اللغة وإشكالية التواصل والدلالة
عزيز السراج
تقـديم:
هل يمكن وعي الذات
ووعي ما يحيط بها خارج إواليات اللغة وقوانينها؟ وهل يمكن تصور عالم إنساني يعج بالصفات
والتصورات وباقي التحديدات الأخرى خارج ما توفره اللغة من مفاهيم ومقولات؟ وهل يمكن،
ضمن هذا الوضع، أن نتصور لغة محايدة تكتفي بوصف العالم وصفا "موضوعيا" كما
هو دونما اعتبار لشيء آخر؟[i].
تشكل هذه الأسئلة
وغيرها منطلقات أو مدار اهتمامنا في هذه الورقة.
فإذا كانت اللسانيات
تتخذ اللغات الطبيعية موضوعا لها، فإن السيميولوجيا تتجاوز هذا المجال إلى دراسة مختلف
العلامات داخل الحقل الاجتماعي سواء كانت هذه العلامات لغوية أو غير اللغوية. من هذا
المنطلق بالذات اختلف النظر بخصوص الوظيفة الأساسية للغة بين اتجاهين: اتجاه يحددها
(اللغة) في الوظيفة التواصلية المباشرة، وهذا الاتجاه تحكمه النزعة الوظيفية، ويمثله
(الاتجاه) كل من (ج. مونان، إ. بويسنيس، وبرييطو)، واتجاه يحددها في الوظيفة الدلالية
ويمثله (الاتجاه) رولان بارت، الذي يعتبر السيميولوجيا هي العلم الذي يُعنَى بدراسة
أنظمة العلامات سواء كانت لغوية أو أيقونية أو حركية. وبالتالي، فإذا كانت اللسانيات
تدرس الأنظمة اللغوية، فإن السيميولوجيا تبحث في العلامات اللغوية وغير اللغوية التي
تنشأ في حضن المجتمع. وعلى هذا الأساس "عندما أعلن عن ميلاد السيميولوجيا باعتبارها
علما جديدا سيأخذ على عاتقه دراسة ما استعصى على الضبط والتحديد من خلال ما توفره العلوم
الأخرى، سارع الكثيرون إلى ربط هذا العلم بالتواصل الإنساني. فالسيميولوجيا في تصورهم
هي علم يختص بدراسة ما يعود إلى الظاهرة التواصلية في شكلها اللفظي أساسا. فالعلامات
هي أدوات يستعملها باث بشكل قصدي من أجل التواصل مع متلق ضمن دورة كلامية تكفل سوسور
مبكرا برسم حدودها في كتابه دروس في اللسانيات العامة وهي الخطاطة التي قادت الفرسان
الثلاثة (ج.مونان، ل. بريتيو، وإ، بويسينس) إلى الدعوة إلى التخلي عن عالم الدلالة
والاكتفاء برصد ووصف وتحليل حالات التواصل، اللفظي منه بالأساس."[2]
وعلى الرغم من الاعتراف
بالقيمة العلمية للأعمال التي قدمها هؤلاء، فإن الكثير من الباحثين ومن بينهم رولان
بارت "لم ير داعيا للفصل بين التواصل باعتباره نشاطا قائما على قصدية صريحة، وبين
الدلالة باعتبارها سيرورة لا تتحدد من خلال نية التأثير المباشر في سلوك مخاطب مخصوص.
فالتواصل يتضمن بالضرورة حالات للتدليل، والدلالة لا يمكن أن تخلو من قصدية البلاغية
صريحة، أو مفترضة فقط من خلال المقام التلفظي."[3]
وهنا لا بد من توضيح إشكالية كبرى رافقت تطور مفهوم السيميولوجيا هي إشكالية التواصل
والدلالة. فماذا عن هذه الإشكالية؟
للإجابة عن هذا التساؤل
سنحاول رصد قضية اللغة في سيميولوجيا التواصل وسيميولوجيا الدلالة.
1-قضية اللغة في سيميولوجيا
التواصل:
خضعت اللغة موضوع
الدرس اللساني لتصورات مختلفة وصلت إلى حد التباين، فقد اعتبرت اللسانيات البنيوية
اللغة مجموعة من الملفوظات يتعين وصفها وتصنيفها وصفا واقعيا. في حين حوَّل شومسكي
مجال البحث اللساني من دراسة اللغة باعتبارها موضوعا خارجيا إلى دراسة نسق المعرفة
اللغوية المكتسبة والمتمثلة في دماغ المتكلم، بذلك شكلت "القدرة النحوية"
موضوع البحث اللساني التوليدي.
ومثلما نازع التوليديون
البنيويون في موضوع النظرية اللسانية، نازع الوظيفيون التوليديون في موضوع اللسانيات
وأسسها وتوجهاتها، إذ بظهور اللسانيات الوظيفية أصبح موضوع النظرية اللسانية هو[4]
"القدرة التواصلية" الذي يرجع أصل ظهوره كما بين هايمز HYMES إلى التقاء تيارين متمايزين هما النحو التوليدي التحويلي وإثنوجرافيا التواصل
لاشتراكهما معا في البحث عن نوع وطبيعة الطاقات التي يتوفر عليها مستعملو اللغة الطبيعية.
إن وظيفة اللغة التواصلية
تعطي لمستعمل اللغة الطبيعية إمكان التواصل، وإمكان توظيف العبارات في المقامات المناسبة.
…وعلى هذا الأساس فإن منطلق الوظيفيين يمكن
تلخيصه في مسألتين أساسيتين[5]:
أ- الوظيفة الأولى
للغة هي التواصل.
ب- تحدد الأهداف التواصلية
بنيات اللغات الطبيعية.
ولعل هذا هو المبدأ
الذي يحكم أيضا رواد سيميولوجيا التواصل، حيث يرى أنصار هذا الاتجاه في الدليل
"le signe" غير كونه أداة
تواصلية أو أداة قصد تواصلي. "إن الوظيفة الخاصة بالبنيات السيميوطيقية التي نسميها
بالألسنة هي التواصل. ولا تختص هذه الوظيفة بالألسنة فقط، وإنما توجد أيضا في البنيات
السيميوطيقية التي تشكلها الأنواع السننية غير اللسانية".[6] وبذلك يمكن للسيميولوجيا حسب بوسينس أن
تعرف باعتبارها "دراسة طرق التواصل، أي دراسة الوسائل المستخدمة للتأثير على
الغير والمعترف بها بتلك الصفة من قبل الشخص الذي يتوخى التأثير"[7]. وقد طالب بويسنس وبرييطو ومونان تلافيا لتفكيك
موضوع السيميولوجيا بالعودة إلى الفكرة السوسيرية، بشأن الطبيعة الاجتماعية
للعلامات، لقد حصروا السيميولوجيا بمعناها الدقيق، في دراسة أنساق العلامات ذات
الوظيفة التواصلية. والتواصل لدى بويسنس هو الهدف المقصود من
السيميولوجيا، بل إن السيميولوجيا، كما يرى برييطو، ينبغي عليها أن تهتم، فيما يرى
بويسنس، بالوقائع القابلة بالإدراك والمرتبطة بحالات الوعي والمنتجة بقصد التعريف بحالات
الوعي هاته.[8]
وبعبارة أخرى، فإن
التواصل هو الذي يشكل موضوع السيميولوجيا. "والتواصل المقصود هو من جنس التواصل
الإنساني، لأن هذا التواصل هو التواصل الحق".[9]
وإذا أخذنا بعين الاعتبار
كل ما سبق فإن موضوع السيميولوجيا هو الدلائل القائمة على القصدية التواصلية، ولهذا
السبب سميت هذه السيميولوجيا سيميولوجيا التواصل.
2-
قضية اللغة في سيميولوجيا الدلالة.
يعزى هذا الاتجاه
إلى رولان بارت الذي يرى أن جزءا كاملا من البحث السميولوجي المعاصر مرده، بدون انقطاع،
إلى مسألة الدلالة: فعلم النفس والبنيوية وبعض المحاولات الجديدة للنقد الأدبي (…)
كل ذلك لا يدرس، أبدا، الواقعة إلا باعتبارها دالة. وافتراض الدلالة يعني اللجوء إلى
السيميولوجيا.[10]
وعليه، فإن المقاربة السيميولوجيا مقاربة ضرورية لأن كل الوقائع دالة.
وإذا كانت اللغة*،
كما يوضح كلود ليفي ستراوس، هي الخط الفاصل بين الطبيعة والثقافة، فذلك لأن اللغة تنفرد
بميزة إنسانية، وثقافية، واجتماعية. من هذه الزاوية بالذات ينظر بارت إلى اللغة بوصفها
واقعة ثقافية، بالمفهوم السيميولوجي للكلمة، مرتبط بالقيم: العلمية، والفكرية، والفنية.
وبالتالي، فاللغة هي نشاط إنساني الغرض منه، أساسا، التواصل وتوظيف للثقافة وتنشيط
ودينامية لها. على اعتبار أن دلالة الأشياء لا تنشأ خارج اللغة؛ بل داخلها. وعليه،
فعندما ننتقل إلى مجموعات ذات عمق سوسيولوجي حقيقي، فإننا نواجه مجددا اللغة، ومن الأكيد
أن الأشياء والصور السلوكات يمكنها أن تدل – وهي تقوم بذلك بوفرة – إلا أنها لا تقوم
بذلك، أبدا، بصورة مستقلة. "إن كل نسق سيميولوجي يمتزج باللغة"[11].
إن كل المجالات المعرفية ذات العمق السوسيولوجي الحقيقي تفرض علينا، مواجهة
اللغة، ذلك أن "الأشياء" تحمل دلالات. غير أنه ما كان لها أن تكون أنساقا
سيميولوجية أو أنساق دالة لولا تدخل اللغة ولولا امتزاجها باللغة. فهي إذن، تكتسب صفة
النسق السيميولوجي من اللغة. وهذا ما دفع ببارت إلى أن يرى أنه من الصعب جدا تصور إمكان
وجود مدلولات نسق صور أو أشياء خارج اللغة، بحيث إن إدراك ما تدل عليه مادة ما يعني
اللجوء قدريا، إلى تقطيع اللغة، فلا وجود لمعنى إلا لما هو مسمى، وعالم المدلولات ليس
سوى عالم اللغة.[12]
وعليه، فالإنسان لا
يستطيع إدراك حياته الواقعية ما لم يفترض في نشاطاته اليومية وسيطا رمزيا أو تمثيليا
يحدد وعيه بوجوده، تلك هي الحالة التي يصفها إيكو وهو يتحدث عن حقل السيميائيات وموضوعها.[13]
فالسيميائيات هي دراسة للثقافة باعتبارها النموذج الكلي الذي يشتمل على كل حالات التواصل
الإنساني. فلا يمكن تصور النشاط الثقافي – العنصر المحدد للوجود الإنساني – إلا من
خلال زاوية تواصلية.[14]
فما الذي يجمع بين
أشياء متنافرة جدا، كاللباس والسيارة والطبق والأفلام والموسيقى والصور الإشهارية وغيرها؟
إنها تجتمع على الأقل في كونها علامات أو أدلة. إننا نصادف هذه الأشياء في حياتنا اليومية،
وإننا نخضعها بدافع الحاجة ودون وعي لنشاط القراءة، فالسيارة تدلني على الوضع الاجتماعي
لصاحبها، واللباس يدلني على مقدار امتثال صاحبه، والمشروب أو الطبق يطلعني على أسلوب
مضيفي في الحياة.[15]
تأسيسا على ذلك لم
تعد اللغة تشتمل فقط الأنساق اللفظية المنطوقة أو المكتوبة أو المصورة، بل أصبحت تشمل
كل الوقائع الثقافية المرتبطة بنشاط الإنسان وسلوكاته. وعليه فالتواصل بُعد أساسي للغة
والثقافة على حد سواء، على اعتبار أن "التواصل لا يقتصر فقط على توصيل الرسائل
اللفظية أو القصدية، إن التواصل كما نتصوره يشمل مجموع العمليات التي يتبادل بها المتخاطبون
التأثير. إن القارئ قد يعترف بهذا على أن هذا التحديد يقوم على مسلمة قول كل فعل وكل
حدث يوفران مظاهر تواصلية، بمجرد ما يتم إدراكها من قبل كائن أنساني"[16].
كل ما سبق يقودنا
إلى القول إن السيميولوجيا قد تم تفجيرها لكي تصبح تواصلا. "هذا التواصل قطع كل
الصلات التي تربطه بالنموذج الجاكويسوني البريء حيث المتكلم والمخاطب أقرب ما يكونان
إلى الآلات الصماء. إن هناك باثا يرسل إلى متلق ما عبر قناة خطابا ذا موضوع ما وبسنن
لغوي ما."[17]
وأخيرا وكخلاصة لكل
ما سبق نستطيع أن نقول إن في الطرح البارتي انتقادا لأنصار سيميولوجيا التواصل الذين
يعتبرون ما أتى به بارت عبارة عن أمارات وتجل بسيط. إلا أنه من الخطأ الاعتقاد بأن
علم الدلائل قد نشأ، أولا، باعتباره علما للغة اللفظية، ثم توسعت مقولات اللسانيات
بعد ذلك لتستوعب مظاهر أخرى. بينما يقضي المشروع الأصلي للسيميولوجيا بالاعتراف بوجود
"دليلية" signicité أولية تتجلى في العَرَض والأمارة، وهذه الدليلية
التي نجدها أيضا فيما نسميه بالدلائل اللفظية.[18]
* على سبيل التركيب:
وفي الختام إذا كان
تيار سيميولوجيا التواصل يمثله باحثون (مونان، بويسنيس، برييطو…)
ينتمون إلى الطرح الوظيفي في اللسانيات الذي يرى أن اللغة تؤدي وظيفة تواصلية مباشرة.
فإن رولان بارت رائد سيميولوجيا الدلالة حاول تجاوز تصور الوظيفيين اللذين ربطوا بين
الدلالة والمقصدية، حيث جنح إلى توسيع حقل البحث في اللغة، على اعتبار أن إنتاج المعنى
وتوفير التواصل يمكنه أن يتم بواسطة أنساق لفظية وأنساق غير لفظية. ولعل هذا ما دفع
بارت إلى "أن يسند وظيفة التواصل إلى الأنساق اللسانية وإلى الأشياء (…)
وبما أن المعنى من إنتاج اللغة، فلا يمكن للسيميولوجيا إلا أن تلجأ إلى اللغة للوقوف
على دلالة الأشياء. وبذلك، فاللغة تعتبر نموذجا للسيميولوجيا إذ هي تمدنا بالمعاني
والمدلولات أي نموذج المعاني في السيميولوجيا نموذج لساني. بالإضافة إلى ذلك فإن اللغة
مكون للسيميولوجيا إذ يستحيل بناؤها ما لم تكن اللغة عنصرا بنائيا فيها."[19]
ولتحقيق هذا المسعى
توسل بارت بالمفاهيم اللسانية لمقاربة الظواهر السيميولوجية ك(نظام الموضة، الإشهار،
الجسد، والصورة…) ولعل هذا ما أثار حفيظة رواد
سيميولوجيا التواصل حيث يؤاخذ ج.مونان، بل ينتقد، بنوع من الشطط، استثمار بارت لمقولات
ومفاهيم لسانية كتنائية (اللسان/ الكلام) و(الدال/المدلول) و(المركب/النظام)، واستخدامها
في مجال النقد الأدبي أو ما دعوه بعد بارت بالنقد السميائي****sémio-critique . ولعل خلفيات هذا
الصراع بين التيارين تكمن، في نظرنا، في أن الإشكال الأعمق يتمثل في علاقة اللسانيات
بالسيميولوجيا.
[2] - سعيد بنكراد: استراتيجيات
التواصل من اللفظ إلى الإيماءة، علامات ع.21 س.2004. ص.4.
[3] - سعيد بنكراد: نفسه ص.4.
[4]- Hymes
(d) : vers la compétence de la communication. T.r , de l’anglais par
france – mulger. Paris. Hatier 1974.
[5] - مستفاد عن حافيظ سماعيلي علوي، في حديثه عن قضايا اللغة العربية
في اللسانيات الوظيفية عالم الفكر م.33 ع.2 س.2004. ص.200.201
[8] - مارسيلو داسكال: الاتجاهات
السيميولوجية المعاصرة ترجمة حنون مبارك وآخرين، إفريقيا الشرق الدار البيضاء س.1987
ص:10
[9] - حنون مبارك: دروس في
السيميائيات، دار توبقال للنشر،ط.1 س.1987 ص:73
[10]-Barthes (R) : mythologies, éd. Seuil p.195-196
* - ملحوظة: عندما ألف بارت
كتابه (الدرجة الصفر للكتابة) لم يكن يمتلك معرفة جيدة بعلم اللسانيات، وبالتالي فإن
تأمله كمؤرخ ماركسي للأدب، كانت تغذيه أعمال سارتر حول مفهوم"الإلتزام" ومع
ذلك تولد لديه، في ذلك الوقت إنهماك جديد ينم عن خصوبة مبكرة، ويتجلى هذا الانهماك
في حرصه على معالجة اللغة لا "كمنظومة للتواصل فحسب" بل كضرب من "إشارة
ينكشف من خلالها إختيار إيديلوجي إما واع أو لا واع". voir : Roger fayolle : la
critique. Ed. Armand collin- collection U paris.1978 p.207
[14] - سعيد بنكراد:
استراتيجيات التواصل من اللفظ إلى الإيماءة علامات عدد21 س.2004 ص:3.
[17] - محمد الوالي: السيميوطيقا والتواصل علامات ع.16. س.2001. ص.88.
[19] - حنون مبارك:
مرجع سابق ص:75.
** - ملحوظة: لقد أطلق بارت هذا المصطلح النقد السيميولوجي"sémio-critique" سنة 1966 في
كتابه "حفيف اللغة" للربط بين الأدب واللسانيات. ويعتبر النقد السيميولوجي
منهجا نقديا قائم الذات في مجال الدراسات الأدبية
مثله مثل النقد الاجتماعي والنقد النفسي. Voir :
Mohamed infi : introduction à la sémiocritique, publication de la faculté
de lettres Meknès 2002. P.8