الخميس، 1 يناير 2015

اللغة وإشكالية التواصل والدلالة


اللغة وإشكالية التواصل والدلالة

عزيز السراج
تقـديم:
هل يمكن وعي الذات ووعي ما يحيط بها خارج إواليات اللغة وقوانينها؟ وهل يمكن تصور عالم إنساني يعج بالصفات والتصورات وباقي التحديدات الأخرى خارج ما توفره اللغة من مفاهيم ومقولات؟ وهل يمكن، ضمن هذا الوضع، أن نتصور لغة محايدة تكتفي بوصف العالم وصفا "موضوعيا" كما هو دونما اعتبار لشيء آخر؟[i].

تشكل هذه الأسئلة وغيرها منطلقات أو مدار اهتمامنا في هذه الورقة.
فإذا كانت اللسانيات تتخذ اللغات الطبيعية موضوعا لها، فإن السيميولوجيا تتجاوز هذا المجال إلى دراسة مختلف العلامات داخل الحقل الاجتماعي سواء كانت هذه العلامات لغوية أو غير اللغوية. من هذا المنطلق بالذات اختلف النظر بخصوص الوظيفة الأساسية للغة بين اتجاهين: اتجاه يحددها (اللغة) في الوظيفة التواصلية المباشرة، وهذا الاتجاه تحكمه النزعة الوظيفية، ويمثله (الاتجاه) كل من (ج. مونان، إ. بويسنيس، وبرييطو)، واتجاه يحددها في الوظيفة الدلالية ويمثله (الاتجاه) رولان بارت، الذي يعتبر السيميولوجيا هي العلم الذي يُعنَى بدراسة أنظمة العلامات سواء كانت لغوية أو أيقونية أو حركية. وبالتالي، فإذا كانت اللسانيات تدرس الأنظمة اللغوية، فإن السيميولوجيا تبحث في العلامات اللغوية وغير اللغوية التي تنشأ في حضن المجتمع. وعلى هذا الأساس "عندما أعلن عن ميلاد السيميولوجيا باعتبارها علما جديدا سيأخذ على عاتقه دراسة ما استعصى على الضبط والتحديد من خلال ما توفره العلوم الأخرى، سارع الكثيرون إلى ربط هذا العلم بالتواصل الإنساني. فالسيميولوجيا في تصورهم هي علم يختص بدراسة ما يعود إلى الظاهرة التواصلية في شكلها اللفظي أساسا. فالعلامات هي أدوات يستعملها باث بشكل قصدي من أجل التواصل مع متلق ضمن دورة كلامية تكفل سوسور مبكرا برسم حدودها في كتابه دروس في اللسانيات العامة وهي الخطاطة التي قادت الفرسان الثلاثة (ج.مونان، ل. بريتيو، وإ، بويسينس) إلى الدعوة إلى التخلي عن عالم الدلالة والاكتفاء برصد ووصف وتحليل حالات التواصل، اللفظي منه بالأساس."[2]
وعلى الرغم من الاعتراف بالقيمة العلمية للأعمال التي قدمها هؤلاء، فإن الكثير من الباحثين ومن بينهم رولان بارت "لم ير داعيا للفصل بين التواصل باعتباره نشاطا قائما على قصدية صريحة، وبين الدلالة باعتبارها سيرورة لا تتحدد من خلال نية التأثير المباشر في سلوك مخاطب مخصوص. فالتواصل يتضمن بالضرورة حالات للتدليل، والدلالة لا يمكن أن تخلو من قصدية البلاغية صريحة، أو مفترضة فقط من خلال المقام التلفظي."[3] وهنا لا بد من توضيح إشكالية كبرى رافقت تطور مفهوم السيميولوجيا هي إشكالية التواصل والدلالة. فماذا عن هذه الإشكالية؟
للإجابة عن هذا التساؤل سنحاول رصد قضية اللغة في سيميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة.
1-قضية اللغة في سيميولوجيا التواصل:
خضعت اللغة موضوع الدرس اللساني لتصورات مختلفة وصلت إلى حد التباين، فقد اعتبرت اللسانيات البنيوية اللغة مجموعة من الملفوظات يتعين وصفها وتصنيفها وصفا واقعيا. في حين حوَّل شومسكي مجال البحث اللساني من دراسة اللغة باعتبارها موضوعا خارجيا إلى دراسة نسق المعرفة اللغوية المكتسبة والمتمثلة في دماغ المتكلم، بذلك شكلت "القدرة النحوية" موضوع البحث اللساني التوليدي.
ومثلما نازع التوليديون البنيويون في موضوع النظرية اللسانية، نازع الوظيفيون التوليديون في موضوع اللسانيات وأسسها وتوجهاتها، إذ بظهور اللسانيات الوظيفية أصبح موضوع النظرية اللسانية هو[4] "القدرة التواصلية" الذي يرجع أصل ظهوره كما بين هايمز HYMES  إلى التقاء تيارين متمايزين هما النحو التوليدي التحويلي وإثنوجرافيا التواصل لاشتراكهما معا في البحث عن نوع وطبيعة الطاقات التي يتوفر عليها مستعملو اللغة الطبيعية.
إن وظيفة اللغة التواصلية تعطي لمستعمل اللغة الطبيعية إمكان التواصل، وإمكان توظيف العبارات في المقامات المناسبة.
 وعلى هذا الأساس فإن منطلق الوظيفيين يمكن تلخيصه في مسألتين أساسيتين[5]:
أ- الوظيفة الأولى للغة هي التواصل.
ب- تحدد الأهداف التواصلية بنيات اللغات الطبيعية.
ولعل هذا هو المبدأ الذي يحكم أيضا رواد سيميولوجيا التواصل، حيث يرى أنصار هذا الاتجاه في الدليل "le signe" غير كونه أداة تواصلية أو أداة قصد تواصلي. "إن الوظيفة الخاصة بالبنيات السيميوطيقية التي نسميها بالألسنة هي التواصل. ولا تختص هذه الوظيفة بالألسنة فقط، وإنما توجد أيضا في البنيات السيميوطيقية التي تشكلها الأنواع السننية غير اللسانية".[6]  وبذلك يمكن للسيميولوجيا حسب بوسينس أن تعرف باعتبارها "دراسة طرق التواصل، أي دراسة الوسائل المستخدمة للتأثير على الغير والمعترف بها بتلك الصفة من قبل الشخص الذي يتوخى التأثير"[7].  وقد طالب بويسنس وبرييطو ومونان تلافيا لتفكيك موضوع السيميولوجيا بالعودة إلى الفكرة السوسيرية، بشأن الطبيعة الاجتماعية للعلامات، لقد حصروا السيميولوجيا بمعناها الدقيق، في دراسة أنساق العلامات ذات الوظيفة التواصلية.  والتواصل لدى بويسنس هو الهدف المقصود من السيميولوجيا، بل إن السيميولوجيا، كما يرى برييطو، ينبغي عليها أن تهتم، فيما يرى بويسنس، بالوقائع القابلة بالإدراك والمرتبطة بحالات الوعي والمنتجة بقصد التعريف بحالات الوعي هاته.[8]
وبعبارة أخرى، فإن التواصل هو الذي يشكل موضوع السيميولوجيا. "والتواصل المقصود هو من جنس التواصل الإنساني، لأن هذا التواصل هو التواصل الحق".[9]
وإذا أخذنا بعين الاعتبار كل ما سبق فإن موضوع السيميولوجيا هو الدلائل القائمة على القصدية التواصلية، ولهذا السبب سميت هذه السيميولوجيا سيميولوجيا التواصل. 
2- قضية اللغة في سيميولوجيا الدلالة.
يعزى هذا الاتجاه إلى رولان بارت الذي يرى أن جزءا كاملا من البحث السميولوجي المعاصر مرده، بدون انقطاع، إلى مسألة الدلالة: فعلم النفس والبنيوية وبعض المحاولات الجديدة للنقد الأدبي () كل ذلك لا يدرس، أبدا، الواقعة إلا باعتبارها دالة. وافتراض الدلالة يعني اللجوء إلى السيميولوجيا.[10] وعليه، فإن المقاربة السيميولوجيا مقاربة ضرورية لأن كل الوقائع دالة.
وإذا كانت اللغة*، كما يوضح كلود ليفي ستراوس، هي الخط الفاصل بين الطبيعة والثقافة، فذلك لأن اللغة تنفرد بميزة إنسانية، وثقافية، واجتماعية. من هذه الزاوية بالذات ينظر بارت إلى اللغة بوصفها واقعة ثقافية، بالمفهوم السيميولوجي للكلمة، مرتبط بالقيم: العلمية، والفكرية، والفنية. وبالتالي، فاللغة هي نشاط إنساني الغرض منه، أساسا، التواصل وتوظيف للثقافة وتنشيط ودينامية لها. على اعتبار أن دلالة الأشياء لا تنشأ خارج اللغة؛ بل داخلها. وعليه، فعندما ننتقل إلى مجموعات ذات عمق سوسيولوجي حقيقي، فإننا نواجه مجددا اللغة، ومن الأكيد أن الأشياء والصور السلوكات يمكنها أن تدل – وهي تقوم بذلك بوفرة – إلا أنها لا تقوم بذلك، أبدا، بصورة مستقلة. "إن كل نسق سيميولوجي يمتزج باللغة"[11].
إن كل المجالات المعرفية ذات العمق السوسيولوجي الحقيقي تفرض علينا، مواجهة اللغة، ذلك أن "الأشياء" تحمل دلالات. غير أنه ما كان لها أن تكون أنساقا سيميولوجية أو أنساق دالة لولا تدخل اللغة ولولا امتزاجها باللغة. فهي إذن، تكتسب صفة النسق السيميولوجي من اللغة. وهذا ما دفع ببارت إلى أن يرى أنه من الصعب جدا تصور إمكان وجود مدلولات نسق صور أو أشياء خارج اللغة، بحيث إن إدراك ما تدل عليه مادة ما يعني اللجوء قدريا، إلى تقطيع اللغة، فلا وجود لمعنى إلا لما هو مسمى، وعالم المدلولات ليس سوى عالم اللغة.[12]
وعليه، فالإنسان لا يستطيع إدراك حياته الواقعية ما لم يفترض في نشاطاته اليومية وسيطا رمزيا أو تمثيليا يحدد وعيه بوجوده، تلك هي الحالة التي يصفها إيكو وهو يتحدث عن حقل السيميائيات وموضوعها.[13] فالسيميائيات هي دراسة للثقافة باعتبارها النموذج الكلي الذي يشتمل على كل حالات التواصل الإنساني. فلا يمكن تصور النشاط الثقافي – العنصر المحدد للوجود الإنساني – إلا من خلال زاوية تواصلية.[14]
فما الذي يجمع بين أشياء متنافرة جدا، كاللباس والسيارة والطبق والأفلام والموسيقى والصور الإشهارية وغيرها؟ إنها تجتمع على الأقل في كونها علامات أو أدلة. إننا نصادف هذه الأشياء في حياتنا اليومية، وإننا نخضعها بدافع الحاجة ودون وعي لنشاط القراءة، فالسيارة تدلني على الوضع الاجتماعي لصاحبها، واللباس يدلني على مقدار امتثال صاحبه، والمشروب أو الطبق يطلعني على أسلوب مضيفي في الحياة.[15]
تأسيسا على ذلك لم تعد اللغة تشتمل فقط الأنساق اللفظية المنطوقة أو المكتوبة أو المصورة، بل أصبحت تشمل كل الوقائع الثقافية المرتبطة بنشاط الإنسان وسلوكاته. وعليه فالتواصل بُعد أساسي للغة والثقافة على حد سواء، على اعتبار أن "التواصل لا يقتصر فقط على توصيل الرسائل اللفظية أو القصدية، إن التواصل كما نتصوره يشمل مجموع العمليات التي يتبادل بها المتخاطبون التأثير. إن القارئ قد يعترف بهذا على أن هذا التحديد يقوم على مسلمة قول كل فعل وكل حدث يوفران مظاهر تواصلية، بمجرد ما يتم إدراكها من قبل كائن أنساني"[16].
كل ما سبق يقودنا إلى القول إن السيميولوجيا قد تم تفجيرها لكي تصبح تواصلا. "هذا التواصل قطع كل الصلات التي تربطه بالنموذج الجاكويسوني البريء حيث المتكلم والمخاطب أقرب ما يكونان إلى الآلات الصماء. إن هناك باثا يرسل إلى متلق ما عبر قناة خطابا ذا موضوع ما وبسنن لغوي ما."[17]
وأخيرا وكخلاصة لكل ما سبق نستطيع أن نقول إن في الطرح البارتي انتقادا لأنصار سيميولوجيا التواصل الذين يعتبرون ما أتى به بارت عبارة عن أمارات وتجل بسيط. إلا أنه من الخطأ الاعتقاد بأن علم الدلائل قد نشأ، أولا، باعتباره علما للغة اللفظية، ثم توسعت مقولات اللسانيات بعد ذلك لتستوعب مظاهر أخرى. بينما يقضي المشروع الأصلي للسيميولوجيا بالاعتراف بوجود "دليلية"  signicité أولية تتجلى في العَرَض والأمارة، وهذه الدليلية التي نجدها أيضا فيما نسميه بالدلائل اللفظية.[18]     
* على سبيل التركيب:
وفي الختام إذا كان تيار سيميولوجيا التواصل يمثله باحثون (مونان، بويسنيس، برييطو) ينتمون إلى الطرح الوظيفي في اللسانيات الذي يرى أن اللغة تؤدي وظيفة تواصلية مباشرة. فإن رولان بارت رائد سيميولوجيا الدلالة حاول تجاوز تصور الوظيفيين اللذين ربطوا بين الدلالة والمقصدية، حيث جنح إلى توسيع حقل البحث في اللغة، على اعتبار أن إنتاج المعنى وتوفير التواصل يمكنه أن يتم بواسطة أنساق لفظية وأنساق غير لفظية. ولعل هذا ما دفع بارت إلى "أن يسند وظيفة التواصل إلى الأنساق اللسانية وإلى الأشياء () وبما أن المعنى من إنتاج اللغة، فلا يمكن للسيميولوجيا إلا أن تلجأ إلى اللغة للوقوف على دلالة الأشياء. وبذلك، فاللغة تعتبر نموذجا للسيميولوجيا إذ هي تمدنا بالمعاني والمدلولات أي نموذج المعاني في السيميولوجيا نموذج لساني. بالإضافة إلى ذلك فإن اللغة مكون للسيميولوجيا إذ يستحيل بناؤها ما لم تكن اللغة عنصرا بنائيا فيها."[19]
ولتحقيق هذا المسعى توسل بارت بالمفاهيم اللسانية لمقاربة الظواهر السيميولوجية ك(نظام الموضة، الإشهار، الجسد، والصورة) ولعل هذا ما أثار حفيظة رواد سيميولوجيا التواصل حيث يؤاخذ ج.مونان، بل ينتقد، بنوع من الشطط، استثمار بارت لمقولات ومفاهيم لسانية كتنائية (اللسان/ الكلام) و(الدال/المدلول) و(المركب/النظام)، واستخدامها في مجال النقد الأدبي أو ما دعوه بعد بارت بالنقد السميائي****sémio-critique . ولعل خلفيات هذا الصراع بين التيارين تكمن، في نظرنا، في أن الإشكال الأعمق يتمثل في علاقة اللسانيات بالسيميولوجيا.



[i] - سعيد بنكراد:  علامات ع 8   سنة 1997  ص 101.
[2] - سعيد بنكراد: استراتيجيات التواصل من اللفظ إلى الإيماءة، علامات ع.21 س.2004. ص.4.
[3] - سعيد بنكراد: نفسه ص.4.
[4]- Hymes (d) : vers la compétence de la communication. T.r , de l’anglais par france – mulger. Paris. Hatier 1974.
[5] - مستفاد عن حافيظ  سماعيلي علوي، في حديثه عن قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية عالم الفكر م.33 ع.2 س.2004. ص.200.201
6- Prieto (L.J.) : Pertinence  et pratique, éd. De Minuit 1975. Paris. 10.11.
[7] - Buyssens (E) : La communication et l’articulation linguistique. P.U.F.
[8] - مارسيلو داسكال: الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة ترجمة حنون مبارك وآخرين، إفريقيا الشرق الدار البيضاء س.1987 ص:10
[9] - حنون مبارك: دروس في السيميائيات، دار توبقال للنشر،ط.1 س.1987 ص:73
[10]-Barthes (R) : mythologies, éd. Seuil p.195-196
* - ملحوظة: عندما ألف بارت كتابه (الدرجة الصفر للكتابة) لم يكن يمتلك معرفة جيدة بعلم اللسانيات، وبالتالي فإن تأمله كمؤرخ ماركسي للأدب، كانت تغذيه أعمال سارتر حول مفهوم"الإلتزام" ومع ذلك تولد لديه، في ذلك الوقت إنهماك جديد ينم عن خصوبة مبكرة، ويتجلى هذا الانهماك في حرصه على معالجة اللغة لا "كمنظومة للتواصل فحسب" بل كضرب من "إشارة ينكشف من خلالها إختيار إيديلوجي إما واع أو لا واع". voir : Roger fayolle : la critique. Ed. Armand collin- collection U paris.1978 p.207 
[11] -11-Barthes (R ) : Eléments de sémiologies, éd. Du seuil p.80.
[12] - 12-Ibid : p.80
[13] - Eco (U) : la structure absente, éd. Mercure de france paris. 1972. P.131.
[14] - سعيد بنكراد: استراتيجيات التواصل من اللفظ إلى الإيماءة علامات عدد21 س.2004 ص:3.
[15] - Barthes (R ) : l’aventure sémiologique éd. Seuil 1985 p.127.
[16] - 16-winkin (yves) : vers une anthropologie de la communication, p.20 science humaines N° 4.

[17] - محمد الوالي: السيميوطيقا  والتواصل علامات ع.16. س.2001. ص.88.
[18] -Eco (U), et pezzini (I) : la sémiologie des Mythologies in communication N°36. 1982. P.22.
[19] - حنون مبارك: مرجع سابق ص:75.
** - ملحوظة:   لقد أطلق بارت هذا المصطلح النقد السيميولوجي"sémio-critique" سنة 1966 في كتابه "حفيف اللغة" للربط بين الأدب واللسانيات. ويعتبر النقد السيميولوجي منهجا نقديا قائم الذات في  مجال الدراسات الأدبية مثله مثل النقد الاجتماعي والنقد النفسي. Voir : Mohamed infi : introduction à la sémiocritique, publication de la faculté de lettres Meknès 2002. P.8     

مسار الخطاب التواصلي عند بشر بن المعتمر مختار لزعر

مسار الخطاب التواصلي عند بشر بن المعتمر

 

Parcours du discours communicatif chez Bichr Ben Mouatamir
An overall view of Bichr Ibn Mouatamir’s communicative discourse
Recorrido del discurso comunicativo en Bichr Ben Mouatamir
مختار لزعر
p. 39-47

Résumés

Nous avons tenté à travers cet article de contempler le cadre général de la relation entre la langue et la réalité du discours ; ce qui nous a permis d’évoquer la relation qui existe entre la langue et le discours délibératif en focalisant notre attention sur le discours communicatif fondé sur l’aspect linguistique dans sa relation avec les contextes syntaxiques. Ceci nous amène à parler de l’importance cognitive et méthodique qui crée la légitimité scientifique communicative entre le discours et la langue.
A travers le choix de cette thématique, nous avons tenté, également, de démontrer la dimension communicative avec ses deux aspects linguistique et rationnel qui s’intéressent à l’étude du discours linguistique à l’intérieur de la société, préoccupation principale de la linguistique.
Haut de page

Texte intégral

1لا شيء أسرع من حركية الدليل في تبيان مبدأ القصود، ليس ذا واقع نصّي حامل لتلكم الحقائق المطلقة، التي تجعل من الدليل يسبح فيها سبحا غير مبرح، وهو إذ ينحو نحو هذا المنحى إلا لعلمه اليقيني بأنّ هناك علاقة وجودية ومعرفية تربطه بواقع النص على اختلاف مستوياته الداخلية والخارجية؛الأمر الذي يؤهل من الذات المتلقية أن تتحلى بلغة شاملة لكي تدرك تلكم الأبعاد التي يحويها الدليل على مختلف تموقعاته السياقية، في الوقت الذي نؤمن فيه إيمانا جازما بأنّ مستويات الفهم والإدراك لا تسير على وتيرة واحدة، وإنّما هي أبعاد يتلقاها المتلقون حسب طبيعة الدلائل التي ترتسم على واقع الأذهان.
2ولما كان همّ هذا المقال ينصب أساسا حول طبيعة العلاقة الجامعة بين الاستلزام الحواري التداولي والخطاب الإشهاري بما يحمله من أبعاد معرفية تختلف باختلاف المقامات، استوجب منا منهجيا أن نشير إلى أهم ما ينماز به دليل الإشهار في علاقته بالضابط الحواري الجدلي، لننظر أيصدق هذا الطرح العلمي في واقعنا المعاصر الذي نعيشه لحظة بعد لحظة، وهو يتماشى وطبيعة المفاهيم التي ما فتئت تنعت عند غالبية فلاسفة اللغة-قديما وحديثا-بصلاحية المفهوم لكل زمان ومكان؛بحكم أنّ أغلى سمة أهّلته لأن يحتل هذه الصدارة، هو اتصافه بمبدأ التصور الذي لا يؤمن بالجانب التقعيدي المعياري الذي لا يسمن و لا يغني من جوع.
3غير أنّه من باب الإنصاف العلمي الموضوعي نبيّن حقيقة لربّما انطوت تحت إطار المسكوت عنه (Le non dit) في ظل عنوان المقال، والمتمثلة في ما يمكن تسميته بـ : المناسبة؛ على أساس أنّ شرط الخطاب الإشهاري يعطي من الاهتمام البالغ إلى واقع المناسبة ما لا يعطيه لسياق آخر، وذلك لمَ فيه من الأهمية بمكان في تحقيق عملية تواصلية بين مرسل الخطاب ومتلقيه على اختلاف مستوياتهم الفكرية والفلسفية والمعرفية وهلمّ جرّا.
4من هذا المنطلق وجدتنا ملزمين منهجيا أن نشير ولو باختصار إلى بُعد أهمية المناسبة المتماشية مع الإشهار وفق ما أشار إليه القدامى في أبحاثهم اللغوية، محاولين إسقاط بعض من الإجراءات الدلائلية القائمة على مبدأ الاستلزام الحواري في علاقته بواقع المتلقي الذي يشكل الحجر الأساس في العملية التواصلية القصدية التي تجعل من دليل الإشهار يؤتي أكله حسب السياقات والمقامات.

أهمية اللغة في إثارة الجماهير

  • 1 حساني، أحمد، مباحث في اللسانيات، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1994م، ص.67.
5الثابت الذي لا شكّ فيه، أنّ أغلى ميزة ينماز بها الوجود الإنساني هو ذلكم الاستيعاب الأكمل والأقوم الذي جعله الخالق سرّا من أسراره والمتعلق بسرّ تكليف الإنسان بحمل أمانة عظيمة؛هذه الأمانة التي يجب أن يُوصلها إلى مقامها الذي يليق بها بسلام، فهو من هذا المنطلق يملك الاستعدادات الفطرية والوجودية والنفسية للتخاطب مع الآخرين من أجل تحقيق عملية تواصلية لها صلة وثيقة بالمجتمع الذي يعيش فيه، وعلى هذا الأساس » فمنذ كان الوجود، كان الصوت، كان الإنسان المصدر البشري لهذه الظاهرة، وما كان ذلك إلا لأنّ الصوت هو الحامل المادي للحضارة الإنسانية، نظرا لطبيعته الحسيّة »1.
  • 2 ينظر الجرجاني، عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق : محمد رشيد رضا، بيروت، دار المعرفة، ط2 (...)
6إنّ اللغة هي الحامل المادي للتراث البشري وثقافته على الإطلاق مع عطائه في مختلف المجالات؛فلا غرو إذاََ من أن تنصرف جهود العلماء المختصين والباحثين على اختلاف اتجاهاتهم لتدارسها ومعرفة حقيقتها وتبيان كيفيتها، ومن ثم ظل الإنسان-نتيجة احتكاكه بواقع اللغة- » يمتاز بالعلم، وإنّما العلم بالتعلم، والتّعلم باللغة، واللغات تتفاضل في حقيقتها، وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنّفس تامة، على وجه يكون أقرب إلى القبول، وأدعى إلى التأثير، وفي صورتها، وأجراس كلمها بعذوبة النطق، وسهولة اللفظ والإلقاء، والخفة على السّمع »2.
7وتجدر الملاحظة إلى أنّ مفهوم اللغة في علاقتها بواقع طبقات البشر فيما بينهم، كان يأخذ بُعدا فكريا وتصورا متميّزا عند القدامى الذين استطاعوا أن يعطوا بُعدا معرفيا، كتب له المسار المعرفي والثقافي البقاء إلى يومنا هذا. وتفاديا لسرد غالبية النصوص التي تحمل هذه الحقيقة المشار إليها آنفا، لا ضير من أن نختار عينة واحدة لا شريك لها، والتي استطاعت-على حدّ زعمنا-أن تصوّر بحق مدى العلاقة التواصلية التي تؤديها الألفاظ فيما بينها داخل السياقات والمقامات المصحوبتين مع عملية الإرسال المتخذة من قبل الباث والمتلقي، والحاوية في باطنها على مجموعة من الدلائل الإشهارية التي جعلت عملية الإرسال تعطي الاهتمام البالغ إلى واقع المتلقي الموجود وجودا عينيا أو تصوريا.
8إنّها تلكم الإشارات التي أشار إليها بشر بن المعتمر (ت226ه) شيخ الجاحظ (ت255ه) وهو يبيّن مدى أهمية الدليل الإشهاري المعتمد من قبل الباث في علاقته بالمتلقي والقادر على تحقيق عملية تواصلية تختلف باختلاف المقامات والأحوال.
  • 3 الجاحظ، البيان والتبيين : 1/ 135 139.
9يشير بشر بن المعتمر المعتزلي شيخ الجاحظ إلى هذه الحقيقة قائلا « ومن أراغ (قصد) معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإنّ حقّ المعنى الشريف هو اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما و يهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالا منك، قبل أن تلتمس إظهارها وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. فكن في ثلاث منازل، فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك وثيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامّة إن كنت للعامة أردت »3.
  • 4 الجاحظ، المصدر نفسه، 139. وتجدر الملاحظة إلى أنّ ما أشار إليه بشر بن المعتمر وغيره من المعتزلة فيما (...)
10ويواصل بشر بن المعتمر في بيان قدر اللفظ في علاقته بالمعنى حتى تستطيع اللغة أن تؤدي وظيفتها، التواصلية (الإبانة والوضوح). يقول في هذا المقام ما نصّه : » وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها و بين أقدار المستمعين، و بين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، وأقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات »4.
11لا مندوحة لنا من التوقف عند بُعد هذين النصين اللذين استطاعا إلى حدّ بعيد أن يعكسا كثيرا من القضايا المعرفية المتعلقة بالضابط التواصلي بين مرسل الخطاب ومتلقيه على اختلاف مستويات درجة الخطاب؛فنقول في حق النص الأول ما يلي :
إنّ قوله :
"ومن أراغ (قصد) معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما ؛ فإنّ حقّ المعنى الشريف هو اللفظ الشريف"
12يعكس حقيقة معرفية مفادُها أنّ الفعل الإنجازي للحدث الكلامي على الرغم من تساوي مخرجه في الوجود الإنساني أثناء عملية التلفظ، إلا أنّنا نجد دليل التمايز أو التذايث-على حدّ تعبير الفخر الرازي-في شأن مقصدية اللفظ هو الذي يؤهل من واقع اللفظ أن يكون شريفا، بحكم أنّ طبيعة المعنى الشريف تقتضي من دليل التشاخص أو التذايث القائم بين المعنى المجرد في ذاتية الباث المتلفظ به في علاقته بالمتلقي، يحقق بحق الشحنة الدلالية لمعنى الشريف، ومن ثم يتحقق التواصل في بعده الشمولي الاستغراقي ؛ على أساس أنّ مبدأ التقابل بين الفعل الإنجازي لمعنى الشرف في علاقته بمبدأ التصور يسيران جنبا إلى جنب مع طبيعة المسار الوجودي والمعرفي مع واقع المتلقي.
إنّ قوله :
"ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالا منك، قبل أن تلتمس إظهارها وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما"
13ينم عن بُعد حضاري يتماشى وحُرمة اللفظ العاكس لحقيقة ذاتية الباث؛هذه الحقيقة التي كان منطلقها الأول هو المعنى المجرد الشريف المتماشي مع طبيعة اللفظ الشريف لا يستقيم لها وزن وجودي متميّز إلا بالمحافظة على هذه الحُرمة القائمة بين المعنى واللفظ. غير أنّ بشر بن المعتمر كان حريّا في هذا النوع من الإطلاق في حق معنى الشريف، وذلك أنّه القائل باللفظ في علاقته بالمعنى الشريف هو في حقيقة أمره مسؤولية ينبغي أن تعكس واقع مرسل الخطاب فيتبنى حينها هذه المسؤولية فيراعيها حق الرعاية، من عدم إصابتها بشيء من لوازم الإفساد التهجين، بله تلكم الحالة السّوء التي لا يُعقل من عرف قدر شرف الألفاظ أن يسمح لمثل هذه الصفة أن ترتهن نفسُه بملابسته وقضاء حقّه، وهذا بدون ريب السبب الرئيس العائق لعملية التواصل.
إنّ قوله :
"فكن في ثلاث منازل، فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك وثيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، "
14يعكس من وجهة طبيعة المسكوت عنه حقيقة معرفية مفادُها بأنّه من غير المعقول إذا كان المعنى الشريف قد استوفت شروطه المتعلقة بمعنى الشرف في ذهنية الباث، حققا وفق هذه الصفة لنفسه لفظا شريفا ألا يضع نصب عينيه أنّ هذا التلازم التصوري التجسيدي يستلزم جدلا ثلاث مستويات ينبغي أن يولي الاهتمام بها والتي يمكن أن نقسّمها إلى قسمين : أحدهما للفظ، والثاني للمعنى. في حق اللفظ ينبغي لمرسل الخطاب أن يكون لفظه وثيقا عذبا، وفخما سهلا؛ هاتان السمتان تجعلان من عملية التلقي تؤتي أكلها محققة نوعا ما من التواصل يحسن السكوت عنده. لكن من باب الاستلزام الحواري تقتضي من ضرورة اللفظ أن يراعي أحوال المتلقي ؛ فليس كل ما تيقن منه الباث من واقع اللفظ المتحلي بهتين الصفتين يستطيع المتلقي أن يدرك أبعاده، وإنّما يحاول بالقدر الكافي أن يجعل من وثوق اللفظ وفخامته السهلة تتماشى وطبيعة أحوال واقع المتلقي بالقرائن التي يعيها بحق وكذا المستلزمات الحوارية الجدلية التي يدرك أبعادها، ومن هنا وجدنا دليل إشهار اللفظ من قبل الباث ينبغي أن يحقق معنى لدى المتلقي الذي به تتحقق العملية التواصلية. أما في حق المعنى فينبغي أن يكون معناه ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، وهي لفتة لطيفة تؤهل من المتلقي يكون في أتم الاستعداد في تقبل الحقائق التي يحتويها اللفظ، وذلك لتوفر هذا الأخير بالظهور والقرب؛على أساس أنّهما من الحجر الأساس في تحقيق مبدأ حواري يصب في عمق التواصل الإشهاري. أبعد من ذلك أنّ في ظهور وكشف وقرب ومعرفة المعنى من الدلالة الضمنية ما يجعل الاستلزام الحواري القائم بين الباث والمتلقي يحقق ضابطا تواصليا من نوع خاص ؛ إذ حاجة إشهار ما يريده الباث تقتضي أن يسلك سلوكا بائنا مكشوفا غير قائم على مبدأ الغموض والإبهام المنافي لدليل الاستلزام.
ثم في قوله :
"إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامّة إن كنت للعامة أردت"
15دليل آخر على مدى تبيان درجة الاستلزام الحواري في علاقته بدليل الإشهار ومفادُه بأنّ طبيعة اللفظ المحقق للغالبية الشروط التي ذكرناها في النقاط السالفة الذكر يجعل من مرسل الخطاب يراعي أغلى شيء في عملية التواصل، وهو مفهوم الطبقة من بني البشر ؛ إذ الناس على صنفين إما الخاصّة أو العامة، فالخاصة لهم لغتهم وشفرتهم المنفردة التي ينبغي أن يُخاطبوا بها، كما لهم من الإجراءات الحوارية ما ينسجم مع طبيعتهم التصورية، فيلجأ حينها الباث أو مرسل الخطاب إلى الاهتمام البالغ إلى هذا النوع من المعاملة لكي يعطي للمتلقي حقّه الوجودي والمعرفي في إدراك قصدية الخطاب الموجّه إليه؛على أن يكون للعامة دليل استلزامي حواري يتماشى وإدراكاتهم العامة التي لا تصل إلى درجة أهل الخواص؛إذ المتلقي فيها يكفيه من عمومية اللفظ ما يدرك قصدية الباث ولو من جانب معين.
16غير أنّنا نجد مسار الخطاب التواصلي عند بشر بن المعتمر يتخذ لنفسه بُعدا آخرا في النص الثاني هو أشمل بكثير مما هو عليه في النص الأول، وذلك أنّه ينتقل بعملية البث التي يقوم بها مرسل الخطاب من مستوى التجريد-إن صح هذا الحكم-إلى مستوى فعلي حركي مباشر في حق واقع المتلقي؛على قاعدة شرط الاهتمام والرعاية به بحكم أنّه يمثل الحجر الأساس في عملية التواصل وهو ما نجده بحق من أهم المرتكزات المنهجية الذي يركز عليه دليل الإشهار في علاقته بمبدأ الاستلزام الحواري ؛ فنقول حينها :
إنّ قوله :
"وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين ، وبين أقدار الحالات، "
17يعكس ضمنيا حقيقة معرفية مفادُها بأنّ المتكلم أو مرسل الخطاب ينبغي عليه أن يراعي في فعله الإنجازي مهما كان نوعه أو جنسُه قدر المعنى الذي يحويه، لكي يوازن بينه وبين قدر المستمع، وبين قدر الحالة التي يتعامل معها. لكن ما هو الضابط الاستلزامي الحواري الجدلي الذي يوليه الاهتمام في هذه العملية بالذات؟. المعلوم في الخطاب الإشهاري أنّه يعطي للمتلقي حقّه في الاستمتاع بما هو كائن في ظاهر الإشهار وباطنه؛ الأمر الذي يجعل من الواقع الخارجي للفظ الإشهاري يعكس لدى المتلقي عدة حقائق يكتنفها هذا اللفظ، ولإيصال قصدية دليل الإشهار لدى المتلقي ينبغي لمرسل الخطاب أن يقدم للمتلقي من الألفاظ ما يحقق نوعا من التلازم الحواري ما يجعل لغة الإشهار تصل إلى عمق قصدية المتلقي؛ فيعرف حينها البعد الإشهاري ما يحتويه من معان وأبعاد. إنّه قدر المعنى الذي يجب أن يتماشى مع قدر المتلقي/المستمع، ومنه قدر الحالات ؛ إذ كل حالة هي في حقيقة أمرها تمثل الشرعية المعرفية لدليل الاستلزام الحواري حتى يجعل من دليل الإشهار يستطيع أن يحط رحاله كاملة عبر السياقات التي يتعامل معها.
إنّ قوله :
" فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما، "
18ما يفي بالغرض المقصود الكائن في لب دليل الإشهار القائم على مبدأ الاحتواء؛الأمر الذي يؤهّل سلفا من الإنجاز الفعلي للحدث الكلامي أنّ هناك طبقة من المتلقين لهم من الكلام ما يليق بواقعهم الإدراكي والاستيعابي، وأنّ هناك حالات تتماشى وما يقتضيه المقام؛ إذ لكل مقام مقال على حد تعبير القدامى. لكن أين يلتقي مفهوم"الطبقة"الوارد على لسان بشر بن المعتمر مع دليل الإشهار في علاقته بالاستلزام الحواري؟. الحقيقة أنّ المقصود بالطبقة يعكس واقع المتلقي بما له القدرة الكافية في عملية الاستيعاب، وهو ما نشاهده في دليل الإشهار حين يكتب مرسل الخطاب أو يصور أو يتلفظ أو يشير بأحد لوازم الإشارة أو غيرها، فإنّه يضع نصب عينيه بأنّ مثل هذا الإنجاز الفعلي لبعد الكلام أن يراعي أنّ هناك طبقات في عملية التلقي؛إذ كل طبقة لها من الأهلية في إدراك المعنى وتقديره حسب القدرة الإدراكية التي تمتلكها وتتمتع بها في هذا الوجود، وعليه كان مبدأ الاستلزام الحواري يعطي اهتماما بالغا إلى هذا النوع من التقدير في عملية التواصل القائمة بيم الباث والمتلقي.
ثم إنّ في قوله :
"حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، وأقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات"
19ما يحقق بحق لدليل الإشهار شرعيته المعرفية والإجرائية في تحقيق استلزام حواري جدلي بين الباث والمتلقي يختلف بحسب المقامات والأحوال تبعا لحركية السياقات.
20والحديث عن بُعد الخطاب الإشهاري في علاقته بالوظيفة اللغوية لا يتوقف عند هذا الحد فحسب، وإنّما يتوغل ليصل مداه إلى ما يمكن تسميته بوسائل الإعلام؛هذا الأخير الذي يجد متنفسّه الوجودي والمعرفي في ظل علاقة اللغة بمستخدميها في إطار تحقيق تواصل يتماشى ومقصدية المقامات. وعليه لا ضير من الإشارة إلى هذه المعاني باختصار شديد فنقول :
21ثمة علاقة حميمة يعرفها العام والخاص بين اللغة ووسائل الإعلام بكل صورها وأشكالها الداخلية والخارجية؛على أساس أنّ أنجع الطرق والسّبل في إثارة مشاعر الناس لا يمكن أن يبتعد عن مثل هذه الطريقة الأخيرة، بل أبعد من ذلك كله أنّنا نجد الخطاب السياسي من أهم مميزاته التي يرتكز عليها وهو يريد أن يثير فكرة معينة يريد الوصول إليها، إنّما يستخدم لغة معينة تتماشى إلى حدّ بعيد مع ما تقتضيه الفكرة التي يريد بثّها عند الصالح العام، أو لربّما كان ذلك قصد تجسيد تخطيط استراتيجي معين ومحكم، قصد بلوغ فكرة معينة تكون تبعا لسياق حالي معين.
  • 5 ينصبّ هذا المفهوم أساسا على وظيفة اللغة على أنها أداة تواصل بين أفراد معينين ينتمون إلى مجتمع لغوي (...)
22تجسيد ما يمكن تسميته باللغات المكاشفات أو باللغة المخادعة، ومن ثم فأنجع الطرق لتحقيق هذه النية أو المقصد لا يخرج عن سبيلين اثنين :الخطاب الاستهلاكي، ثم الخطاب الذاتي. هذان السبيلان يمكن أن يطلق عليهما عند أهل الاختصاص في المجال اللغوي بـ : ازدواجية اللغة (Bilinguisme5).
23لعل أهمّ ميزة ينماز بها أهل الاختصاص في مجال الحروب هو حسن استخدام واستغلال الكلمات؛على أساس أنّ الجماهير على الإطلاق-إلا من رحم ربّك-يتأثرون بالكلمة أو اللغة المنطوقة Langue parlée أكثر بكثير من الكلمة المكتوبة؛ومن ثم كانت القيادة أو عالم السلطة عبارة عن فن إثارة مشاعر الجماهير، والفضل كل الفضل إنّما يرجع للغة، وما بثّ فيها من أسرار وأبعاد.
24إنّه الخطاب الإشهاري بكل شموليته الإطلاقية التي تؤهله لأن يحقق عملية تواصلية بين اللغة كنظام واللغة كاستعمال لدى البشر وهو ما يجعل من الخطاب يأخذ مسارا معرفيا يؤتي أكله كل حين حسب ما تقتضيه ضرورة المجتمع البشري من أخذ وعطاء.
Haut de page

Notes

1 حساني، أحمد، مباحث في اللسانيات، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1994م، ص.67.
2 ينظر الجرجاني، عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق : محمد رشيد رضا، بيروت، دار المعرفة، ط2، دت (مقدمة الكتاب).
3 الجاحظ، البيان والتبيين : 1/ 135 139.
4 الجاحظ، المصدر نفسه، 139. وتجدر الملاحظة إلى أنّ ما أشار إليه بشر بن المعتمر وغيره من المعتزلة فيما يخصّ الوظيفة التّواصليّة (الإبلاغيّة) نجد ما يبرّره في الثقافة اللسانية المعاصرة وبالضّبط في المدرسة البنيويّة الوظيفية fonctionnel Structuralisme، وهي المدرسة التي راحت تعتني بوظيفة اللغة؛ ذلك ـ على حدّ اعتقاد أهل هذا الاتجاه ـ أنّ اللغة تكتنه في ذاتيّتها تركيبا نسقيّا وظيفيا، إذ إنّ كلّ مكوّن من مكونات بنيتها إنّما يهدف أساسا إلى تحقيق وظيفة ما، تتمحور في قصد المرسل أو الباثّ في العمليّة التّواصليّة (الإبلاغيّة) التي تتمّ بينه و بين المتلقّي المستمع.
ولمّا كان مسار حركيّة الوظائف بشكل عامّ يتغيّر ويتجدّد من سياق لآخر؛على أساس أنّ هذه الوظائف تحتلّ ركنا كيانيّا ووجوديا في بنية ذاتيّة اللغة بمفهومها الواسع الشّاسع، راحت حلقة براغ اللسانيّة Linguistique de système Prague تعنني بضرورة دراسة اللغة بوصفها نسقا وظيفيّاSystème Fonctionnel ونفس الأمر نجده مع جاكوبسونJakobson الذي يعدّ بحقّ المؤسّس لتلك الحلقة، حيث راح ينادي هذا الأخير بضرورة دراسة اللغة في تنوّعات واختلاف وظائفها تبعا لتغيّر حركيّة الواقع المتغيّر والمتجدّد، وهو بهذا يلتقي تماما مع ما أشار إليه بن المعتمر المعتزليّ حين كان يقسّم مراتب الحدث الكلامي حسب مراتب المستمع المتلقّي حتّى تتحقّق الوظيفة التّواصلية الإبلاغيّة بين المرسل والمستمع. يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى :
Kristeva, Julia, Le Langage cet inconnu, Seuil, p. 221
Jakobson, Essais de linguistique générale, Paris, Minuit, 1963, p. 213
5 ينصبّ هذا المفهوم أساسا على وظيفة اللغة على أنها أداة تواصل بين أفراد معينين ينتمون إلى مجتمع لغوي متجانس (Communauté linguistique) وتلك حقيقة أقرّها الباحث اللساني قديما وحديثا. ولعل مفهوم الوظيفة التواصلية للغة هو في حدّ ذاته المنطلق الأساسي للتصوّر الاجتماعي للغة على أنها تعكس مجموعة من الأعراف والعادات الاجتماعية التي يتمثلها أفراد المجتمع في تواصلهم نطقا ومكتوبا. وفي هذا الصدد يندرج اهتمام الباحثين في حقل تعليمية اللغات Didactique des langues بالتركيز على الخلفية الاجتماعية بكل خصوصياتها ابتداء من المحيط الثقافي والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية. وفي هذا السياق يتم الفصل في تعليمية اللغات بين اللغة الأم Langue maternelle واللغات الأجنبية Langue étrangère من حيث انتفاء المناهج والطرق الملائمة التي تراعي السياقات الاجتماعية المحيط باللغة موضوع الدراسة، على نحو ما يُعرف بالطرق المباشرة (Méthodes directes) والطرق السّمعية البصرية Méthodes audiovisuels. أما بالنسبة لتعليم اللغات الأجنبية مثلا لغير الناطقين بها ينبغي للباحثين المختصين في هذا الحقل التركيز على مراعاة الإطار الاجتماعي والثقافي لهذه اللغات وإدماجه باعتباره مكوّنا أساسيا في العملية التعليمية Opération didactique وهـو مــا يُــعــرف بـ (Le Bain linguistique) ؛ هذا المفهوم الذي يرتكز على ضرورة اكتساب تجربة لسانية انطلاقا من المحيط الفكري والثقافي للغة المدروسة.


---------------------------   
مختار لزعر, « مسار الخطاب التواصلي عند بشر بن المعتمر », Insaniyat / إنسانيات [En ligne], 46 | 2009, mis en ligne le 11 avril 2012, consulté le 01 janvier 2015. URL : http://insaniyat.revues.org/916------------------



مباركة رواد المدونة بحلول السنة الميلادية الجديدة 2015 م


أبارك حلول السنة الميلادية الجديدة 2015 م لكل زائري هذه المدونة  ويارب اجعلها سنة خير وبركة للجميع

 https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiFYGDUrIBbIds3vaZLJtPbl-b-j5xSOk2SvNCFAjje6lw0GDWKNMLltITEOQQ6HB6f5DR6z7fGUYg-GLTyLUnJK6x7wbLo5i4AAYwY6fAj1grFLmgtp6M_FzNRbvaLPjHQdXLVytKfq5s/s1600/934892_902311886453675_5120133390761873764_n.jpg