مدونة تهتم باللسانيات التداولية التفاعلية الاجتماعية تحاول ان ترسم طريقا مميزا في معالجة الاشكالات المعرفية المطروحة في هذا النسق العلمي بالمناقشة والرصد والتحليل والمتابعة
الثلاثاء، 17 مايو 2011
وحدة الفكر العربي من الخليج إلى المحيط فُصحى العاميات مظهر لهذه الوحدة
وحدة الفكر العربي من الخليج إلى المحيط فُصحى العاميات مظهر لهذه الوحدة
عبد العزيز بن عبد الله
عضو أكاديمية المملكة المغربية والمجامع العربية والمجمع العربي الهندي
--------------------------------------------------------------------------------------
إن أغلب الأصول والقواعد الأساسية مشتركة بين الفصحى والعامية، حتى ما يتصل بالقلب والإبدال والتسهيل والترخيم والنحت وغير ذلك. وتمتاز العامية([1]) بمظاهر بسيطة تجعلها في بعض الأحايين أكثر إيغالاً في القلب والتسهيل.
ونضرب لهذه الوحدة الأصلية أمثلة وجيزة لا تنفرد بها العامية في المغرب الأقصى وحده، بل تمس اللهجات الدارجة في معظم أجزاء العالم العربي([2]). فمن مجالي التخفيف في اللسان الفصيح والتي أثرت في ألسنة العامة وجود مترادفات يختلف بعضها عن بعض بإضافة حرف واحدٍ. وقد اختار الدهماء لتخاطبهم اليومي أخفها نطقاً، وإن كان أكثرها أحرفاً، مما يؤكد أن عقلية العامة لا تنحرف عادة عن الأصيل إلا إذا لم تجد في صيغه ما يتفق وطبيعتها الميالة إلى التسهيل. ومن أمثلة ذلك: رز ـ أرز (رز) ـ سبل (سنبل) (سبولة في العامية) ـ سطل وسيطل (سطل) ـ قحوان وأقحوان (قحوان) ـ لوباء ولوبياء (لوبياء) ـ مونة ومؤونة (مونة) ـ وز ـ اوز (وز) ـ دغر ودغمرو، أي خلط (دغمر) ـ طلمس وطمس الكتابة بمعنى محاها([3]) ـ فطحه وفرطحه، أي جعله عريضاً (فطح وفرطح) ـ قصم وقصمل، أي قطع (قصم) ـ هدم ودهدم (هدم).
وهناك مترادفات يختلف ترتيب حروفها مثل جبذ وجذب وخربش وخرشب العمل، أي لم يتقنه وخشخش([4]) وشخشخ السلاح (صوت) ـ دعس وعدس (داس) ([5]) ـ دعم وعمد ـ أدغم وأدمغ ـ تسكع وتكسع ـ فطس وطفس، أي مات ـ لطخ وطلخ (لطخ) ـ يئس وأيس. وقد تستعمل العامة الكلمتين مثل: كف وكفكف ـ كب وكبكب ـ هز وهزهز ـ ذر وذرذر، إلخ.
أما النحت، فأمثلته كثيرة: ويلمه. وهي منحوتة من أصلها (ويل لأمّه).
صبحه، أي قال له : صباح الخير.
مساه : قال له : مساء الخير.
تويل : قال : يا ويلي.
فسقه : قال له : يا فاسق.
ما شا الله (ما شاء الله) ـ ما طيبو (ما أطيبه) ـ محلاه (ما أحلاه)، إلخ.
ومن أمثلة الإتباع أو الإبدال بالمعنى نفسه: العجر والبجر ـ حيص بيص([6]) ـ هين لين (سهل) ـ هش بش (مسرور) ـ الكوع والبوع (كعو وبعو) ـ الجوع والنوع ـ شيطان ليطان ـ حسن بسن، إلخ.
وهناك مئات الكلمات تحكي الأصوات أو الحركات، وتتحد فيها اللهجتان. نذكر منها ما يلي: زرزور ـ صفصاف ـ ريح ـ رعد ـ قبقاب ـ ناقوس ـ طبل ـ بوق ـ نبح الكلب ـ قاقت الدجاجة ـ طن أو دن الذباب ـ وع الطفل الباكي ـ طنين الناقوس ـ خرير الماء ـ تفل ـ لحس ـ نفخ ـ بح ـ قحب ـ أح ـ عطس ـ بخ ـ صاح ـ زعق ـ ناح ـ ضرط ـ فسا ـ زمر ـ قطع ـ شق ـ دق ـ تختخ ـ تمتم ـ جمجم ـ غمغم ـ بعبع ـ بقبق ـ قرقر ـ وسوس ـ همهم ـ نحنح ـ خنخن (تكلم من أنفه) ـ قهقه ـ قرقر ـ صرصر ـ لولو ـ وحوح ـ دقدق ـ وعوع ـ غرغر ـ طلطل ـ هرهر ـ زعزع ـ حثحث ـ ضعضع ـ شقشق ـ وقوق ـ زقزق ـ زرزر ـ طقطق ـ رشرش ـ رعرع ـ طنطن ـ تكتك .
أما الصيغ، فكثيراً ما تتخذ الوزن نفسه في العامية والفصحى للتدليل على المدركات نفسها كالمبالغة والتفضيل والبقية والسقاطة والتظاهر والتشبيه أو التشبه والوصف مثل كنز([7]) مكنوز وعلاج (دواء) ووقف (موقوف) وغصب (مغصوب) ونكَسه (نجسة، أي النجس) وشتامة (كثير الشتم) وعيابة ومصلحة (أي صلاح) ومطهرة ومفسدة وحثالة وثفالة (أي بقية الثفل) وقمامة ونخالة ونشارة ونجارة وأحمق (أكثر حمقاً) وأخوف وأطيب وأسلم وأخوأ وأعجب وأعرف وجهد وجاهد (أي شديد) وصيف وصائف وهول هائل وعيشة راضية ومكان عامر (أي معمور) وخبر كاذب (أي مكذوب) ويمين فاجرة (أي مفجور فيها) وتفاقر (أظهر الفقر) وتباكى وتحامق وتجاهل وتماوت وتناعس وتشيطن وتفحل وتفرعن وتفرنج وتمدن وتوحش وبخل وجهل وسفه وضعف وفسق وغلط وكفر وأحمق (أي موصوف بالحمق) وأبله وأعمى.
ويجمع المذكر في اللسانين بإضافة تاء مربوطة إلى المفرد مثل: حمارة (أصحاب الخمير) وخيالة ورحالة وعسالة (أصحاب العسل). وتشترك الفصحى والعامية في الاشتقاق المنطقي من ألفاظ ذات معنى حسي مجرد كالحمام من حم الماء، أي سخنه ومخدَّة من الخد، والسماء من سما، أي ارتفع؛ والسِّمن من السَّمن والشباك من شبك والغمام من الغم، أي التغطية؛ والجارية، أي التي تجري في خدمة سيدها؛ والجمعة، أي يوم الاجتماع في الجوامع وحريم الرجل أي نساؤه (من تحريم المرأة على غير زوجها) والصداع، أي وجع الرأس من صدعه أي شقه، ومنه الشقيقة؛ والغلة الدخل من كراء بيت أو فائدة أرض من غل المكان إذا دخله.
ويكاد ينعدم في العامية التغليب بالمثنى (مثل القمرين والخافقين والعشائين والأصغرين والأسودين) واستعمال صيغة فِعّال المبني على الكسر (للدلالة على الأفعال والأسماء) أو المصدر نعتاً أو معظم صيغ المبالغة (مفْعيل وفُعْلة وفِعِّيل) أو مفعلة للكثرة أو المكان أو أفعل للتعظيم أو التصغير؛ أعنق (أي طويل العنق) وأعين وأورك (أي عظيم الورك) وأخفش (صغير العينين) أو أفعل للدخول (أَتهم وأشأم وأغلس وأنجد).
ومما امتازت به الفصحى أيضاً أفعال السلوب الدالة على الزوال مثل أعتب، أي أزال العتاب وأشكى إذا أزال الشكوى وزيغ، أي أزال الزيغ والميلان (زيغ بالعامية أثار الزيغ) وتأثم وتحرج وتحنث إذا تجنب ذلك.
وكذلك زيادة الميم للمبالغة كزرقم، أي شديد الزرقة.
ويجب أن يعيد التاريخ نفسه في تفصيح العامية العربية وتوحيدها. فقد تعددت اللهجات في الجاهلية بتعدد القبائل الكبرى وخفت أوجه الاختلاف بما استوثق إذ ذاك من صلات في الأسواق الإقليمية والمبادلات التجارية والمصاهرات. وقد لعبت قريش دوراً هاماً في انتقاء أجود اللغات، فنسقت واجتبت أفضل لغات العرب حتى صارت لغتها أفضل لغاتهم ("لسان العرب".). فنزل القرآن بها وازدادت مظاهر الوحدة تحت راية الإسلام بالرغم من الفوارق القبلية البسيطة التي ساندتها أحرف القرآن السبعة. وقد احتفظت ألسنة جهوية بميزات خاصة »من حيث التصريف والهيئة والإبدال وأوجه الإعراب والبناء« (متن اللغة، ج 1، ص. 47). فقريش مثلاً تفتح نون المضارعة، وأسد تكسرها، والحجازيون يثبتون ما النافية، وتميم تهملها. أما الاختلاف في الأسماء، فلا يكاد يظهر إلا في لغة حمير التي ظلت محتفظة بكثير من مفرداتها (المدية الحميرية بدل السكين مثلاً).
ويتجلى الاختلاف بين لهجات العرب في نظاهر مختلفة كالإظهار والإدغام والإشمام والتفخيم والترقيق والمد والقصر والإمالة والفتح والتسهيل والإبدال، وهو اختلاف في الصور الظاهرة لمخارج الحروف مع وحدة اللفظ. وقد عرف العرب منها قديماً العنعنة عند تميم وقيس (إبدال الهمزة عيناً) والكشكشة والكسكسة عند ربيعة (إبدال كاف الخطاب شيناً) والغمغمة عند قضاعة (وهي إخفاء بعض الحروف) والفحفحة عند هذيل (إبدال الحاء عيناً مثل حتى وعتى) واللخلخانية في عمان واليمن (وهي حذف همزة ما شاء الله (ما شاء الله) والتلتلة في بهراء، وهي كسر تاء المضارعة (تلعب) ([8]) والوتم عند أهل اليمن (قلب السين المتطرفة تاء كالنات في الناس) والوكم والوهم عند ربيعة وكلب (كسر كاف الخطاب وهاء الضمير (عليكم، عنهم) والاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار وهي قلب العين الساكنة قبل الطاء نوناً (أنطى ـ أعطى). وما زالت مظاهر ذلك إلى الآن عند الأعراب، مما بسط ذيله على العاميات في المناطق نفسها.
والمشترك نفسه يرجع لتعدد الألفاظ للمدلول الواحد بين القبائل؛ كما أن في اللغة الموحَّدة نفسها اختلافاً في الأبنية من لغتين إلى ثلاث عشرة لغة (عباءة ـ عباية، إلخ).
وقد أرجعت أصول الكلمات الواردة في القرآن إلى خمسين لهجة من لهجات القبائل، علاوة على وجود كلمات معربة.
وظهر الانحراف في الحركات الإعرابية منذ صدر الإسلام، فسار العوام في منهجهم المنحرف. واستفحل هذا الزيغ اللغوي باختلاط العرب بالأعاجم بعد الفتوح. فهب علماء اللغة لتقويم العامية وإرجاعها إلى أصالتها الفصحى. وتجلى هذا المجهود في "أدب الكاتب" لابن قتيبة و"درة الغواص" للحريري، فخف البون بين الفصحى والعامية؛ إذ روعيت شساعته في اللغات الراقية اليوم وبقيت العامية في جميع مظاهرها لغة عربية محرفة الشكل غير مضبوطة القواعد. غير أن العامية احتفظت أحياناً بألفاظ عريقة استعملها العرب وأهملها المحدثون. وقد راعت العامة مقتضيات التطور أكثر مما فعل اللغويون الذين جمد الكثير منهم وراء قواعد راسخة لا تنفعل للتيارات الحضارية المتجددة. وقد حاول عرب الجاهلية تطوير اللغة استجابة لهذا الناموس. وساعدهم على ذلك أن العربية كانت لغة منطوقة لا مقروءة، وسارت العامة على نهجهم؛ فاحتفظت ببعض الخواص الحية وعملت على تنميتها بما يتفق ولوازم التجديد ضماناً لاطراد الحياة. وقد اضطر بعض الشعراء أنفسهم كالفرزدق إلى مسايرة هذا الاتجاه عندما استعمل »ال« بمعنى اسم موصول »اليعمل« و»اليضرب« بمعنى الذي يعمل والذي يضرب. وهي شائعة في العامية، وخاصة منها المغربية.
وقد حاولنا مقارنة بعض الألفاظ العامية في المغرب ومصر والشام. ويتجلى من موازنة كثير من هذه الألفاظ مع مرادفها في المعاجم أنها دخلت أولاً إلى اللغة الفصحى، ومنها تسربت إلى اللهجتين بسوريا ولبنان وكذلك بالمغرب؛ وإلا فيصعب تعليل وجودها في العامية المغربية التي لم تتأثر البتة باللهجة السريانية. ولا ننس أن الشام، وخاصة لبنان هو منبثق اللغة البونيقية أو اليونانية التي أثرت في البربرية المغربية منذ ثلاثة آلاف من السنين. والبونية عربية الأصل([9])؛ وقد سبقت لغة القرآن والفتح الإسلامي بالمغرب وكيفت كثيراً من المعطيات اللغوية، ولا سيما أن الفنيقيين الشاميين أسسوا في المغرب الأقصى عاصمة هي تشمش أو ليكس قرب العرائش منذ عام 1100 قبل الميلاد، أي قبل تأسيس قرطاج بثلاثة قرون (814 قبل الميلاد).
وهنالك مئات الكلمات التركية اندرجت في عامية سوريا ولبنان طوال أربعة قرون من الحكم التركي، فأبعدت كثيراً من المقومات اللغوية عن عراقتها العربية. وقد دخل عدد قليل منها إلى المغرب منذ التاريخ نفسه تقريباً، أي في عهد السعديين الذين كان لهم ارتباط بالباب العالي، ولا سيما في الميدان الحضاري (الحياة والجيش والملاحة والإدارة، إلخ) ([10]).
وقد أشار الثعالبي في "فقه اللغة" (طبعة 1378/ 1959)، القاهرة، ص. 450) إلى أسماء فارسيتها منسية وعربيتها محكية أوصلها إلى مائة وواحد وأربعين منها البياع والدلال والبقال والجمال والطراز والخياط والند والبخور والغالية والحناء والمضربة والقمري والربعة والخرج والدواة والمرفع والفتيلة والمجمرة والمزارق والطبل والشكال والقلية والهريسة والعصيدة.
ثم ذكر (ص. 453) أسماء تفردت بها الفرس، فعربها العرب أو تركوها، منها: الإبريق والكوز والطبق والقصعة والسندس والياقوت والبلور والسميد والكعك والسكنجبين والجلجبين والفلفل والكروياء والقرفة والزنجبيل والسوسن والياسمين والمسك والعنبر والكافور والقرنفل.
وقد تأثرت العامية المغربية بالفارسية عن طريق الدخيل في المعجم العربي([11]) لا بكيفية مباشرة، لأن المغرب ظل في منجى عن التأثيرات الفارسية.
ومن أمثلة المشترك الفارسي في اللهجتين المغربية والشامية: بابا (أي الأب في لغة الأطفال) وبازار (سوق) وبازاري وباس (لثم) وشاويش (وشاوش) وخردة (وأصلها العربي الخرثي) وخواجه أو خواجي (غني) ودرويش (فقير) وزنزانة (سجن ضيق) وزيره (جعله في مكان ضيق) وسالف (خصلة شعر متدلية على الصدغ) وشبر، أي أشبار (وهو حبل رقيق جداً) وشنطة (حقيبة صغيرة) وشيت (نسيج قطني فيه رسوم وألوان) وصباهي (صبايحي، أي جندي) وطارمة (بيت خشبي ذو قبة) وطاقية (نوع من ملابس الرأس وأصله تقية) وقيطان (خيط مفتول من القطن أو الحرير) وكخ (كخ بالمغرب، أي رديء في لغة الأطفال) ومارستان (مستشفى المجانين) وميخانة (حانة، أي خمارة وتطلق على أحد الأحياء بالمغرب) ونيشان (وسام) ونيشن (نيش بالمغرب، أي صوب القذيفة نحو الهدف). أما اليونانية، فقد دخلت هي أيضاً إلى سوريا ولبنان قبل الميلاد بثلاثة قرون حيث استمر الحكم اليوناني مائتين وخمسين سنة قبل خضوعهما للرومان؛ كما اندرجت عن طريق المترجمين السريانيين واليهود والعرب منذ أواخر الأمويين بما أقحموه من ألفاظ دخيلة في القاموس العلمي العربي الذي اقتبس منه حكماء المغرب ونباتيوه أو عشابوه. وكتب الطب والعقاقير المغربية حافلة بهذه الألفاظ التي يتردد صداها في لغة العوام مع شيء من التحريف. إلا أن وجودها في عامية أهل الشام أبلغ، نظراً للاتصال المباشر خلال حقبة طويلة من تاريخ البلاد.
ومن الكلمات العربية المقتبسة من اليونانية والتي دخلت إلى العامية المغربية على ما يقال: ياقوت، وملوخية، ومصطكى، ولوبياء، ولجنة، وكروياء، وكرنب، وكافور، وقيطون، وقيراط، وقيثارة، وقنطرة، وقنب، وقمقم، وقلم، وقصدير، وقرنفل، وقرميد، وقانون، وقالب، وقارب، وقادوس، وفندق، وفنار، وفلس، وفص، وفخ، وطاجن، ورطل، ودلفين، ودرهم، وثؤلول، وبلغم، وبجماط، وبطاقة، وبارود، وأوقية، وإقليم، وألماس، ورز.
أما اللاتينية، فقد استمدت منها اللهجتان الفصحى والعامية ألفاظاً منها قسطاس، وإسطيل، وبوق، ودينار، وسجل، وصراط، وصاقور، وطرطور، وقر صان، وفرن، وقفة، وقلنسوة، وقميص، وقنديل، وقنطار، وكوفية، ومد (مكيال)، ومنديل، وميل، إلخ([12]).
وبينما كان التأثير الإسباني في اللهجة السورية واللبنانية نادراً جداً، إذا هو يتخذ طابعاً عميقاً في العامية المغربية، نظراً للتبادل الموصول بين الأندلس والمغرب خلال الحكم الإسلامي، أي طوال ثمانية قرون، ثم ثلاثمائة عام بعد ذلك احتل البرتغاليون والإسبان في غضونها مراكز هامة في شواطئ البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلنطيقي من المغرب([13]).
* * *
وقد عرف البربر كسائر البدو منذ اعرق العصور حياة بدائية لم تكن تخلو من مظاهر احتفظت بها قبائل صحراوية وأطلسية إلى الآن كالملكية الجماعية والاشتراكية الفلاحية والسكنى في أكواخ الطوب بالدساكر والاقتصار في الأكل على الكسكس والصيد وشرب الألبان والعسل والماء القراح ولبس الجبة والبرنس ووضع أكاليل الريش على الرؤوس واستعمال الحراب والأقواس والخناجر والدرقات الجلدية في الحروب. وكان المغربي يرسم على الجدران صوراً تمثل حياته اليومية في براعة فنية رائعة كما يتحلى ـ كالنساء ـ بالأسورة والعقود. وتمتاز المرأة بنقش الأواني الخزفية ونسج الزرابي في تعاريج هندسية. وبرز الإطار السياسي القبلي في شكل »جمهورية« صغيرة يمثلها مجلس منتخب. وقد طعمت الحضارة القرطاجية الشرقية هذه المعطيات الأولية بعادات جديدة كالطربوش والقميص الفضفاض والتكحل والاختضاب بالحناء والاختتان([14]). وربما حدت البربر إلى التفكير في وضع أحرف »تفناغ« على غرار الهجائية الفينيقية التي تكونت منها الألفبائية العربية إذا لم يكن البرابرة قد اقتبسوا هذه البادرة مباشرة من الهيروغليفية المصرية في الجناح الشرقي لإفريقيا الشمالية. ويظهر أن اليهود النازحين من الشام وخيبر لم ينقلوا إلى المغرب شيئاً جديداً باستثناء الديانة الموسوية ونتف من العبرية لم تترك أثراً يذكر في اللهجات المحلية.
ولعل أول نواة حضارية عربية تلقاها المغرب بعد الفتح الإسلامي قد جاءته عن طريق القيروان التي بدأت تنصهر فيها الحضارة الأموية بعد مرور ثلاثة أرباع قرن على الهجرة، فأقيمت المساجد والدواوين والمصالح والدور الصناعية على غرار ما عرفته دمشق آنذاك من روائع امتزج فيها العنصران الفارسي والرومي. وإذا اعتبرنا الصلة الوثيقة بين القيروان والمغرب قبل أن تزدهر بالأندلس الحضارة الأموية في إطارها الجديد، أمكننا القول بأن الشام كانت الينبوع المشترك للحضارتين ما لبث أن تعزز بمدد مباشر في عهد الأدارسة. فإذا ما حاولنا التنظير بين عناصر الحضارة الأموية من نشأتها في الشام إلى امتدادها بالأندلس، لاحظنا وحدة مقومات العمران والبناء والزخرفة والنقش والثقافة والاجتماع والترتيبات الإدارية والسياسية والقضائية في أشكالها ومصطلحاتها. إلا أن الأندلس لم تتصل بهذه المعطيات قبل وصول عبد الرحمان الداخل عام 137 حيث قضى خمس سنوات بالمغرب الشمالي يحاول عبثاً إقامة مملكة أموية، لأن أفواج اليمنيين والقيسيين ظلت في صراع حدا البربر أنفسهم إلى النزوح إلى الريف وطنجة وأصيلا بين عامي 134 و136 هـ. ولم تكد الدولة الأموية الجديدة تستقر حتى وضع الأدارسة بفاس أسساً عمرانية كانت وفرة مياهها وبساتينها وفنادقها وقيساريتها ومسجداها مظهراً خافتاً لعاصمة دمشق.
وسواء كان هذا الاقتباس مباشراً أو بواسطة، فإن ألفاظاً فارسية دخلت منذ هذا العصر إلى المغرب ودخلت معها مسمياتها؛ كما انتقلت إلى المغرب في الفترة نفسها من الشام مصطلحات رومية([15]) قليلة كالبستان، والقسطاس، والبطاقة، والأسطرلاب، والقنطار، والقرمود، والترياق، والقنطرة، والقيطون([16]). والذي يجعلنا نرجح وجود هذه الألفاظ في المصطلح الدارج بالمغرب منذ هذا العصر هو أن معظمها يمثل المظهر الجديد للحضارة الإسلامية التي بقي الشعر والشعراء في منأى عن وصفها، لأنهم حتى في دمشق ظلوا في أبراجهم العاجية يبكون في أسلوبهم الجاهلي على الأطلال ويتغنون بالماء الآسن في عنفوان المدنية الناشئة.
وأول مسجد على النسق المعماري الإسلامي في المغرب هو ذلك الذي بناه سعيد بن صالح الحميري في نكور([17]) في نهاية القرن الأول استمد في تصميمه من جامع الإسكندرية التي ظلت مهبط الرواد المغاربة وعلى رأسهم الصوفي الفاسي أحمد البدوي دفين طنطا وأبو الحسن الشاذلي العماري الريفي. وكانت البساطة آنذاك هي طابع الفن المعماري الذي لم يعرف بعد المقرنصات ولا التعاريج العربية (Arabesques). والواقع أن انعدام الاقتباس من الطبيعة والإمعان في دراسة الرياضيات ونزعة الإبداع حدت مسلمي الأندلس والقيروان ومصر ثم المغرب إلى التسطيرات الهندسية الساذجة التي يظهر أنها وسمت الزخرفة في أوائل العصر الإدريسي. وكان استمرار الصراع في الأندلس بين العناصر السلالية المختلفة من عرب وبربر وقوط عائقاً دون تفتق الفن حيث لم تكد تمر ست سنوات([18]) على تأسيس فاس حتى انحدرت إلى المغرب ثلاثمائة أسرة قيراونية تلتها بعد أربع سنوات ثمانمائة عائلة جاءت من أرباض قرطبة معظمها من الفلاحين والمزارعين الذين استقروا بعدوة الأندلس. ووصل بعضهم إلى فازار بالأطلس انتجاعاً للحقول والمراعي الخصبة وأشجار التوت لتربية دود القز وصناعة الحرير([19])، بينما كان مهاجروا حاضرة القيروان من الفعلة الذين أقاموا في عدوة القرويين الخلايا الأولى للحرف والصنائع اليدوية مدرجين بذلك في المصطلح الصناعي والتجاري مفردات دخلت منذ ذلك الوقت في التقاليد الحرفية لا نستطيع تحديدها بالضبط. وإذا اعتبرنا أن الوضع الحالي بفاس لا يختلف كثيراً عما كان عليه من حيث الهيكل العام، فإننا نلاحظ أن عدوة القرويين تضم معظم مقومات الاقتصاد والثقافة والاجتماع: ففيها القيساريات والحرف والمدارس والزوايا والفنادق، ويبلغ عدد أحيائها اثني عشر مقابل نصفها في عدوة الأندلس و17 حماماً و96 كتاباً قرآنياً بدل 24 وست مدارس بدل اثنتين. هذا، وإن جامع القرويين الذي أسس عام 245 هـ مع شبيهه جامع الأندلس على يد أم البنين وأختها مريم الفهرية القيروانيتين لم يكن يثير الانتباه بفن جديد نظراً لعدم اختصاص بنائيه القيروانيين عدا تصميمه الغريب الذي تتوازى بلاطاته مع القبلة على غرار مسجد الشرفاء الإدريسي وجامع ابن طولون بالقاهرة وجامعي بعلبك ودمشق. وقد أضاف إليه الناصر الأموي عام 345، أي بعد مرور قرن كاملٍ على بنائه، اثني عشر بلاطاً جديداً وحول المنارة إلى مكانها الحالي مغشياً بابها »بصفائح النحاس الأصفر« مع »قبة صغيرة« محلاة »تفافيح مموهة بالذهب«([20]). وبذلك انبثقت النواة الأولى للفن الأندلسي المغربي البارز في مسجد قرطبة ومدينتي الزهراء والزاهرة حيث امتزج العنصر السوري بالفارسي والبيزنطي. ولعل عهد الناصر الذي ازدهرت فيه الفلاحة والصناعة والتجارة والفنون والعلوم([21]) بالأندلس كان عهد تحول وانقلاب في تاريخ الحضارة المغربية التي بدأت تتخذ بالعاصمة الإدريسية سمات جديدة في شتى المجالات، تقل مع ذلك روعة وفخامة عن أصولها بقرطبة إذا اعتبرنا المضافات الأموية بجامع القرويين. وقد انتشرت بدائع هذا الفن في حواضر إدريسية كالبصرة وأصيلا أصبحت تنافس مدينة فاس.
ومن الصعب أن نتعرف العناصر الحضارية والمصطلحات التي تسربت إلى فاس في القرن الثالث الهجري، وإن كنا نعرف مما كتبه مؤرخون عرب أمثال الحميدي صاحب "جذوة المقتبس" وابن غالب صاحب "فرحة الأنفس" والحميري في "الروض المعطار" والمقري في "النفح" الكثير من ذلك عن الأندلس حيث اكتملت مظاهر المدنية في الإدارة والقضاء والشرطة والاقتصاد والصناعة والفلاحة والاجتماع والعمران، وأول ما يبده الباحث عند الأمويين هو امتزاج العناصر الحضارية بسبب تداخل الاختصاصات وعدم فصل السلط حيث تندرج كثير من مقومات الدولة ضمن البلاط كالجامع والصدقات والأعشار والأموال المرسومة على المراكب الواردة والصادرة والرسوم الموظفة على بيوع الأسواق والمكوس والمشرف([22]) أو الأمين ودا السكة وخزانة الطب والحكمة. وإذا ما حاولنا أن نقارن بين مصطلحات هذا العصر والتعابير المغربية دون تحديد لإطارها الزمني، فإننا نلاحظ أن أغلبها متقاربة عدا كلمات لم يعرفها المغرب مثل صاحب البنيان وصاحب البيازرة والأسجال الخراجية وصاحب القطوع (أي الجبايات المرسومة على الإقطاعات) وصاحب الرد (رئيس قسم الشكايات بالقصر الملكي) والكور المجندة والجند المتدون (أي المسجل في الديوان) وفحص السرادق (أي مكان تقام فيه حفلة البروز لتوديع البعوث العسكرية وعقد الألوية) والمهرجان (عيد موسمي منه العنصرة التي تعرف بالمغرب). على أن معظم أسماء الحرف موحدة؛ وكذلك أسماء الأزهار والأعشاب والمصنوعات اليدوية وغيرها([23]). واستمر هذا الاقتباس طوال قرن ونصف قرن بدافع من بني زيري وخلفاء المنصور بن أبي عامر إلى أن أصبحت الأندلس جزءاً من العدوة الجنوبية تحت حكم المرابطين الذين استدعى زعيمهم يوسف بن تاشفين رجال الحرف القرطبيين لإقامة المساجد والسقايات والحمامات والفنادق بفاس([24]) ودار الأمة بمراكش، بينما استعان نجله علي بن يوسف بمهندسي الأندلس لمد قنطرة تنسيفت([25]) وقنوات الماء وبناء دار الحجر بمراكش([26]). وكان لوحدة إفريقية والمغرب الأقصى حينئذ أثرها في ضم الآثار القيروانية إلى المدد الأندلسي. غير أن من الصعب تمييز الأثرين بوضوح، لأن جامع القيروان نفسه دخلت فيه مواد أندلسية كالمرمر والآجر والجبص عند تجديده على يد محمد بن حمدون الأندلسي عام 252 هـ. ولم ينس المرابطون الصحراويون إقامة القصبات والحصون في عمرانهم العسكري الذي تعزز بتسوير الحواضر أيام علي بن يوسف بإيعاز من ابن رشد الأندلسي. وإذا أردنا دليلاً على مدى انسجام الصحراويين المغاربة مع روح العصر واستساغتهم للفن وأساليبه ومصطلحاته، فإن ذلك يتجلى بوضوح في الروائع الجديدة التي أضيفت لجامع القرويين الذي اتخذ حينذاك شكله الحالي بمنبره المصنوع من »الصندل والأبنوس والعناب والعاج«([27]) وقبته التي كشفتها الحفريات عام 1952 كأنموذج للفن في أروع مجاليه.
وهكذا، فالفعلة الأندلسيون الذين انتقلوا إلى المغرب في العصر المرابطي كانوا إذن أكثر اختصاصاً من سلفهم، وإن كان عملهم لم يتجاوز نطاق هندسة المساجد وبعض المآثر العسكرية؛ لأن بداوة الملثمين وتقشفهم حالا دون تقبل عناصر حضارية طريفة زخرت بها آنذاك قرطبة وإشبيلية كموسيقى زرياب الذي أحدث في الأندلس ثورة جذرية في المودات، فكان ـ بحق ـ »مشرع إسبانيا العربية«، كما يقول دوزي. وظلت المرأة المغربية بدوية الطبع، بالرغم من سفورها([28]). لم تتفتح للثقافة عدا القليلات أمثال زينب النفزاوية زوجة يوسف بن تاشفين والبطلة الموحدية فانو وأم هانئ بنت القاضي عبد الحق بن عطية وحفصة الركونية أستاذة نساء دار المنصور([29])، بل أستاذة عصرها([30]) وأم عمرو بنت أبي مروان بن زهر طبيبة النساء في البلاط الموحدي وورقاء الفاسية الأدبية الشاعرة([31]) وزينب القرقولية أستاذة القراءات السبع بمراكش وأغمات وزينب بنت يوسف بن عبد المومن التي ربيت بالأندلس، فكانت صاحبة الرأي في البلاط والشفوف في المجتمع. وإزاء هذه الندرة من المثقفات في المغرب، كانت نساء غرناطة يشهدن الحفلات العامة سافرات ويسبغن بوجودهن عليها روعة وسحراً ويتمتعن بقسط وافر من الحرية الاجتماعية؛ كما كان بالربض الشرقي لقرطبة وحده سبعون ومائة امرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي الذي اتخذ في هذا العصر أشكالاً خاصة بالمغرب([32]). فإذا استثنينا مثلاً الخط الحجازي، فإن ترتيب الحروف تختلف بين الشرق والمغرب ابتداء من الزاي؛ فهي عندنا:
ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ و لا ي
بينما هي في المشرق:
س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ و لا ي
والمغاربة يعجمون الفاء والقاف بنقط: الأول بنقطة من أسفل، والثاني بنقطة واحدة من أعلى؛ كما أن صور الأرقام في المغرب عربية أصيلة ليست منقولة عن الرسم اللاتيني. وقد أبرز ذلك الاختصاصيون في المؤتمر الذي انعقد بتونس عام 1963، حيث أكدت الجامعة العربية عزمها على إصدار تعليماتها إلى الدول الأعضاء لاعتبار الأرقام المغربية هي الأصل والاقتصار عليها في العد والترقيم.
غير أن الموحدين قفزوا بالفن إلى مستويات راقية، بالرغم مما أبدوه في البداية من روح التزمت([33])، فأضافوا روائع جديدة إلى المآثر الأموية تجلت في المنارة الخالدة بإشبيلية وجامع حسان بالرباط والكتبية بمراكش والقصور الفخمة والحدائق الغناء (على غرار مسرة المرابطين المعروفة الآن بالمنارة). ونضرب مثلاً لهذه الروعة بمنبر الكتبية الذي يرجع إلى عهد عبد المومن([34]) والذي قارنه ابن مرزوق بمنبر جامع قرطبة واعتبره طيراس وباسي »أجمل ما أبدعه الغرب الإسلامي، بل العالم الإسلامي«. ولعل الوحدة السياسية التي حققتها الدولة البربرية في المغرب الكبير قد تجلت خاصة في تجديد الاتصال بين الفن المغربي الأندلسي والفنين المصري والعراقي السائدين في بجاية ومهدية وتونس الخضراء([35]). وبذلك تعززت الوصلة بين جناحي العروبة، واندرجت في المجتمع المغربي مصطلحات كانت عصارة الاحتكاك الموصول طوال خمسة قرون. وبذلك يكون في وسعنا اعتباراً لهذه المعطيات أن نستخلص بعض الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية من خلال أسماء الحرف التي ظلت إلى اليوم الصناعة الأساسية لنصف سكان الحواضر([36]). فمصطلحات الحرف بمراكش كانت تحتوي، نظراً لقرب العاصمة من الصحراء، على كلمات بلدية أو حضرية معدودة مثل بعدي (أي إسكافي بدوي) وخطاطري (حفار الخطارات، أي السواقي الصحراوية) وتكموتي (صائغ) وقراشلي (حلاج)؛ في حين تزخر بالألفاظ العربية التي حرّف بعضها تسهيلاً للنطق بها مثل بامهاود (أي أبو المهاودة، وهو حكم يتدخل بين الناس للمهاودة) ومواكني (مصلح المنجانات) وغواسلي (بائع الغاسول). وظل معظمها مما ينيف على المائة في قابله العربي الفصيح مثل التبان (بائع التبن) والجرار والحراث والحمار والحمائمي (بائع الحمام) والخراط والرحوي (صاحب الرحى المائية) والطاحوني (صاحب المطحنة أو الطاحونة التي تدار بحركة بغل أو حمار) والرخايمي (صانع الرخام) والزيات والسفاط (صانع الأسفاط، أي السلال) والعشاب والقطارني (بائع القطران) واللباد (صانع اللبد). أما مصطلحات الحرف والمؤسسات العمومية وغيرها بفاس، فإذا استثنينا بعض الدخيل، فإن الكلمات البربرية أقل؛ بينما تظهر ألفاظ خاصة مثل مقدم الحومة ودار معلمة (وهي مدرسة لتعليم الخياطة والتطريز للبنات) وشيوخ الفلاحة (وهم خبراء في الشؤون الزراعية من أصل أندلسي) ودار العميان والمرقطان وسوق الفرش (أي صنع المخاد والحشايا) ومعاصر الزيت وكعب غزال (فارسي) والبلاجة (صانعو الأقفال) وصناع الأسلحة الاختصاصيين مثل الجعايبية (صانع جعاب المسدسات) والسرايرية (لصنع مقابضها) والجوايين (لصنع الأغمدة) والصقالة والذهابين والسكاكين والبراولية (باعة خيوط الحرير) والزرادخية (باعة القماش من نوع الزردخان) والنيارة (صانعو نول النساج). وإذا أخذنا مثالاً لباقي المدن المغربية في شخص أصغر مدينة، وهي ميناء أزمور، لاحظنا وجود معظم هذه الحرف عدا التنويع في النسيج وحرف جديدة كحرفة البغازة (وهم بائعو السمك بالجملة) والشراحة (وهم مجففو الحوت). وهنالك ألفاظ مغربية أندلسية مبتكرة مثل القبال والقابض بدل الجمركي والجابي. وقد استدل السيد محمد علي بهاتين الكلمتين للتدليل على أصالة الإبداع اللغوي في المغرب والأندلس ("عجائب اللهجات")، مجلة مجمع اللغة العربية، ج 7، ص. 128، عام 1953). ويلوح لأول وهلة من مقارنة نوع المصطلح في عاصمتي الشمال والجنوب مدى تأثر فاس بالحضارة الأندلسية حيث بدأت تظهر مؤسسات اجتماعية واختصاص أدق في بعض المرافق الصناعية بالعاصمة الإدريسية. ولا بدع في ذلك، إذا اعتبرنا أن مدينة فاس أصبحت في عصر الموحدين([37]) »حاضرة المغرب« الفكرية اجتمع فيها علم القيروان وقرطبة، »ولا يوجد في الدنيا أكثر مرافق وأوسع معايش وأخصب جهات منها« كما يقول المراكشي بشيء غير قليل من الغلو. على أن الفن بفاس أصبح مزيجاً للكثير من العناصر العربية. فإذا ضربنا مثلاً بالزليج الذي عرف في الشرق بالفسيفساء([38])، لاحظنا أنه نوع من الترصيع هو التكفيت (كلمة تركية) لها مرادفات منها التلبيس والترسيب والتنزيل أصحها عند العرب في العهد العباسي التطبيق. وفن الترصيع سوري في أصله يعرف بأروبا إلى الآن بالفن الدمشقي (damasquinage). وقد دخل الفن العربي إلى إيطاليا. وبعد الحروب الصليبية غزت المنسوجات العربية الأقطار الأوروبية حتى اضطر أحد ملوك فرنسا إلى تحديد إيرادها([39]).
وقد شمل التعريب معظم المواد والآلات والأجهزة والأدوات التي استعملها الصانع المغربي إلى العصر الحديث. ويكفي إلقاء نظرة على معجمنا "الأصول العربية في العامية المغربية" لتعرف مدى فصاحة الاستعراب في هذه المفردات التي نجد منها في الصفحات الأولى للمعجم ألفاظاً كالإشفى (مخرز الإسكافي) والبريمة والبرمة والبرميل والبوطة والبلور والتبان والترس وتفصيلة الثوب وتكريشه تقبيضه) والتكة والتنجرة والتومة (القرط) والثلج والخبل (لفظة يمنية) والحنوط والخرقة والخميرة والخنجر. ثم إن الفكر العلمي الأندلسي الذي حماه البلاط الموحدي بمراكش لم يكن يخلو من مظاهر اجتماعية تمثله. مثال ذلك البيمارستان([40]) الذي احتوى على »النقوش البديعة والزخارف المحكمة« وغرست فيه »الأشجار المشمومات والمأكولات« وأجريت فيه »مياه كثيرة تدور على جميع البيوت زيادة على أربع برك في وسطه إحداها رخام أبيض« وما له من »الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم« وتزويده بالأدوية والصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال مع ثياب الليل والنهار للمرضى ومجانية العلاج ورعاية المنصور الموحدي الشخصية له بزيارة أسبوعية لتفقد حال المرضى. وقد أشاد مؤرخ فرنسي معاصر بهذا المستشفى الذي بذ في نظره مستشفيات باريس في عنفوان القرن العشرين([41]).
وقد رأينا كيف بلغ المصطلح العلمي أوجه في هذه الفترة التي آوى خلالها العرش المغربي في ظلال مراكش الحمراء أقطاب الفكر الأندلسي الذين مهدوا بكشوفهم العلمية في شتى الميادين عهد النهضة والانبعاث بأروبا حيث ظلوا أساتذتها المرموقين طوال قرون.
أما المرينيون الذين كانت لهم أرقى المقومات الملكية بالمغرب وأغناها وأحقها بتبني التراث الموحدي في إفريقية والأندلس، فإن مغربهم الزاهر كان منطلق الإشعاع في مجموع الشمال الإفريقي([42]) حيث تبلورت مدينتهم الحضرية في أروع ما عرفه المغرب الكبير من حواضر ومساجد ومعاهد وقبب وفنادق ومدارس وملاجئ وحمامات وقناطر وحصون، وخاصة في عهد أبي الحسن المريني (1331 ـ 1351) الذي يعتبره الغربيون أقوى عاهل في القرن الرابع عشر. وقد كان لتزاوجهم الحضاري مع غرناطة النصرية وارثة الأندلس ذيول عززت التراث المشترك الذي ما لبث أن انتقل بكامله مع رجال المهاجر إلى المغرب ليشكل الحضارة المغربية الأندلسية الموحدة. وقد ظهرت في الحقل الاجتماعي لأول مرة مدارس هي عبارة عن أحياء جامعية مجانية للطلبة في مختلف المدن كفاس وتلمسان والجزائر([43])، علاوة على قصور فخمة تجلت فيها مهارة المهندسين والفنانين في تصميم معماري محكم. ويمكن أن نقدر من خلال وصف([44]) لأحد هذه القصور مدى تطور المصطلح الفني والأنواع الجديدة من أرباب الصناعات كالبنائين والنجارين والجباسين والزليجيين والرخامين والقنويين والدهانين والحدادين والصفارين والجدارات المنقوشة بالجبس والزليج والأرز المحكم النجارة والصناعات المشتركة (كالتوريق والتسطير) مع فروش الرخام والزليج وطيافير (فسقيات) المرمر والقبب والخوخ (أي الأبواب) والخزائن بنحاسها المموه بالذهب والحديد المقصدر. غير أن هذه المظاهر الحضارية لم تتجاوز المدن، لأن البادية (أي الأرياف والسواد) ظلت نسبيّاً في معزل عن تياراتها بسيطة في سكنها ومطعمها وسلوكها قد حفظت تراثاً لغوياً أصيلاً ما زالت الحواضر تطعمه تدريجياً استجابة لمقتضيات العصر. وقد لاحظنا أن قبائل عاشت في أرباض عواصم كرباط الفتح مثل زعير ظلت عالقة إلى عهد حديث بتراثها اللغوي الجاهلي الخالي من أي شائبة، الأمر الذي أسفر عن نوع من الخلل بين المصطلح الكلاسيكي القديم ومولدات العصر الحديث.
وقد توافرت هذه المجالي الحضارية ولوازمها اللغوية العربية التركية في العصر السعدي عندما اقتبس المغرب بعض الأنظمة العسكرية العثمانية، كما دخلت إلى المغرب أفواج المهاجرين الأندلسيين بلغت في مدن كتطوان أربعين ألفاً فيهم الأديب والعالم والفنان والعامل المختص والتاجر والفلاح. وإذا كانت هذه المظاهر تنعكس على العادات الاجتماعية والمآثر العمرانية، فإننا نلاحظ بخصوص الأزياء مثلاً أن سكان حواضر أندلسية مثل فاس وتطوان والرباط أصبحوا يضعون على رؤوسهم قلانس حمراء قد لفت عليها عمامة تتوسطها شوشة زرقاء (أي نواسة) بعد النفي العام أوائل القرن السادس عشر الميلادي، لأن الشوشة الزرقاء لم تكن معروفة بالأندلس قبل عصور التحقيق الصليبي (Inquisitions) حيث أجبر الإسبان العرب الممسحين على التميز بشارة زرقاء([45]).
ولباس البياض في مناسبات وفصول خاصة هو أيضاً عادة أندلسية، حيث كان هؤلاء يخلعون الثياب الملونة ويلبسون البياض ابتداء من يوم المهرجان (أي العنصرة كما تسمى في العدوتين)، أي 24 يونيه. وذلك إلى أول أكتوبر خلال ثلاثة أشهر متوالية ("النفح"، ج 2، ص. 752).
أما في الحقل العمراني، فإن قصر البديع الذي استغرق بناؤه زهاء العشرين سنة (986 هـ ـ 1002 هـ) يبرز لنا مدى التطور الحاصل في الفكر الحضاري ولغته. فقد ظهرت معه فنون طريفة ومصطلحات فريدة كالرخام المجزع والزليج الملون والقباب الخمسينية([46]) كتبت في أبهائها الأشعار بمرمر أسود في أبيض تذكرنا بروائع الأندلس. فمن شعر أبي فارس عبد العزيز الفشتالي يصف فن هذه الروائع:
فإنها والتبر سال خلالها
وكان أرض قراره ديباجة
وكأن موج البركتين أمامه
صـفـت بضـفــتـهــا تـمـاثـل فـضـة
وشي وفضة تربها كافور
قد زان حسن طرازها تشجير
حركات سُحْب صافحته دَبور
مـلك الـنـفـوس بحسـنـهـا تـصـويــر
وقد كتب بجدران المصرية([47]) المطلة على الرياض:
بـاكـر لــدي مـن السـرور كـؤوسـا
وأرض الـنـديــم أهـلـة وشـمـوســـا
وكان هذا الإطار العمراني الرائق مسرحاً لحفلات شعبية بمناسبة حفلات كذكرى المولد النبوي يجري خلالها إعذار أبناء الفقراء ويتبارى الشماعون في تطريز شموع "يحملها صحافون ـ كما يقول الفشتالي في "مناهل الصفا" ـ محترفون بحمل خدور العراش عند الزفاف"، وهي على رؤوسهم كالعذارى تتبعها الأطبال والأبواق وأصحاب المعازف والملاهي حتى تستوي على منصات بالديوان الشريف حيث يقعد السلطان على أريكته وعليه حلة البياض شعار الدولة وأمامه شموع من بيض كالدمى وحمر جليت في ملابس أرجوان وخضر سندسيَّة في حسك ومباخر ترنم خلالها نوبات منشدي المولديات وأشعار الصوفية وتتلى قصائد شعراء الدولة بغزلها ونسيبها ومديحها للرسول عليه السلام وللسلطان وولي عهده في تراتيب يتقدمها قاضي الجماعة ثم الإمام المفتي ثم الوزير، ثم الكتاب المخزنيون. ويختم الحفل بنشر "خزان الأطعمة والموائد، وتوزيع الأعطيات" وكأن هذه القصور الباذخة في فرشها الحريرية ونمارقها المصطفة وأستارها وكللها وحجالها المخوصة بالذهب وحائطياتها ورصفانها وأعلاجها بأقبيتهم المخوصة ومناطقهم المرصعة وحزمهم المذهبة ـ صور حية لفخفخة استمرت معالمها في القرن العشرين في بلاط الملوك العلويين وقصور الأثرياء حيث استعيض عن القصاع المالقية والبلنسية المذهبة وعن الأواني التركية والهندية والطسوت والأباريق والصحاف ومباخر العنبر والعود الشرقية بأوعية لا تقل روعة قد جلبت من مختلف أنحاء الدنيا شرقاً وغرباً لتضفي هالة من الجمال والسناء على محافل نشرت فيها كالماضي أغصان الريحان الغض وماء الزهر والورد. كما استبدلت بنوبات المنشدين نوبات الموسيقى الأندلسية الرائعة التي تسحر الألباب بنغماتها المشجية وتلاحينها الأخاذة وألوانها الخمسة والخمسين وتوشيحاتها التي تردد في حنان وخشوع على ألسنة الخاصة والعامة لتسهم في تحريك نبرات القلوب وتوعية الروح وتأجيج الشعور وتوفير الثراء اللغوية في الدارجة والفصحى على السواء. فكم من تعابير تخللت الألحان كانت أرسخ في البواطن وأملك للوعي وكم من أغنيات ساحرة رددها الرضيع في حبوه وربة الخدر في حجلتها كان أثرها أوقع في النفس ولفظها أعلق باللسان من كل قصيد يلقن في الكتاب أو درس لغوي يلقى في حلقات العلم.
وإذا كان عهد السعديين قد نضدت معالمه بالزخارف المعمارية والروائع الاجتماعية، فإن عهد العلويين الذي أقيمت فيه القصور والبساتين نفسها مثل دار الهناء والدار البيضاء والصالحة والزاهرة وجنان رضوان وأجدال بالبذخ نفسه قد اتجه إلى دعم الكيان بالقصبات والقلاع. ومن أروع ما يبدهك في قصر من هذه القصور كقصر الرياض بمكناس عاصمة المولى إسماعيل جمعه بين فخفخة البلاطات الملكية وضخامة التحصينات بأبراجها ومدافعها إزاء البرك الفياضة للتمرين والانبساط معاً في فلكها وزوارقها. وكانت أهراء القصر تضم اثني عشر ألفاً من خيل الجهاد وعشرات المستودعات زاخرة بمؤن تكفل للبلاد اكتفاء ذاتياً وميزاناً تجارياً متوازياً. وقد بدأنا بالرغم عن أصالة اللغة العربية بالمغرب نسمع في معماريات العلويين وعمرانياتهم مصطلحات جديدة فيها الكثير من الدخيل كالقنانيط (أي الهياكل) المقبوة في الأهراء والإصطبلات المسقفة بالبرشلة (وهي نوع من الروافد والعوراض (pignon) وسواني الماء الدائرة (أي النواعير المائية) والقراميد، علاوة على المولدات العسكرية والدبلوماسية واتخاذ الأشبار (أي حفر الخنادق الحربية) وصنع البارود الكور والبنب (أي القنابل والقذائف) ونصب المهاريس والكراريص (أي المدافع المجرورة والضوبلي) لتحرير الثغور المحتلة وبعث الباشدورات إلى طواغية (جمع طاغية) الإصبنيول أو البرتغال أو النجليز »لإحكام الصلح« ومفاداة الأسرى البلوط بالبلوط واليكانجي باليكانجي والبحري بالبحري دعماً للطبجية (أي المدفعية) والبحرية المغربية بغلائطها (سفنها الحربية) وفراكطها (أي حراقاتها) ومراكبها القرصانية. ودخلت إلى المعجم المغربي بجانب ذلك عشرات المفردات مثل الكشينة([48]) والباصبورط (الجواز) والطنبور والكرنتينة (المحجر الصحي) والمحلة (أي المعسكر) وصاكة الأعشار (أي رسومها) وصقالة (أي برج) والتوافل (الرماح) وتفرقع البونب (أي انفجار القنابل) ([49]) والبستيون وأنواع النقود كالبندقي في أربعين أوقية من الذهب والضبلون (doublon) في اثنين وثلاثين من الريال (الريال (real) فيه عشرون أوقية) والبسيطة (خمس أواق) والموزونة (ربع الدرهم الرباعي، أي نصف القرش) والسنجق([50]) وبقسماط (بسكويت). وكل تلك مظاهر للعجمة التي بدأ المجتمع المغربي يتسم بها حيث »اتخذ ذوو اليسار ـ كما يقول الناصري ـ المراكب الفارهة والكسي الرفيعة والذخائر النفيسة وتأنقوا في البنيان بالزليج والرخام والنقش البديع، ولا سيما بفاس ورباط الفتح. ولاحت على الناس سمة الحضارة الأعجمية« التي تعززت مع ذلك بمقتبسات غربية صالحة مثل فابريكة (أي مصنع) السكر وفابريكة تزديج البارود بمراكش وبرج الفنار (لتوجيه السفن في البحر) بأشقار قرب طنجة وبابور البر (القطار الحديدي) والتلغراف إلى غير ذلك. وهكذا بدأت تتجلى في الأفق المغربي على عتبة القرن العشرين مصطلحات استعملها المغرب في قالبها الإفرنجي دون تعديل. وقد تحدثنا في كتابنا "تطور الفكر واللغة..." (ص. 161) عن ظهور هذا الدخيل خلال الحماية وبعد الاستقلال. فأوضحنا كيف تمت وحدة نسبية بين جناحي العروبة عندما ظهرت الصحافة المغربية واشرأبت الأعناق إلى ما يرد من الشرق العربي، وخاصة من الشام ومصر حيث انبثقت حضارة طريفة ضمت إلى جوهر الإسلام ومعطياته جوانب من الفكر الغربي الحديث.
([1]) العامية هي ما يسميه الجاحظ بلغة المولدين والبلديين (البيان والتبيين، ج 1، ص. 111). وقد لاحظ أن في كل مدينة ألسنة ذلقة؛ غير أن اللحن كان فاشياً في العوام (ص. 111).
وقد تحدث أحمد أمين عن العامية في القرن الرابع، فقال: »إن اللغة العامية اصبح معترفاً بها يبحث في ألفاظها وأساليبها وينتقي منها خيرها إلا بعض علماء كأبي العلاء المعري... «(ظهر الإسلام، ج 2، ص. 100).
([2]) توجد في مجمع اللغة العربية بالقاهرة لجنة للهجات من أهدافها استقراء الألفاظ والتراكيب الجارية على ألسنة أهل الأقطار العربية من الناحية الصوتية ومن ناحية المعنى وتدوين هذا في معاجم وأطالس لغوية. وقد اتخذت اللجنة لهجة القاهرة مقياساً. وترتكز اللجنة في هذا البحث على تنقل القبائل، لما له من أثر كبير في لهجات الأقاليم وتطورها واختلافها (مجلة المجمع، ج 7).
([3]) استعملت العامة الكلمتين: طمس بمعنى مَحَا؛ وطلمس بمعنى أخفى (الطلامس، أي الطلاسم).
([4]) يستعملان في معنيين متقاربين (شخشخ وجهه، أي جلب له العار).
([5]) تطلق العامة لفظتي دحس (بالحاء بدل العين) وداس على مدلولين متقاربين.
([6]) أفرد أبو البركات الأنباري كتاباً خاصاً لحيص بيص. وقد توفي عام 577 هـ.
([7]) كنز ومكنوز ذكره ابن سيده في "المخصص" في مادة »كنز«.
وتوجد صيغ عربية كثيرة انفردت بعض الأقاليم العربية باستعمالها مثل مصدر فعل المضعف على وزن تَفعال: مثلاً، حمل تَحمالاً بدل تحميلاً في المغرب واليمن. قال الكسائي: »أهل اليمن يجعلون مصدر فعل تفعالاً وغيرهم من العرب يجعلونه تفعيلاً«.
([8]) لاحظ الأستاذ فريد أبو حديد (مجلة مجمع اللغة العربية، ج 7، ص. 205) أن حركة الكسر تكاد تكون شائعة في كثير من الدول العربية. مثال ذلك كسر آخر الاسم المضاف إلى ضمير المؤنثة المخاطبة. فيقولون في الشرق أنت مالك (يقول المغاربة مالك بفتح اللام)، وهي لهجة لخم التي تكسر ما قبل كاف المخاطبة.
([9]) أكد الأستاذ توفيق المدني في "تقويم المنصور" عام 1348 (ص. 72) »أن الكشوف الحفرية ونقوش الحجارة أثبتت كنعانية الفينيقيين؛ كما أبرزت أن كلامهم كان عربياً شديد الشبه بالعربية العامية المستعملة خصوصاً بنواحي العاصمة التونسية وبجزيرة مالطة قبل أن تختلط اختلاطاً فاحشاً بمختلف اللغات الأوربية. وأهل مالطة هم بقايا العنصر الفينيقي الخالص... «. وقد نشر توفيق المدني (ص. 72) نص الحفرية القرطاجية التي وجدت في البرازيل، ويتضح منها تقارب البونيقية ولهجة شمال إفريقيا.
ووجود هذه الحفريات بالبرازيل يدل على أن القرطاجنيين هم أول من اكتشـف أمريكا قبل الميلاد بـ 125 سنة.
([10]) راجع كتابنا "مظاهر الحضارة المغربية" و"معطيات الحضارة المغربية" (فصل: "تاريخ دخول اللغة العربية إلى المغرب"؛ وكذلك كتابنا "تاريخ المغرب" و"تاريخ إفريقيا الشمالية القديم" لكَزيل (Gsel)؛ والمؤرخ كَونبي، العصور الغامضة للمغرب (Siècles obscurs du Maghreb).
([11]) وكذلك بألفاظ من اللغة التركية مثل باشا وبكرج (إناء معدني) وخازوق وتخوزق (التخوزيق) وسنجق وطابور وطز (للاستهزاء والاستياء) وطوبجي (مدفعي) وصابونجي وجبدولي (صدرية) وجامكية (مرئب عسكري في عهد الموحدين) وخواجي (تاجر) وبابوشة (بابوج) وبازار وباشدور وبرنامج، إلخ.
([12]) من الألفاظ الفارسية الدخيلة الدربكة، أي الطبل (وأصلها تابوراك) والدمغة بمعنى الختم والطابع.
ويختلف هذا التأثير في الأقطار العربية الأخرى. ولعل الدخيل من الفارسية في لغة العراقيين يوازي الدخيل فيها من التركية، خلافاً لما عليه الحال في مصر؛ فإن معظم الدخيل فيها في لغتها الشائعة من التركية ثم من اللغات الإفرنجية (محمد رضى الشبيبي، مجلة مجمع فؤاد الأول للغة العربية، ج 8، ص. 131).
وديوان العراق لم ينقل من الفارسية إلى العربية إلا في عهد الحجاج الذي أمر بذلك كاتبه صالحاً ابن عبد الرحمن الذي كان يتقن اللغتين (تاريخ ابن خلدون، المجلد الأول، القسم الثاني، ص. 437).
([13]) ذكر برونو (Brunot) (هسبريس 1949 ـ العددان الثالث والرابع) أن اللغة الرومانية اللاتينية أمدت العامية عن طريق الفصحى بألفاظ مثل مد وقصر أو مباشرة بكلمات مثل الطابية وكرزية وكركور. وذكر أن لفظ Candi مقتبس من اللفظ العربي Quindid، وأن الكفتة مأخوذة من التركية.
ولاحظ في مقدمة مذكراته حول المفردات البحرية بالرباط وسلا أن وفرة الألفاظ الإسبانية الدخيلة في هذه المفردات تدعو إلى نسبة بعض الكلمات إلى أصل يوناني لاتيني. وهذا الغلط هو الذي وقع فيه سيموني (Simonet) في كتابه Glosario حيث ذكر مثلاً أن الشابل (Alose) مستمد من اللفظ اللاتينيّ Sapidus. وقد أعطى برونو صورة عن مروح التأثيرات الأجنبية العامية البحرية بالرباط وسلا، فذكر أنه بالإضافة إلى 456 لفظ عربي يوجد 217 كلمة إسبانية و30 لاتينية يونانية و6 فرنسية وإيطالية ز6 إنجليزية وكلمة واحدة برتغالية وعشر كلمات بربرية وعشر تركية وإحدى عشرة كلمة مشكوك في مصدرها، وذلك من مجموع يبلغ 753 لفظة. ويلاحظ هنا قوة تأثير العربية الفصحى في موانئ أخرى في المغرب مثل مستغانم بالجزائر. ففي الرباط مثلاً تسمى Chaloupe بالعشارية، وفي مستغانم ببوطة من Bota الإسبانية. على أن البرتغالية قد تأثرت باللهجة المغربية حيث كان البرتغاليون يراسلون بالعجمية التي كانت عبارة عن برتغالية مملوءة بالألفاظ المغربية وكانوا يكتبونها بالحروف العربية (كواساك ده شافر بيير، تاريخ المغرب، ص. 273).
([14]) كَوتيي، ماضي إفريقيا الشمالية، ص. 148.
([15]) فقه اللغة، طبعة 1378 ـ 1959، القاهرة، ص. 450 ـ 455.
([16]) دار القيطون بفاس أسسها المولى إدريس.
([17]) مما يبرز تأثير الأندلس إحداث الموالي الصقالبة لقرية تحمل اسمهم فوق مدينة نكور (البكري، المسالك والممالك، طبعة الجزائر، 1911، ص. 97).
([18]) تبلغ الأسر الأندلسية التي هاجرت إلى فاس عام 202 هـ/ 818 م أربعة آلاف حسب عبد المالك الورَّاق وثمانية آلاف (روض القرطاس، ص. 25؛ ودوزي، تاريخ مسلمي الأندلس، 1932، ج 1، ص. 301) أو ثمانمائة (هنري طيراس، تاريخ المغرب، ج 1، ص. 118)؛ بينما بلغ عدد الأسر الإفريقية التي جاءت من القيروان عام 198 هـ ثلاثمائة. ويظهر أن عدد الربضيين تراوح بين أربعمائة وثمانمائة اعتباراً للغلط المحتمل الناتج عن إضافة صفر للعدد، ونظراً للتوازن الديموغرافي بين العدوتين. وقد تحدث المقري في النفح (ج 1، ص. 318) عن الوقعة التي أدت إلى طرد الأندلسيين، فذكر أن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل انهمك في لذاته، فخلعه العلماء بقرطبة، فأجلاهم عن الأندلس ولحقوا بفاس والإسكندرية، ومنها إلى جزيرة أقريطش.
([19]) ذكر ليفي بروفنصال أن الأندلسيين نقلوا معهم إلى المغرب فن البستنة وكذلك تجربتهم للحياة الحضرية كالبناء والصناعة التقليدية (فاس قبل الحماية (Fez avant le Protectorat). وقد لاحظ لوطورنو (ص. 205) أنه إذا كان العرب قد نقلوا إلى فاس مظاهر نبلهم، فإن الأندلسيين قد نقلوا رقتهم والقيروانيين مهارتهم واليهود حيلهم والبربر صمودهم. وقد أعطانا الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في كتابه بساط العقيق صورة عن حضارة القيروان حيث تحدث عن سماطها (يوجد شبهه بفاس، وهو سماط العدول؛ إلا أنه أصغر منه) وحماماتها العمومية (49 حماماً) ومصانع الزربية (ذات الطابع القيرواني الخاص، بالرغم من أصلها الفارسي) والزجاج والبلور والورق ودار الطراز. وكان قاضي القيروان شيخاً للإسلام في تونس أو قاضياً للجماعة كما في فاس. وقد لاحظ الأستاذ التونسي في رسالة بالفرنسية أن الطبقة المتمدنة العتيقة من الأندلسيين قد نزلت مدينة تونس واختلطت بأهلها. وقلدهم الحفصيون الذين هم فرع عن الموحدين. وقد ذكر المقري عن ابن غالب (نفح الطيب، ج 2، ص. 764) أن أهل الأندلس تفرقوا في المغرب الأقصى مع إفريقية، فمال أهل البادية إلى ما اعتادوه فاستنبطوا المياه وغرسوا الأشجار وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء وعلموا أهل البادية أشياء جديدة.
ومعلوم أن الأندلسيين كانوا يحتكرون ببلادهم ـ حسب سرفانطيس مؤلف "دون كيشوط" ـ تجارة الأغذية، ويضعون يدهم على المحاصيل عند نضجها. وهم لا يشترون العقارات، حفاظاً على حرية رواج أموالهم.
([20]) زهرة الآس، ص. 37.
([21]) ابن حوقل، ج 2، ص. 77.
([22]) هذه الكلمة معناها أمين المال. وقد استعملها الموحدون (زهرة الآس، ص. 872).
([23]) راجع القائمة الكاملة بهذه المصطلحات في الملحق رقم 2 في كتابنا "تطور الفكر واللغة في المغرب الحديث، طبعة القاهرة، ص. 213.
([24]) زهرة الآسا، ص. 87؛ وجذوة الاقتباس، ص. 27.
([25]) الإدريسي، مقتطفات من النزهة، طبع الجزائر، 1957، ص. 69.
([26]) الاستبصار، ترجمة، ص. 179.
([27]) زهرة الآس، ص. 42.
([28]) حتى الأميرات لم يكن يتحجبن، مما حدا المهدي بن تومرت إلى نقد سياسة البلاط الدينية للنيل منه سياسياً.
([29]) الدر المنثور في طبقات ربات الخدور، ص. 165.
([30]) ابن الخطيب، الإحاطة.
([31]) جذوة الاقتباس، ص. 335.
([32]) راجع الملحق رقم 4 من كتابنا المذكور تطور الفكر واللغة، ص. 222.
([33]) وقد أمر المنصور الموحدي »بقطع اللباس الغالي من الحرير والاجتزاء بالرسم الرقيق الصغير ومنع النساء من الطرز الحفيل والاكتفاء منه بالساذج القليل، وأمر بإخراج ما كان في المخازن من ضروب ثياب الحرير والديباج المذهب، فبيعت... «(ابن عذاري، البيان المغرب، ج 4، ص. 81).
ففي زمن المنصور والناصر الموحديين كان عدد الأطرزة بفاس 3094 ودور الصابون 47 ودور الدباغة 86 والصباغة 161 وتسكيك الحديد والنحاس 12 والزجاج 11 وكوش الجير 135 وأفران الخبز 1170 وأحجار صنع الكاغد (أي الورق، وهي كلمة تركية) 400 ودور الفخارة 180 (الجزنائي، زهرة الآس، ص. 33). وقد بلغت الأرحي بفاس 600 في القرن السابع (حسب ياقوت المتوفى عام 626 هـ في معجمه، ج 6، ص. 331).
([34]) المسند الصحيح الحسن، 1925، ص. 65.
([35]) ويليام مارسي، تاريخ الفن الإسلامي.
([36]) راجع إحصاء قام به ماسينيون عام 1923 ـ 1924 في كتابنا معطيات الحضارة المغربية، ج 2، ص. 78؛ الحناطي الإسلامية، باريس، 1925، ص. 38. وقد كان نظام الحناطي (أي النقابات العمالية) يتسم في جميع العصور بطابع الحرية حيث ظل المخزن يحترم مبدأ الحرية التجارية والاقتصادية قبل صدور ظهير 1917 القاضي بتنظيم البلديات.
([37]) عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، سلا، عام 1357/ 1938، صص. 213 ـ 221.
([38]) النفح، نقلاً عن ابن سعيد، ج 1، ص. 187.
([39]) أعراف المسلمين وعاداتهم، ص. 247.
([40]) المعجب، ص. 177.
([41]) الموحدون (Les Almohades) للسيد Millet، طبعة 1927.
([42]) مارسي (Marçais) في كتابه L’art l’Islam، ص. 134. وقد ظهرت في هذا العصر نتيجة للتأثير الغرناطي الموسيقى الأندلسية بمصطلحاتها وبعض التعابير القانونية مثل لفظة "الظهير" بمعنى المرسوم الملكي (صبح الأعشى، ج 15، ص. 299).
وقد أسهم العلماء والأدباء في الصناعة والتجارة، مما أكسب الكثير من المصطلحات طابعاً فصيحاً؛ ومنهم محمد الغساني الذي كان تاجراً بقيسارية آسفي يدير حانوته بعد الفراغ من تدريس الموطإ والسير والنحو والآداب واللغة، وهو من رجال القرن السابع (توفي عام 663 هـ (الذيل والتكملة)، ومنهم كذلك العلامة محمد بن عبد الله معن الذي كان يتمعش (كلمة مغربية معناها يتعيش) بعمل دود القز بفاس (نشر المثاني في ترجمة علماء القرنين الحادي عشر والثاني، ج 1، ص. 197).
([43]) ابن مرزوق، نخب من المسند الصحيح الحسن في مآثر أبي الحسن.
([44]) المصدر نفسه، حيث أشار ابن مرزوق إلى وضع تصميم معماري لهذا القصر وصفه بأنه رسم في كاغد لتقدير الساحة (أي المساحة).
([45]) في عام 1019 هـ هاجرت ألوف الأندلسيين إلى فاس وألوف إلى تلمسان وجمهورهم من تونس، فتسلط عليهم الأعراب ونهبوا أموالهم في تلمسان وفاس، وسلم أكثرهم في تونس وتطوان وسلا وفسحة الجزائر ووصل جماعة إلى قسطنطينية العظمى ومصر والشام (نشر المثاني، عن النفح، ص. 101).
([46]) أي التي فيها خمسون ذراعاً بالعمل، أي بالنقش. وكانت الجدران تحلى أحياناً بأنواع التطريز ومنه النوع الفاسي الذي هو سوري الأصل. وفي سلا نماذج من أصل فارسي أو شامي. ويلاحظ في تطريز الرباط تأثير الأنسجة الأوربية، وكذلك في أزمور التي يرجع تاريخ نماذجها الإسبانية الإيطالية إلى القرن العاشر الهجري (مجلة هسبريس، 21، عام 1935).
ويوجد بفاس تطريز علجي الأصل أدخلته إلى المغرب النساء التركيات أو الجركسيات اللواتي تسرى بهن أهل فاس، أما التطريز التطواني، فهو من أصل بلقاني.
([47]) المصرية، أي الغرفة الواقعة في طبقة عليا (العلية بالفصحى). ولعل لوجود طبقات في الأبنية منذ القديم بمصر أثراً في هذه التسمية.
([48]) راجع: علي بن محمد التامجروتي، النفحة المسكية في السفارة التركية.
([49]) ظهرت هذه الكلمة منذ السعديين. وقد استعمل الناصري (في تاريخ المغرب) هذه المصطلحات التي بدأ يستعملها آنذاك سلفه من المؤرخين. وقد استعرض الناصري (ص. 224) النظام العسكري عند الأتراك، فلاحظ أن أهم ما يمتازون به هو العزوف عن العادات الأجنبية والمصطلحات العجمية، حيث »عمت المصيبة في عسكر المسلمين بالتخلق بخلق العجم. وإذا كان أصل العمل مأخوذاً عن العجم، فليجتهد المعلم الحاذق في تعريبه«. (راجع الاستقصا، الجزء الرابع).
([50]) الاستقصا، ج 4، ص. 233 يصف الوضع بالمغرب عام 1290 هـ. وقد شارك الصانع المغربي في معرض باريس عام 1285 هـ (أي في عهد نابليون الثالث) بنماذج من إنتاجه كالسروج المذهبة والمناطق المزخرفة والقطائف المنمقة والزليج الفاسي والمعلمين الذين يباشرون ترصيفه.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق