجتمع، وما يفعله المُعلنون في عالم الإشهار. أجل، تنهض الطقوس والحفلات داخل المجتمعات بدور مهمّ في إبراز مواقع الأشخاص والتعريف بهويّاتهم، وفي ترسيخ الترتيبات الاجتماعيّة وتكريس الفروقات الجنسيّة. فهي -في نهاية المطاف- طريقة يُضفي بها المجتمع مشروعيّة على الأبنية التي أقامها والتصوّرات التي شيّدها، وهي أيضا فرصة يجدّد فيها الأفراد انخراطهم في تلك الأبنية وثقتهم فيها.
ولا يخرج عمل المُعلن الإشهاريّ عن هذا النهج، إذ هو يحوّل الأوضاع الاجتماعيّة إلى مشاهد يتمّ فيها بطريقة طقوسيّة عرض سلوكيات جندريّة على نحو يرسّخ ما يحمله المجتمع من اعتقادات حول الطبيعة البشريّة المختلفة لكلّ من الرجل والمرأة. فتلك المشاهد هي بمثابة الأطر التي توضع فيها الشخصيّات لإنجاز الاستعراضات الجنسيّة التي تتوافق ومعتقدات المجتمع السائدة.
وما من شكّ في أنّ تصوّر غوفمان الجندر هذا التصوّر يجعله قريبا من النظريّات النسويّة المتطوّرة التي جاوز أصحابها الفهم الذي كان سائدا في الموجة الأولى، والذي يعتبر النسويّة مسألة سياسيّة في جوهرها. نعم، نحن أمام تناول يكشف لنا كيف تتورّط المؤسّسات الثقافيّة في جعل المرأة تابعة للرجل، وكيف تنحاز أبنية المجتمع ومؤسّساته للذكور، حتّى يظلّ الوضع على ما هو عليه، ويستمرّ التوزيع غير العادل للثروات الرمزيّة والمادّية بين الرجال والنساء. فالذكورة والأنوثة -في آخر الأمر- صناعة اجتماعيّة يتعلّمها الأفراد، أو قلْ هما صورٌ يتراءى فيها الشخص للآخرين، ويتدرّب منذ صغره على كيفيّة تقديمها. وهذا ما عبّر عنه غوفمان بوضوح في مقدّمة كتابه "الجندر في الإشهار" حين سأل عن الطبيعة البشريّة لكلّ من الذكورة والأنوثة، وعمّا يميّز أحدهما عن الآخر، وأجاب عن ذلك السؤال بقوله: إنّ الأمر يرجع إلى قدرة الشخص -ذكرا كان أو أنثى- على أن يتعلّم كيف يؤمّن صور الذكورة والأنوثة، وكيف يفكّ شفرتها، رجوعه كذلك إلى استعداد ذلك الفرد للالتزام بجدول معيّن لتقديم هذه الصور، بل إنّ غوفمان ينفي أن تكون هناك هويّة جنسيّة، إذ ليس هناك -في تقديره- سوى جدول يضمّ تمثيلات الجنس وكيفيّة عرضه. وهذه لعمري، فكرةٌ مُغرية ستدفع بها بوتلر (Judith Butler) في بداية التسعينيات من القرن العشرين إلى حدّ بعيد، حين نفتْ أن يكون الجندر شيئاموجودا لدى الإنسان وجوهرا كامنا فيه، وأنكرت أن تكون هناك سمة ثابة للهويّة الجنسية، مُقرّة في المقابل بأنّ الجندر عمليّة أدائيّة؛ أيْ هو شيء نفعله، وأعمال نؤدّيها، وصور نعرضها، ونتيجة لطرائق نتعلّمها ونتوخّاها، حين نتحدّث مع الآخرين ونتصرّف أمامهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق