الجمعة، 15 أبريل 2022

 

معجم الجائحة: التنوع المصطلحي وترجمته

سأل أحد المريدين شيخه ابن سينا: لماذا لا تكتب إلا بالعربية وأنت تتقن ألسنة أخرى عديدة من بينها الفارسية؟ فكان جوابه كالآتي: “أحب العربية وأكتب بها، لأن علوم الأوائل ترجمت إليها، واستقر فيها الاصطلاح”.

تسير هذه المساهمة في اتجاه تبيان قدرة اللغة العربية على تشييد منظومة اصطلاحية متكاملة في شتى العلوم والمعارف. وفي سياق موضوعنا. نطرح السؤال: إلى أي مدى تكون بنية العربية قابلة لاحتواء المتغيرات التي يفرضها تطور المعجم في صلته بالمستجدات العلمية والاجتماعية وغيرها؟

باغت فيروس كورونا العالم بجبروت متعدد الرؤوس، جبروت تاجي ينسجم مع اسمه وصفاته فغير السلوكات والقوانين والأعراف وأنماط التواصل. لم يكتف الفيروس التاجي بذلك فاخترق منظومة اللغة في أبعادها التواصلية والمعجمية والعلمية والاجتماعية.

من نافل القول الـتأكيد على أن أنظمة التواصل والتعبير هي أول ما يمس الإنسان والمجتمع في لحظات التحول والأزمات. ولأن الذهن البشري قادر على إنتاج عدد غير محدود من التعابير الاصطلاحية والاستعارات والكنايات وأشكال لا حصر لها من الصيغ المجازية فقد نحت العالم وفي كل اللغات أشكالا متنوعة من التعبير تبدأ من استعارات اتفاقية إلى استعارات حية أو تتحول من استعارات مبدعة إلى استعارات جامدة. وخلق في لغاته المتداولة أشكالا من السخرية والفكاهة. واستقى من لغات أخرى عبارات ومصطلحات تتفاوت من حيث المرجعية العلمية أو التداول الشعبي ومن حيث القوة المصطلحية أو الاستعمال الهجين بين الدقة والمرونة.

تقودنا هذه المقدمات إلى طرح سؤالين جوهريين:

1/ إلى أي حد يحتاج المجتمع خلال فترة الأزمات (حروب أو أوبئة) إلى مرونة اللغة وقدرتها على احتواء هذه الحاجيات وترجمتها إلى تعابير جديدة أو محورة؟

2/ هل يمكن – خارج التطور العادي للغات – أن تتوسع اللغة وتتمدد وتزيد في معجمها تلبية لتحولات اجتماعية طارئة أو لحاجات تفرضها بعض الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية؟

سنحلل هذه الأسئلة المتداخلة من ثلاثة مستويات من المقاربة:

  • مستوى التوسع المجازي
  • العربية والتنوع الاصطلاحي
  • مصطلحات كوفيد والكفاءة الترجمية

1/ التوسع المجازي

في مقال لها عن “الاستعارة الاصطلاحية من زاوية نظر معرفية”، تؤكد إزابيل أوليفييرا أن هذه الأخيرة ليست مسألة لغة، بل تخص بالأساس البنينة التصورية[1]، وبالتالي يمكن تعريفها كالآتي: “الاستعارة الاصطلاحية بعيدة كل البعد عن كونها طريقة بسيطة للتحدث، إنها بالأساس وسيلة للتفكير. ومن المسلم به أنها استعارة متخيلة، ولكن بمجرد إعادة استثمار هذه الاستعارة في ممارسة اجتماعية، بمجرد تحديد معناها من قبل الجهات الفاعلة التي تشتغل في إطار هذه الممارسة، فإنها تصبح تعبيرا عن مفهوم جديد”[2].

لقد أسهب لا يكوف وجونسون الحديث عن هذه البنينة الاستعارية والتصورية في كتابهما التأسيسي الاستعارات التي نحيا بها حين اعتبرا منذ الفصل الأول من الكتاب أن “الجزء الأكبر من نسقنا التصوري العادي استعاري من حيث طبيعته[3]، وذلك حين حللا مفهوم الجدال والاستعارة التصورية: الجدال حرب، و”ذلك لإعطاء فكرة عما يجعل من تصور ما تصورا استعاريا، ويبنين بذلك نشاطا من أنشطتنا اليومية[4].

إن مثال: الجدال حرب “يبنين (على الأقل جزئيا) ما نفعله حين نتجادل، ويبنين الطريقة التي نفهم بها ما نفعله. يكمن جوهر الاستعارة في كونها تتيح فهم شيء ما (وتجربته) انطلاقا من شيء آخر. إلا أن هذا لا يعني أن الجدال يعد فرعا من الحرب، فالجدالات والحروب نوعان من الأشياء مختلفان (الخطاب الكلامي والصراع المسلح)، والأنشطة المنجزة في كليهما تختلف. فالجدال، في جزء منه، مبنين ومفهوم ومنجز ومعلق عليه انطلاقا من الحرب. فأن نقول إن التصور مبنين استعاريا فمعنى ذلك أن الأنشطة واللغة مبنينان استعاريا.”[5]

إن هذه الوقفة عند البنينة الاستعارية من خلال استعارة الجدال حرب، يصب مباشرة في موضوعنا الذي يعالج التحول والتوسع المجازي داخل معجم الوباء ومن خلال بنية اصطلاحية ذات خلفية طبية أساسا.

تبنى القواميس من خلال قدرة اللغة على التطور داخل سياقاتها الاجتماعية والثقافية، لكنها تبنى كذلك من خلال الإبداعية الفطرية للمتكلم، وهي إبداعية لصيقة بظروف العيش والمستجدات والطوارئ التي تفرض حضورها داخل وضعيات التواصل وخلق أو نحت الكلمات داخل معان جديدة أملتها سياقات جديدة أو ببساطة أملاها التطور الطبيعي لحركة المجتمع والإنسان.

وقد رافق الانتشار السريع لجائحة كورونا التي أرعبت العالم بدون استثناء، تشكيلة معجمية وتعبيرية ارتكزت على مفهوم الحرب، واعتبرت الوباء عدوا والاجراءات المتخذة لمواجهته معدات حربية هدفها الانتصار عليه ودحره وإلزامه بالتراجع خارج أرض المعركة. من هنا إشارتنا أعلاه إلى مسألة البنينة الاستعارية التي خلقت التوتر الدلالي بين الوباء والحرب وجعلت التركيب المجازي في خدمة هذا التوتر.

من ذلك فإن الخطاب السياسي الذي أتى على لسان العديد من زعماء الدول، ركز بإلحاح على الخاصية الحربية للوباء موظفين استعارات الحرب المتوفرة من أجل صياغة تعابير استعارية جديدة تحيل أساسا على وضعية التأهب من أجل المواجهة. من أمثلة ذلك ما جاء في أقوال بعضهم: شنُّ حرب شعبية على الفيروس كما قال الزعيم الصيني شي جي بينغ، وإعلان الرئيس الفرنسي ماكرون أن البلاد تواجه حربا مع عدو غير مرئي بعيد المنال، أما المفوض الإيطالي الخاص لحالات الطوارئ الناجمة عن الفيروس فقد قال إن على البلاد أن تجهز نفسها لمواجهة عدو غير مرئي. رئيس الوزراء البريطاني من جهته اعتبر أن معركة مواطنيه مع الجائحة تم فيها تجنيد كل مواطن. أما دونالد ترامب فقد اعتبر نفسه رئيسا في زمن الحرب. وفي مصر أطلق الإعلام تعبير جيش مصر الأبيض لوصف الأطباء الموجودين في الصفوف الأمامية.[6]

ما يمكن ملاحظته أن خطاب الساسة خصص معجما قتاليا في وصف التعبئة التي يمارسها كل بلد في مواجهة الوباء، وهو سلوك لغوي طبيعي حين يتعلق بإنتاج صيغ مبتكرة في التعبير تعتمد على الخيال والابداعية اللغوية من أجل وصف حجم المشكلة التي تقض مضجع الجميع. والملاحظ كذلك أن هذه الأمثلة من الخطاب السياسي وظفت معجما ملائما في التعبير عن الحرب في مواجهة الوباء: العدو، التجنيد، الجيش، اقتصاد الحرب. ومن خلال هذا المعجم وطرائق توظيفه وصياغته، يمكن صياغة الاستعارة الآتية: الجائحة عدو. وهي استعارة تستلهم نموذج لايكوف وجونسون في البنينة الاستعارية التي بموجبها نصوغ استعارات تلائم الثقافات التي ننتمي إليها. ولن يجادلنا أحد حين نؤكد أن الخلفية التي توجه أغلب الثقافات الإنسانية في الزمن الحاضر هي خلفيات صراعية حربية قتالية في كل المجالات الحيوية (لنتذكر كيف جَيَّشتْ أمريكا ترسانة من الاستعارات الحربية والأيديولوجية لتبرر حرب الخليج الأولى والثانية ولتجعل من نفسها ضحية أمام صدام الجلاد)[7]. وهذا ما جعل البعض يتحفظ في التعامل مع الوباء باعتباره عدوا لأن لغة الحرب لم تكتف بغزو الاقتصاد والمجتمع، بل انتهت إلى التسلل إلى أكثر المجالات هشاشة عند الإنسان هي المرض والموت.

وعلى سبيل التركيب فإن عبارة التوسع التي عنونت بها هذه الفقرة تسير في اتجاه أن التعبير البشري وسع مقاصده داخل دائرة الخيال ليجعل من وضعية طارئة مجالا لتوظيف مفهوم الحرب داخل مفهوم المرض أي أن المتكلمين سواء كانوا رجال سياسة أم متكلمين عاديين بَنْيَنُوا من خلال طاقتهم المتخيلة معجم الحرب داخل مفهوم الوباء، وهو ما جعلنا نقترح الصياغة الاستعارية المذكورة: الجائحة عدو.

2/ العربية والتنوع الاصطلاحي

أقصد بالتنوع الاصطلاحي إمكانية اللغة في الاستيعاب والاحتواء والتعبير الترادفي والمشتق والمتعدد لشتى المعاني بما تحمله من فروق دقيقة بين دلالة وأخرى. وفي سياق موضوعنا، عرف الحديث العلمي والإعلامي والمتداول تطورا متسارعا للعبارات المحيلة على تطور الوضعية الوبائية لما سمي بعد أسابيع قليلة بـ”كوفيد 19″.

جميعنا يتذكر كيف أن انطلاقة الحديث عن الوباء بدأت بمصطلح “فيروس” الذي انتقل بسرعة إلى الحديث عن الوباء Epidémie، قبل أن تبادر منظمة الصحة العالمية أسابيع قليلة إلى دق ناقوس الإنذار بالانتقال المصطلحي من “الوباء” إلى “الجائحة” Pandémie.

الوباء في المعاجم العربية هو كُلُّ مرضٍ شديد العدوى، سريع الانتشار من مكان إلى مكان، يصيب الإنسان والحيوان والنَّبات. وفي لسان العرب: ” الوَبَأُ: الطاعون بالقصر والمد والهمز. وقيل هو كلُّ مَرَضٍ عامٍّ، وفي الحديث: إِن هذا الوَبَاءَ رِجْزٌ. وجمعُ الـممدود أَوْبِيةٌ وجمع المقصور أَوْباءٌ، وقد وَبِئَتِ الأَرضُ تَوْبَأُ وَبَأً.”

أما الجائحة في المعاجم العربية هي البَلِيَّةٌ، والتَهْلُكَةٌ، والدَاهِيَة. وهي في معجم العربية المعاصرة: مصيبة تحلُّ بالرَّجل في ماله فتجتاحه كلَّه “أصابته جائحةٌ هذا العام”، وسنة جائحة: جَدْبة، غبراء، قاحلة. وما أذهب الثَّمرَ أو بعضَه من آفة سماويّة. وتأتي بمعنى النكبة أي المصيبة والصدمة الفادحة، وهي ما يصيب الإنسان من حوادث الدهر وصدَماته. قال ابن دريد في “الجمهرة”: “أصابته نكبةٌ من الدهر، أي: جائحةٌ”. ثم هي الوباءُ العابرُ للحدود. جاء في “معجم الوبائيات” الذي ترجمته منظمة الصحة العالمية: “الجائحة (Pandemic) وباءٌ يجتاح مساحةً واسعةً، ويتجاوز الحدودَ الدولية، ويصيبُ عدداً كبيراً من الناس”. وهو بذلك يختلف عن الوباء (Epidemic) المحصور، ومثلَخَّصه انتشارُ مرضٍ ما بشكلٍ واسعٍ في منطقة معينة ضمن نطاق زمني محدَّد.

وذهب ابن فارس (395 هـ) في “المقاييس” إلى أن الجيم والواو والحاء تعود إلى أصلٍ واحدٍ هو الاستئصالُ، ونُقِلَ هذا المعنى عنه من بعدُ في “الصِّحاح” و”اللسان” و”تاج العروس.8

ففي لسان العرب، الجَوْحُ: الاستئصال، من الاجْتِياح. جاحَتهم السَّنة جَوحاً وجِياحة وأَجاحَتهم واجتاحَتْهم: استأْصلت أَموالهم، وهي تَجُوحُهم جَوْحاً وجِياحة، وهي سَنَة جائحة: جَدْبة. والجَوْحةُ والجائحة: الشدّة والنازلة العظيمة التي تَجتاح المالَ من سَنَةٍ أَو فتنة. وكل ما استأْصله: فقد جاحَه واجْتاحَه.

لقد أعلن قاموس ميريام ويبستر الأمريكي يوم 30 نونبر كلمة الجائحة كلمة العام. وقال بيتر سوكولوفسكي، محرر قاموس “ميريام ويبستر”، لوكالة “أسوشيتيد برس”: “ربما لا يشكل هذا الاختيار صدمة كبيرة”، حيث تُعرّف الجائحة، في صيغتها الاسمية، من خلال القاموس، على أنها تفشي مرض يحدث في منطقة جغرافية واسعة (مثل بلدان أو قارات متعددة) وتؤثر عادة على نسبة كبيرة من السكان.

وأضاف سوكولوفسكي: “غالبا ما يكون للقصة الإخبارية الكبيرة كلمة تقنية مرتبطة بها وفي هذه الحالة، فإن كلمة جائحة ليست مجرد كلمة تقنية ولكنها أصبحت كلمة شائعة هذا العام. ومن المحتمل أن تكون هذه هي الكلمة التي سنشير بها إلى هذه الفترة في المستقبل”. وأعلنت منظمة الصحة العالمية في 11 مارس الماضي عن اعتبار تفشي فيروس كورونا الجديد “جائحة”. وقال سوكولوفسكي إن عمليات البحث عن الكلمة في نفس اليوم كانت أعلى نسبة… مقارنة بنفس التاريخ من العام الماضي.[8]

وقد عرف هذا القاموس المعاصر الجائحة كما يلي: “حدث ينتشر فيه المرض بسرعة كبيرة ويصيب عدداً كبيراً من الناس في منطقة واسعة أو في جميع أنحاء العالم.[9]

لم يكن هدفنا من هذا الجرد القاموسي لمصطلحي الوباء والجائحة أن نقدم تفاصيل تعريفية من المعاجم العربية القديمة أو المعاجم الحديثة بقدر ما سعينا إلى لفت الانتباه إل بعض الأمور التي بدت لي أساسية في فهم تطور الألفاظ والاصطلاحات عبر العصور.

إن اطلاعا بسيطا على المصطلحات الثلاثة المحيلة حول تطور المرض تنقلنا من عبارة المرض الوافد أو المتوطن Endémie إلى الوباء Epidémie فالجائحة Pandémie. وإذا تأملنا تطورات هذه المعاني في اللغة العربية نجد أن المرض الوافد يعني المرض المنتشر على مستوى الوطن وهو ما لم يشر به إلى كوفيد بسبب انتقاله بسرعة إلى الانتشارية خارج حدود الصين. أما الأساسي في ملاحظاتنا فهو أن العبارات الدالة على الوباء والجائحة لم تكن تعني بالتحديد معناها المباشر في القواميس العربية القديمة إذ الملاحظ أن التعريفات الواردة ارتكزت على المجاز وخصوصا المؤشرات الكنائية في التعريف، فالوباء كان يحيل مباشرة إلى الطاعون ثم إلى المرض العام ثم إلى الرجز وهو الذنب أو العذاب. ومعنى هذا أن الانتقال من اللغوي المتداول لم يكن يسيرا بدون اللجوء إلى الصيغ المجازية التي ألحقت الوباء بالطاعون ثم بالرجز بناء على علاقة الإحالة الكنائية، فالوباء كناية عن المرض وهو كناية عن الطاعون الذي لم يكن معروفا داءٌ غيره، ثم إلى العذاب بناء علاقة السببية التي تجعل كل وباء مسببا لعذاب أو ناتجا عن ذنب وفقا للمعتقدات السائدة.

وإذا عدنا إلى مصطلح الجائحة، فإن مدلولها كما ورد في لسان العرب كان متصلا بالبلية والداهية والتهلكة ومسببا لفناء المال والثمر. ولم يكن يشير أساسا إلى المرض المنتشر أو الذي ينتقل إلى مساحات جغرافية واسعة عبر العالم.  وفي هذا إشارة واضحة إلى قدرة العربية على استيعاب معاني جديدة داخل ألفاظها بحسب ما تقتضيه الحاجة. يؤكد ذلك انشغال عموم الناس بمعنى الجائحة بعد إعلان منظمة الصحة العالمية عن كوفيد باعتباره جائحة ينبغي التصدي لها. وصار هذا اللفظ في العربية هو الآخر كناية عن المرض الذي ينتشر بسرعة وخارج حدود المكان الذي انطلق منه وذلك بالتوافق مع مقابله الفرنسي أو الإنجليزي Pandemy.

3/ مصطلحات كوفيد والكفاءة الترجمية

نتوقف في هذه الفقرة عند القاموس الذي أصدره مكتب تنسيق التعريب بالرباط والذي يعتبر أول عمل قاموسي تعريفي مترجم لمصطلحات كوفيد[10]. إن توقفنا عند هذا الإنجاز يروم أساسا وبدون عمق كبير – لأن الأمر يتطلب دراسة خاصة – إضاءة الإمكانات التي توفرت للغة العربية في استيعاب المصطلحات الطبية للجائحة داخل بنيتها اللسانية.

يتأسس ما نقوم به في سياق الحديث عن مصطلحات الجائحة داخل اللغة العربية على ما يمكن تسميته بالوعي المصطلحي أي الرصد الضروري للإمكانات التي توفرها اللغة العربية لتستوعب البنيات الاصطلاحية الجديدة التي يفرضها تطور العلوم من جهة وما يستجد من أوضاع كما هو الحال مع جائحة كوفيد. إن التحدي الذي يواجه العلماء والمترجمين والمشتغلين بحقل الدراسات الاصطلاحية هو كيف يمكن صياغة المقابل الملائم لمصطلحات علمية وطبية نشأت في مناخ علمي ومختبري ينتجها من خلال الملاحظة والتجربة والتعميم؟ وفي سياق حديثنا: كيف اشتغل واضعو معجم مصطلحات كوفيد 19 لتقديم الصيغ المصطلحية المناسبة داخل اللغات الثلاث؟ وكيف تمكنت اللغة العربية من احتواء 350 مصطلحا – هو عدد كلمات المعجم – داخل بنيتها اللسانية؟

ما نسعى إلى تقديمه اليوم، ما هو إلا مقاربة أولية لأن الرصد المتعمق وتحليل الإشكالات المتصلة بصياغة المصطلح الطبي داخل اللغة العربية يحتاج لحيز وجهد يتجاوزان ما تسمح به إمكانات هذا المقال.

يقدم معجم مصطلحات كوفيد تشكيلة مصطلحية تتنوع بين ما هو طبي وشبه طبي واجتماعي وتوجيهي تحسيسي.

من حيث المصطلح وترجمته وتعريفاته

إن أول ما يمكن ملاحظته أن هذا المعجم صدر في زمن قياسي ووفر مادة معجمية تغطي أهم المصطلحات الخاصة بكوفيد سواء في شقها الطبي أو الاجتماعي.

وإذا أمعنا النظر في طبيعة الترجمة نلاحظ أن بعض المصطلحات ترجمت في عبارة واحدة بينما ترجمت مصطلحات أخرى في أكثر من كلمة. بل إن هناك مصطلحات تركت في صيغتها اللاتينية بحروف عربية. نلاحظ كذلك أن بعض المصطلحات ترجمت بألفاظ غير رائجة في العربية وتتسم بالغرابة والندرة. وهو أمر لا يعود إلى تقصير في عمل فريق الترجمة بقدر ما يرجع إلى صعوبة إيجاد العبارة الملائمة لبعض المفاهيم العلمية الدقيقة التي أنتجت في مناخ لساني مغاير.

وعلى هذا الأساس نطرح السؤال الآتي: هل يعود الأمر إلى قصور بنية اللغة العربية على إيجاد ما يلائم داخل بنيتها اللسانية؟ ولماذا في بعض المفاهيم نحتاج إل ترجمة المصطلح بأكثر من كلمة واحدة؟

لنلق نظرة على بعض الأمثلة:

ترجمت عبارة bacteriophage بـ: عاثية. وبالعودة إلى تعريفها في العربية نحد أن عثي تعني أفسد. ويعرف المعجم هذا المصطلح كالآتي:

فيروس يهاجم البكتيريا، يتضاعف الملتهم في الثوي المضيف الذي ينقسم إلى ملتهمات جديدة، وهناك لكل جرثوم معين ملتهم خاص[11].

تعرف موسوعة ويكيبيديا هذه المصطلح بالعبارة نفسها، غير أنها تقدم تعريفا أكثر وضوحا مما جاء أعلاه. وتعريفها يقول: العاثيات من أكثر الكائنات الحية شيوعاً على سطح الأرض. توجد منها مليارات في أمعاء الإنسان وتساعده في مكافحة البكتريا الضارة فيه. توفر أمعاء الإنسان لها وسطا معيشيا مناسبا، وتقوم هي بحماية الإنسان من بكتيريا ضارة إن أصابت أمعاءه. هذه النتيجة هي نتيجة جديدة (2013) أفصح عنها الدكتور “جرمي بار” من جامعة سان ديجو، كاليفورنيا.

ترجمت عبارة lavage brochoalveolar بـ: غسل القصبات والأسناخ. وتطرح عبارة الأسناخ بعض التشويش في الفهم، في حين أن هناك من يترجم les alveoli ب: الحويصلات وهي العبارة الأكثر شيوعا في الاصطلاح الطبي.

كما ترجمت عبارة commorbidité بـ: مراضة مشتركة وهي ترجمة في كلمتين لتعذر إيجاد المقابل الواحد في اللغة العربية وقد نترجمها كذلك ب: الاعتلال المشترك. اللافت للانتباه في تعريف المصطلح، ما يلي:

مرض أو مجموعة أمراض موجودة لدى المريض سابقا، تضاف إليها إصابته بمرض كوفيد 19.

يبدو هذا التعريف صحيحا جزئيا لكنه غير دقيق في مجمله، ذلك أن الاعتلال المشترك لا يعني فقط الإصابة بمرض ما ثم يأتي كوفيد لينضاف إلى ذلك المرض، بل إن المصطلح يعني الاعتلال المشترك في أكثر من مرض بغض النظر عن نوعه وطبيعته. فقد يكون هذا الاعتلال جامعا بين السكري وارتفاع ضغط الدم مثلا.

تلك عينة بسيطة ومحدودة، والملاحظات التي سجلناها حولها لا تنقص من الجهد المبذول في صناعة هذا المعجم، دليل ذلك أن أغلب المصطلحات ترجمت وعرفت بعناية فائقة. ما قصدناه من ملاحظاتنا، أمران: أولهما، أن تشييد معجم من هذا القبيل يحتاج تجنيد فرق علمية متعددة التخصصات تتحرى في أدق التفاصيل المرتبطة بالمفهوم وخلفياته والإمكانات اللسانية التي تتوفر عليها اللغة الهدف. وثانيهما: التأكيد على قدرة اللغة العربية على استيعاب مختلف المفاهيم العلمية داخل مجالها اللساني.

يتوجب على أهل الاختصاص ومن يمتلكون المسؤولية العلمية والسياسية أن يضعوا استراتيجيات عابرة للحدود بين البلاد العربية من أجل خلق مناخ علمي تكون العربية فيه قادرة على الإنتاج العلمي للمصطلح والمفهوم بما تمتلكه بنيتها من مرونة وقوة وطواعية للنحت والتجديد المصطلحي. لا ينبغي أن ننسى هنا أن أول كلية طب درست علومه باللغة العربية، تم إنشاؤها في سورية في الربع الأول من القرن العشرين. وفي هذه الإشارة التاريخية ما يؤكد الكفاءة والمرونة والقدرة النحوية والاشتقاقية للغة العربية في إمكانية خلق أو تعريب أو ترجمة المصطلح العلمي داخل مجالها المعجمي.

حاولت هذه الورقة أن تعالج بعض إشكالات معجم الجائحة من منظور لغوي ومصطلحي وبلاغي. غايتها في ذلك تبيان الإمكانات التي توفرها كل لغة في صياغة مفردات جديدة تلائم سياق الحال، إضافة إلى الخلفيات الأيديولوجية التي تتجه أحيانا إلى وضع إشكالي مستجد لنستخدم معجما يلائم وطبيعة الصراعات التي يعرفها عالم اليوم في كل المجالات والتي تعكسها أساسا خطابات السياسيين كما حدث مع المعجم والاستعارات المستحدثة بعد انتشار جائحة كوفيد في العالم بأسره.

 

 

الهوامش

1/Isabelle Oliveira, « la métaphore terminologique sous angle cognitif »,  Meta, Volume 50, Numéro 4, décembre 2005.

2/ ASSAL, J.-L. (1995) : « La métaphorisation terminologique », Terminology Update XXVIII-2, p. 22-24.

3/ جورج لايكوف ومارك جونسون، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، 1996، ص 21.

4/ المرجع نفسه، ص 22.

5/ المرجع نفسه، ص 23.

6/ استعارة الحرب ودلالات متحولة. كيف أثرت جائحة كورونا على اللغات؟ موقع الجزيرة الإلكتروني، 19 أكتوبر 2020.

https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2020/10/19/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%A9 %D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%AF%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D8%AB%D8%B1%D8%AA

7/ عالج لايكوف هذه الاستعارات القاتلة في كتابه حرب الخليج أو الاستعارات التي تقتل، ترجمة عبد المجيد جحفة وعبد الإله سليم، دار توبقال للنشر، 2005.

8/ يوسف الجوارنة، من معجم (كورونا) … الجائحة، مجلة الدستور، عمان، 23 أبريل 2020.

https://www.addustour.com/articles/1147701-%D9%85%D9%86-%D9%85%D8%B9%D8%AC%D9%85-(%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7)-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9

9/ قاموس “ميريام وبستر” يعلن “الجائحة” كلمة العام 2020، فوكس نيوز، 30 نونبر 2020/

https://arabic.rt.com/funny/1178630-%D9%82%D8%A7%D9%85%D9%88%D8%B3-%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A8%D8%B3%D8%AA%D8%B1-%D9%8A%D8%B9%D9%84%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9-%D9%83%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-2020/

10/ https://www.learnersdictionary.com/definition/pandemic

11/  DICTIONNAIRE TERMINOLOGIQUE COVID-19, Organisation Arabe pour l’Education, la Culture et les Sciences,  Bureau de Coordination d’Arabisation, 2020

12/ Ibid., p. 14.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق