الأحد، 15 ديسمبر 2013

تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الثاني - 1500- 1830 بي دي اف

 


تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الثاني - 1500- 1830


https://archive.org/download/Tareikh.Al-jazair-Part2/kitab.pdf

رحيل شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله





أبو القاسم سعد الله لُقب بشيخ المؤرخين الجزائريين من مواليد 1930م بضواحي قمار من ولاية الوادي ، ‏الجزائر، باحث ومؤرخ، حفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ العلوم من لغة ‏وفقه ودين ، وهو من رجالات الفكر البارزين، ومن أعلام الإصلاح ‏الاجتماعي والديني. ‏له سجل علمي حافل بالإنجازات من وظائف، ومؤلفات، وترجمات.

نبذة

ولد ببلدة قمار ولاية الودي جنوب شرق الجزائر. درس بجامع الزيتونة من سنة 1947 حتى 1954 واحتل المرتبة الثانية في دفعته. بدأ يكتب في صحيفة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1954، وكان يطلق عليه «الناقد الصغير». كما درس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في القاهرة، وحاز على شهادة الماجستير في التاريخ والعلوم السياسية سنة 1962، ثم انتقل إلى أميركا سنة 1962، حيث درس في جامعة منيسوتا التي حصل منها على شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر باللغة الإنجليزية سنة 1965. كان متخصصا في التأليف والترجمة، وتوفي أبو القاسم سعد الله يوم 14/12/2013

التعليم


النشاط الأكاديمي

المؤلفات

  • موسوعة: تاريخ الجزائر الثقافي (9 مجلدات)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998.
  • أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (5 أجزاء)،دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1993-1996-2004.
  • الحركة الوطنية الجزائرية (4 أجزاء)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1969-1992-1997.
  • محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث (بداية الاحتلال)، ط1، مصر، 1970، ط3، الجزائر، 1982.
  • بحوث في التاريخ العربي الإسلامي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2003.
  • الزمن الأخضر، ديوان سعد الله، الجزائر، 1985.
  • سعفة خضراء، المؤسسة الوطنية، الجزائر، 1986.
  • دراسات في الأدب الجزائري الحديث, دار الآداب، بيروت، 1966.
  • تجارب في الأدب والرحلة، المؤسسة الوطنية، الجزائر، 1982.
  • منطلقات فكرية، ط2، الدار العربية للكتاب، تونس ـ ليبيا، 1982.
  • أفكار جامحة، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1988.
  • قضايا شائكة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989.
  • في الجدل الثقافي، دار المعارف، تونس، 1993.
  • هموم حضارية، دار الأمة، الجزائر، 1993.

التحقيق

  • حكاية العشاق في الحب والاشتياق، الأمير مصطفى بن إبراهيم باشا، الجزائر، 1982.
  • رحلة ابن حمادوش الجزائري، عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري، الجزائر، 1982.
  • منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية، عبد الكريم الفكون، عمار، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987.
  • مختارات من الشعر العربي، جمع المفتي أحمد بن عمار، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2 ،1991.
  • تاريخ العدواني، محمد بن عمر العدواني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1996.
  • رسالة الغريب إلى الحبيب، تأليف أحمد بن أبي عصيدة البجائي، دار الغرب الإسلامي، 1991.
  • أعيان من المشارقة والمغاربة (تاريخ عبد الحميد بك)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2000.

الترجمة

  • شعوب وقوميات، الجزائر، 1958
  • الجزائر وأوروبا، جون ب. وولف، الجزائر، 1986
  • حياة الأمير عبد القادر، شارل هنري تشرشل، الجزائر-تونس، 1982

وفاته

توفي يوم 14 ديسمبر 2013 بالمستشفى العسكري حيث كان يتلقى العلاج.[1]

*****************************************************




توفي السبت 13ديسمبر 2013 م  المؤرخ الجزائري الدكتور أبو القاسم سعد الله، بمستشفى عين النعجة العسكري في الجزائر العاصمة عن عمر يناهز 83 سنة، إثر مرض عضال ألزمه الفراش.

ونقلت وكالة الأنباء الجزائرية عن مصدر من عائلة الفقيد قوله إن سعد الله سيوارى التراب بمسقط رأسه بمدينة قمار ولاية الوادي جنوبي شرق الجزائر.

ويلقب أبو القاسم سعد الله في الأوساط الجامعية والأكاديمية في الجزائر بشيخ المؤرخين الجزائريين، وذلك بالنظر لدوره في التأريخ لمختلف الحقب التي مرت بها الجزائر، التي أصدرها في عديد الدراسات والكتب أهمها، "موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي" في 9 مجلدات، و"أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" في 5 أجزاء.

وبالإضافة إلى تاريخ الجزائر القديم، كتب أبو القاسم سعد الله العديد من المؤلفات حول تاريخ الجزائر الحديث منها، كتاب "محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث"، و"بحوث في التاريخ العربي الإسلامي".

ومن جانب آخر، تخصص سعد الله في تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، وتاريخ المغرب العربي الحديث والمعاصر، وتاريخ النهضة الإسلامية الحديثة، إضافة إلى تاريخ الدولة العثمانية منذ سنة 1300.

وقد سمحت له إسهاماته في دراسات مختلف الحقب التاريخية بالتدريس في عديد الجامعات العربية والأميركية، إذ عمل أستاذا للتاريخ في جامعة آل البيت بالأردن بين 1996 و2002، وأستاذا للتاريخ بجامعة الجزائر منذ 1971، وجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية، وجامعة دمشق، وجامعة عين شمس، ومعهد البحوث والدراسات العربية في مصر.

وفي الولايات المتحدة، عمل سعد الله أستاذا زائرا بقسم التاريخ في جامعات منيسوتا، وميشيغن، وأستاذ مساعدا في التاريخ بجامعة ويسكنسن، أوكلير بين 1960 و1976.

وقد حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات للعديد من المثقفين والإعلاميين الجزائريين والعرب، الذين وصفوا أبو القاسم سعد الله بالمؤرخ الذي ستبقى آثاره لسنوات طويلة.

وكتب الإعلامي الجزائري الصغير سلام في صفحته على فيسبوك "يرحل العلماء أحباب الله لكن سيرتهم العطرة تبقى بيننا نورا و علما و فكرا ..شخصيا استفدت مثل أبناء جيلي من المرحوم و من كتبه و أنا طالب ثم حينما عملت في الصحافة".

وكتبت الروائية والشاعرة ربيعة جلطي على فيسبوك "هكذا في صمت الكبار وشموخهم رحل أستاذ الأجيال أبو القاسم سعد الله.. لم يئنّ ولم يُرِ جرحَه لأحد، ولم يتودد لسلطان كي يعالج في مستشفى وثير".
 



 *****************************************************

صفحة خاصة عن/ أ.د. أبو القاسم سعد الله


https://www.facebook.com/DAbwAlqasmSdAllhAbuAlQasimSaadallah

الخميس، 5 سبتمبر 2013

اللغة والسياق الاجتماعي



بيير باولو جيجليولي،اللغة والسياق الاجتماعي
       
مجلة الخطاب الثقافي رؤى، العدد الثاني             
                 



اللغة والسياق الاجتماعي
بيير باولو جيجليولي [*]
ترجمة وتقديم: محيى الدين محسّب [**]
التقديم:
في سنة 1991م  نُشِر لي في مجلة (الفيصل) مقالة بعنوان "علم الاجتماع اللغوي"([1])وفي هذه المقالة دافعتُ عن صيغة ترجمة مصطلح (sociolinguistics) بصيغة "علم الاجتماع اللغوي". وقلت إنه من العلوم التي تشغل ساحة عريضة في الفكر اللساني المعاصر بدءًا من منتصف الستينات، وإنه يطلق عليه في الكتابات الغربية (Sociolinguistics) وأحيانًا (Sociology of language). وأشرت إلى أن محمد علي الخولي صاحب معجم علم اللغة النظري يترجم المصطلح الأول بـ "علم اللغة الاجتماعي"([2])، وكذلك فعل أصحاب معجم علم اللغة الحديث([3]).
وكنت أتصور آنذاك أن المقابل "علم الاجتماع اللغوي" يتسق وحقيقة المنظور الذي يعالج من خلاله هذا العلمُ مشكلاته أو موضوعاته، «فهو منظور اجتماعي   أو بالأدق: سوسيولوجي  بالدرجة الأولى»([4]). والحقيقة أن هذا التصور منبثق من ملاحظة الإطار المرجعي الذي تعتمد عليه كثير من البحوث الموضوعة في هذا العلم. وعن هذا الإطار نقلت قول بيير باولو جيجليولي (Paolo Giglioli) عن تلك الأعمال التي قدمها علماء الاجتماع اللغوي الذين أكدوا أهمية المادة اللغوية في الوصول إلى فهم أفضل وتفسير أوفق لبعض الظواهر الاجتماعية المعينة: «لا شك أن الإطار المرجعي لهذه الدراسات يختلف تمامًا عن الإطار الذي استخدمه اللغويون... إذ إن ما يحاول علماء الاجتماع اللغوي شرحه ليس أمرًا لغويًا، ولكنه إذا تبسّطنا في القول –  مشكلات سوسيولوجية؛ فأدواتهم التصورية، ومناهجهم البحثية، هي تلك الأدوات والمناهج التقليدية في العلوم الاجتماعية؛ ومن ثم فإن النتائج التي يتوصّلون إليها ينبغي أن تُفسر في حدود نظرياتهم السوسيولوجية»([5]). كذلك فإنني أشرت إلى أن بعض العلماء المشتغلين أساسًا –  بهذا العلم يُفضّلون استخدام مصطلح (Sociology of language) بدلاً من مصطلح (Sociolinguistics)([6])، وذلك لكي يؤكدوا على الأسس السوسيولوجية التي ينطلق منها هذا العلم.
غير أنه يلزم القول إن هذا التصور لا ينطبق إلا على مسار معين من مسارات ما أصبحت تسميته في الدراسات اللسانية العربية بـ«اللسانيات الاجتماعية» تسمية شائعة. كما أشار إلى ذلك جيجليولي في الاقتباس السابق. الحقيقة جيجليولي يشير كذلك إلى مسار آخر هو مسار رؤية اللسانيين التي تنقسم لديه بخصوص البعد الاجتماعي للغة إلى خطين هما: «الاتجاه الأول الذي يعد جزءًا من اللسانيات العامة؛ ويتمثل في دراسة تأثير العوامل الاجتماعية (مثل: تأثير الطبقات الاجتماعية على كلام الجماعة) والتطور التاريخي في تراكيب اللغة. ومن ثم يصبح عنوان "اللسانيات الاجتماعية" في مقابل "اللسانيات" مقيدًا في تحديد هذه الدراسات التي تختلف عن النظرية اللسانية السائدة حاليًا.
أما الاتجاه الآخر فهو وفقًا لآراء دوسوسير (Ferdinand de Sausure) يسلم بوجود جماعات ذات كلام متجانس تمامًا، ويستخدم كل منها شفرة لغوية متجانسة تُؤدّي في أساسها وظائف إحالية (referential). وعلى أساس هذا الزعم، فإن هدف اللسانيات النظرية هو التحكم في السياق الحر للقواعد اللغوية طبقًا لهذا الجزء من السلوك اللغوي المطّرد والمتجانس. ولهذا فإن التنوّعات اللغوية تُعدّ من الوجهة النظرية انحرافات عن القاعدة لا أهمية لها. ولكن هذا المفهوم قٌوبل في الفترة الأخيرة –  بتحدٍ قوي من بعض اللسانيين ذوي الخبرة الأنثروبولوجية واللهجية (مثل: لابوﭪ (Labov) 1970، و هايمس (Hymes) 1964). وعلى الرغم من عدم إنكار هؤلاء اللسانيين للقيمة المشجعة والموجهة لتمييز دوسوسير، إلا أنهم رأوا أنه لكي يمكن حل بعض المشاكل النظرية الجوهرية وبخاصة بعض مشكلات التغير اللغوي، وإن لم تكن هي فقط –  فإنه ينبغي الرجوع إلى تحليل الكلام الفعلي للمجموعات الاجتماعية المتلاحمة، ثم إعادة بناء السياق الاجتماعي للحدث الكلامي من خلال عمليات الوصف اللغوي»([7]).
إذن ثمة إطاران لهذا العلم: إطار اجتماعي (سوسيولوجي)، وإطار لساني. وعلى ضوء ذلك فهل نترجم مصطلح (sociolinguistics) بـ"اللسانيات الاجتماعية" أو بـ"علم الاجتماع اللساني"؟ إنني أتصور أن ضمّ هذين الإطارين تحت مصطلح "اللسانيات الاجتماعية" هو الاختيار الأوفق.
هذا بالنسبة لمسألة المصطلح ومقابله العربي. أما عن مسألة مضمون هذا العلم فقد أوضحت ذلك في المقالة المذكورة، حينما أوردت رأي جيجليولي الذي يقول فيه: «إن من أكثر المظاهر دلالة في هذا العلم تركيزه على الكلام (Parole)؛ أي على الكلام الفعلي بكل أبعاده الاجتماعية»([8]) . كذلك أشرت إلى أن جوشوا فيشمان (Jashu A. Fishman) يحدد وظائف هذا العلم بقوله: «إن علم الاجتماع اللغوي يهدف إلى تحديد قيمة الذخيرة اللغوية الكلية لمجتمع ما بالنسبة للتفاعل بين الشبكات الاجتماعية الصغرى داخل هذا المجتمع؛ وذلك لأن هذه الذخيرة اللغوية الكلية لأي مجتمع من المجتمعات ربما تكون أكثر شمولاً من الذخيرة اللغوية التي تمتلكها الجماعات الفرعية داخل هذا المجتمع»([9]). ويضيف بأن «اللسانيات الاجتماعية تهدف إلى تتبع تأثيرات التنوعات اللغوية فيما بينها، وإلى كشف القواعد أو الأنماط المجتمعية التي تفسر وتقيد السلوك اللغوي والسلوك المتبع تجاه اللغة"([10]).
ولا شك أن الاهتمام المتبادل من جهة علم الاجتماع بظاهرة اللغة، ومن جهة اللسانيات بالسياق الاجتماعي للغة ليس أمرًا استحدثته اللسانيات الاجتماعية تمامًا. وفي إشارة سريعة يدلل شارلز فيرجسون (Chales Ferguson) على هذه الحقيقة فيقول: «منذ وقت بعيد أكد رواد علم النفس الاجتماعي مثل جورج هربرت ميد –  على أهمية اللغة في التفاعل الاجتماعي. وفي مطلع هذا القرن حاول لسانيون مبرزون مثل أنطوان مييه –  أن يضعوا اللغة في مكانتها الاجتماعية، وأن يجمعوا بين التحليل الاجتماعي وبحث التغير اللغوي. وبشكل تقليدي ظل للسانيات مكانها داخل البحث الأنثروبولوجي»([11]).
وهذه الإشارة الدالة تتسع قليلاً عند فيشمان([12])خلال تتبّعه بعض اهتمامات اللسانيات الحديثة متمثلة عنده في اللسانيات الوصفية، ثم ما أسماه بفروع أخرى من اللسانيات: كاللسانيات التاريخية، واللسانيات المقارنة، واللهجيات (dialectology) التي تركز على القضايا والظواهر التي تبحثها العلوم الاجتماعية، والتي تؤثر على الظواهر اللغوية. فمثلا اللسانيات التاريخية (الدياكرونية) التي قامت بدراسة التغيرات التي تحدث في شفرة معينة عبر الزمن (مثل: تغيرات الأصوات، والتغيرات النحوية، وتغيرات الكلمة) –  كان لا بد من أن تهتم بالهجرات البشرية، وبأشكال التفاعل ما بين الجماعات (كالغزو والتجارة)؛ وذلك لما لهذه القضايا من صلة بالتغيرات اللغوية.
ومع ذلك فإن جيجليولي يعطي في هذه المقدمة التي نترجمها عرضًا تحليليًا لوضعية (اللغة) في العلوم الاجتماعية التقليدية، ولوضعية (البعد الاجتماعي لظاهرة اللغة) في اللسانيات، يخلص منه إلى الأمرين التاليين:
1-  ظل علم اجتماع اللغة لفترة طويلة–  مجالاً متخلفًا بين مجالات علم الاجتماع الأخرى. والسبب في ذلك يمثل مفارقة تستلفت إليها النظر. فعلى الرغم من المعرفة السوسيولوجية المبكرة جدًا بالدور الجوهري الذي تلعبه اللغة في المجتمع، إلا أن علماء الاجتماع نظروا إليها بوصفها متطلبًا ضروريًا لكل جماعة إنسانية، وبالتالي فقد اعتقدوا أنها غير ذات أهمية في تغيير السلوك الاجتماعي، ولهذا فقد أهملوا دراستها.
2- كان التمييز الذي وضعته بعض الاتجاهات اللسانية بين اللغة (langue) والكلام (parole)، أو بين الشفرة (code) والرسالة (message)، أو بين الكفاءة (competence) والأداء (performance) أمرًا يوحي للنظرة الأولى بأنه يربط بين اللسانيات وعلم الاجتماع. ولكن الذي حدث هو مفارقة أخرى. فقد أدى هذا التمييز عن قصد أو غير قصد–  إلى نتيجة عكسية. فحين تُعرِّف هذه الاتجاهات اللسانية اللغة بأنها مجموعة من القواعد النحوية المختزنة في ذهن كل إنسان، فإنه يصبح من غير الضروري الانشغال بدراسة الكلام الحادث في التفاعل الاجتماعي، بل يبدو واضحًا أن الأكثر جدوى هو تحليل قواعد اللغة المتجانسة المجردة الثابتة، على أسس من الفطرة اللغوية لبعض الرواة، أو حتى فطرة العالم اللساني نفسه.
ومن الواضح أن جيجليولي يرى أن هذين الأمرين يمثلان السبب في تأخر ظهور «اللسانيات الاجتماعية» إلى النصف الثاني من القرن العشرين. وقد يكون لنا أن نلاحظ أن ما أسماه جيجليولي بـ«إهمال دراسة اللغة» من قِبَل علم الاجتماع لا ينبغي أن يُؤخَذ بمعناه الحرفي. فهو نفسه قد أشار إلى أن تحليل الدور الاجتماعي للغة كان محل اهتمام الأنثروبولوجيين منذ أمد طويل؛ حيث عالجوا السلوك اللغوي للشعوب التي كانوا يدرسونها باعتبار أن المادة اللغوية وسيلة للاستدلال على قضايا أنثروبولوجية أكبر مثل: اللغة والثقافة، وتأثير الكلام على التنشئة الاجتماعية والعلاقات الشخصية، وتفاعل الجماعات اللغوية والاجتماعية.
غير أن ما يهمنا في سياق هذا التقديم أن نضع بين يدي القارئ مزيدًا من التحديد اللازم للأطر والقضايا التي تحركت من خلالها اللسانيات الاجتماعية. وفي هذا السياق يمكن أن نستعين بإسهام فيشمان في صوغ نظرية هذه المنهجية اللسانية. ففي بحثه الذي ضمنه جيجليولي كتابه الذي نترجم مقدمته هنا يحاول فيشمان أن يميز العلوم التي تتفرع إليها اللسانيات الاجتماعية حسب ما أدت إليه تطوراتها. ومن ثم فهو يتحدث عن أن تركيز اللسانيات الاجتماعية على دراسة الاستعمالات اللغوية الواعية، وعلى دراسة الاتجاهات الاجتماعية السائدة تجاه هذه الاستعمالات، قد أدى مع التطور –  إلى ظهور مجالات علمية رئيسية تنضوي تحت عنوان "سوسيولوجيا اللغة". وأول هذه المجالات هو ما يسميه فيشمان "اللسانيات الاجتماعية الوصفية". ويمثل هذا العلم ما يمكن أن نسميه مرحلة جمع المادة، فيما يتعلق بالنماذج الموجودة فعلاً في التنظيم الاجتماعي للاستعمال اللغوي، وكذلك نماذج السلوك المتبع تجاه هذا الاستعمال. ويطلق اللسانيون الاجتماعيون على مجموع الاستعمالات اللغوية لدى مجتمع معين، أو لدى جماعة معينة مصطلح "الذخيرة اللغوية"، ولكي يتم التعرف على هذه الذخيرة اللغوية فإن مهمة اللساني الاجتماعي هي استقراء المتغايرات اللغوية (يُستخدَم أحيانا مصطلح: التنوعات اللغوية) الموجودة في هذا المجتمع، وتحديد المواقف التي يستعمل فيها كل متغاير من هذه المتغايرات، ومتى يتحول فيها كل متغاير من هذه، ومتى يتحول أعضاء هذا المجتمع من متغاير إلى آخر حسبما يقتضيه سياق الموقف الاجتماعي.
ثم يتحدث فيشمان عن المجال الثاني من مجالات سوسيولوجيا اللغة وهو اللسانيات الاجتماعية الحراكية (الديناميكية)، وهي تبحث في أسس تغير الذخيرة اللغوية. ويشير فيشمان إلى نموذجين من الذخيرة اللغوية أولهما: الذخيرة اللغوية المتغيرة (أو المتحركة)، ويُعدّ المهاجرون إلى الولايات المتحدة من مختلف بلدان العالم نموذجًا واضحًا للتحول عن ذخيرتهم اللغوية السابقة إلى اكتساب الإنجليزية واستعمالها في كل مجالات العمل والحياة العامة. ويرجع فيشمان ذلك إلى العامل الاجتماعي المتمثل في أن استعمال هذه اللغة هو المدخل الضروري للنشاط الاقتصادي، ولاحتلال مكانة مرموقة على مسرح الحياة الأمريكية. أما النموذج الثاني فهو الذخيرة اللغوية الثابتة، ويعطي فيشمان مثالاً لذلك بسكان مقاطعة كويبك الكندية الذين يتحدثون الفرنسية والذين ظلوا محافظين عليها على الرغم من ضغط بقية المجتمع الكندي الإنجليزي. ويشير إلى أن هذين النموذجين النموذج الأمريكي والنموذج الكندي قد وجد لهما أمثلة عديدة في دول العالم الأخرى.
ثم ينتقل فيشمان بعد ذلك إلى الحديث عن اللسانيات الاجتماعية التطبيقية، فيذكر أن هذا العلم قد جمع بين موضوعات علم الاجتماع التطبيقي وموضوعات اللسانيات التطبيقية، ويعرض لموضوعيْن أساسيّيْن هما: ابتداع الرموز الكتابية أو تنقيحها، والتخطيط اللغوي. وثمة نقطة مهمة في الموضوع الأول يشير إليها فيشمان وهي أن نشر معرفة القراءة والكتابة (أو ما نسميه بمكافحة الأمية) لابد أن يقوم على إيجاد الدوافع والحوافز لدى من يريد أن نمحو أميتهم؛ ومن أهم هذه الدوافع أن يوقن هؤلاء أن معرفة القراءة والكتابة هي الطريق لاحتلالهم مكانات اجتماعية أعلى. وبالنسبة للموضوع الثاني، وهو التخطيط اللغوي، يشير فيشمان إلى أنه ينبغي على اللساني الاجتماعي التطبيقي أن يركز دراساته على الوحدات الاجتماعية الصغرى لا الوحدات الاجتماعية الكبرى.
ولا شك أن مثل هذا التقسيم الثلاثي للفروع العلمية الداخلة تحت إطار اللسانيات الاجتماعية يعكس مدى الاتساع والتشعب الذي توغلت فيه دراسات هذا الحقل اللساني. ولذلك فليس من المستغرب أن نجد اللسانيات الاجتماعية مضطرة إلى الاستعانة بعديد من العلوم الأخرى مثل: الأنثروبولوجيا والإثنوجرافيا والعلوم السياسية والفلسفة، بل الطب النفسي أيضًا كما يقول جيجلولي([13]). ومن ثم ففي بعض الأحيان وُصِفت حدود اللسانيات الاجتماعية بأنها إلى حد ما غير دقيقة.
ومع ذلك فإن اللسانيين الاجتماعيين يرون أن دراسة اللغة تتواصل عبر خطين رئيسين ([14]): أولهما: التركيز وصفيًا (Synchronically) وتاريخيًا (diachronically) على هذا السؤال: من يتكلم (أو يكتب)؟ وبأي لغة (أو أي تنويعة لغوية)؟ ولمن ؟ وفي أي مناسبة؟ ولماذا؟ ومن هنا فإن الموضوعات الأساسية التي تعرض لها العلماء الذين عملوا من داخل هذا الإطار هي موضوعات: الأقليات اللغوية، والازدواجية اللغوي، والصراعات اللغوية، والتخطيط اللغوي، والتوحيد النموذجي للغة. أما الخط الثاني فيركز على السؤال: ما نوعية الأشياء التي يمكن أن يقولها المرء بشكل مناسب؟ وفي أي شكل من أشكال الرسالة اللغوية؟ وإلى أي نوع من الناس؟ وفي أي نوع من المواقف؟ وهذا السؤال ينبثق أساسًا من نظرية ديل هايمس (Dell Hymes) في الكفاءة التواصلية (communicative competence) وهو يعنى بالتركيز على اللغة لا باعتبارها مجالاً ثانويًا، بل باعتبار أن تحليل الكلام أمر يقود إلى مجالات سوسيولوجية أخرى مثل: التفاعل المباشر، والتنشئة الاجتماعية، وعلم اجتماع المعرفة، والتغير الاجتماعي.
على أنه من المهم هنا أن نشير إلى أن بزوغ اللسانيات الاجتماعية جاء في سياق توهج ما عُرف بـ"ثورة تشومسكي اللسانية". ومن ثم فقد كان هناك هذا الحوار النظري الحيوي بين هذين الاتجاهين اللسانيين. ولقد تمثل ذلك في كثير من أوجه النقد التي قدمها اللسانيون الاجتماعيون لنظرية تشومسكي التوليدية. ومن ذلك([15]) أن الانطلاق من "الأداء"وليس "الكفاءة" كما يرى تشومسكي يعطي أساسًا واقعيًا يمكن وصفه وتصنيفه واختبار النظرية بصفة مستمرة –  على ضوئه. وبدلاً من العمل من خلال مفهوم "الشفرة الواحدة المتجانسة" التي لا وجود واقعيًا لها يمكن العمل من خلال قبول مبدأ "تعدد الشفرات"، ومبدأ التحول الشفري (switching -code) داخل المجتمع اللغوي الواحد؛ وذلك لأن الواقع الاجتماعي/ اللغوي يطرح نفسه بهذا الشكل: «فلا أحد يستخدم أسلوبًا كلاميًا ثابتًا في المنزل، وفي الندوات العامة، وفي الكلام مع الأصدقاء، أو مع صاحب مقام رفيع»([16]). ومن ناحية أخرى فإن ذلك يمكن من إنشاء نظرية لسانية ذات أساس إمبريقي. أما "الكفاءة اللغوية" وحدها هكذا يقول الاجتماعيون([17]) –  فلن تؤدي إلا إلى إنسان يكون على معرفة بالقواعد النحوية للغته، ولكنه لن يعرف متى ينبغي له أن يتكلم، ومتى ينبغي له أن يصمت، وأي الاختيارات الاجتماعية/ اللغوية ينبغي له أن يختارها من ذخيرته اللغوية، وفي أي مناسبةإلخ.
إن الانطلاق من الكلام الفعلي، أو من الأداء، أو من الحدث الكلامي، أو من موقف الاستعمال (situated usage) يخرج الفطريين؛ أي التوليديين كما يقول لابوف–  من ورطة منهجية عندما أعطوا لأنفسهم حق إنتاج المادة والتنظير لها في آن واحد"([18])، وهو الحق الذي أفقد النموذج النظري المقدم معيار اختباره.
الفطريون يقولون إن الكلام مليء بالشـذوذ النحوي (ungrammatical). والاجتماعيون يتساءلون: وما معيار هذا القول؟ لابوف([19]) مثلاً –  يصل إلى أن 75% من المادة الكلامية التي اعتمد عليها في دراسات إمبريقية متنوعة أثبتت أنها جمل مكونة بشكل صحيح (well formed) وأنه إذا ما طبقت قواعد الحذف، واستبعدت ظواهر مثل التلعثم وما إلى ذلك، فإن نسبة الجمل غير النحوية وغير السليمة بالفعل ستصل إلى أقل من 2%. والمشتغلون بنظرية اللغات الفرعية(sub –  languages) يقولون إن اللغة الفرعية جزء من اللغة الطبيعية ذات نحو خاص"([20]).
والحقيقة أن لهذا الجدل أبعادًا عميقة على الصعيد الإبستمولوجي لكلا الاتجاهين، وهو الأمر الذي لا يتسع السياق الحالي لتفصيل القول حوله، وإنما يمكن أن نشير إلى مرجع بالغ الأهمية في هذا السياق وهو كتاب ر. بوثا R. Botha مسلك البحث اللساني: مدخل نسقي لمنهجية النحو التوليدي([21])
وعلى أية حال فإني آمل أن يكون نشر هذه المقدمة مفيدًا للقارئ الكريم الذي يريد الاطلاع على بعض جوانب اللسانيات الاجتماعية التي ظلت تحتل مساحة عريضة من الاهتمام خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتي أتصور أنها ما تزال من المداخل النظرية المهمة لإعادة قراءة الإنجاز اللساني التراثي، من جهة، وقراءة واقع مشكلات العربية الحديثة والمعاصرة من جهة أخرى.

النص:
منذ بدايات هذا القرن [العشرين الميلادي] تطورت اللسانيات وعلم الاجتماع في عزلة متبادلة: فلقد عُدَّ علم اجتماع اللغة لفترة طويلة- مجالاً متخلفًا من بين مجالات علم الاجتماع. وكذلك اختارت اللسانيات بصفة عامة –  غض النظر عن تحليل الجوانب الاجتماعية للغة. ولقد اعتمدت هذه اللامبالاةُ المتبادلة على سببين متناقضين ظاهريًا إلى حد ما. أولهما: يكمن في تلك المعرفة السوسيولوجية المبكرة جدًا بالدور الجوهري الذي تلعبه اللغة في المجتمع. ولأن علماء الاجتماع نظروا إلى اللغة باعتبارها متطلبًا ضروريًا لكل جماعة إنسانية، فقد اعتقدوا أنها غير ذات أهمية في تغيير السلوك الاجتماعي، ومن ثم أهملوا دراستها. أما السبب الثاني فيكمن في التمييز الأساس الذي وضعه دوسوسير بين (langue) و(parole) ولقد عبر عن هذا التمييز من وقت إلى آخر–  باعتباره تمييزًا بين اللغة والكلام، وبين الشفرة والرسالة، وبين الكفاءة والأداء. ففي حين أن هذا التمييز يبدو للنظرة الأولى–  وكأنه يربط بين اللسانيات وعلم الاجتماع، إلا أنه في الواقع أدى عن قصد أو غير قصد–  إلى نتيجة عكسية. فمثلاً: إذا عُرّفت اللغة بأنها مجموعة من القواعد النحوية موجودة في ذهن كل إنسان، فإنه يصبح من غير الضروري الانشغال بدراسة الكلام في التفاعل الاجتماعي، بل يبدو واضحًا أن الأكثر جدوى هو دراسة قواعد اللغة المتجانسة المجردة الثابتة على أسس من الفطرة اللغوية لبعض الرواة (informant)، أو حتى فطرة اللساني نفسه.
وفي السنوات القليلة الأخيرة أخذت الهوة ما بين العلمين تضيق إلى حد ما؛ فأصبح بعض اللسانيين يهتم بالتكييف الاجتماعي للظواهر اللغوية، وأصبح بعض علماء الاجتماع أكثر فهمًا للطبيعة الاجتماعية للغة. ولعل مصطلح اللسانيات الاجتماعية يشير إلى  هذا التقارب المتبادل. ومن أكثر المظاهر دلالة في هذا العلم تركيزه على الكلام؛ أي على الكلام الفعلي بكل أبعاده الاجتماعية. وعلى النقيض من آراء دوسوسير أظهرت اللسانيات الاجتماعية أن الكلام ليس نتيجة عشوائية لمجرد الاختيارات الفردية؛ أي لمجرد الإعلان عن الحالات السيكولوجية للفرد، بل إن من الممكن وضعه بشكل ملحوظ في صورة نماذج. وفي حين فشلت، بصفة عامة، الجهود التي حاولت إرساء علاقات مباشرة بين القواعد النحوية والبنى الاجتماعية، فإن منظومة التنوعات في السلوك الكلامي بدت انعكاسًا للقيود التحتية (الأساسية) في نظام العلاقات الاجتماعية. ولعل هذا يتضح أمام النظرة الأولى: لا أحد يستخدم الأسلوب الكلامي نفسه: في المنزل، وفي الندوات العامة، أو في الكلام مع صديق الصبا، أو مع صاحب مقام ديني رفيع. وعلى أية حال فإن من الصعب جدًا إيجاد نظام للتنوعات الصوتية الدقيقة في كلام الجماعة الواحدة نفسه، أو في حالة الازدواج اللغوي الذي يتحول من لغة إلى أخرى في سياق الحوار نفسه. وفي هذه الحالات جميعًا فإن النماذج المعيارية للتنوعات الملازمة للمستويات اللغوية والاجتماعية لا يمكن أن تظهر إلاّ إذا وضعت على ضوء تحليل جاد للكلام، وللموقف الاجتماعي الذي ينمو فيه هذا الكلام.
إن الاتجاه الحديث نحو نمذجة الاستخدام اللغوي ليس مقصورًا فقط على علم الاجتماع واللسانيات، ولكن هناك عدة علوم أخرى تشارك في ذلك؛ مثل: الأنثروبولوجيا، والعلوم السياسية، والفلسفة، بل الطب النفسي أيضًا. وهذا التقارب المتبادل بين هذه العلوم يجعل الحدود المميزة للسانيات الاجتماعية غير دقيقة إلى حد ما. ومع ذلك فإن من الممكن من وجهة نظر تحليلية تمييز اتجاهين محددين للبحث:
الاتجاه الأول يعد جزءًا من اللسانيات العامة. وهو يتمثل في دراسة تأثير العوامل الاجتماعية (مثل: تأثير الطبقات الاجتماعية على كلام الجماعة) والتطور التاريخي في تراكيب اللغة. ومن ثم يصبح عنوان "اللسانيات الاجتماعية" في مقابل "اللسانيات" مفيدًا في تحديد هذه الدراسات التي تختلف عن النظرية اللسانية السائدة حاليًا.
أما الاتجاه الآخر فهو وفقًا لآراء دوسوسيريسلم بوجود جماعات ذات كلام متجانس تمامًا، ويستخدم كل منها شفرة لغوية متجانسة تؤدي في أساسها وظائف إحالية. وعلى أساس هذا الزعم، فإن هدف اللسانيات النظرية هو التحكم في السياق الحر للقواعد اللغوية طبقًا لهذا الجزء من السلوك اللغوي المطّرد والمتجانس. ولهذا فإن التنوعات اللغوية تعد من الوجهة النظرية انحرافات لا أهمية لها عن القاعدة. ولكن هذا المفهوم ووجه في الفترة الأخيرة بتحدٍ قوي من بعض اللسانيين ذوي الخبرة الأنثروبولوجية واللهجية (مثل: لابوف 1970، و: هايمس 1964). وعلى الرغم من عدم إنكار هؤلاء اللسانيين للقيمة المشجعة والموجهة لتمييز دوسوسير، إلا أنهم رأوا أنه لكي يمكن حل بعض المشكلات النظرية الجوهرية وبخاصة بعض مشكلات التغير اللغوي، وإن لم تكن هي فقط–  فإنه ينبغي الرجوع إلى تحليل الكلام الفعلي للمجموعات الاجتماعية المتلاحمة، ثم إعادة بناء السياق الاجتماعي للحدث الكلامي من خلال عمليات الوصف اللغوي.
ومن هنا فإن عددًا متزايدًا من العلماء أخذوا يعملون الآن في هذا المجال، ويقدمون إسهامات لها أهميتها بالنسبة للنظرية اللسانية. وعلى أية حال فإن كتابنا هذا لن يعالج الجانب اللغوي الدقيق في اللسانيات الاجتماعية، وذلك فيما عدا بحثي لابوف وجيمبيرز في القسم الرابع.
ولقد اتضح الاتجاه الثاني من البحث من خلال تلك الأعمال التي قدمها علماء الاجتماع الذين أبرزوا أهمية المادة اللغوية في الوصول إلى فهم أفضل وتفسير أوفق لبعض الظواهر الاجتماعية المعينة. ولا شك أن الإطار المرجعي لهذه الدراسات يختلف تماماً عن الإطار الذي استخدمه اللسانيون وهو الإطار الذي وضحناه فيما سبق. فما يحاول علماء الاجتماع شرحه ليس أمرًا لغوياً، ولكنه إذا بسطنا القول –  مشكلات سوسيولوجية. فأدواتهم التصورية ومناهجهم البحثية هي تلك الأدوات والمناهج التقليدية في العلوم الاجتماعية، ومن ثم فإن النتائج التي يتوصلون إليها ينبغي أن تفسر في إطار نظرياتهم السوسيولوجية.
لقد تم تحليل الدور الاجتماعي للغة في علمي الأنثروبولوجيا والاجتماع بشكل أساسي. ولقد كان الإسهام في ذلك غير متكافئ إلى حد ما. أما الأنثروبولوجيون فقد اهتموا بالسلوك اللغوي للشعوب التي كانوا يدرسونها، ولم يكن ذلك لأن معرفة اللغة متطلب ضروري للعمل الميداني فقط، بل أيضًا لأن اللغة مكوِّن أساسي من مكونات ثقافة هذه الشعوب. ومن ثم فقد شُغل معظم الأنثروبولوجيين مثل: بواس، كروبر، سابير –  بالتحليلات اللغوية، وذلك على الرغم من أن الحالة مع سابير تختلف حيث إن نتاجه اللساني كان بارزًا إلى درجة أنه يُنظَر إليه بحق بوصفه ركيزة أساسية في اللسانيات الأمريكية. وهؤلاء الأنثروبولوجيون لم يروا اللغة مخالفين بذلك اللسانيين –  معزولة على الإطلاق عن الحياة الاجتماعية. بل لقد أصروا على الاعتماد المتبادل بين اللغة والثقافة والبنى الاجتماعية. ومن خلال هذا المعنى فإن تحليلاتهم اللسانية الفنية ترمي إلى غاية معينة: إنها المادة التي من خلالها يمكن وضع استدلالات أخرى عن قضايا أنثروبولوجية أكبر. ومن ثم وتحت هذا العنوان الغامض إلى حد ما: اللغة والثقافة، درس الأنثروبولوجيون موضوعات مثل: العلاقات الكامنة بين المشاهدات الحسية والمقولات النحوية والمجالات الدلالية، ومثل: تأثير الكلام على التنشئة الاجتماعية والعلاقات الشخصية، ومثل: تفاعل الجماعات اللغوية والاجتماعية.
هذا التركيز على الجوانب السيكولوجية والثقافية والاجتماعية للغة قاد كلاً من اللسانيين والأنثروبولوجيين إلى استخلاص ظاهرتين مهمتين هما: الدور الوظيفي المختلف للغة في المجتمعات المختلفة، واستخدام شفرات لغوية متعددة داخل المجتمع الواحد. ولقد لاحظ هايمس ذلك بذكاء شديد –  حين قال: "لا يمكن أن يتساوى دور اللغة في التواصل وفي القيمة الاجتماعية في كل مكان؛ إذ إن الكلام ربما يحمل شحنات وظيفية مختلفة داخل أجهزة الاتصال في المجتمعات المختلفة". وكذلك حين قال: «ليس هناك شخص عادي أو جماعة عادية –  يقتصر في عملية الحوار على تنويعة واحدة في الشفرة، أو على وتيرة واحدة لا تتغير؛ لأن ذلك سيعوق إمكانية إظهار الاحترام أو الاحتقار أو الزيف أو المرح...إلخ. ولن يظهر ذلك كله إلا عن طريق التحول من متغاير شفري إلى آخر»[(18)]. وتبعًا لذلك فإن العلاقة بين اللغات والجماعات لا يمكن أن تقتصر على مجرد التسليم بها، بل ينبغي أن تؤخذ على أنها مشكلة يجب أن تُبحث في إطار إثنوجرافي.
ولقد تأثرت الأنثروبولوجيا اللغوية مؤخرًا شأنها شأن مجالات أنثروبولوجية أخرى بعدد من الدراسات التي أصرت بقوة تحت عناوين مثل: علم الدلالة الإثنوجرافي والأنثروبولوجيا الإدراكية (cognitive) –  على أهمية عمليات الوصف الإثنوجرافية الرسمية المنظمة؛ أي تلك العمليات الوصفية الدقيقة والمتتابعة للوقائع الاجتماعية الملموسة داخل ثقافات محددة. وعند تطبيق هذه المعالجة المنهجية على الكلام، فإنها توجه الانتباه إلى ما سمي بـ"إثنوجرافيا الحديث (ethnography of speaking)" وهي التحليل المقارن للأحداث الكلامية بعناصرها ووظائفها التي يفي بها الكلام في مواقف معينة. ولقد أصبحت هذه المجالات من البحث وقد عالجها هايمس في دراسته في القسم الأول من هذا الكتاب([22])–  جزءًا مهمًا في اللسانيات الاجتماعية الحديثة.
وبمقارنة التراث الممتد المزدهر للأنثروبولوجيا اللسانية، بالإسهامات السوسيولوجية في اللسانيات الاجتماعية فإن هذه الأخيرة تبدو ضئيلة وأكثر حداثة. فلقد تطورت الآراء المبكرة لميد (Mead) ولمدرسة دوركايم  عن طبيعة اللغة من خلال علوم أخرى مثل: علم النفس الاجتماعي، والأنثربولوجيا الاجتماعية. أما الاهتمام الحالي باللسانيات الاجتماعية من جانب كثير من علماء الاجتماع فإنه لا يعدو كونه تعرفًا غامضًا بفرضية "وورف". ولقد أشرت بالفعل إلى السبب الرئيسي في هذا؛ وهو أن علماء الاجتماع اعتبروا اللغة معلمًا ثابتًا وذا وجود كلي في جميع المجتمعات، ومن هنا كان فشلهم في إدراك تأثيرها العلِّي في الحدث الاجتماعي. ومع ذلك فإن إهمالهم للغة يبدو في الفترة الأخيرة –  على وشك الانحسار. وهذا يظهر أول ما يظهر في أن اتساع البحث المقارن بين المجتمعات ذات الثنائية اللغوية أو التعددية اللغوية–  جعل علماء الاجتماع يتعرضون للمحددات الاجتماعية، وبخاصة النتائج الاجتماعية للتنوعات اللغوية. ومن هنا فقد أصبحوا أكثر وعيًا بهذه الظواهر، كما أصبح من السهل عليهم أن يدركوا أنه حتى في المجتمعات الغربية أحادية اللغة توجد طبقات اجتماعية محلية لها اختلافاتها الأسلوبية في السلوك اللغوي، وأن لهذه الاختلافات تأثيراتها الاجتماعية البالغة التي قد تصل أحياناً إلى درجة دراماتيكيّة. والمثل الواضح لذلك هو انتشار فشل أطفال الطبقات الدنيا في التعليم؛ حيث تلعب العوامل اللغوية دورًا رئيسيًا في ذلك[(20)]. ومن خلال مستوى تحليلي أكثر، فإن التأثير العليّ للسلوك اللغوي قد كشف من خلال بحوث اللسانيات الاجتماعية عن مشكلات نظرية معينة مثل: تكوين الجماعة، والعلاقة بين النظم الاجتماعية والثقافية، وتفاعل الجماعة الصغيرة. ثم أخيرًا ومن خلال وجهة نظر عامة امتزج الاهتمام السوسيولوجي الجديد باللغة بالعديد من البحوث النظرية مثل: الظاهراتية، والتأويلية (hermeneutics)، والتفاعلية الرمزيةالتي تركز جميعًا على الرغم من الاختلاف فيما بينها على الدور البالغ للرمزية في الحياة الاجتماعية.
إذن، ما يبدو الآن هو أن الدراسة السوسيولوجية للغة تتواصل عبر خطين رئيسين، أولهما: التركيز تاريخيًا ووصفيًا على هذا السؤال: من يتكلم؟ وبأي لغة؟ ولمن؟ وفي أي مناسبة؟ ومن هنا فإن الموضوعات الأساسية التي تعرض لها العلماء الذين عملوا داخل هذا الإطار هي موضوعات: الأقليات اللغوية، والازدواجية اللغوية، والصراعات اللغوية، والتخطيط اللغوي والتوحيد القياسي للغة. أما الخط الثاني فهو أن علم الاجتماع لا يهتم باللغة باعتبارها مجالاً ثانويًا، بل باعتبار أن تحليل الكلام من خلال النظرية أمر يقود إلى مجالات سوسيولوجية أخرى مثل: التفاعل المباشر، والتنشئة الاجتماعية، وعلم اجتماع المعرفة والتغير الاجتماعي. وربما أكون فيما سبق من تحديد للمعالجات اللسانية والسوسيوأنثروبولوجية للسانيات الاجتماعية –  قد ركزت على الاختلافات التحليلية فيما بينها. ولتصحيح ذلك ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن اللسانيين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيين يعملون حتى الآن –  في تعاون مشترك متقارب. وسبب ذلك يرجع إلى أنه لكي يحدد علماء الاجتماع اللغةَ والتنوعات الكلامية فإنهم في حاجة لمعونة اللسانيين. وبالمثل فإن اللسانيين يحتاجون إلى علماء الاجتماع في إدراك تلك العوامل الاجتماعية التي تؤثر على الظواهر اللغوية. ونتيجة لهذا التفاعل فإن المقولات الوصفية اللازمة في تناول مادة اللسانيات الاجتماعية قد زادت إحكامًا، وهي الآن تُستَخدم بشكل متزايد–  لدى كل من يعملون في هذا المجال، مستقلين عن انتماءاتهم العلميّة. بل الأكثر من ذلك هو أن هناك بعض المجالات (مثل: تحليل المحاورات وتحليل الكفاءة التواصلية) لا تستفيد فقط من إسهامات اللسانيات وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا، بل تحاول أن توحد وتدمج هذه الإسهامات في سبيل التوصل إلى بناء نظري
وليس المقصود من القراءات المختارة في هذا الكتاب أن تغطي جميع الاتجاهات الحالية في مجال اللسانيات الاجتماعية. فالاعتبار الأول في هذه القراءات هو تخصيص كتاب لجمهور السوسيولوجيين. ومن هنا فقد أسقطت الأعمال اللسانية الخالصة كما أسقطت تلك الأعمال التي تعالج موضوعات يغطيها القراء من خلال الأنثروبولوجيا اللغوية (مثل: اللغة والمعرفة). وفي الوقت نفسه لم أهتم بالانتماءات العلمية للكتَّاب ماداموا يعالجون موضوعات ذات اهتمام سوسيولوجي. ومن هنا فقد احتوى الكتاب على بحوث لأنثروبولوجيين وعلماء اجتماع، ولسانيين، وعلماء سياسة وفلاسفة.
أما القسم الأول من هذا الكتاب فهو يعالج بحوثا عامة في مجال اللسانيات الاجتماعية، ويقدم إطارًا مرجعيًا ضروريا للبحوث التالية. أما باقي الكتاب فهو يهتم ويركز على ثلاثة مجالات سوسيولوجية أعتقد أنها قد درست بشكل مستمر –  من خلال وجهة نظر تتعلق باجتماعيّات اللغة، وهذه المجالات هي: تحليل التفاعل المباشر، والعلاقة بين التركيب الاجتماعي والثقافي، ثم دراسة التغير الاجتماعي والصراع الاجتماعي.
ولقد ركز القسم الثاني وعنوانه: الكلام وحدث الموقف–  على تحليل المحاورات، فحاول أن يجمع الأعمال الفلسفية والإثنوجرافية والإثنوجرافيات المنهجية. وفي السنوات الأخيرة تأثر تحليل المحاورات تأثرًا عميقا بالإثنوجرافيا المنهجية، وربما يكون من المفيد أن نوضح ما يتضمنه هذا العلم بالنسبة للسانيات الاجتماعية. فالإثنوجرافيا المنهجية ترى على النقيض مما يراه دوركايم (أو بتفسير وضعي معين له) أن الحقيقة الاجتماعية ليست (واقعة) بل هي إنجاز متطور ومتنام يتم غالبًا نتيجة لتقلقل الأنشطة الثابتة والإدراكات الضمنية الكامنة للعوامل الاجتماعية. ومن خلال هذا المنظور يكتسب الكلام أهمية خاصة. فعن طريق الكلام لاشك –  يمكن للناس أن يتصلوا بمواطنيهم؛ ومن هنا فإن الكلام لا يمكن فهمه إلا من خلال التفاعل الاجتماعي. وهذا التجزيء للكلام من خلال عمليات متفاعلة يجعل المعنى الاجتماعي "فعلاً انعكاسيًا" أو "رمزيًا".
  وبعبارة أخرى فإن الجمل في المحاورات العادية تكون غالبًا ناقصة أو غامضة. فاللغة تعطي تنوعًا مختلفَ العبارات للإشارة إلى شيء معين أو حدث معين. بل إن المعنى الاجتماعي للكلمة الواحدة يتحول طبقًا للموقف. وعلى الرغم من ذلك فإن المطابقة بين لفظة "صحيح" (right) ولفظة "صواب" (correct) في مجال الدلالة، أو امتداد الجمل الناقصة أو المتعددة المعاني، كل ذلك كما يظهر بحث شيجلوف–  نادرًا ما يشكل عائقًا بين المتحاورين؛ وذلك لأن بإمكانهم أن يعتمدوا على مخزونهم العام من المعرفة. ويكمن موضوع علم الإثنوجرافيا المنهجية في تحليل تركيبات هذه المعرفة، وفي دراسة المناهج الإثنوجرافية، وفي الإجراءات التفسيرية التي يمكن للفاعلين الاجتماعيين من خلالها أن يعطوا الكلام معناه ومعنى توجهات ذواتهم في الواقع الاجتماعي.
ولقد امتزج هذا البحث من نواح عديدة –  بإثنوجرافيا الأحداث التواصلية، وبالتحليل الفلسفي لأفعال الكلام: فالأول يعطي المادة المقارنة اللازمة لبناء نظرية "الكليات العالمية" لتحليل المحاورات، أما الثاني فهو يقدم الإدراك التصوري المطلوب في بداية العمل التجريبي المتعلق بالمادة الحوارية.
ويعالج القسم الثالث موضوعًا نظريًا يقع في قلب الفكر السوسيولوجي والأنثروبولوجي: مشكلة العلاقة بين الرمز والتركيبات الاجتماعية. وفي حين أن النظرية السوسيولوجية القديمة جعلت الأسبقية للمجتمع باعتباره قوة فاعلة لا تشكل فقط قيم النظام الاجتماعي؛ بل تشكل أيضًا أدواته التصورية (دوركايم وموس 1903)، فإنّ بعض الأنثروبولوجيين ذوي الاتجاه اللساني اتجهوا نحو توهين هذه الفرضية، بل أحيانًا نحو نقضها. ولقد نقدم طرح النسبية اللغوية على يد وورف الذي أكد بعبارته القوية–  على أن التركيب اللغوي هو الذي يحدد طرق التفكير ونماذج الثقافة، ومن ثم فهو يؤثر على التركيبات الاجتماعية. ولقد حاول بعض اللسانيين الاجتماعيين المحدثين وبخاصة بازل برنشتين –  أن يؤلفوا بين الفرضيتين المتعارضتين، فقدموا معالجة جديدة لهذه المشكلة([23]). وهنا يبدو التمييز بين اللغة والكلام أمرًا حاسمًا. فنمط العلاقات الاجتماعية لا يؤثر مباشرة في الشفرات اللغوية، ولكنه يضع قيودًا معينة على الكلام. أما نمط الكلام المستخدم فإنه بدوره –  يقوي من قدرة الاختبار لدى  المتكلم، ومن ثم فهو يشكل فهمه للواقع الاجتماعي. والطفل من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية، وبمعاونة الاستعمالات اللسانية الاجتماعية، والاتجاهات الصريحة أو الضمنية نحو اللغةيتعلم مقتضيات أي تركيب اجتماعي معين.
وتستمر البحوث المتضمنة في القسم الرابع في اكتشاف الطرق التي يحدد المجتمع من خلالها النماذج القياسية للاختيار من بين عدة بدائل تقدمها الذخائر اللفظية. وعلى النقيض من المعالجة الميكروسوسيولوجية في القسم الثاني، فإن المجتمع هنا–  يشير إلى بنى اجتماعية أكبر. فالاختيارات اللغوية الاجتماعية تمتد من المعالم الفونولوجية الدقيقة إلى الشفرات اللغوية، وذلك في حالة الثنائية اللغوية. ولقد بدا على القسم الرابع التوجه اللساني أكثر من أي فصل آخر، ومع ذلك فإن من الممكن للاجتماعيين الذين ليس لديهم خبرة لسانية خاصة استيعابَ ذلك الفصل.
ويركز القسم الخامس على العلاقة بين اللغة والتغير الاجتماعي والصراع الاجتماعي، فهو يقدم معالجتين لمشكلتي التغير والصراع: أولاهما: مبنية على منظور تطوري واسع أصبح سائدًا من جديد في بعض ميادين علم الاجتماع، والأخرى تركز على التغييرات الأكثر عنفًا، التي حدثت وما زالت تحدث ملازمةً لعملية البناء الاجتماعي. ولقد توضحت المعالجة الأولى بالإشارة إلى معرفة القراءة والكتابة. ففي حين أن مناقشة أصل الكلام أصبحت أمرًا تأملياً بالضرورة، فإن معرفة القراءة والكتابة حقيقة تاريخية؛ ومن ثم فالبحث عن ظروفها السابقة، وارتباطاتها وتضميناتها سوف تلقي ضوءًا جديدًا ومثمرًا على الثنائية التصنيفية التقليدية إلى (الأمة) و(المجتمع)([24]) (Gemeinschaft und Gesellschaft)، وإلى التضامن الآلي والتضامن العضوي([25]). أما المعالجة الثانية فهي تختص بالمشكلات اللغوية في المجتمعات المستحدثة، وكذلك تختص بالصراعات المستمرة عبر الخطوط اللغوية للأقطار الغربية القائمة فعلاً. والمحور الذي يدور حوله البحث هنا هو العوامل التي تحوّل الاختلافات اللغوية إلى صراعات سياسية واجتماعية.
وعلى الرغم من أن بحوث هذا الكتاب قد ترتبت وفقًا للقضايا الواقعية، فإن هناك موضوعات نظرية تقطع هذا الترتيب. ولعل ذلك يساعد القارئ على الانتفاع بالكتاب بطريقة تحليلية أفضل.
وأحد هذه الموضوعات كما عالجه جون جيومبيرز –  يختص بمفهوم الذخيرة اللغوية في مقابل مفهوم الشفرة اللغوية. وكما لوحظ من قبل فإن اللسانيين الاجتماعيين لم يجدوا أن فكرة الشفرة المتجانسة أكثر جدوى بالنسبة لما يريدون؛ لأن الباحث إذا عالج الكلام الفعلي بدلاً من اللغة langue، فإنه مجبر على معرفة وجود التعدد في الشفرات أو التنوعات في الشفرة الواحدة في المجتمع اللغوي الواحد. ويحاول مفهوم الذخيرة اللغوية أن يتغلب على هذه الظواهر بالإشارة إلى «كلية الأشكال اللغوية المستخدمة بشكل قياسي–  في مجرى التفاعل ذي المغزى الاجتماعي»، وكذلك بالإشارة إلى "كل الوسائل المقبولة في صياغة الرسائل"[(21)].
ولقد تطورت فكرة الذخيرة في مقالة جيومبيرز حول كلام المجتمع، وكذلك بحث فيشمان وإن يكن ذلك بصورة موجزة. ولكن هذه الفكرة قد ضُمنت في كثير من البحوث الأخرى التي أشارت إلى اتساع التنوعات اللغوية التي يختار المتكلم من بينها أقواله بطريقة محكومة بقواعد معينة[(22)].
وهناك موضوع مهم آخر هو الكفاءة التواصلية، وهو مفهوم تمت صياغته امتدادًا لفكرة تشومسكي عن الكفاءة اللغوية. ومصطلح تشومسكي يعني أن كلاً من المتكلم والمخاطب على معرفة ضمنية بلغتهما، وذلك في مقابل مصطلح الأداء، وهو الاستخدام الفعلي للغة في المواقف الواقعية. ومن ثم فإن مفهوم الكفاءة لا يتعامل مع الكلام بل مع قدرة المتكلم على أن يخرج من خلال نسق محدود من القواعد–  عددًا لامتناهيًا من الجمل النحوية. ومن ناحية أخرى فإن من المتصور أنه إذا ما وُهب شخص ما مجرد الكفاءة اللغوية فإنه سيصبح نوعًا من الحيوانات المثقفة. إنه سوف يكون على معرفة بالقواعد النحوية للغته، ولكنه لن يعرف متى ينبغي له أن يتكلم ومتى ينبغي أن يصمت، وأي الاختيارات الاجتماعية اللغوية ينبغي له أن يختارها من "الذخيرة اللغوية"، وفي أي مناسبة... وهكذا.
وفي محاولة لمعالجة هذه المشكلات فقد كشف هايمس عن مفهوم الكفاءة التواصلية الذي يشير إلى القواعد السيكولوجية والثقافية والاجتماعية التي تنظم استخدام الكلام في المواقف الاجتماعية. وتمضي فكرة الكفاءة التواصلية عبر عديد من البحوث التالية، وبخاصة تحليل برنشتين لكلام التنشئة الاجتماعية، ودراسة فراك حول الكفاءات الحوارية لدى السابانيين sabanun ، ودراسة باسو الإثنوجرافية للصمت في ثقافة الأباشيين[26].
ويتضمن مفهوم الكفاءة التواصلية مفهوم "القواعد اللغوية الاجتماعية". وعلى الرغم من أن كل البحوث الواردة في هذا الكتاب (باستثناء بحثين واردين في القسم الخامس) تعرض لقواعد الاختيار اللغوي الاجتماعي؛ إلا أن صياغة هذه القواعد لم تكن حتى الآن على درجة كافية تمامًا، وذلك باستثناء بحث لابوف، وعملٍ حديث آخر حول الاختيارات الضمائرية، وهو ليس مطبوعًا هنا. فقد حقق هذان البحثان صياغة صورية formalization  على درجة طيبة بالمقارنة الدقيقة بتلك القواعد المعتادة في النظرية اللسانية. ولا شك أن هذا يعتمد على حقيقة أن القواعد اللغوية الاجتماعية أكثر صعوبة في صياغتها من قواعد اللسانيات، وذلك ليس فقط لأنها تأخذ في الاعتبار تعقيد المواقف الاجتماعية، بل إنه يرجع أيضًا إلى سوء فهم خاص لطبيعة القواعد اللغوية الاجتماعية. وعلى هذا فإن التمييز الذي نجده في بحث سيرل بين القواعد التكوينية والقواعد المنظمة، والتمييز الذي نجده في بحث لابوف بين القواعد الثابتة والقواعد المتغيرة، يمثلان محاولتين لهما أهميتهما في توضيح هذا المجال.
أما الموضوع النظري الأخير الذي يسري في كثير من بحوث هذا الكتاب فهو خاص بـ"المعنى الاجتماعي". فعملية الاختيار بين أشكال لغوية متكافئة من الناحية الإحالية (سواء كان ذلك بين لغتين أو بين تنويعتين داخل لغة معينة، أو بين اختيارات معجمية داخل التنويعة الواحدة) تحمل بشكل أولي إن لم يكن بشكل شامل–  معرفة اجتماعية. كما أن الاختيارات اللغوية الاجتماعية ربما تنقل إلى السامع شيئًا عن المتكلم: أصله الاجتماعي، أو منطقته، تمامًا كما هو الحال في نقلها شيئًا عن طبيعة موقفه الاجتماعي الراهن، وعن التغيرات التي تطرأ على موضوع الحوار...إلخ. وعلى أية حال، فإن المعنى الاجتماعي المنقول عبر الشفرات الأسلوبية أو أية وسائل لغوية أخرى لا يعد مؤثرًا إلا إذا كان المتحاورون يشتركون في عادات ثقافية عامة، وفي خلفية معرفية عامة أيضًا بخصوص الموقف المعين الذي يشغلهم. ولقد جعلت معرفة هذه الحقيقة عددًا من العلماء يؤكدون أن المعنى يتجسد دائمًا من خلال التفاعل الاجتماعي. وفي حين أن هناك قدرًا من الحقيقة في هذا الرأي كما رأينا بالنسبة للمحاورات –  فإنه يبدو أكثر جدوى أن نعتبر إحالية المعنى أمرًا يتدرج من المعاني غير المرتبطة تمامًا بموقف معين إلى المعاني التي ترتبط تمامًا بالموقف.
ولقد عولجت قضية الأنساق المختلفة للمعنى في مناقشة برنشتين للشفرات المحدودة والموسعة، وفي مناقشة كل من جودي ووات للرموز المتناقضة بين المجتمعات المتعلمة والمجتمعات الأمية.
إن كل أبحاث هذا الكتاب هي بشكل واضح أبحاث حديثة، آمل أن تعكس تطور هذا العلم في العقد الماضي. وهذا التركيز على المادة الحديثة قد استلزم استبعاد "الآباء المؤسسين" للسانيات الاجتماعية: دوركايم، مييه، سابير، وغيرهم. وفي حين أنني وددت لو أن هناك حيزًا كافيًا لضمهم إلا أنني أعتقد أن اختياري مبرر بهذا الاستمرار القوي بين اهتمامات هؤلاء الرواد الأوائل، واهتمامات الكتاب الذين شملتهم اختيارات هذا الكتاب. وإذا ما أراد الطالب بعد قراءة هذا الكتاب–  أن يرجع إلى الآراء النافذة لهؤلاء القدامى، فإنه سيجد قائمة مرجعية في نهاية هذا الكتاب.


[*] (Pier Paolo Gijloli) أستاذ علم الاجتماع الثقافي في جامعة بلقانا (Bologna) في إيطاليا.
[**] أستاذ علم اللغة والأسلوب في جامعة الملك سعود.
(1)   [1]مجلة الفيصل، ع178، 1991، ص44
(2)   [2]محمد علي الخولي، معجم علم اللغة النظري ، (بيروت: د.ن، 1982).
(3)   [3]...................  معجم مصطلحات علم اللغة الحديث ، (بيروت: د.ن، 1983) .
(4)   [4] 
(5)   [5]Pier Paolo Giglioli.(ed.): Language and Social Context, (Hasmondsworth: Middx Penguin,1972) Chapter I: Introduction, p.9. Penguin Education, 1972.
(6)   [6]Jashua A. Fishman:  Sociolinguistics, A Brief Introduction. P. Vi. N. H. P. 1972.
(7)   [7] 
(8)   [8]Giglioli, op. cit., P. 8.
(9)   [9] 
(10)       [10]Fishman, op. cit., P. 3.
(11)       [11]انظر مقدمة شارلز فيرجسون Ch. Ferguson لكتاب: Fishman, J., Sociolinguistics. 1972. Newbury House Language Series, U.S.A.
(12)       [12]Ibid. pp. 6-17
(13)       [13]Ibid. cit., P. 8.
(14)       [14]Ibid., P. 11.
(15)       [15]انظر: محي الدين محسب. انفتاح النسق اللساني، (القاهرة: دار فرحة، 2004).
(16)       [16]انظر مقدمة Giglioli للكتاب السابق p. B
(17)       [17]Ibid., p. 15
(18)       [18]Labov, W., 1972, p. 199 وهو يقصد اعتماد اللسانيين التوليديين على فكرة حدس اللساني نفسه في الحكم بمقبولية الجمل، أو عدم مقبوليتها.
(19)       [19]Ibid., p. 203
(20)       [20]انظر Kittredge, R., & Lehrberger, J. (eds.), 1982,  Sublanguages: Studies of Language in Restricted Semantic Domains. De Gruyter. Berlin. p.1  وفكرة اللغات الفرعية قريبة من فكرة السجل register انظر مفهوم هذا المصطلح وتعريفه في: محي الدين محسب (مترجم): الأسلوبية وعلم الدلالة. لـ(ستيفن أولمان) 2001م دار الهدى للطباعة والنشر. وعلى كل فهذا هو تعريف زيليج هاريس: (انظر مقالته: "الخطاب واللغات الفرعية" في الكتاب المذكور في أول هذا الهامش p.231): "البنية التي تميز أنواعًا معينة من الخطاب، أو أجزاء معينة من أنواع الخطاب التي تحدث في مواقف معينة، مثلاً: مناقشات العلماء الذين يعملون في مشكلة معينة"
(21)       [21]    Botha, R., 1981: The Conduct of Linguistic Inquiry: A Systematic Introduction to the Methodology of Generative Grammar. Mouton.
[(18)] هايمس 1967، ص 9، 10.
(22)       [22]يقصد جيجليولي هنا الكتاب الذي حرره ووضع له هذه المقدمة التي نترجمها.
[(20)] انظر القسم الثالث من هذا الكتاب.
(23)  [23]حول فرضية وورف، انظر: محي الدين محسب. اللغة والفكر والعالم: دراسة في فرضية النسبية اللغوية، (القاهرة: لونجمان، 1998). (المترجم)
(24)  [24]هذان المصطلحان هما مقولتان في الدراسات الاجتماعية أدخلهما عام 1887عالم الاجتماع الألماني فردينان تونيي Ferdinand Tönnies، ليدلا على نمطين  مختلفين للترابط الاجتماعي: النمط الأول يحكم الأفراد فيه الانتماء إلى الجماعة الأكبر، وليس إلى مصالحهم واهتماماتهم الخاصة، وهم يتلقون معاييرهم السلوكية والأخلاقية من هذا الكيان الأكبر وفقًا لمبدأ (وحدة الإرادة). أما النمط الثاني Gesellschaft (عادة ما تترجم هذه الكلمة إلى الإنجليزية بـ civil society= المجتمع المدني) ففيه لا يستمد الفرد (رجل الأعمال، المدير، المالك) معاييره من كيان أكبر منه، وهو يتصرف وفق اهتماماته الذاتية لا وفق التوجهات المشتركة العامة . انظر على الشبكة العنكبوتية : <www.en.wikipedia.org (المترجم)
(25)  [25]هذان المصطلحان أدخلهما في الدراسات الاجتماعية إميل دوركايم، ليدل بالترابط العضوي إلى نوع الترابط في المجتمعات المتقدمة الحديثة، وبالترابط الآلي إلى المجتمعات المتخلفة التقليدية. انظر على الشبكة العنكبوتية : (www.en.wikipedia.org)(المترجم)

[(21)] جيومبيرز 1964،ص ص137، 138.
[(22)] انظر: بحث فيرجسون في: الازدواجية اللغوية. وفكرة برنشتين في: الشفرات الموسعة والشفرات المحددة. ودراسة براون وجيلمان في: اختيارات الضمائر. وبحث شيجلوف في: صياغة المواقع
(26)  [26]شعب هندي أحمر في الجنوب الغربي من أمريكا. (المترجم)