مدونة تهتم باللسانيات التداولية التفاعلية الاجتماعية تحاول ان ترسم طريقا مميزا في معالجة الاشكالات المعرفية المطروحة في هذا النسق العلمي بالمناقشة والرصد والتحليل والمتابعة
الأحد، 3 يوليو 2011
تسمية الأشياء بأسمائها : حفريات في فلسفة الفكر والثقافة
تسمية الأشياء بأسمائها :
حفريات في فلسفة الفكر والثقافة *
الدكتور فالح العجمي
1 - مقدمــة
التسمية المقصودة هنا تسميتان ، أو فعل يتحقق في مرحلتين من مراحل بناء العبارة اللغوية وتطورات استخدامها . ففي المرحلة الأولى يتعلق الأمر بإطلاق الأسماء في اللغة على الأشياء والمجردات ، وهي العملية التي تجري في إطار وظائف اللغة الأولية (الإشارة إلى عناصر الوجود بواسطة الرموز الصوتية – الكتابية) . ونشأت في دراسات هذه المرحلة مصطلحات متعددة ؛ بعضها علمي في شأن دراسة اللغة والدلالة ، وبعضها فلسفي في شأن توالد المعاني والأفكار وتوظيف الرموز في خلق مجال أرحب لإسهام المعاني في تطور الفكر البشري .
وفي الدراسات العلمية اللغوية – الدلالية نجد مصطلحات مثل : " الاسـم " و " المسمـى " ؛ " الدال " و " المدلول " ، مما تركز على بحث العلاقة بين أصوات اللغة وموجودات الكون . أما الدراسات الفلسفية – النفسية ، فقد ركزت تركيزاً شديداً على دور " الكلمة " في خلق المعاني واستيضاح الحقيقة بالنسبة للفلاسفة ، وعلى استكناه غموض الرمز ( اللغوي في هذا السياق ) من خلال التوغل في المعنى بالنسبة لعلماء النفس . ومن المعروف أن كلاً من علم الفلسفة وعلم النفس قد أسهم بأدوار بارزة في الدراسات الدلالية التي لم يفلح اللغويون في تحقيق تقدم فعلي بارز فيها .
وفي المرحلة الثانية يتعلق الأمر بتطورات استخدام الرموز اللغوية في تحول حقيقي عن الإشارة إلى عناصر الوجود وعلاقاته ؛ لتكون معبرة عن معان مفاتيحها ( عناصرها التداوليـة ) ليست سيميائية ولا فسيولوجية – معرفية ، بل تقوم على بنى ماوراء لغوية ، وعلى تفكيك ما بعد – ثقافي . وقد تعددت الدراسات المعنية بهذا الشأن في إطار تداخل حقول العلوم لدراسة اللغة ؛ فعنيت بها اللسانيات الاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية والإدراكية.
وقد أوجدت المصطلحات المتداولة في هذا الشأن جدلية شائكة في الفكر الإنساني عامة ، والفكر العربي – الإسلامي خاصة ؛ تتلخص في طبيعة العلاقة بين الاسم والمسمى . حيث يرى تيار أن اللغة هبة إلهية ، وبذلك تكون الأسماء جزءاً لا يتجزأ من جوهر المسميات ؛ ويخالفه تيار آخر ، يرى أن العلاقة معدومة ، وأن الاسم لا يعدو أن يكون مجرد رمز للمسمى ، وبذلك تكون اللغة تقليداً اجتماعياً .
وتعود نشأة هذه الجدلية إلى رواد الفلسفة الكلاسيكية ؛ بدءاً من تعريف أفلاطون لتلك العلاقة ، بأن للأشياء جوهراً ثابتاً والاسم أداة تواصل وفرز وتعبير عن هذا الجوهر ، فهو شبيه بالمكوك بالنسبة إلى القماش . كما ذهب إلى أن ثمة تلاؤماً طبيعياً بين الكلمة الدالة ومعناها أو مسماها ( المدلول ) ، وبذلك يكون الدال تعبيراً لا ينفصم عن جوهر المدلول ؛ ذلك أن اقتران الدال بالمدلول هو الذي يؤسس اللغة ، وهذا الاقتران يتشكل رمزاً لغوياً متقاطعاً من الناحية الدلالية مع المرجع الخارجي أو المفهوم . وهو بذلك يناقض ما ذهب إليه هيرموجين – أحد تلامذة سقراط – من أن اللغة ظاهرة اجتماعية ، وأن تعليق اسم على مسمى أمر اعتباطي . فلكل مسمى اسم تواطأ الناس على جعله رمزاً لهذا المسمى . ومن هنا – على ما يرى – كان الإغريق والبربر يقدرون على تسمية أشياء واحدة بأسماء مختلفة في لغة كل منهم .
أما الفلسفة الإسلامية فقد عارضت رأي أفلاطون باتحاد الاسم والمسمى وتطابقهما ؛ أي أن يكون الاسم حادثاً بعد أن لم يكن . وقد عبر الغزالي عن ذلك بقوله : " معاني الاسم كانت ثابتة في الأزل ، ولم تكن الأسماء ، لأن الأسماء – عربية أو أعجمية – كلها حادثة ... والأسماء التي سيلهمها الله عباده ، ويخلقها في أذهانهم ، وفي ألسنتهم ، أيضـاً معلومـة عنده " . على أن فلاسفة المسلمين لم يكونوا موافقين للرأي الثاني لأسباب أيديولوجية أيضاً؛ حيث تقضي الدلالة التواضعية للأسماء بأن المجتمع هو من يصنع اللغة ويطورها ، ويحييها ويميتها . وهذه النتائج تتعارض ظاهرياً مع الآية القرآنية " وعلم آدم الأسماء كلها " التي وضعها الدارسون العرب القدامى مدخلاً لكل دراسة فلسفية تتعلق بنشأة اللغة عموماً ، وليس بالأسماء على وجه الخصوص .
2 - فلسفة التسمية وتطوراتها
لكي نقرب هذا المبحث من الواقع العملي ، ولا يبقى موغلاً في التجريد ، نستدعي عنصراً لغوياً يرد كثيراً في سياقات الإنشاء ؛ سواء كنا نتحدث في موقف اجتماعي يحتاج إلى نص شفهي مثل خطبة أو اعتذار ، أو كنا نعد قضية موضوعية تحتاج إلى نص مكتوب مثل بحث علمي أو تقرير أو خطبة سياسية أو دينية . هذا العنصر يتمثل في عبارة نفكر فيها أو نرددها أمام من نتناقش معه في الصياغة ؛ مفادها أن هذه الكلمة أو تلك العبارة غير مناسبة، لما توحي به من ظلال ، أو لما تحمله من مفاهيم . وتتصل هذه العملية الاحترازية بمرحلة التسمية الأولى ؛ إذ ينصب الاهتمام على عدم استخدام رمز لغوي بعينه ، والاستعاضة عنه برمز رديف ( يُظن عدم إيحائه تلك الظلال أو حمل المفاهيم غير المتبغاة )، أو برمز محايد في القضايا الموضوعية لخدمة العلم والنزاهة اللذين يتطلبان بعداً بين المنشئ والموضوع.
أما العنصر الآخر الذي يقرب لنا فلسفة المرحلة الثانية ، فهي المقولة التي تتردد كثيراً في مجال صياغة الخطب السياسية ، وبعض الخطابات الإعلامية ذات المساس بحياة الناس وثقافات الأقليات على وجه الخصوص . حيث يردد المنشئ أو من يجيز إنشائه : لا نريد بهذه الصراحة والوضوح ، أو لا نريدها بهذه الحدة ( يقصد بها مطابقة الواقع ) . فيلجأ في مثل هذه الحالات إلى وسائل التمريض أو العبارات المالئة التي تمتص فورة الصدمة ، وتحيل إلى المعنى مغلفاً بقشور التوائية ، أو مؤجلاً إلى ما بعد استقبال الرمز الممرض أو المالئ في خانة الرمز اللغوي المتوقع . ولكل مجتمع خصوصية في شأن استخدام هذه الوسائل ؛ إذ تكون المواقف والمبادئ خاضعة لتقديرات القبول الاجتماعي ، وتنشأ في هذه الحال صناعة مزدهرة للثقافات بمفهومها الأنثروبولوجي .
وتقوم عناصر ذلك القبول الاجمتماعي على العادة ، فالعادة توجد مقابل التفكير الواعي ، ومن أجل ذلك يختلف الحدس العام من زمن إلى آخر ، ومن مكان إلى غيره ؛ فهو ليس طبيعياً ، بل ثقافي ، لأن العادة ثقافة . لذا يعطي الحدس العام قالباً تكوينياً جاهز الصنع ، مما يمكن بواسطته تفسير الوقائع والأحداث اليومية .
وفي حالات كثيرة تكون مضامين التلقي أكثر مما يحتويه النص ، أو يحمله الموقف من ظروف تداولية . ومن خلال خلفية المواقف المختلفة يتم استحضار القوالب التكوينية ذات التفسيرات المختلفة ؛ ويمكن حينها أن يفرق بين المعنى بوصفه ذلك المضمون الذي يحتويه الرمز تركيبياً ودلالياً ( أي ما يوجد فعلاً ) وبين مفهومه بوصفه الشيء الذي ينقله الرمز في ذلك الموقف . وهذا المفهوم هو ما يعرف " بالوظيفة الاتصالية " .
وإذا نقبنا عن أثر تلاقح هذه التطورات في ثقافتنا العربية ، نجدها في بعض نماذج الشعر العربي القديم الذي نقتبس في موضوعه من دراسة حسـين الـواد لشعر بشـار بن برد : " ولعل أول ما يمكّن منه احتذاء النماذج القديمة إنما يتمثل في الرجوع بالكلام إلى مرحلة التسميات الأولى ، نعني ذلك العهد الذي شهد إطلاق الأسماء على الأشياء وشهد تأنيس الكون بتسميته وتسمية مكوناته . ومهما ألفنا اليوم من قول باعتباط العلامة في صلتها بالمسميات التي تحيل عليها ، ومهما أقررنا به من تواضع واصطلاح في وسم الوجود وأشيائه بما يقيم لها هيئات في الأذهان من أجراس الأصوات فإن عهد التسميات الأول عهد شعري بالأساس . ويبدو أننا لاننفذ إلى شعرية هذا العهد من تفهم المنطق الذي تسمى به الليل " ليلاً " والنهار " نهاراً " إذ العكس لا يمتنع ، وإنما ننفذ إليه من استحضار الوجود وأشيائه إلى الذهن بإقامة أمثلتها في أصوات متداولة يعرفها الناس فيما بينهم ويصرفها الإنسان في ما بينه وبين نفسه فيكون بذلك امتلاك الوجود . ويواجه الشاعر ، أي شاعر ، هذا العهد ، عند كل إبداع ، لأنه ينيخ بعمله على علاقة الأسماء بمسمياتها وعلاقة الأسماء بالأسماء التماساً للصيغ الأمثل التي يستحضر بها الوجود وأشياءه إلى الذهن . فمدار عمل الشاعر إذن على التسمية ، إذ هو يراجع تلك الصلات بين الاسم والمسمى وبين الاسم والاسم وبين المسمى والمسمى ويبحث في الأنظمة التي تشدها بعضها إلى بعض في حالات اتصالها وانفصالها عن ضروب من الصلات يكون الألق فيها أسنى والظل أروح والمسافة بين الأجراس الصوتية والمعني بها أبعد من سطحية الوضوح وأقرب من ظلام التعمية ، أو ينشد مسارب أخرى تنعقد بها التسميات في أنظمة تخرق المعتاد باستنباط الجديد وبعث القديم المنسي ، فيكون الكل في الكل أليفاً مستغرباً ومأنوساً وحشياً وواضحاً غامضاً وبسيطاً مركباً معقداً . فالشاعر إذن مسكون بالتسمية ، هاجسه المقيم تفكير دائم في الكائنات والكلمات ، وكلما فكر في التسمية ضرب رجعاً إلى المجسمات والصفات وهي تلبس الدلالة عكس اتجاه الإبحار نحو ضفاف التجريد والتشعب . لهذا كان الرجوع إلى احتذاء الشعر القديم معاودة من الشاعر لتلك العمليات الإبداعية التي أعطت في يفاعة دفقها الأول تلك القصائد التي احتلت من الضمائر منازلها الأحسن وارتقت إلى مرتبة النموذج يحيط به التقديس . معنى هذا أن بشاراً ، وهو يلائم بين قصائده هذه وبين النماذج التي تحتذيها والتي كانت قد امتزجت بوجدانه وبتمثله عالم التسمية امتزاجها بوجدان المتقبلين وتمثلهم الوجود ، إنما كان يباشر الرجوع إلى المنابع الأول التي انبثق من رحمها الشعر . واتخذ هذا الرجوع إلى المنابع الأول ، عند بشار ، هيئة محاكاة القصيدة الأنموذج . وكانت قد أصبحت أنموذجاً عندما أكثر السابقون من محاكاتها باستحضار مراحلها في الإبداع مثلما اتخذ هيئة العودة إلى الرجز ، وهو في عرف الدارسين فجر الشعر العربي القديم أو أصله أو بدايته ، وهذا يعني أنه رجع إلى المبتدأ وإلى الغاية .
لكن ما الذي يجعل من الرجوع إلى المنابع والأصول بمعاودة المنطلق ومحاكاة النماذج عملاً ضارباً في الشعر بجذوره البعيدة ؟ وكيف يكتسب الكلام الذي هذا نوع استعماله صفة الشعرية أو يتمكن من النهوض بوظائفها؟
يلتمس الجواب عن هذه الأسئلة في عمل الظواهر نفسها التي يكون بها الإبداع الشعري انطلاقاً نحو الأصول الغوامض والبدايات النائية وعهود التمسية البعيدة .
فأن يرجع بشار ، وغير بشار من الشعراء الكبار ، إلى المنابع الأول التي انبثق منها الشعر باحتذاء نماذجه ومعاودة منطلقاته إنما يعني التغلغل صعداً في ذاكرة الجماعة حتى تنبعث تلك الإيقاعات الأنغام أصداء مستحضرة في الحاضر من وجود أسطوري سحري واجهت فيه البشرية العالم فبسطت عليه سلطان التمسية منتصرة على عوائق المكان والزمان ظافرة . وليس من شك في أن حركة الرجوع هذه أصل من أصول الشعر ، ما دام يقوم في أكثر صيغه انتشاراً على التذكر والتفكر ، نعني استحضار الموقف والتفاعل معه . وقد أسهم قيام القصيدة التقليدية على التذكر في تكييف بنيتها المقطعية حتى استوت على النحو الذي رقت به إلى الأنموذج .
غير أن الرجوع إلى زمن البدايات والأصول قد حتم ، من ناحية أخرى ، أن يكون اللفظ المستعمل في هذه القصائد ، نازعاً إلى الغموض حتى تكسى الدلالة بغلالة تؤدي إلى ملازمة الدال المدلول أو انغلاق الاسم على مسماه ، فإذا ما ارتسمت العلامة على الحس لم تخترقها المدارك إلى ما تشير إليه ، وإنما تتراءى كائنات مبهمة تدعو بقوة الجرس فيها إلى توهم المعاني توهماً. يحتم الرجوع إلى الأصول إذن التحول بالألفاظ من أحكامها من حيث هي علامات ، إلى ظواهر تدرك ولا تدرك ؛ لأنها تجلو من الدلالة وجهاً وتحجب وجوهاً ، وذلك حتى يكون التعامل معها موقفاً يسعى إلى الإحاطة بما تخفي انطلاقاً من ذلك الذي تجلى ، ويتوغل في التوهم والتخييل . وإنه لميدان يختص به الشعر ؛ إذ للألفاظ فيه هيئات وظلال . بهذا يصبح موقف المتعامل مع الألفاظ القديمة في هذا اللون من القصائد موقفاً مشابهاً لمواقف الأوائل من أشياء الوجود ، غير أن الفارق يكمن هذه المرة في الانطلاق من العلامة بدلاً من الشيء أي من الاسم بدلاً من المسمى . إن الأوائل قد سموا العالم فامتلكوه ، وإن الأواخر يفكون ألغاز التسمية لامتلاك الوجود . أما الشعراء فمجالهم العلاقات بين الأسماء والمسميات".
وكما هي وظيفة الشاعر أصلاً في إطلاق الأسماء واختيار الكلمات على مثال ما يقوله الفحول السابقون ؛ أو ما يسمى " محاكاة التسمية " ؛ فإن وظيفة الفن ( المبني أصلاً على التوهم والخيال : أي عدم مطابقة الاسم للمسمى ) تتمثل – إن كان الفن صادقاً – في إثبات أن ما بني على الخيال واقع فعلاً في عالم الوجود . وكما ورد أعلاه فإن الشاعر ( والفنان بشكل عام ) يستطيع بقوة الفن أن يحول أشياء بسيطة من الواقع المعيش إلى موضوعات شـعرية أو فنيـة .
ومن كان قادراً في مجال الإبداع ؛ سواء في الشعر أو الفكر ، أن يتسامى إلى مراحل التسمية الأولى ، فإنه يكون قد تجاوز التقليد ، ووصل في استخدام اللغة إلى الجذور . وهذا يعني أنه يبتكر أفكاراً أصيلة ، ويلم بالعلاقات المفترضة بين الألفاظ ودلالاتها ، وبين نقلة الكلام ومرادهم ، وبين معاني النصوص ومفهومها .
وفي حين تكون البدايات في أغلب الحالات نقية ؛ يكون فيها تطابق السمات الرئيسة بين الاسم والمسمى متحققاً ، فإن القيود التي تفرضها الثقافة على هذا المبدأ في بعض المجالات ، مما يتطور إلى ما يسمى " المحظور " كلياً أو جزئياً ، مثل اسم الرب عند اليهود ، أو أسماء الأعضاء التناسلية وعمليات التواصل الجنسي – في غير المجالات العلمية أو المرافعات الحقوقية – في الثقافة العربية .
ولكون المقتنيات ومتعلقات الفرد – ومنها الاسم – في المجتمعات البدائية جزءاً من تكوينه وعنواناً ؛ لا يفرق المجتمع – غالباً – بين الشخص وهذه الأشياء اللصيقة ، فقد ابتدعت تلك الأمم الحيل للإيقاع بذلك السر ، وربطت تقنيات علوم السحر بين هذه الأشياء المملوكة ومالكها ؛ فاستعار السحرة من ديانات العالم القديم أسلوب استخدام قطعة من لباس المعشوق المشبعة بأنفاس جسده لتوظيفها في نسج مكيدة الإيقاع به بمعونة التمائم . وتكتمل العملية في الحصول على أفضل النتائج ، إذا أضيف اسم الشخص المقصود أو اسم أمه.
وتقوم تلك الأعمال على فضح سريرة الآخر بواسطة اختلاس قطعة من لباسه ، مما يعني في ناموس السحر فك لغز الحرف الأول في أبجدية طلسم مغلق اسمه الإنسان . " ولهذا السبب تحرص الأمم البدئية أشد الحرص على الاحتفاظ بالاسم سراً ، أو عدم البوح به مهما كان الثمن ، ليقينها بأنه تميمة ذات حدين : كتمها نجاة وفضحها هلاك . وتستعير الأمم الأهلية اسماً آخر بديلاً للاسم الأصلي إمعاناً في إخفاء حقيقة الإنسان عن أخيه الإنسان ، لأن الاسم في عقيدة الأوائل ليس عنواناً أو نعتاً ، ولكنه جوهر ، قيمة ميتافيزيقية حميمة في علاقتها بذات الإنسان . وما لا اسم له في يقينهم لا وجود له ... وعلّ حياة المصريين القدماء ( حيث سادة نزعة انتحال اسم آخر بدل الاسم الأصلي ) لهي برهان على يقين الأولين بخطورة الإفشاء المستعار من ناموس السحر أصلاً " .
وفي الموروث الشعبي العربي تسود فكرة القوة العظيمة لمعرفة أسماء أصحاب الأرواح الشريرة، كما يتضح من قصة الفتاة المدعية قدرات خارقة في أداء الأعمال المنزلية. فبعد أن فشلت في ادعائها، ظهر لها كائن خارق، وعقد معها صفقة بأن يقوم بإنجاز عملها الملطوب مقابل أن تمنحه أول مولود لها. وبعد نجاحه فيما طلب منه، عز عليها أن تتخلى عن طفلها الرضيع، فأخذت تستعطفه أن يترك لها طفلها؛ فربط ذلك بمدى تمكنها من تخمين اسمه خلال فترة محددة. وبالصدفة سمعته يتغنى باسمه في الحديقة، فلما جاءها أخبرته، فقتل نفسه (أو احترق غيظاً)، لأنه فرط في تلك القوة.
وفي حكاية أخرى يتزوج ابن الملك فتاة بتناها غول، ففرض عليها أبوها ( الغول ) ألا ترد على زوجها إلا إذا خاطبها بقوله: "ياست ططر، ياست مطر، ياللي أمك الشمس وأبوك القمر" ، وتسرد الروايات مصاعب متعددة إلى أن يعرف الزوج اسم زوجته مصادفة ( ست ططر، ست مطر )، فيخاطبها بتلك العبارة، وترد عليه، ويعيشان في ثبات ونبات.
وقد ظهر الخلط بين الكلمة والشيء ، بين الرمز والشيء المرموز إليه جلياً في بعض البيئات على شكل اعتقاد بأن اسم الشخص جزء منه . فعند معرفة اسم أحد تقترن تلك المعرفة بامتلاك سلطة على صاحب الاسم ، أو يشكل ذلك مدخلاً للحظوة عنده . وبسبب هذا الاعتقاد نشأت عادات في ثقافات مختلفة من العالم بإعطاء الأطفال عند الولادة " أسماء حقيقية " ؛ لا يعرفها إلا الوالدان ، ولا تستخدم أبداً ، وكذلك الأمر في الاسم المستعار أو اللقب الشائع الذي يسمى به في الأماكن العامة انطلاقاً من تفادي الاسم الحقيقي . بهذا يصبح الطفل محمياً من أن يخضع للهيمنة الروحية لأحد .
كما رسخت بعض الأديان والمعتقدات فكرة أن الاسم يؤلف مع الجسم وحدة لا تتجزأ ، وهو بمنزلة نفس . فقد كان المصريون القدامى يعتقدون أن الميت يعود إلى الحياة إذا ما ذكر حي اسمه . ولذا نراهم يكتبون على مدافنهم : "لتباركك الآلهة ، وتكافئك إن أنت ذكرت اسمي " ، وتقول إيزيس مخاطبة الإله رع : " اذكر لي اسمك أيها الأب المقدس ، فإن كل من يدعى باسمه يعيش حتماً " . وجاء في كتاب ديانة قدامى المصريين : " إن أكبر قوة سحرية كانت وقفاً على الذين يعلمون الاسم الخفي للإله الأعظم رع الموجود في كل شيء . وقد مكث هذا الإله زمناً مديداً محافظاً على اسمه الخفي لا يعلمه أحد غيره إلى أن تمكنت إيزيس الساحرة العظيمة من استلاله منه بحيلة . ومنذ ذلك الحين أصبح لها سلطان قوي وبطش عظيم . وعندهم أن خلق العالم قد تم لما تلفظ الخالق بأسماء الأشياء ؛ وهم يذهبون إلى أن الناس إذا عرفت اسم الإله تسلطت عليه ، وأن الميت الذي يعرف بعض الصلوات الخاصة تغفر له جميع مساوئه : " إن الساحر الذي يعرف الأسماء الحقيقية للآلهة يستطيع أن يسخرها لقضاء حاجاته ، بل إنه يأمرها بذلك . وهي لا تجهل السلطان الواسع الذي تخوله هذه المعرفة ، فتخضع للأوامر وهي صاغرة " .
وفي معرض ربط قوة الإله بتعدد الأسماء وخفائها نجد ترتيلة مصرية لا تختلف عن الأديان التوحيدية:
واحد ، ولا ثاني له
واحد خالق كل شيء
سرّ لا تدركه المخلوقات ، خفي على الناس والآلهة
سرّ اسمه ، ولا يدري الإنسان كيف يعرفه
سرّ خفي اسمه ، وهو كثير الأسماء
هو الحقيقة ، يحيا في الحقيقة ، إنه ملك الحقيقة
وترتيلة أخرى تتحدث عن الإله آمون :
صورته لا ترسمها الكتابة ، وما له من شهود
من تلفظ باسمه ، سهواً أم عمداً ، يموت من ساعته
ولا يعرف إله كيف يتوجه إليه باسمه
جمع الآلهة ثلاثة : آمون ورع وبتاح ،
ولا ثاني لهم
هو الخفي باسمه آمون
وهو الظاهر باسمه رع
وهو المتجسد باسمه بتاح .
ومن الإطار المشترك بين المنظومات الهندية والآسيوية عموماً والديانات التوحيدية يصادف المرء اتفاق غريب على "الإقرار بالصبغة السحرية لمفعول الكلمة التي يتفوه بها الإنسان في ظرف ما، والاحتفاظ بإحدى خصائص الأنطولوجيا القديمة المتمثلة في أنه لا وجود حقيقياً للنبات والحيوان إلا عندما تُطلق عليه الأسماء" .
وفي حين تكون الروح في الأديان الشرقية الكبرى هي المتحكم في المركب الحسي ( البدن والأعضاء الوظيفية ) ، فإن الجزء الآخر هو أسماء الله العظمى . وبعد أن ترسخت طقوس تلك الأديان ، وأصبح الكهنة حراساً لمقعد الحقيقة ، وبوحي من مصدر تلك القوة أبقوا على سرية أسماء الله العظمى . وقد امتدت تلك المعتقدات في كل من اليهودية التي نستدل عليها من خلال النصوص التالية على سبيل المثال : " ويكون أن كل من يدعو باسم الرب ينجو " (يوئيل 3 / 5 في الأصل العبري = 2 / 32 في الترجمات ) ؛ وكذلك : " فنشكر اسمك العظيم ، سلاه " ؛ " وليمدحوا ويباركوا اسمك العظيم حقاً إلى الأبد " .
ونتيجة لارتباط اسم الشخص بقدره، والخلط بين اسم الانسان والشيء الذي يتعامل معه في التراث العبري؛ فقد انتقلت هذه القناعة إلى عبارات في اللغة العبرية تنص حرفياً على " تسمية الولد باسمه" بمعنى تسمية الأشياء بأسمائها. وقد استعارها العرب المقيمون في إسرائيل، لتدخل إلى العربية بالمفهوم الثاني للتسمية في هذه الدراسة: تقديم الحقائق دون تزييف أو تجميل.
ولقوة لفظ الاسم الأثر نفسه في الإسلام أيضاً ؛ فمن الآيات المعظمة لقيمة الاسم في العبادة : "ما تعبدون من دونه إلا أسـماء سميتموها أنتم وآباؤكم"؛ "إن هي إلا أسـماء سميتموها أنتم وآباؤكم" ؛ "أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم" . وقد بدأت المرحلة المكية الأولى والثانية باسم الرب ( رب العالمين ، الخالق ) ، دون استعمال اسم الله في القرآن والاكتفاء بالأوصاف . ولم يستخدم بشكل منهجي إلا في المرحلة المكية الثالثة.
ومن الأحاديث نجد مجموعة تصب في الاتجاه نفسه : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن عبد الله بن العلاء عن القاسم قال : اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاث : البقرة وآل عمران وطه " . كما أخرح ابن ماجه عن عائشة أنها " سألت النبي ( ص ) أن يعلمها الاسم الأعظم ، فلم يفعل ، فصلت ودعت : اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت وما لم أعلم " الحديث . وفيه أنه ( ص ) قال لها : " إنه لفي الأسماء التي دعوتِ بها " .
أما تسميات الأشخاص والألقاب ؛ فمنها ما يتخذ توقيراً أو خوفاً أو سخرية . فإذا كان الهدف من تسمية الشخص الأولى التعريف به وحفظ نسبه وتحديد هويته ؛ فإن كانت في الأسماء والألقاب المتأخرة ، يكون الأمر متعلقاً بتعديل لأي من تلك الخصائص ، أو انحراف لدى مستخدم اللغة في أهدافه أو علاقاته .
وفي مسح للكتل الثقافية الكبرى في العصر الحديث تجري المقارنة في بعض الدراسات بين نماذج الفكر البشري المختلفة بشأن التعامل مع الأسماء وما يرتبط بها من فئات ومقولات ، أو خلافاً لذلك الاهتمام بالعلاقات بين الأشياء والبيئة المحيطة بها .
وقد كان التضاد واضحاً بين النموذج الغربي والنموذج الآسيوي ( شرق آسيا على وجه الخصوص : الصين واليابان وكوريا ) في الدراسات الأنثروبولوجية التقابلية التي أجريت على مجموعات من النموذجين . فقد غلبت سمات الوضوح والصراحة في تسمية الأشياء على النموذج الغربي ، خلافاً للنموذج الآسيوي الذي كان متعلقاً بالاهتمام بالعلاقات في تنظيم الموضوعات ؛ مما يعني أن هذه النماذج تُتعلم ضمن الثقافة .
وقد انطبعت تلك السمات المميزة في لغة كل ثقافة ؛ فتسمية الموضوعات التي بينها قواسم مشتركة يحفز إلى الانتباه إلى تلك القواسم التي تسمح بتشكيل فئات جديدة مبنية على أساس مجموعات متماثلة من الخاصيات . فقد اتسمت اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوربية بأبنية اسمية تسمح بتعدد استخدامها للموضوع أو لفئة من الموضوعات ؛ خلافاً للغة الصينية وغيرها من اللغات شرق الآسيوية ، حيث تكون المعايير السياقية والتداولية هي المحددة للبناء ولفهم مدلولات الأسماء .
كما يتعلم أطفال شرق آسيا كيفية تصنيف الموضوعات فئوياً في مرحلة متأخرة عن أطفال الغرب . وقد درس عالما نفس النمو واللسانيات أليسون جوبنيك وسونج تشوي أطفالاً يتحدثون الكورية والفرنسية والإنجليزية ابتداء من عمر سنة أو سنة ونصف السنة . واكتشفا أن مهارات تسمية الأشياء وتصنيفها إلى فئات تتطور لدى المتحدثين بالكورية في فترة متأخرة عن المتحدثين بالإنجليزية والفرنسية . ودرس الباحثان أحكام الوسائل – الغايات ( من مثل : اكتشف كيف تأخذ هذه الأشياء من داخل الحاوية ) والتصنيف الفئوي الذي درسوه عن طريق عرض أربعة موضوعات من نوع واحد على الأطفال ، وعرض أربعة من نوع آخر عليهم من مثل أربعة مربعات صفراء مستوية السطح وأربعة أشكال بشرية صغيرة .
وطلبا من الأطفال ترتيبها في شكل محدد ؛ بحيث تبدو ذات معنى ودلالة . لوحظ أن صغار الأطفال المتحدثين بالإنجليزية أو الفرنسية تحكموا في أداء مهام الغاية – الوسيلة ومهام التصنيف الفئوي في المرحلة العمرية نفسها . لكن الأطفال الكوريين تعلموا التصنيف متأخرين ثلاثة أشهر عن تعلمهم قدرات الغاية – الوسيلة .
وذلك يعود إلى وجود عوامل تؤثر في التنشئة الاجتماعية للأطفال ؛ من شأنها أن تدعم مثل هذه الأساليب المختلفة في الإدراك وفي التفكير العقلي . ومن المؤكد أن تعلم الفئات – المقولات التي يشار إليها بالأسماء أسهل كثيراً، لكون الخصائص الشكلية تخزن مع الرمز الدال عليها ، لحين الحاجة إلى استدعائها ؛ ومع ذلك لا يوليها الآسيويون الاهتمام في ثقافتهم أو لغاتهم . أما العلاقات فهي أكثر صعوبة ، لأنها تعتمد على ملاحظة موضوعية ، وعلى نشاط الربط بين المسببات والنتائج ، كما تتفاوت الأحداث في مضامينها وفي الحكم عليها حسب الخبرات السابقة والتوقعات .
ورغم صعوبة تعلم العلاقات ، فإن الآسيويين يتعلمونها بشكل أسرع من تعلمهم الأسماء . وهو أمر يسهل فهمه لدى متابعة سلوك الأمهات الآسيويات مقارنة بسلوك الأمهات الغربيات ؛ ففي حين تستخدم الأمهات الأمريكيات صفات وأسماء الأشياء ضعف استخدام الأمهات اليابانيات لها ( في دراسة أجرتها عالمتا نفس النمو آن فيرنالد وهيرومي موريكاوا ) ، فقد انهمكت الأمهات اليابانيات في تعليـم معايير الأدب ضعف اهتمام الأمهات الأمريكيات بذلك ( التقمص الوجداني ، والتحيات على سبيل المثال ) . ولوحظ أن ثرثرة الأم الأمريكية مع طفلها تجري على النحو التالي : " هذه سيارة . هل ترى السيارة ؟ هل تحبها ؟ السيارة لها عجلات جميلة " . ولكن الأم اليابانية يمكن أن تقول : " هاي ، هذه دوك دوك . أعطيها لك . أعطها الآن لي . نعم . شكراً " . ويتعلم الأطفال الأمريكيون أن العالم مكان به موضوعات وأشياء ، ويتعلم الأطفال اليابانيون أن العالم في الغالب الأعم هو علاقات .
3 - مواقف تسمية الأشياء
في هذا المبحث نعنى بالدرجة الأولى بالمرحلة الثانية وتطوراتها في انتقال الدلالة إلى رمز آخر ( وليس الرمز إلى دلالة أخرى ) انتقالاً قسرياً بدافع من ذات المستخدم ، أو بضغط من أعراف المجتمع وقيوده . وبما أن الفكر واللغة متلازمان ، فإن ما يسري على أنساق أحدهما ينعكس بالصورة نفسها على أنساق الآخر .
وعندما تكون الثقافة متسامحة ؛ لا تضع العراقيل إزاء تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية في المجتمع ، فإن استخدام اللغة يصبح أيسر شأناً ، وتصبح أحاديث الحوار أكثر سلاسة . أما في المجتمعات التي تضع ثقافاتها حدوداً لتسمية الأشياء بأسمائها ، فيوجد بين مستخدمي اللغة وصانعي الفكر من يسمون الأشياء بأسمائها ( وهم فئة ضئيلة ) ، وفريق آخر يمثل الغالبية الساحقة لا يسمي الأشياء بأسمائها . ولا يخفى على متابع ، أن المجتمع بأغلب فئاته وقواه يحاصر الفئة الأولى ، ويعدها مصدر إزعاج وخطر على وئام المجتمع وأخلاقه .
ومن هنا كان لا بد للشعراء والمفكرين في تلك البيئات من التحول من " تسمية الأشياء إلى الإشارة إليها ببعض الصفات ، حتى حلت الصفة محل الاسم في الدلالة على المسميات . بل إن التشبيه ، وهو في الأصل من باب رد المجهول إلى المعلوم والقاصي إلى الداني ، قد انتقل كثير منه إلى تقريب المعـلوم من المجهول والداني من القاصـي والمألوف من الغريب العجيب . وهذا وإن كان من قبيل النفاذ من الظاهر إلى الخفي ، ومن المجلو للعيان إلى المحتجب ( وهو ما يتماشى مع طلب الجواهر المطردة والثوابت ) فإنه ينهض على الانتقال من " الواقع " الحاصل بالرؤية إلى الرؤيا الحاصلة في الذهن " .
وتقوم الاستعارة في هذا المجال بدور كبير بوصفها ظاهرة إسناد، لا تسمية؛ خلافاً للعرف البلاغي السائد من أنها صورة خطابية تعنى بالتسمية، وأنها تمثل توسيعاً لمعنى الاسم من خلال العدول عن المعاني الحرفية للكلمات. إذ تنتمي الاستعارة إلى اللعبة اللغوية التي تغطي التسمية، وهو ما يعني أن دراستها تجري ضمن تنوعات المعنى في استخدام الكلمات.
وفي تسمية وسائل التقنية الحديثة عادت الظاهرة ، بإطلاق الصفات أو الألقاب على المنتج ؛ إما لأسباب تسويقية من التاجر ، أو لأسباب نفسية من المستهلك . وإذا استعرضنا بعض ما يطلق في السوق السعودية على أجيال الهاتف الجوال وموديلاته ، نجد أن الصفة ( اللقب ) تضيف إلى اسم الجوال الحقيقي صفات في الجهاز شخصية توحي بأن حامله يتميز عن حاملي الأجهزة الأخرى ، خلاف ما يتمتع به الجهاز من ميزات تقنية ( الهدف النفسي ) ، أو تجعله يشعر بذلك ( الهدف التسويقي ) . ويمكن تقسيمها إلى فئات متعددة ؛ منها :
• الأسماء المرتبطة بإمكانات الجهاز :
نوكيا 1100 ← الكشاف ، لأنه يتصف بصفة الكشف
نوكيا 3100 ← الساهر ، لأنه يظهر ألواناً فسفورية أثناء الظلمة
نوكيا 3120 ← الساهر المطور أو الدلوع ، لأن له سمات أكثر تطوراً في الإضاءة
• الأسماء المرتبطة بشكل الجهاز :
نوكيا 6260 ← الأباتشي
نوكيا 6100 ← برج العرب
نوكيا 6610 ← الفيصلية
نوكيا 7280 ← القلم
نوكيا 7380 ← القلم المطور
• الأسماء المرتبطة بأحداث أو مناسبات :
نوكيا 6800 ← الزلزال ، لأن ظهوره صاحب زلزال أندونيسيا وإعصار تسونامي
نوكيا 2300 ← ستار أكاديمي ، لأن وقت إطلاقه تزامن مع وقت عرض البرنامج
نوكيا 6822 ← الصحّاف المطور ، لأنه يتمتع بميزة تقليب الشاشة إشارة إلى تقلب مواقف الصحاف
نوكيا 6270 ← الأماكن ، لتزامنه مع أغنية الأماكن لمحمد عبده
نوكيا 6280 ← الأماكن المطور
نوكيا 7370 ← دلع البنات ، تماشياً مع أغنية بالاسم نفسه
نوكيا 2600 ← الرمانة ، لأغنية بهذا الاسم منتشرة وقت ظهوره في الأسواق
نوكيا 3220 ← البرتقالة ، لأغنية أخرى بهذا الاسم
• الأسماء الموجهة لحاملي الجهاز :
نوكيا 7610 ← الزعيم
نوكيا 6680 ← الشيطان
نوكيا 6630 ← الفارس
على أن الخلل في تسمية الأشياء بأسمائها لم يبق محصوراً على تسمية الموضوعات ، بل انتقل إلى التعريف بالأنا ، وتقديمها إلى تلك البيئة الفاحصة التي تربط الذات الفاعلة بالأشياء ربطاً إبدالياً ؛ لا يقوم على علاقاتها بتلك الأشياء بأبعادها المختلفة .
وقد ألزم هذا التعسف الناس بإخفاء هوياتهم بشكل جزئي ( في بعض المواقف ) ، أو بشكل كلي دائم ، عند مزاولة أي من النشاطات التي يضطر المرء فيها إلى تسمية الأشياء بأسمائها ، دون الرغبة في مواجهة الأحكام المسبقة والتعرض للملصقات الجاهزة .
لذلك استشرت ظاهرة الأسماء المستعارة في مثل هذه البيئات ، وخاصة في الحقب الزمنية التي تنشأ فيها مشاعر ازدراء لبعض الأقليات ، أو تضيق الفئات المتنفذة فيها بالمواقف والكتابات الصريحة في بعض شؤون المجتمع .
ففي مطلع القرن الرابع الهجري اضطر أفراد الجماعة التي أسمت نفسها " إخوان الصفا وخلان الوفا " إلى إبقاء أسمائهم سراً خوفاً من أحكام النخب المتنفذة الشمولية ، بالرغم من تشجيع البويهيين لهم ودعمهم إياهم . فلو كانت غاياتهم سياسية ورسائلهم موجهة إلى نقد الأوضاع القائمة ، لكان إخفاء أسمائهم مبرراً ، لكي لا تلاحقهم أجهزة السلطة والقوى المرتبطة بها .
وفي العصر الحديث وجدت ظاهرة استخدام الأسماء المستعارة لدى الكتاب ( لدى بعضهم في جميع كتاباته ، ولدى بعضهم الآخر في موضوعات محددة ذات حساسية خاصة ) ، ولدى بعض المتواصلين مع وسائل الإعلام في البرامح التفاعلية - خاصة العناصر النسائية أو حتى نجوم الغناء والتمثيل ، وأخيراً لدى مستخدمي الشبكة العنكبوتية في الدخول إلى بعض المواقع ، أو المشاركة في منتديات الحوار وغيرها من منافذ العالم الافتراضي التي أصبحت تتطلب وجود اسم مستعار يدخل به المرء الموقع غير اسمه الحقيقي.
وقد ذكر محمد القشعمي بعض دوافع الكتاب السعوديين للجوء إلى الأسماء المستعارة ؛ منها التواضع ، أو تحاشي أن يكون مجالاً لحديث المجالس إذا كان مشهوراً أو عالماً ؛ فتحول مرتبته الاجتماعية دون أن يفصح عن نفسه في ممارسة هوايته في الكتابة . كما تدفع المصالح المادية بعض الكتاب لاستخدام هذا الأسلوب ، من أجل الكتابة في أكثر من صحيفة أو مجلة .
وللبعد الاجتماعي دور في انتشار هذه الظاهرة لدى نجوم الفن ؛ إما من أجل البحث عن أسماء خفيفة وفنية وسلسة ، أو من أجل تحاشي الحرج في المجتمعات المحافظة التي تنظر إلى الغناء والتمثيل بوصفهما من عناصر الفساد والبعد عن الفضيلة .
4 - أنواع منطق التسمية
تعددت أنظمة المنطق التي تقوم على ممارسات التسمية في التاريخ البشري . وقد وجدت علوم حديثة تعنى بها ، وتغذي تطورها في بناء الفكر العلمي للإنسان . وربما كانت علوم العناية بالرموز اللغوية أولى تلك الأنظمة ، وأكثرها ممارسة في العصور القديمة ، ثم تلتها مهارات وتقنين لتلك المهارات المستخدمة في بعض شؤون الحياة مثل " تقنيات التفاهم بالإشارة " بين المتباعدين في أنظمة الملاحة البحرية والجوية ، وما سبقها من أنظمة بدائية بالنار والدخان ، أو بين غير القادرين على استخدام لغة الكلام من فئات الصم والبكم وغيرهم من أصحاب الإعاقات . وبعض تلك الممارسات غير بشرية في ممالك بعض الكائنات التي لاحظ الإنسان وجودها ، فاستثمر معرفتها في تطوير قدراته الذهنية باتجاه تسخير بعض عناصر الطبيعة ، أو في التحكم بمصادر الخطر أو المرض . لكن دور هذه الطرق المنطقية يتمثل في المقارنات والوصول إلى الأشياء بشكل غير مباشر ، وليس في التسميات ذاتها . أما أهم تلك الأنواع المباشرة ، فهي : المنطق الرياضي ، ومنطق البرمجة اللغوية .
المنطق الرياضي
بالرغم من أن العلوم التي تقوم على المنطق الرياضي تعنى بقضايا التجريد بشكل كبير ، إلا أن أساس هذا المنطق يقوم على فرضيات التناسب في معناها المطلق . حيث تكون العلاقة بين أطراف التناسب قائمة على تسميات محددة ؛ هي ما يطلق عليه الفرضيات الأولى ، وعليها تبنى العلاقات اللاحقة بين عدد وآخر . وتتلو الفرضيات ( نقاط التسمية الأولى ) القواعد الثبوتية والعرفية ، لتستنبط المقولات المحددة والتعريفات المؤسسة لفرضيات أخرى (تسمية جديدة ) .
لكن واقع الوجود وتعدد عناصره يحتم ألا تكون كل العلاقات متمثلة في الأعداد ، وليست كلها أيضاً لها علاقات واضحة ببعضها الآخر. وحيث ترتبط الأعداد في الوقت نفسه بمعدودات نهائية ، فإن العدد لا يكون كمية مطلقة ، كما يسهل تعريفه بذلك ؛ بل إن الكم المطلق هو ذلك النهائي ( المحدود ) الأعلى من طبيعة العدد .
وفي كل تلك الطبقية تكون علاقة النهائي مرتبطة بشكل أو بآخر بفهم العدد ومعقوليته ؛ وهذا يعني أن علاقة النهائية المنبثقة عن فهم عددي بالدرجة الأولى ، هي في حقيقة الأمر بشكل أو بآخر مستوحاة من نهايات الأشياء ( في فهم العامة البسيط ، لا القوانين الفيزيائية المفسرة لتحول الأشياء ) ؛ وكأن الفصل المؤقت بين الأشياء وأسمائها قد عاد مرة أخرى إلى الوجود.
وعملياً تكون العمليات الجارية في رموز رياضية السلسلة الأفقية لدلالات كلمات اللغة ، التي تقبع في مرحلة متأخرة عن دقة تلك الرموز الرياضية في التعبير عن التسميات المناسبة . وتجري العادة باعتبار مجموعة الرموز في هذه العمليات نسقاً إنتاجياً حراً ، تتشكل مع الكلمات الفارغة . وفوق ذلك كله يصنف الرمز الرياضي من خلال هذه الميزة على أنه يحدد بشكل قطعي بنية تشاكلية . ولهذا السبب تُصنف أيضاً النظرية الرياضية في السلاسل الأفقية للكلمات المجردة على أنها رياضيات سيميائية ؛ حيث تكوّن المفاهيم العامة والعبارات السيميائية أسس البحث التركيبي في كثير من لغات البرمجة الرياضية .
ويحتل المنطق الرياضي المرتبة الثانية في العلوم المساندة ، مثلما أسست معادلات علم الجبر للمنطق الشكلي ؛ فهي تبحث نتيجة قوانين التفكير ، كما هي الحال في المنطق التقليدي . لكنها تستخدم التجريد في طرق أخرى من خلال تصور العمليات المصاحبة لأشكال التفكير ؛ فهي تطوع الطرائق الرياضية والرموز الدالة بيسر ومباشرة لفحص الأعمال الذهنية بمساعدة عمليات حسابية سابقاً ، ولغات برمجة بعد عصر الآلة . وقد سهل ذلك – دون شك – معرفة السلوكيات الحتمية في التفكير ، التي يتعامل بها المرء في حل القضايا المنطقية المعقدة في الرياضيات وفي علم تطورات التقنية والاحتمالات المسـتقبلية ، وفي إدارة المشاريع الكبيرة ، والتحكم في الحاسبات الآلية العملاقة ، وكذلك في كثير من أمور الحياة التي أصبحت تقوم على أتمتة كلية أو جزئية .
منطق البرمجة اللغوية
إذا كان المنطق الأول ( المنطق الرياضي ) علمياً ، ومفيداً في تراكم الخبرات الإنسانية من أجل توظيفها في مزيد من معرفة أسرار الطبيعة والتغلب على الصعاب التي يواجهها الإنسـان ؛ فإن هذا المنطق ذا صبغة مهارية بحتة ، وهو أقرب إلى فنون التحايل منه إلى أسس العلم المنهجية .
وخلافاً للمنطق الرياضي الذي يكون التأسيس فيه ذاتي الطابع ؛ فإن الاهتمام في هذا النوع من المنطق بإيداع تلك البنى المستهدفة لدى آخرين ، بغرض التأثير فيهم ، وبرمجتهم باستخدام الوسائل اللغوية المعتادة ، لكن من خلال أساليب مدروسة وطرق يتعلمها المبرمجون مهنياً أو أكاديمياً في بعض تدريبات صقل المهارات .
وقد برزت تلك البرمجة في المجالات المجدية اقتصادياً أو سياسياً أو أيديولوجياً ، وهي وسائل يرى فيها الممارس نفعاً في مجال الدعاية والإعلان أو الاستغلال السياسي والأيديولوجي ، وغير ذلك من المصالح النفعية التي تنتج عن تحول متلقي الرسالة من وضع إلى آخر . وفي كل تلك الحالات تتفاوت قوة التحول تبعاً لنجاح البرمجة ، واختيار الفئة المناسبة لتقبل ذلك المنطق .
كما توجد بعض أنواع البرمجة غير المقصودة – في المجتمعات المحافظة على وجه الخصوص ؛ منها البرمجة الاجتماعية ، والبرمجة الإدارية ( البيروقراطية ) ، والبرمجة الفلسفية . وفي كل تلك الحالات تكون العملية أشبه بالعادة التي يفقد المرء فيها قدرته على التمييز بين الأشياء وأسمائها ، أو أنه لا يدرك الفروق بين أشياء متعددة وأسمائها .
ومن أمثلة ذلك في الصحافة العربية المعاصرة والمكاتبات الإدارية :
• البرمجة الاجتماعية : الدكتوراه ل فلانة [وتوضع صورة رجل هو والدها أو زوجها]
• البرمجة الإدارية : برقية خطية – سرية للغاية – تعمم على جميع الوحدات [ وهي بخصوص إجازة عامة للمدارس ]
• البرمجة الفلسفية : أوضح الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية أنه لم يقبل أي اعتذار من البابا الذي لم يعتذر في الحقيقة [ بسبب الخلط بين الأسف والاعتذار ] .
أما البرمجة المقصودة ، فهي التي يسعى المبرمج فيها إلى التخطيط لمراحل البرمجة المختلفة، ويحاول الإبقاء على مستواها في الإطار الذي يبقي على مصالحه ، ويحقق فيه أهدافه .
ففي المجال التجاري ترتبط أساليب الدعاية والإعلان للمنتجات بكافة أشكالها بالمعادلة الأساسية العالمية المتمثلة في تدوير جزء من الأرباح أو تكاليف التأسيس لجذب المستهلك إلى السلعة ؛ وهي ما تسعى إليه المؤسسات الكبرى عن طريق صناعة " العلامة التجارية " . وجزء من هذه الصناعة يقوم على استخدام النجوم ( الرياضيين والفنانين ) والجميلات بدلاً من الكلمات الدالة على الأشياء ؛ لكن تماهي عبارة الدعاية مع ما يحب الإنسان ، ويفضله في حياته من خيارات ، ربما يكون أحد أفضل الوسائل المجدية للإعلان – المكتوب على وجه الخصوص . ومن أمثلة ذلك ما تمارسه البنوك أو مؤسسات الإقراض والمعاملات المالية من استخدام العبارة المغرية في بعض الدول الإسلامية بإرفاق الملصق السحري :
" ... وفق الشريعة الإسلامية " .
وفي البرمجة السياسية تدور رحى الصراعات من أجل السيطرة على مقاليد الأمور ، وفي سبيل ذلك تحتاج القوى المتصارعة إلى الهيمنة على الجماهير، وحشر الأفراد للإيمان بما يؤمن به القطيع في مهمة إكراه على الإجماع ، وقولبة فيما لا يوجد فيه اختيار . وإن كانت تلك القوى قد أعدت الأجهزة المحترفة لتنفيذ ذلك على أرض الواقع ، فإنها بحاجة إلى معونة لغة الإعلام والرأي العام المبرمجة لتلك الرغبات ؛ حيث تجري على ألسنة الناس، وكأنها من ابتكارهم ، وصادرة عن قناعاتهم الذاتية .
ومن أمثلتها :
" حذر رئيس البرلمان السابق جاسم الخرافي بعض أبناء الأسرة الحاكمة في الكويت مما أسماه باللعب بالنار ، ودعت 6 قوى سياسية كويتية الحكومة إلى إقصاء العناصر المشبوهة التي تقف ضد ما أسمته بإفساد العملية السياسية من الوزراء والشيوخ " .
ويتسع مجال البرمجة الأيديولوجية ، مثلما يتسع مفهوم الأيديولوجيا نفسه القائم على تناقض داخلي بين ادعاء المعرفة الدقيقة بالواقع وانفصاله عنه ؛ بين تجاوزه التناقض الظاهر في الواقع وبين السقوط فيه وتدعيمه . ولهذ فإزاء عجزها عن أن تعي نفسها من داخلها ، صار معتاداً أن يشار إلى الأيديولوجيا من خارجها في هيئة وعي زائف ، لا يعبر إلا عن مصالح ضيقة ، ولا يعكس إلا صورة جزئية ومقلوبة للواقع .
ومن أمثلتها :
" امتدح الجنرال بيتر بايس المسؤول العسكري الأمريكي البارز بشدة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ، وقال إنه يتصرف " بإلهام من الله " ! وقال قائد الجيوش الأمريكية ، في كلمة ألقاها في احتفال عسكري أقيم في فلوريدا : إن وزير الدفاع يدير الأمور بالطريقة التي يقول له الله إنها الأفضل لبلادنا " !
وفي المقابل : " وأكد نجاد أن إسرائيل ستزول قريباً ، لأنه لا يوجد أي سبب لبقائها ، وتوجه بالشكر للعناية الإلهية على فشل كل جهود مد هذا " الكيان المزيف " بالاستقرار " .
5 - تحول المرجعية والعلاقات
تنشأ ضمن تطورات مراحل التسمية والتصنيف في استخدامات اللغة حالات تُنقل فيها مرجعية الرموز ( العلامات ) من وضعها الطبيعي المعتاد إلى أوضاع مختلفة ، وتكون العلاقات فيها بين المنشئ والمتلقي والموضوعات قائمة على أسس تعاقدية جديدة .
أكثر تلك الطرق استخداماً ما تتحول فيه الضمائر من نوع إلى آخر بغرض تجديد الأساليب ، أو لفت الانتباه إلى حالة نفسية ملحة في مضامين النص ، أو لدى المنشئ _ إن كان يتحدث عن تجربة شخصية . فيصبح المتكلم غائباً ، والغائب حاضراً ، والمخاطب غائباً أو متكلماً ، أو تكون مرجعيات الضمائر متأرجحة في العبارة الواحدة في تسميات مجردة درسها البلاغيون في إطار ما أطلق عليه في الدراسات العربية " الالتفات " .
الإيحاء في التسمية
مثلما هو معروف اهتمام مستخدم اللغة الذي يسعى إلى حسن التواصل بالجانب النفسـي للمتلقي ، فإن كثيراً من السياقات الثقافية للتسمية تعتمد على هذا البعد الإيحائي في جذب المتلقي إلى جانب مخفي في خلفية الاسم المستخدم ودوره في السياق .
وقد نقل في تحليل أسباب إطلاق العرب الأسماء القبيحة على أبنائها والأسماء الحسنة على إمائها وعبيدها ، أن العرب سمت أبناءها لأعدائها ؛ بينما سمت إماءها وعبيدها لأنفسها . وقد أورد إبراهيم الشمسان قائمة بأسماء حديثة توحي بالاتجاه القديم نفسه في التسمية ؛ من إيحاء بالقوة والغلبة .
كما يوجد إيحاء مرتبط بحالة الأهل النفسية وقت التسمية من خوف على المولود من مرض أو موت أو أرواح شريرة ، أو تطلع لنجاحه وتحقيقه الرفعة والمجد اللذين ينشدونهما له . وهي ظاهرة قديمة أيضاً لدى العرب – والشعوب السامية بشكل عام – بدءاً من تسميات " يوسف "؛ "يزيد " ؛ " يعيش " ، وما ماثلها لدى الساميين ، وانتهاء بأسماء مثل : "غرم الله " ؛ " عوض الله " ؛ " عوض " ؛ " عيضة " في المنطقة الجنوبية من المملكة العربية السعودية .
وفي اتجاه موازٍ يسعى مستخدمو اللغة إلى إضفاء إيحاءات معينة لدى تسميتهم الأشياء لإضافة ذلك الإيحاء إلى معنى العبارة ، أو إلى خلفية المتلقي عند تحليله ما يتلقاه . ويكثر ذلك في تسمية الأعلام ( خاصة البلدان والشخصيات التاريخية ) ؛ من ذلك على سبيل المثال :
" وبما أننا نتبع سياسة النعامة في كل أمورنا الحياتية ، بل والسياسية والدينية والثقافية والجنسية ، لا نحب تسمية الأشياء بمسمياتها ، فلا نتوقع إلا الكوارث . قرأت أن هناك شبه "ثورة جنسية " اجتاحت شوارع قاهرة المعز ، ذات الألف مئذنة في إجازة عيد الفطر المبارك ، وقرأت كيف كان الشباب يتحرش جنسياً بالفتيات المارات في وسط البلد سواء كن سافرات أو متحجبات ، محاولاً اغتصابهن في وضح النهار . علام يدل ذلك ؟ يدل على بوادر أزمة جنسية تداهم المجتمع المصري ، أزمة كانت تكمن فيه منذ وقت طويل ، ولا يهتم بها أحد . وما حدث ما هو إلا مقدمة مرعبة لانفجار بركان الكبت الجنسـي لدى الشباب المصري ".
كما يستخدم الإيحاء في عبارات التهديد بكشف التسمية ؛ وذلك عندما يمتلك المرء السلطة من خلال حيازة المعلومة ، فإن لديه إمكان استخدام أكثر من استراتيجية للتعبير عن قصده . فيختار هنا الخطاب التلميحي بدلاً من الخطاب المباشر .
ويلجأ إلى هذه الاستراتيجية – ي الغالب – السياسيون وزعماء الأحزاب المتنافسة ، للإيحاء بأن لديهم ما يكشفونه عن منافسيهم أمام الناخبين ، وأنهم أكثر صدقاً وتطبيقاً للمبادئ التي يدعون إليها . كما يستخدمها كثير من المتخاصمين ، عندما تشتد بينهم الخصومة ، وتظهر إلى العلن . يمثل ذلك المنحى العبارات التي وجهها سارتر إلى كامي في أوج اشتداد الخصومة بينهما في إشارة إلى أنه لم تعد هناك فرص لتراجع موجهاً الحديث إليه بأنه " سوف يسمي الأشياء بأسمائها ، مما يعني فضح نوازع ودوافع كامي الشخصية " .
ضبابية التسمية
فيما يتعلق بتسمية الأشياء في المرحلة الثانية يعاني العرب بشكل عام ، والمجتمع السعودي بشكل خاص ، من أثر ازدواج التسمية في كثير مما يتعلق بما اعتاد عليه الناس في حياتهم الاجتماعية – خاصة في جوانبها الدينية . وكانت أبرز ملامح هذه الازدواجية ما يرتبط بالتقويم الهجري ، الذي رُبط بأسس دينية خلافاً للأسس الحسابية التي تنشأ من أجلها كل أنواع التقويم لحساب الزمن في بلدان العالم المختلفة وثقافاته . لا يغالط أحد في كون بداية التقويم الهجري حدث تاريخي له قيمة كبيرة في تاريخ الإسلام ؛ لكن ارتباط حساب السنوات ، وكذلك الأشهر على أساس قمري جعل التواريخ في هذا البلد غير مستقرة ، وتحديد المواعيد المستقبلية غير ممكن إلا بذكر ما يقابل ذلك التاريخ في التقويم الميلادي الثابت ( بحكم كونه تقويم شمسي ، لا تتغير فيه أيام الشهر بزيادة أو نقصان ) .
مع أن الإشكال في هذا التقويم المتبع ليس في ابتدائه من الهجرة النبوية ، بل في اعتماده على دورة القمر . فإن كان ذلك التقويم القمري صالحاً عندما تبناه بنو إسرائيل في مرحلة اعتمادهم على حياة الترحال ، إلا أن استمرار استخدامه لدى اليهود حتى بعد تحول أعيادهم الرعوية إلى أعياد زراعية ، واعتماد تورايخها على الدورة القمرية ، غير عملي ولا مبرر ، خاصة بعد معرفتهم منافع التقويم الشمسي . وفي فترات لاحقة أصبحوا يستخدمون التقويم الشمسي مبتدئاً من الفترة اليهودية الأولى ، والشيء نفسه طبقه الإيرانيون مع حساب مختلف لبداية السنوات .
وعندما لمس المسؤولون السعوديون إشكالات ذلك التقويم الكبيرة في تحديد مواعيد بدء وانتهاء السنة المالية للدولة ، وغير ذلك من التواريخ المهمة والضرورية لترتيبات كبيرة في الداخل ، ومع من تتعامل معهم الجهات الرسمية في الخارج ؛ لجأوا إلى استقدام التقويم الميلادي ، لكن مع البقاء في المنطقة الضبابية . حيث أعلن أن الميزانية تبدأ في 11 من الجدي من كل عام ، لأنه يوافق الأول من يناير ( أول يوم في السنة الميلادية ) ، دون تسمية ذلك الانتقال ؛ مع أن أبراج السنة ( ومنها الجدي ) لا تتفق مع أشهر السنة القمرية . فلا يمكننا ربط البرج الفلكي إلا بسنة شمسية ، لكنه يكون برج الجدي الذي صادف سنة كذا من الهجرة .
" وإذا ذكرنا تاريخاً هجرياً لليوم الوطني للمملكة ، فإن ذلك سوف يؤدي إلى اضطراب الدول الأخرى في العالم لمعرفة هذا اليوم الوطني ، ولذلك نقول إنه يوافق اليوم الأول من الميزان . وإذا أردنا أن نكون واقعيين ، لا بد من التعامل مع العالم ، بالتاريخ الميلادي لأنه مستخدم عالمياً .
فلماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها ؟
هل نعاني من الحرج مع جهة من الجهات ؟
هل نجامل المتعصبين ؟
نعم ، نحن نجامل المتعصبين وغيرهم ، ولذلك لا نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية ؛ نقول : "أعمال شغب " ، ونعارض تسميتها بالمظاهرات ؛ نقول : " النظام " ، ونعارض تسميته بالقانون ؛ نقول : " اليوم الوطني " ، ونقاوم تسميته بالعيد الوطني " .
وبالرغم من أن طرق التجريد السابقة تعد وسائل مركبة في تحديد المسميات، والوصول إلى المضامين من خلال الرموز ؛ إلا أنه توجد عمليات طمس تمثل تحولاً في الهويات ، وتكون أكثر تعقيداً من تناقل المرجعيات بين الضمائر التي يعتاد عليها المتلقي في الأساليب اللغوية أو المواقف التي يكثر ورودها فيها .
تتمثل تلك العمليات في تحول الذكر إلى أنثى ، أو الأنثى إلى ذكر ، والرب إلى صاحب وحبيب متداخل في لغة فلسفية تدعو إليها حاجات التعمية أو الهيجان العاطفي في الحب الصوفي وغليان المشاعر . فتذوب الحدود بين مسميات الرموز ، وتتعالى لحظة اللذة فوق منطق الواقع واصطلاحية اللغة .
وتكون تلك التحولات في النوع غالباً من الأنثى إلى الذكر ؛ إذ يتغزل الشاعر بمحبوبته ، لكنه يطلق عليها أوصاف المذكر ، رغبة في التعمية والخصوصية وحماية علاقة العشق من أن تكشف أو أن تبتذل ، أو خوفاً على المحبوبة من تدخل الحساد أو غيرة الأهل أو منافسة عشاق آخرين .
وفي المقابل نشأ في وقت متأخر غزل بعض الشعراء بالغلمان ، ونتيجة لتلك التعمية اختلط من يستخدم أسماء المذكر لمحبوبته مع من يتغزل في المذكر ، فيما أصبح يُطلق عليه "المذكرات" في العصر العباسي مقارنة مع الغزل السابق بالأنثى " المؤنثات " . ففي حين أصبح جمال الغلمان يوصف وصفاً مؤنثاً ، ظهرت موضة مضادة سميت " غلاميات " ، أصبحت تلبس الفتاة فيها لباساً رجولياً . ومنذ عصر أبي نواس استقر التعبير بالضمائر والصيغ الفعلية ذات الشكل المذكر حتى في القصائد الموجهة إلى النساء . وفي الشعر العذري على وجه الخصوص أصبح الارتقاء بصيغة المرأة إلى التجريد بوصفها عالماً سماوياً في مملكة الحب يستحق التقديس ، مرتفعاً عن نوع المحبوبة الذي لم يعد ذا بال .
اللافت للنظر أن الشاعرات المتأخرات عندما لجأن إلى هذا الأسلوب في الغزل بدا وكأنهن يتغزلن في نساء أخريات ، ويصفن مشاهد وكأنهن مثليات. وظهر الاضطراب نفسه في الأدب المثلي الحقيقي في الأدب الفارسي المتأثر كثيراً بتقانات الأدب العباسي المتأخر ، عندما لجأ رواده إلى قلب جنس المتغزل به ، ليصبح موائماً للأدب العربي القديم ، وكأنه أدب غيريّ.
أما تسميات المتصوفة ، فهي في بعض جوانبها منطلقة من تجريد مُثـُل الحب البشري ، ونقل تصوراتها الطوباوية إلى العلاقة مع الذات الإلهية . ولا يستبعد أن يكون التأثير معكوساً؛ أي من عشق الذات الإلهية إلى الحب بين البشر ، خاصة أن بداية شعر الحب الصوفي كان مبكراً ، مثلما هو مثبت في شعر رابعة العدوية . وقد تطور تعريف المسمى ( الدال عليه اسم الرب ) من صديق يُحب ، ويكون مأوى للقلب عند رابعة العدوية إلى روح تسكن داخل الإنسان ، وتتحد معه في رغباتها ومطالبها عند الحلاج .
ولم يعد الاهتمام منصباً على صفات يتسم بها الرب – كما يصفه الوعظ الديني – وهي تصب جميعاً في القوة المطلقة ، بل وحدة الرب خلافاً لثنائية المانوية أو ثلاثية المسيحية . ومن خلال تلك الوحدة التي كان الإيمان بها دليلا على شدة الصلاح نبعت فكرة الوحدة معه في الأدب الصوفي .
وإذا أردنا الدقة في التعبير ، فإن تصور الوحدة مع الرب لم تصنع إشكالاً في تعريف ماهية الرب فحسب ؛ بل إن التماهي معه قد أضاع هوية البشر أيضاً . فعندما يسأل العاشق الصوفي ربه عن هويته ( الإلهية ) ، فيقول له : أنت ! فإن الأمر يصبح مربكاً ليس في التسـميات فقط ، بل في تصنيف ما هو بشري ، وما هو إلهي ، ويمتد إلى كل ما يتعلق بالكون ومجرياته .
وإذا مزج الصوفي تلك اللغة العائمة بأفكار فلسفية وجودية ، فإن الأمر يصبح أشبه بالألغاز ، كما في :
بعضي ببعض بعضي كلي بكل كلي
وفي المراحل المتأخرة من ذلك الفكر تحول " الوجد " الصوفي إلى محاولات " للفناء " في الرب .
وهذه الفلسفة – فيما أظن – آتية من التصورات البراهيمية لعلاقة الروح الفردية بالروح العلوية ؛ ففي كل من الثقافتين يعبر عنهما بالطائر ، حيث تتحرر الروح من الجسد ، فتحلق عالياً ، وتكتسب الطاقة في تلك الأجواء الأعلى من وجودنا ، مثلما يكتسب الطائر الطاقة والقدرة على الطيران بتحريك جناحيه في طيرانه الحر . وبارتفاع الروح إلى الأعلى لا تصبح مرتبطة بقوانين الطبيعة الأرضية ، ومحددة بقيود العيش فيها ، فتكتسب سعة من الحركة ، لتنتقل إلى عالم آخر . ولن نتوسع في المقارنة بين تلك الصور ، لأنها تتجاوز حدود التسمية والتصنيف .
6 - تشـيؤ الإنسان وأنسنة الأشـياء
من أخطر مراحل تحول المرجعيات – بالإضافة إلى الاضطراب الفكري المشار إليه أعلاه – أن يصبح الإنسان رقماً من أرقام الوجود التي يتعامل معها ، وأن تصبح الأشياء نابضة بالحيوية ؛ ليكون المملوك مالكاً ، والمدبر ترساً في عجلة المصنوع . حينذاك يكون الإنسان أسيراً في مملكة لم يعد هو المتحكم فيها ، ولا العنصر الجوهري من عناصرها .
إحدى وسائل اللغة الفاعلة في هذا المجال هي استخدام المجاز . وقد بالغ بعض من يقدر قيمة هذه الوسيلة في اللغة بحصر إحداهما على الأخرى ، كالقول المنسوب إلى ابن تيمية بأن اللغة لا تعرف إلا المجاز ؛ فهي تسمية للعلامات وليست قولاً للحقائق . وكلما أوغلت اللغة في استخدام المجاز ، وتوسعت القوى المهيمنة في تهميش الإنسان ، زادت ضآلة الفرد ، وضعفت قيمة تميزه عن الآخر . فالقيمة للجماهير ولما يوضع على ألسنتها ، ولأن الجماهير أنثوية – كما يقال – فإنها تتشكل وفق ما تخطط له تلك القيادات التي تقحم قوتها وسذاجتها في خلق الأساطير والحكايات وإعطاء الأشياء أسماء غير حقيقية . " فالحدث الأكثر بساطة يتحول إلى حدث آخر مشوه بمجرد أن يراه الجمهور . فالجمهور يفكر عن طريق الصور ، والصور المتشكلة في ذهنه تثير بدورها سلسلة من الصور الأخرى بدون أي علاقة منطقية مع الأولى. ويمكننا أن نتصور بسهولة هذه الحالة عن طريق التفكير بالتتابع الغريب للأفكار الذي يقودنا إليه تذكر حدث معين . والعقل يبين لنا عدم تماسك مثل هذه الصور ، ولكن الجمهور لا يرى ذلك . فالواقع أنه يخلط بين التضخيم الذي يلحقه بالحدث وبين الحدث ذاته . وبما أنه غير قادر على التمييز بين الذاتي والموضوعي ، فإنه يعتبر الصورة المثارة في خياله بمثابة الواقعية والحقيقية ، هذا على الرغم من أنها ذات علاقة بعيدة جداً مع الواقعة المرئية " .
وبهذه الصيغ من التشويه بواسطة المجاز والجمعية يتحول الإنسان الرمز إلى شيء يستهلك في السياسة والدين والعلاقات الاجتماعية وغيرها ؛ ومن ذلك تحولات بوذا ( في الأقطار والمجتمعات المختلفة ) ، واستقبال عيسى المسيح ( في البيئات والأديان المختلفة ) . كما يتشيأ الإنسان المتلقي نفسه بما تتطلبه أصول اللباقة بقبول الأطر التي تفرضها قوى الجماهير الضاغطة ، خاصة في المجتمعات ذات الأنساق الموحدة . وفي كثير من الحالات يقنع الأفراد أنفسهم أنهم أصحاب الاختيار فيما يجدونه أمامهم من أنماط ملزمة ، لئلا يفقدوا ثقتهم في إنسانيتهم التي ترتبط بحرية الاختيار .
وفي تحليل لفلسفة الأعرابي للغة بأنها لا تخطئ ولا تبطئ يلخص لنا الغذامي صورة اللغة ، عندما يكون إنسانها إنساناً ، قبل أن تتحول من صناعة للفعل إلى صياغة لا تعدو كونها حلية تعلق فوق هياكل اللغة ؛ فيتعطل القول ، وتتعطل معه الأفعال ، ويتحول " الإنسان من كائن بلاغي فاعل إلى مسخ لفظي خاوٍ من الحياة ومن الإبداع " .
تسويق الكلمات
يخلق الاستخدام الذكي للكلمات والعبارات المناسبة مناخاً ملائماً لسيطرة اللغة، وهيمنة الأشياء تبعاً لذلك على عقل الإنسان . فعند استخدامها في ظرف زماني ومكاني مناسب ، يمكن أن تحدث أثراً كبيراً بحكم امتلاكها تلك القوة السرية التي كان القدماء يعزونها إلى قوى سحرية كامنة . وبالرغم من أن تلك الكلمات المؤثرة في الغالب غير محددة المعاني بشكل دقيق ، فإنها تحدث أثرها باستقلالية تامة عن معانيها الحقيقية .
ولا تملك الكلمات أو العبارات المستخدمة قدرتها الكاملة على الإيحاء بالمفاهيم المراد استحضارها ، إلا إذا وافقت حاجة ملحة أو هوى لدى الجمهور المتلقي في حالة الإثارة السياسية والدينية والاجتماعية ، أو عزفت على وتر الرغبة الشخصية في صفة تكون مشتركة في مخزونه من المفاهيم بين الكلمة المستخدمة أو العبارة والشيء الدالة عليه – في حالة الإثارة الدعائية .
وحيث تعيش الكلمات كالأفكار ، فإن المجتمع يشعر بنفور من الصور التي تثيرها بعض الكلمات ، وينجذب نحو أخرى . لذا يرى غوستاف لوبون أن على رجل الدولة الحقيقي أن يعمد إلى تغيير الكلمات التي تثير النفور دون أن يسم الأشياء ذاتها بالطبع ، لأنها مرتبطة بالتكوين الوراثي ، ولا يمكن تغييرها أو تحويلها . " والواقع أن براعة الحكام تتمثل ، كبراعة المحامين ، في معرفة كيفية التلاعب بالكلمات . وإنه لفن صعب . وذلك لأن نفس الكلمات تمتلك في نفس المجتمع معاني مختلفة بالنسبة للطبقات الاجتماعية المختلفة . فهذه الطبقات تستخدم ظاهرياً نفس الكلمات ، ولكنها لا تتكلم نفس اللغة " .
وفي سوق الإعلان التجاري تبدو هذه الظاهرة أكثر أهمية ، حيث يحقق أسلوب التركيز على الكلمات نجاحاً كبيراً للمنتج ، لأن المستهلك عندما يقرأ الكلمات التي تصف المنتج يحبه ، لأنه يصبح يتعامل مع العلامة التجارية مثل صديق يتحدث معه ؛ والناس يكونون – غالباً – أكثر تفهماً مع الأصدقاء. وذلك خلافاً للمنتجات الأخرى التي تستخدم فيها الرموز الشكلية أو العبارات التي لا تتقاطع مع حياة المستهلك وبرنامجه اليومي .
التسميات الخاصة
هل يحب الناس إطلاق أسماء خاصة على أشيائهم المحببة إلى نفوسهم ؟
درج الانطوائيون وبعض أصحاب الهوايات المتيمون بأشياء هواياتهم على تسمية كل ما حولهم بأسماء مختلفة – بالنسبة إلى الفريق الأول – عما تسمى به بشكل عام ، انطلاقاً من رغباتهم في التعامل مع تلك الأشياء بدلاً من تعاملهم مع العالم الخارجي . وبالنسبة إلى الفريق الثاني يتشعب الموضوع في تبيين دوافع أصحاب الهوايات المختلفة في إطلاق تلك التسميات ، لكن ما يجمعهم في ذلك ، أنهم يريدون تفردهم بملكية تلك الأشياء العزيزة على أنفسهم ، بما في ذلك ملكيتهم لأسمائها الخاصة بهم ، والتي لا يشاركهم فيها الآخرون ، حتى لو تساوت العينات تماماً ؛ فإن ما لدى صاحب الهواية يحمل اسماً مختلفاً .
وقد وجدت بعض الحالات القليلة التي يكون فيها المرء عالمه من خلال تلك التسميات ؛ ففي كل يوم تحمل تلك الأشياء أسماء جديدة أو معدلة ، لكي يشعر المالك أنه إزاء مجتمع حي ومتحرك ونابض ، ويكون بديلاً للبشر الذين لا يحسن أو لا يرغب في التعامل معهم . كما توجد هذه التوجهات – وإن كانت بشكل أقل حدة – عند الأطفال في بعض مراحل حياتهم لدى تعاملهم مع بعض ألعابهم الأثيرة .
وفي التحليل النفساني عند فرويد تقوم بعض طرق البحث على دراسة الكلمات التي يستعملها المريض ، وطريقة استعماله لها في تسمية الأشـياء ، ودرجة تركيزه على معاني كل كلمة منها . حيث يستدل المحلل من ذلك على درجة أهمية تلك الأشياء بالنسبة إلى المريض ، ومعرفة مجموع الأشياء التي تؤثر في حياته تقود إلى اكتشاف الخريطة النفسية للمريض ، والوصول إلى مكامن الخلل ، والآثار التي تركتها بعض التجارب في نفسه .
على أن ظاهرة التسميات الخاصة ليست مقصورة على تلك الحالات التي تكون لها فيها قيمة كبيرة ؛ بل توجد في بعض الثقافات البشرية ، عندما يراد منها تخزين الشيء في الذاكرة الجمعية بطريقة تساوي قيمته في تاريخها ، أو في حقل اقتصادي أو علمي أو عسكري . وتبرز هذه الظاهرة في الثقافة العربية من خلال تسميات الحيوانات الأثيرة لدى العربي (الحصان والجمل والكلب على وجه الخصوص ) .
كما تتضح أيضاً في تسمية الأعوام ذات الأثر البارز في حياة العربي قديماً وحديثاً ؛ ومنها في التاريخ القديم : عام الرمادة ، وعام الفيل . وفي التاريخ الحديث في شبه الجزيرة العربية : سنة الطبعة ، وسنة الجراد ، وغيرها من الأسماء المرتبطة بأحداث عامة ، أو ظواهر طبيعية يتذكرها الجميع ، فتصبح تاريخاً مفصلياً ؛ تتحدد الأحداث الخاصة والأعمار نسبة إليه .
وفي ظاهرة بشرية عامة لتدوين التاريخ – وهو في أغلبه تاريخ حروب – دأب المؤرخون على تسمية كل حرب من خلال اسم المكان الذي جرت فيه أو اسم الشعب المنتصر أو المهزوم – حسب موقع المؤرخ – أو اسم أحد القادة أو الأحداث العسكرية أو الطبيعية المصاحبة لتلك الحرب .
وعند تتبع تسميات الحروب في الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده ، نجد أن أسماء تلك الحروب أو المناوشات ، مما يسمى " أيام العرب " قبل الإسلام ، والمعارك بعد الإسلام ، قد تنوعت في أسبابها ؛ لكنها جميعاً لا تحمل تاريخاً محدداً ، حتى وإن تكررت الموقعة في مكان واحد ، فإنها تحمل اسم المعركة الأولى ، ثم الثانية أو الثالثة .
والملاحظ أن أغلبها سمي على اسم المكان الذي وقعت فيه الموقعة ، فيما قبل الإسلام وبعده . خالف ذلك تسمية بعض الأيام من فترة ما قبل الإسلام بأسماء الحيوانات ، مثل : يوم البسوس؛ يوم داحس ؛ يوم ذي الإبل ؛ يوم الزويرين ( وهما بعيران مقيدان ينظر إليهما بوصفهما إلهين ) . كما سميت بأسماء أشخاص أو قبائل ، مثل : يوم حجر ؛ يوم حليمة ؛ يوم ابن ضبا ؛ يوم جديس ، أو لأسباب المعركة ، مثل : يوم الصفقة ، أو لهيئة القتال ، مثل: يوم الفلج ؛ يوم التحالق ؛ يوم الصليب ، أو لزمنها ، مثل : يوم الفجار ، أو لنتيجتها ، مثل: يوم بُعاث .
وبالنسبة إلى الفترة الإسلامية ، فبالإضافة إلى التسمية على أسماء الأماكن ، توجد أيضاً تسمية بأسماء الحيوانات ، مثل : يوم الجمل ، أو بأقوام ، مثل : يوم بني النضير ؛ يوم بني قريظة ، يوم بني المصطلق ، أو بالظروف المصاحبة ، مثل : يوم الدار ؛ يوم ذات السلاسل ؛ يوم الخندق ؛ يوم ذات العيون ( لما وقع فيها من فقء عيون الأعداء ) ؛ يوم الفتح .
لكننا في العصر الحديث أمام تطور جديد للظاهرة ؛ إذ أصبحت أسماء الحروب والعمليات العسكرية والمناورات تطلق قبل أن تبدأ تلك الأحداث ، لأنه عرف أن لها دوراً في رفع أداء الجانب التكتيكي لدى المنفذين والتأثير في الروح المعنوية لدى الخصم المستهدف .
* أصل البحث محاضرة ألقيت في مركز حمد الجاسر الثقافي بالرياض بتاريخ 21/5/1428 هـ (الموافق 7/6/2007 م ) .
انظر مثلا : S. I. Hayakawa& Alan R. Hayakawa: Language in Thought and Action, 5th Edition. New York : Harcourt, 1990, p. 16.
انظر: فالح العجمي : أبعاد العربية – دراسة في فقه اللغة العربية وتاريخ تطورها وعلاقاتها ببقية اللغات السامية. الرياض : مطابع الناشر العربي، 1994 ، ص 108 .
انظر : وليد السراقبي : " التداخل الدلالي بين الاسم والمسمى والتسمية في التراث العربي " . مجلة جامعة قطر للآداب ، العدد 27 ( 1427 هـ / 2005 م ) ، ص ص 75 – 79 .
النظر : المرجع نفسه ، ص 86 .
سورة البقرة ، الآية 31 .
انظر : فالح العجمي : " العلاقة بين فهم القارئ وفهم كاتب النص " . مجلة عالم الفكر ، العدد 28 / 1 ( يوليو / سبتمبر 1999 ) ، ص 357 .
انظر : المرجع نفسه ، ص 366 .
حسين الواد : تدور على غير أسمائها ( نظرة في شعر بشار بن برد ) . بيروت : دار الغرب الإسلامي ، 2005 ، ص ص 73-76 .
انظر : المرجع نفسه ، ص 33 .
إبراهيم الكوني : صحف إبراهيم ( متون ) . بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2005 ، ص ص 61 – 63 .
انظر : حسن الشامي : الموتيف والطراز – مفاهيم أساسية لتحديد ودراسة المأثور الشعبي الشفهي، سينشر في مجلة الخطاب الثقافي ( العدد الثاني / ربيع – صيف 2007 ) ، ص 24 ( من المسودة ) .
انظر : المرجع نفسه، ص 48 ( من المسودة ). .
انظر : Hayakawa, p. 48 .
انظر : يوسف شلحت : نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني ( الطوطمية – اليهودية – النصرانية – الإسلام ) . بيروت : دار الفارابي ، 2003 ، ص ص 68 – 69 .
نضال الصالح : المأزق في الفكر الديني بين النص والواقع. بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر، 2006، ص 63 .
المرجع نفسه ، ص 65 .
عبد المجيد الشرفي : الإسلام بين الرسالة والتاريخ. بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر ، 2001 ، ص ص 21 – 22 .
انظر : حسن ظاظا : الفكر الديني اليهودي ، أطواره ومذاهبه ، ط 2 . دمشق : دار القلم & بيروت : دارة العلوم ، 1987 ، 145؛ 160 ؛ 161 .
انظر : جمال الرفاعي : " أزمة اللغة العربية في إسرائيل – مؤثرات عبرية في لغة الصحافة الفلسطينية في إسرائيل " . مقاربات في اللغة والأدب ( 2) . اللغة العربية والهوية. الرياض: منشورات جمعية اللهجات والتراث الشعبي بجامعة الملك سعود 1428هـ / 2007 م ، ص 229.
سورة يوسف ، الآية 40 .
سورة النجم ، الآية 23 .
سورة الأعراف ، الآية 71 .
انظر : يوسف شلحت : بنى المقدس عند العرب قبل الإسلام وبعده . تعريب : خليل أحمد خليل ، ط 2 . بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر ، 2004 ، ص 66 .
انظر : فالح العجمي : صحف إبراهيم ( جذور البراهيمية من خلال نصوص الفيدا ومقارنتها بالتطبيقات والروايات التاريخية) . بيروت : الدار العربية للموسوعات ، 2006 ، 95 – 96 .
انظر : ريتشارد نيسبت : جغرافية الفكر ( كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ... ولماذ ؟ ) . ترجمة : شوقي جلال . سلسلة عالم المعرفة 312 ( فبراير 2005 ) ، ص ص 142 – 146 .
انظر : حسين الواد ، ص 129 .
انظر : بول ريكور : نظرية التأويل – الخطاب وفائض المعنى. ترجمة : سعيد الغانمي . بيروت & الدار البيضاء ( المغرب) : المركز الثقافي العربي ، 2003 ، ص ص 86 – 90 .
انظر : جريدة الجزيرة ( ملحق الاتصالات ) ، الأحد 25 / 12 / 1427 هـ ( 14 / 1 / 2007 م ) .
انظر : عمر فروخ : تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون . بيروت : المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر ، 1962 ، ص ص 292 - 314 .
الأسماء المستعارة للكتاب السعوديين ، ط 2 . الرياض ، 2005 ، ص ص 21 – 22 .
انظر : H. Suter : Beiträge zur Geschichte der Mathematik bei den Griechen und Arabern. Abhandlungen zur Geschichte der Naturwissenschaften und der Medizin, Heft IV. Erlangen: Kommissionsverlag von Max Mencke, 1922, pp. 18-19.
انظر : N. I. Kondakow: Wörterbuch der Logik. Leipzig: VEB Verlag Enzyklopädie, 1978, p. 543.
انظر : المرجع نفسه ، ص 279 .
صحيفة الأهرام 16 / 10 / 2006 ، الصفحة الأولى .
صحيفة الوطن السعودية 19 / 5 / 1427 هـ ( 15 / 6 / 2006 م ) ، الصفحة الأولى .
انظر : مراجعة كامل شياع لكتاب تيري إيغلتون " الأيديولوجيا " ، صحيفة الحياة 9 آب ( أغسطس ) 1991 .
صحيفة الأهرام 21 / 10 / 2006 ، الصفحة الأولى .
وقد عرفه البلاغيون بورود معنى الرمز على خلاف مقتضى الظاهر .
انظر : محمد بن الحسن بن دريد : الاشتقاق ، تحقيق : عبد السلام هارون . القاهرة : مكتبة الخانجي ، 1958 ، ص 31 .
انظر : إبراهيم الشمسان : أسماء الناس في المملكة العربية السعودية . الرياض : مكتبة الرشد ، 1426 هـ ، 56 – 57 .
وهذا أيضاً تأكيد للإيحاء .
النص من موقع الساحات على الشبكة العنكبوتية في 16 / 10 1427 هـ ( 7 / 11 / 2006 م ) .
انظر : عبد الهادي الشهري : استراتيجيات الخطاب – مقاربة لغوية تداولية . بيروت : دار الكتاب الجديد المتحدة ، 2004 ، ص 241 .
رونالد أرونسون : كامي وسارتر ، ترجمة : شوي جلال . عالم المعرفة 334 ( ديسمبر 2006 ) ، ص 197 .
انظر : القمر – أساطير وطقوس ، تأليف : كوكبة من المؤلفين ، ترجمة : محمد خير البقاعي . بيروت : دار الغرب الإسلامي ، 2007 ، ص 194 .
انظر : يعقوب محمد إسحاق : إصلاح الفكر الديني أولاً . القاهرة : الفراشة للنشر والتوزيع ، 2006 ، ص 466 .
انظر : Ewald Wagner : Grundzüge der klassischen arabischen Dichtung ( Band II : Die arabische Dichtung in islamischer Zeit ) . Grundzüge , Band 70 . Darmstadt : Wissenscahftliche Buchgesellschaft, 1988 , p. 85.
انظر : المرجع نفسه ، ص ص 128 – 129 .
انظر : فالح العجمي : صحف إبراهيم ، ص 106 .
غوستاف لوبون : سيكولوجية الجماهير . ترجمة وتقديم : هاشم صالح . بيروت : دار الساقي ، 1991 ، ص 67 .
انظر : عبد الله الغذامي : اللغة وإنسانها ( سؤال عن اللغة والإنسان ) . مقاربات في اللغة والأدب ( 1 ) . كتاب تذكاري بمناسبة العيد الذهبي لجامعة الملك سعود . الرياض : منشورات جمعية اللهجات والتراث الشعبي بجامعة الملك سعود 1428 هـ / 2007 م ، ص 156 .
انظر : غوستاف لوبون ، ص ص 116 – 120 .
انظر : " الكلمات ترفع المبيعات .. أحياناً " . جريدة البيان الاقتصادي ( الإماراتية ) ، 29 أبريل 2005 .
انظر : بسام بركة : " اللغة العربية وتحديات العصر الحديث . مجلة حوار العرب ، العدد 5 ، أبريل (نيسان ) 2005 ، ص 24 .
انظر : أحمد بن علي القلقشندي ، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ، تحقيق : علي الخاقاني ، منشورات دار البيان 24 . بغداد : مطبعة النجاح ، 1958 ، ص 418 .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق