الثلاثاء، 5 فبراير 2019

المواطنة اللسانية

المواطنة اللسانية

 

 


ما المواطنة؟ ما المقصود بالمواطنة اللّسانية؟ ما علاقتها باللغة؟ ما المقصود بالخطاب المفارق للمرجع؟ تعدّ اللغة الأداة الأساسية لدخول الإنسان إلى مجتمعه الإنساني وبقدر ماهي كذلك فإنها وحتى تستنفذ وظائفها تتعاضد مع مجموعة من العلوم المعاصرة كعلم النفس وعلم الاجتماع والإثنوغرافيا.. وشكلت منها علوماً مندمجة كعلم النفس اللغوي وعلم النفس الاجتماعي واللغة وإثنوغرافيا التواصل.. فضلاً عن انفتاحها على العلوم فإنها تتقاطع مع منظومة القيم المجتمعية التي تأتي على رأسها المواطنة لذا جاء عنوان مقالتنا (المواطنة اللسانية).
ما المواطنة؟ المواطنة: معارف وقيم وأدوات.. فاللغة كأداة عقل ووجدان وحس وحركة هي الحامل الطبيعي للمعارف وللقيم الروحية والثقافية وأداة للتّواصل والتداول.. فلغة كل أمة روح ثقافتها وعنوان حضارتها.. والاعتناء بها يشكل صمام أمان لوحدة الأمة، غير أن مجالات الاعتناء بها، وأشكال المحافظة عليها تتفاوت بتفاوت قضاياها ومسائلها التي تستجد بفعل المتغيرات الحضارية والتفاعلات الحاصلة في عالم اليوم، بفعل الثورات المتعددة الأوجه والأبعاد مثل الثورة التكنولوجية والرقمية والعلمية والبيولوجية.. مما يطرح التساؤل عن التغيرات التي تحدث في اللغة العربية من تداخل وتعدد لغوي.. وكذا موضوعات على شاكلة الأمن اللغوي والتخطيط اللغوي وتحديات من قبيل العولمة اللغوية.
كهيمنة الإنجليزية لغة تعلّم واستعمال وبحث وإنتاج وتأثيرها على اللغة الأم الرسمية والمرجعية لغة تواصل وتداول وإنتاج وتأثير وتفكير.
وفي هذه الحالة يمكننا طرح الإشكال المعرفي المنهجي في الأساس: ما اللغة المراد اكتسابها أسرياً وتعلّمها مدرسياً.
لغة تواصل وتعلم وبحث؟ لغة يمكنها أن تكون بمنأى عن الحصار الذي بات يهدد وجودها واستمراريتها وبدل أن تكون ميتة نتيجة الهجر تكون حية نتيجة الاستعمال تواصلاً وإنتاجاً وتداولاً، فكراً وإبداعاً في مناحي الحياة، أي كيف نرتفع باللغة البيضاء لتكون قريبة من الفصحى الأساس؟
أولاً: بين لغة التّرتيل ولغة الأنس: تتفاوت مستويات الاستعمال اللغوي تلقياً وإنتاجاً سياقات تقتضيها مواقف تستوجب على مستعملها انتقاء ما يناسب، فلغة المقامات غير لغة الأنس، ومن هنا يمكن الفصل بين لغة المقام كلغة إجلالية ترتيلية، ولغة الأنس لغة الاستعمال والمعيش اليومي، وبما أنّه لكل مقام مقال، فمن الخطأ استعمال أحدهما مكان الآخر، إذ لما يتم استعمال اللغة الترتيلية أو الفصحى في مواقف الحياة اليومية يصبح استعمالنا لها تقعراً مما يحول بينها وبين أداء وظائفها ولاسيما التواصلية منها والتأثيرية والعكس صحيح.
إذ لا معنى لاستعمال لغة الأنس في مواقف ترتيلية في المقامات العلمية الأكاديمية لأن ذلك يعد إسفافاً ويحول دون تحقيق المراد لما فيها من مصطلحات ومفاهيم تحمل ذلك العلم المراد تبليغه والتعريف به شرحاً وتفصيلاً وعلى أساس أنها الحامل الطبيعي للمعارف.
ثانياً: لغتنا العربية اليوم والخطاب المفارق للمرجع لم يعد الخطاب اللّساني العربي المعاصر حبيس نظرة منمّطة وغير سياقية قائمة على نحو جملي يشكل وحدة تحليل وعلى نحو معياري يعدّ مرجعاً افتراضياً وأداة تقويم واحتكام للأداء اللغوي السليم من غيره.
وبعد الانفتاح على الدرس اللساني المعاصر صار لزاماً على لغتنا الانتقال من الحالة التي كانت عليها إلى وضعية ستكون عليها، إن على مستوى التصورات أو التعامل معها أو بها، أو على مستويات استعمالاتها تلقياً وإنتاجاً وأنساً وترتيلاً من حيث استعمالاتها مشافهة وكتابة ومن حيث استثمارها تواصلاً وتداولاً تأثيراً وإبداعاً وتفكيراً من حيث وظائفها.
1 - إن العارف باللغة ليس هو العارف بمسائلها بل هو العارف بمهاراتها استماعاً وقراءة وتعبيراً وتحريراً.
2 - إن اللغة نسق من العلاقات والعلامات، وهذا في بعدها الافتراضي. وإن المهارات تجليات في بعدها الواقعي.
3 - إن اللغة استعمال، تحيا بالاستعمال وتموت بالترك.
4 - إن اللغة نسل، إذا زاد نسلها زال تناسلها.
5- إن اللغة وسيلة للتواصل والتداول بل للتأثير والتفكير.
6 - إن تعاملنا مع اللغة يعكس تصوراتنا لها، فلم تعد اللغة إعراباً وقواعد وقاموساً.. بل أصواتاً يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.
7 - إننا لا نتواصل بالجمل، لأن الجمل افتراضية بل نتواصل بالنصوص، والنصوص لسانياً وأنطولوجياً ليست بطولها وإنما النص حدث تواصلي فـ(قف) نص، و(أف) نص، و(المهابهرتا الهندية) نص، و(جلجامش الفارسية) نص، و(الإنيادة اليونانية) نص.. وهكذا.
إن الكفء لغوياً أو من يمتلك ناصية اللغة هو من يحسن التصرف في المواقف اللغوية الأربعة، فمستعمل اللغة إما أن يكون متلقياً في وضعيتي الاستماع والقراءة، أو منتجاً في حالتي التعبير شفوياً وكتابياً.
وإنه في حالتي التعبير يكون محاججاً أو سارداً أو واصفاً أو محاوراً وهذا ما تمّ الالتفات إليه من خلال تراكمات الدرس اللساني المعاصر بمدارسة البنيوية والتداولية.. واستفادت منه اللسانيات العربية وما نختم به أن أثنوغرافيا التواصل وكما ركزت على وظائف اللغة القائمة على التّواصل والتأثير وربط اللغة بالسياقات الثقافية والاجتماعية فإنها قد أعطت أهمية للشفهي كمعطى لغوي، وكاستعمال يومي وقد التفتت إلى الاستثمار في العامي كلغة معيش يومي وإنه لا يعدو أن يكون انحرافاً لغوياً بالحذف أو بالتغيير للحروف تقديماً أو تأخيراً لما فيه من مرونة واقتصاد يحققان مردودية تواصلية وتأثيراً مطلوباً وتداولاً مرغوباً.
الانتقال باللغة من نحو جملي افتراضي معياري إلى نحو نصي داخلي واقعي وصفي يتناول الظواهر اللغوية لا المسائل اللغوية أن نتعامل مع اللغة كملكات لا كقواعد، وإلا نعاملها كلغة أجنبية، واكتساب الملكات يكون بالتّدريب والاستعمال المتواصل أن نتعلم اللغة بتعلم مهاراتها كما نتعلم مهارات السباحة ومهارات المشي فكما نتعلم المشي باستعمال المشي والسباحة باستعمال السباحة فلم لا نتعلم اللغة باستعمال اللغة؟
فاللغة في البدء كانت سليقية، ولست بنحوي يلوك لسانه ولكني سليقي أقول فأعرب، وبالعمل بهذه التصورات المؤسسة علمياً والمؤطرة أكاديمياً، وبمفارقة الخطاب اللّغوي العربي لمرجعياته المعيارية، والالتفات لنحو وصفي يبحث في الاستعمال اللغوي الصحيح في السياقات والمواقف وربط كل ذلك بالمجتمع من شأنه تصحيح المسار وجعل لغتنا لغة حية كما هي كقيمة لا كحقيقة.

 المجلة العربية
 http://arabicmagazine.com/arabic/articleDetails.aspx?Id=6605