الجمعة، 15 أبريل 2022

الصحراء من منظورٍ أنثروبولوجيٍ

 

الصحراء من منظورٍ أنثروبولوجيٍ

رحال بوبريك، المجتمع الصحراوي من عالم الخيمة إلى فضاء المدينة، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2021.

في التمهيد:

يعرض هذا المقال، بناءً على رؤيةٍ تحليليةٍ نقديةٍ، نتائج دراسةٍ حول المجتمع الصحراوي قيمةٍ في مجال الدراسات الصحراوية. فقد عانى البحث العلمي المتعلق بالصحراء الأطلنطية من فراغٍ معرفيٍ دام طويلاً خاصّةً في حقلي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، مما كرّس جهلاً بالفضاء الصحراوي، وثقافته، وبنائه الاجتماعي والاقتصادي. غير أن إنجاز أبحاثٍ علميةٍ رصينةٍ كهذه التي يتضمّنها كتاب “المجتمع الصحراوي من عالم الخيمة إلى فضاء المدينة” للباحث المغربي رحال بوبريك، قد أماطت اللثام عن كثيرٍ من الإشكالات التي ظلت بعيدةً عن التناول العلمي عند كثيرٍ من الباحثين المهتمين بهذا المجال.

وبناءً على ذلك، تروم هذه القراءة الوقوف على أهم القضايا الكبرى التي أثارها باحثنا في هذا العمل، انطلاقاً من قراءة وتحليل أهم الأفكار والمعارف والتحليلات التي يُقدمها. كما أسعى من خلال هذا العرض إلى تتبع الحسّ الأنثروبولوجي الذي يُعبر عنه رحال بوبريك في هذا الكتاب، والذي اعتمده كمنطلقٍ منهجيٍ ونظريٍ لتفكيك كثيرٍ من التيمات والمفاهيم التي يقف عندها من حين لآخر.

وفي مستهل القول، يرى الباحث الأنثروبولوجي الإسباني خوليو كارو باروخا (Julio Caro Baroja) أن السبق في الاهتمام بالمجتمعات البدوية يعود إلى الأنثربولوجيا الألمانية. حيث كشف الباحثون الألمان عن وجود ثقافةٍ بدويةٍ ورعويةٍ متميزةٍ انتشرت في مناطق واسعةٍ من العالم القديم، وفي أزمنةٍ متباينةٍ1. غير أنه لم يصل إلى المكتبة العربية من ذلك شيءٌ. والسبب في ذلك يعود طبعاً إلى عدم ترجمة تلك الأعمال إلى لغاتٍ يُتقنها الباحثون العرب، كما أنه لم تُعطَ أهميةٌ بالغةٌ للغة الألمانية وللإنتاج العلمي الألماني.

ومن ثم تظل الكتابات الإسبانية والفرنسية من أهم ما أُنتِج حول المجتمعات البدوية، إلى جانب الدراسات الإنجليزية التي أُنجِزت عن الرحل في مناطقٍ مختلفةٍ من العالم، وخاصّةً في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأستراليا. أما الأبحاث العربية فلا يوجد منها إلا النزر القليل، وخصوصًا حينما يتعلق الأمر بمجتمع الصحراء الأطلنطية. ولا ريب في أن كتاب “المجتمع الصحراوي من عالم الخيمة إلى فضاء المدينة” لرحال بوبريك، يُعد من أغنى ما كُتِب حول مجتمعات البدو، وما لحقها من تحولاتٍ معاصرةٍ على جميع المستويات.

وإذا أردنا أن نُعَرِّفَ بصاحب الكتاب رحال بوبريك، سنقول حتمًا إنه أنثروبولوجيٌ مغربيٌ متخصصٌ في أنثروبولوجيا المجتمعات الصحراوية،. وقد أصدر الباحث عددًا كبيرًا من الدراسات والمقالات تهم مجال الصحراء، منها هذا الكتاب الذي نحن بصدد قراءته ومناقشته في هذا المقال، وهو إنتاجٌ لتجربةٍ طويلةٍ في الاشتغال حول المجتمع الصحراوي تفوق عشرين سنةً من البحث والتقصي.

يُلقي رحال بوبريك الضوء في هذا العمل على موضوعٍ شائكٍ ومعقّدٍ، يقف من خلاله على حيثيات التحول في المجتمع الصحراوي، وذلك انطلاقًا من تتبع مسار انتقال الرحل من نمط الحياة البدوية، القائم على الترحال والتنقل الدائم بحثاً عن الماء والكلأ، إلى نمط العيش الحضري بالمدن المحدثة عقب الدخول الاستعماري إلى المنطقة. وحقيقةً، إن معالجة هذا الموضوع هو في غاية الصعوبة. إذ يحتاج الأمر من الدارس اكتساب معرفةٍ وخبرةٍ دقيقةٍ عن بنية المجتمع الصحراوي من جهةٍ، ثم التسلح بعدةٍ منهجيةٍ ونظريةٍ رصينةٍ تُمكن من دراسة المجتمعات المحلية بكثيرٍ من الحرفية من جهةٍ ثانيةٍ، على غرار ما قام به الباحث رحال بوبريك حينما استعار من الأنثروبولوجيا التاريخية مقاربته العلمية، وذلك أثناء دراسته لتطور أشكال ومظاهر التحضر ما قبل الاستعمار، مما مكنه من فهم سيرورة الانتقال من البداوة إلى الاستقرار والتوطين (ص. 7). كما اقتنص باحثنا أيضًا من السوسيولوجيا الحضرية (Louis Wirth) بعض المفاهيم والتحليلات النظرية حول الظاهرة الحضرية.

وعلى كل حالٍ، تأتي أهمية مُؤَلَّف “المجتمع الصحراوي من عالم الخيمة إلى فضاء البادية“، من حيث كونه يرصد لنا مباشرةً مسار التحول الذي عرفته الصحراء إثر الانتقال من عالم البادية، إلى فضاء المدينة بمقوماتها العصرية، وما واكب ذلك من تحولاتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ غيرت من ملامح المجتمع الصحراوي. إن إثارة هذا الموضوع يُظهر لنا أن المجال الصحراوي ما زال يغري الباحثين في العلوم الاجتماعية، رغم العديد من الدراسات التي أنجزت حوله في السنوات الأخيرة في مختلف التخصصات. فهناك مزيد من القضايا الجزئية التي لم تنل بعد حظها من الدراسة والبحث، خصوصًا وأن الأقاليم الصحراوية تعيش دائماً في تطور مستمر.  وعلى هذا الأساس فإن تحليل ومناقشة مباحث هذا المؤلف وفصوله، سيهيئ أمام الباحثين المهتمين بالدراسات الصحراوية، الطريق للكشف عن عدد من الإشكالات التي تستدعي البحث فيها مستقبلاً. فالبحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي حول الصحراء ما يزال في بداياته.

هذا، ويضم الكتاب الماثل أمامنا أربعة فصولٍ رئيسيةٍ؛ يتناول الفصل الأول منه عالم الخيمة كنمطٍ للسكن والتنظيم الاجتماعي، والثاني المدينة الصحراوية التقليدية في فترة ما قبل الاستعمار من خلال نموذجي گليميم والسّمارة، والثالث يتمحور حول الترحال أمام محك التحولات. أما الفصل الرابع فيناقش فيه الباحث نهاية الترحال وصيرورة الانتقال من الخيمة إلى المنزل وصولاً إلى الاجتثاث أو ما يسميه ﺑ”نهاية البداوة”.

أولاً: عن المرجعية النظرية والمنهجية للكتاب

لا شك أن متتبع كتابات رحال بوبريك سيلاحظ أن لديه اهتماماً خاصاً بأنثروبولوجيا المجتمعات الصحراوية. حيث كان يسعى دائمًا، إلى تبيان مدى غنى المجال الصحراوي وخصوبته ثقافياً واجتماعياً.  فلم تكن الصحراء بالنسبة إليه فضاءً عقيماً وثابتاً، بل عرفت ديناميكيةً ثقافيةً، واجتماعيةً وسياسيةً2، جعلت من الفضاء الصحراوي مجالاً فاعلاً وحركياً في تاريخ المجتمع البيضاني ومجتمع الشمال الغربي لإفريقيا ككل.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاهتمام العلمي يعكس انشغالاً مجتمعياً وتنموياً خاصاً بالصحراء، مما فرض طلباً متزايداً للقراء والمهتمين على الأبحاث التي تتناولها.  وتبعاً لذلك، يمكن اعتبار هذا الكتاب من تجليات المواكبة العلمية للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي عرفها المجال الصحراوي في السنوات الأخيرة، والتي من بين مؤشراتها ارتفاع نسب التمدن في المدن الصحراوية بفعل تزايد استقرار البدو الرحل، وبالتالي الانتقال من نمط الحياة البدوية إلى نمط العيش الحضري.

وفي ظل هذا السياق المجتمعي العام، الذي شكل عاملاً محفزاً لاهتمامٍ أكاديميٍ يستهدف إنتاج معرفةً علميةً تساعد على فهم حيثيات التحول في المجتمع الصحراوي وتفاعلاته المعقدة، باعتباره صيرورةً تاريخيةً وثقافيةً واجتماعيةً، تأتي مساهمة الباحث رحال بوبريك بهدف محاولة تفكيك خيوط هذا الموضوع الشائك. وذلك باعتماد مقاربةٍ أنثروبولوجيةٍ تاريخيةٍ، تأخذ بعين الاعتبار المدى الطويل في دراسة تطور أشكال ومظاهر التحضر ما قبل الاستعمار (وَلاّتة وگيلميم)، من خلال التركيز على مسار الانتقال من نمط عيش يَتَّكِئُ على البداوة والترحال إلى نمط جديد قِوَامُهُ الاستقرار بالمدن والمراكز الحضرية.  وهكذا، وبحسٍّ أنثروبولوجيٍ تاريخيٍّ عميقٍ ذي هدفٍ تحليليٍ وتفسيريٍ، حاول رحال بوبريك أن يضع إشكاليته في إطارٍ نظريٍ واضح.  وقد نجح في ذلك إلى حدٍّ بعيدٍ، حيث استحضر منذ البداية النظرية الأنثروبولوجية حول البداوة من خلال تصور جاك بيرك (Jaque Berque)، الذي اعتبر أن الترحال حالةً قصوى من تأقلم مجتمعٍ إنسانيٍ مع قساوة الوسط (ص. 5).

هذا وقد استند بوبريك في تحليله لتطور الظاهرة الحضرية بالصحراء على كتابات رواد السوسيولوجيا الأوائل، وخاصّةً ماكس فيبر (Max Weber) ولويس ويرث.  كما انفتح الباحث كذلك على حقولٍ معرفيةٍ أخرى قريبةٍ، ليستمد منها بعض المفاهيم والمعطيات التحليلية التي ساعدته على فهم إشكالية المدينة الصحراوية. ونخص بالذكر دراسات الجغرافي الفرنسي أوليفيى بليز (Olivier Pliez) حول المدن الصحراوية في ليبيا، وكتاب مدن موريتانيا العتيقة  لأخمد مولود ولد أيده الهلال، وغير ذلك من الدراسات الحديثة. كما استحضر نظرية المجال عند بيير بورديو (Pierre Bourdieu) في دراسته للخيمة كمجالٍ منزليٍ تحكمه مجموعةّ من القواعد، وينبني على تقسيمٍ منظمٍ للأدوار والوظائف والواجبات.  وعلى أية حالٍ، فإن تطور الظاهرة الحضرية في المدن الصحراوية، كما يقول رحال بوبريك، إنما هي عمليةّ بدأت منذ منتصف القرن الماضي لتأخذ شكلها النهائي في أواخر السبعينيات تزامناً مع حرب الصحراء، وهي المرحلة التي اتخذها الباحث كموضوع له في هذه الدراسة (ص. 8).

ثانياً: الخيمة رمزاً للبداوة

استهلّ الْمُؤَلِّفُ عمله البحثي هذا، بالعودة قليلاً إلى زمن البداوة ليبين أن الحياة البدوية كانت تقتضي العيش في الخيمة كمسكنٍ متأقلمٍ مع نمط حياة الرحل وترحالهم.  ولذلك اختار الباحث أن يقف بالوصف والدراسة على كل مكونات الخيمة المادية منها والرمزية.  فصناعة الخيمة تمثل طريقةً لإدراك الحياة الاجتماعية، بل وطريقةً لإدراك القيم الرمزية كما يجسدها السكن لدى البدو (ص. 9).  فبناء الخيمة وتركيبها وجمعها ونقلها هو عمليةٌ اجتماعيةٌ تنبني على تقسيمٍ دقيقٍ ومنظمٍ للأدوار.  وقد عمل بوبريك في هذه الدراسة على تقديم وصفٍ سوسيولوجيٍ لكل المراحل والعمليات التي تتصل بالخيمة ككيانٍ ماديٍ، ولكن أيضًا كنظامٍ اجتماعيٍ رمزيٍ وثقافيٍ. وفي الواقع، إن المرأة هي العنصر الأساس الذي تدور حوله مختلف أعمال إنتاج الخيمة، بل وحتى طريقة العيش داخلها، حيث تتكفل النساء بجميع مراحل صناعتها بشكلٍ جماعيٍ ((التويزة)) (ص. 14).

إن المجتمع الصحراوي في جوهره، وكما يشير عالم الاجتماع الموريتاني عبد الودود ولد الشيخ، هو مجتمعٌ بدويٌ يتكون من عدة قبائلٍ مختلفةٍ كانت تعيش على الترحال وتربية الماشية.  ويتنقلون بشكلٍ دائمٍ بحثًا عن الماء والكلأ لحيواناتهم التي تمدهم باللبن واللحوم للغذاء3.  وعليه، فإن طبيعة العيش البدوي هو الذي فرض هذا النوع من السكن المتمثل في الخيمة.  فالتنقل الدائم والمستمر استوجب العيش في خيام مصنوعة من القماش أو القماش الممزوج بوبر الإبل (ص. 15).  وهنا يقف الكاتب بحنكته الأنثروبولوجية والسوسيولوجية على وصف قيام الرحل، بعد توقفهم من المسير، بتركيب خيامهم والمواد والأدوات التي يعتمدونها في ذلك.  والمثير للانتباه حقيقةً، ليس هو طبيعة الخيمة وشكلها وموادها، وإنما تلك المهارات والخفة والبداهة التي يمتلكها الرحل في تقويض ظروف الطبيعة القاسية بالصحراء، ومقاومة شظف العيش بالفضاء الصحراوي المرعب.  فالترحال ليس بالأمر الهين، لكن بحقٍّ استطاع أولئك البدو بناء نظامٍ اجتماعيٍ، واقتصاديٍ، وسياسيٍ خاصٍّ بهم. وهو نظامٌ يتلاءم مع الطبيعة البدوية، ويتكيف مع الشروط البيئية والمناخية التي عادةً ما تفرضها المناطق الصحراوية.

ومن جانبٍ آخر، نجد رحال بوبريك لا يُناقش في هذا الكتاب موضوع الخيمة في مظهرها المادي الهندسي أو اعتبارها مسكنًا بسيطاً يأوي الأسرة ويقيها من البرد والشمس فقط، ولكن باعتبارها تمثلاً اجتماعياً وثقافياً ورمزياً.  وهنا يربط الباحث بين الخيمة وحياة البداوة وخصائصها وثقافتها المميزة، ويعتبر أن الخيمة هي تعبيرّ عن كيانٍ اجتماعيٍ هو أساس المجتمع وهو الأسرة.  فكلمة ((خيمة أهل فلان)) تشير في معناها إلى الأسرة أو مجموعة من العائلات من نفس القبيلة (ص. 25). ولذلك ينظر الباحث إلى الخيمة كفضاءٍ رمزيٍ يشمل العديد من القيم الثقافية والعادات والممارسات الاجتماعية والطقوس التي تؤسس للثقافة البدوية وحضارتها.

وفي هذا الشأن، يُقدم بوبريك تحليلاتٍ معمقةٍ حول طبيعة الحياة الاجتماعية داخل الخيمة، والأدوار والوظائف والواجبات التي على كل فردٍ من أفراد الأسرة أو القبيلة القيام بها.  ويقف بالأساس على دور المرأة المحوري سواءّ في صنع الخيمة، أو في الحياة اليومية داخلها.  وما يمكن أن نستنتج من كل تلك التحليلات هو أن الحياة البدوية في كليتها تدور كلها حول الخيمة بالإضافة إلى الإبل والرعي كمصدرٍ للعيش. ولذلك فإن الخيمة كنمط سكنٍ في المجتمع الترحالي تمثل جزءاً جوهرياً من نموذج التنظيم الاجتماعي الذي تتميز به القبيلة في الصحراء كأساسٍ للحياة الاجتماعية والمادية.  وقد انطلق باحثنا من هذه المسألة بالذات ليؤكد على أن القبيلة هي إطار الحياة الاجتماعية البدوية، فلا يستطيع الفرد بالنسبة إليه العيش خارجها (ص. 39).

ومن ثم نخلص إلى أنه إذا كان الالتفاف حول القبيلة في المجتمع الصحراوي أمرٌ حتميٌ فرضته طبيعة العيش البدوي، المحفوف بالمخاطر والإكراهات الطبيعية والبيئية والاقتصادية، فإن الخيمة شكلت الوحدة الأساسية في التنظيم القبلي، إذ كانت تدور حولها الكثير من القيم الاجتماعية والثقافية، ولكن أيضاً كانت أساس الإنتاج الاقتصادي في المجتمع البدوي المتسم بقلة الموارد وندرة مصادر العيش.

ثالثاً: المدينة الصحراوية التقليدية

يُقصد بالمدينة الصحراوية التقليدية في هذه الدراسة، تلك المراكز القليلة التي عرفت نوعاً من الحياة المستقرة نسبياً، والمرتبطة بشبكات التبادل التجاري الذي كان يربط بين ضفتي الصحراء، والتي جعلت منها نقط عبورٍ للقوافل التجارية.  وهي تقع أساساً في الشمال (واد نون) أو جنوب تيرس (موريتانيا حالياً) (ص. 51). ومن هذا المنطلق بين بوبريك أن المناطق الصحراوية الواقعة جنوب وادي نون لم تكن تعرف حياةً حضريةً مستقرةً، بل كان الترحال الرعوي هو النمط السائد طيلة قرونٍ عدةٍ، وكان التنقل هو الأسلوب الذي كانت تنهجه القبائل البدوية. غير أن ذلك لم يمنع من تواجد بعض أماكن الاستقرار التي كان يُصطلح عليها ﺑ  الگصر4.

إن القصور التي يتواجد أغلبها في مناطق الواحات تُمثل في نظر صاحب الكتاب طريقةً مميزةً في الحياة، والتي تُعد حضريةً بمعايير المجال الصحراوي.  وعلى هذا الأساس، يقف بوبريك على نموذجين رئيسيين للحياة الحضرية في الصحراء: ﮔليميم والسمارة، معتبراً أن النموذج الأول أهم من الثاني.  وتستمد مدينة ﮔليميم أهميتها من الدور الذي لعبته منطقة وادي نون في التجارة الصحراوية. حيث شهدت هذه المنطقة مراكز حضريةٍ مزدهرةٍ، كنول لمطة وتگاوست (ص. 73).  ومن هنا يمكننا أن نفهم مدى التأثير الواضح للتجارة القافلية في خلق نواةٍ للظاهرة الحضرية في شمال الغرب الصحراوي.  وفي المقابل، استفادت السمارة من البعد الديني لنشأة مشروع مدينةٍ في قلب الساقية الحمراء، والمتمثل في تأسيس زاوية الشيخ ماء العينين في نهاية القرن 19م.

بناءً على مادةٍ مصدريةٍ تاريخيةٍ غنيةٍ، متمثلةٍ في الرحلات، تمكن رحال بوبريك من رصد كل الجوانب المتعلقة بمدينة ﮔليميم كمركزٍ حضريٍ هامٍّ بمنطقة واد نون خلال القرن 19. وقد أبرز أن المدينة لعبت دوراً اقتصادياً هامّاً في محيطها القروي والواحي، مستفيدةً من وظيفتها التقليدية كمحطةٍ رئيسيةٍ للقوافل التجارية العابرة للصحراء.  بيد أن انتقال ﮔليميم من مجرد واحةٍ إلى مدينةٍ حضريةٍ لم يكن إلا في النصف الثاني من القرن 19. وهنا يقف بوبريك بالدراسة والتحليل على العوامل المساعدة في بروز ﮔليميم كنواةٍ للحياة الحضرية في الفضاء الصحراوي وفي بلاد البيضان بشكلٍ عامٍّ، والتي يُرجِعُها إلى العامل السكاني المتجانس والكثيف نسبياً، وتنوع الأنشطة الاقتصادية، وتواجد السوق والمواسم، ثم السلطة السياسية والمسجد الجامع.

أما تأسيس مدينة السمارة فقد ارتبطت، كما أشرنا سلفاً، بزاوية الشيخ ماء العينين الذي اتخذ منذ سنة 1860 من منطقة الساقية الحمراء مكاناً للترحال (ص. 102)، قبل أن يختار الاستقرار على ضفاف أحد الوديان، وأسس فيه قصبة السمارة في أواخر القرن 19، وبالضبط في عام 1898.  واستناداً إلى هذا، عرّج بوبريك على تناول، الظروف والحيثيات التاريخية والدينية والسياسية والجغرافية التي كانت وراء تأسيس مدينة السمارة في قلب حوض الساقية الحمراء، التي تعتبر بالنسبة إليه أرض القداسة بامتياز5 (ص. 105).  وذلك بالنظر إلى الأدوار الهامة التي لعبتها في التاريخ الديني للمغرب الأقصى.

وعلى ضوء ما تقدم، يمكن أن يُثار في ذهن القارئ تساؤلٌ حول ما قيمة بناء مدينةٍ في وسطٍ صحراويٍّ قاحلٍ ذي نمطٍ عيشٍ بدويٍ يقوم على الترحال والتنقل الدائم وراء المراعي؟ فباستثناء إشارةٍ طفيفةٍ إلى أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به بناء مركزٍ ثابتٍ، بالنسبة للشيخ ماء العينين، في استقبال المريدين والباحثين عن البركة (ص. 116)، لم يقدم رحال بوبريك جواباً كافياً عن هذه المسألة، أو على الأقل وضعها في إطارٍ إشكاليٍّ ما دام أن إثارة الأسئلة أهم من الأجوبة في مثل هذه المواقف التي يمكن أن تعترض الباحث. بيد أنه قدم تحليلاً نوعياً للأدوار التي كانت لمدينة السمارة في استقطاب الرحل واستتباب خيامهم قرب القصبة من ناحيةٍ، ووظيفتها السياسية (التواصل مع السلاطين) والعسكرية (الجهاد ضد الفرنسيين) من ناحيةٍ ثانيةٍ.  ثم إنه أثار الطموح الذي كان للسمارة لأن تكون محطةً تجاريةً، لموقعها على محاور الطرق التجارية (ص. 119).

ومع ذلك، لم تستطع مدينة السمارة الصمود أمام الإكراهات والتحديات الصعبة التي وقفت أمام استمرارها وتطورها كنواةٍ حضريةٍ في الصحراء. وبالتالي لم يتحقق لها ذلك النجاح المرتقب. وهو ما جعل بوبريك يخلص في دراسته إلى أن منطقة الغرب الصحراوي ظلت مجالاً للترحال بامتياز، والذي هيمنت عليه تقاليد الحياة الرعوية. وهو الأسلوب الذي يتماشى مع الطبيعة الصحراوية ذاتها، وظروفها المناخية والبيئية القاسية التي تجعل من الصحراء منطقةً تنتصر فيها الحتمية الجغرافية على كل إرادة الإنسان في بناء المدن (ص. 126). غير أن إطلال الفضاء الصحراوي على المجال البحري غرباً قد مكن من اكتشاف بديلٍ لإقامة المدن في الصحراء.  وهو المشروع الذي عملت عليه السلطات الاستعمارية بعد دخولها إلى المنطقة في بداية القرن 20.

رابعاً: الترحال أمام محك التحول

ينطلق الْمُؤَلِّفُ في هذا الفصل من فكرةٍ جوهريةٍ مفادها أن ميلاد المدينة الحديثة في الصحراء الأطلنطية يعود إلى سنوات السبعينيات من القرن الماضي، وخاصةً مع حرب الصحراء التي اندلعت سنة 1975 (ص. 127). بيد أن تراجع الترحال كنمطٍ للعيش، انطلق مع دخول الاستعمار أوائل القرن العشرين، وتحديداً سنة 1934. وهاهنا، يدعونا رحال بوبريك من أجل فهم تطور الواقعة الحضرية وعملية توطين البدو الرحل، إلى تتبع مراحل الاحتلال العسكري، وسياسات القوى الاستعمارية تجاه السكان الرحل. ونظراً للأهمية التاريخية والسياسية لهذه العملية فإن الباحث لا يتصور فهم كيفية ظهور المدينة في الصحراء دون دراسة التحولات التي عرفتها الظاهرة الترحالية بعينها.  فلولا تدهور الرعي الترحالي لما توجه الرحل نحو مراكز الاستقرار.

وقد وقف الباحث بقليلٍ من التفصيل، وبشكلٍ خاصٍّ، على السياسة الاستعمارية الإسبانية في منطقتي الساقية الحمراء ووادي الذاهب التابعة لدائرة نفوذها، واستحضر أساساً ما كان يقوم به الضباط العسكريون من مخططاتٍ لاستقطاب زعماء القبائل والعمل معهم في إدارة الإقليم.  وبعد أن ترسخ الوجود الإسباني في الصحراء عمل على إنشاء مراكز الاستقرار لاستيعاب الرحل وجلب المستوطنين الإسبانيين. وكان من بين السياسات المعتمدة في ذلك تهيئة الموانئ على السواحل، وتقديم الهدايا، وفتح المستوصف أمام المرضى البدو، وجلب المياه، وتشييد المباني والمرافق التجارية والإدارية، ثم تقديم المعونات للساكنة عبر توزيع المواد الغذائية.

وتبعاً لذلك، لاحظ بوبريك أن استقرار الرحل في المدن، حظي بتشجيعٍ من الدولة الاستعمارية، وبعد ذلك، بتشجيعٍ من الدولة الوطنية (ص. 157). وفي المقابل، تراجع نمط الحياة الرعوية الذي كان في حالة هشة، وهو ما أدى إلى تفكك أسس الاقتصاد الرعوي ممّا قاد بشكلٍ تدريجيٍ إلى توطين البدو.  وبالتالي أصبحت الصحراء الأطلنطية، منذ ذلك الحين، تتجه نحو قيام الظاهرة الحضرية وتسارع وتيرة التمدن.

وعلاوةً على ذلك، يرى رحال بوبريك أن نهاية الترحال في الصحراء، ومعها أسلوب حياة البداوة تحت الخيمة، ارتبط بالحد من حركة الرحل من خلال ترسيم الحدود (ص. 158). حيث أبرمت كلٌّ من فرنسا وإسبانيا مجموعةٌ من الاتفاقيات، والتي قسمت بموجبها منطقة الصحراء وحددت من خلالها مجالات نفوذ كل واحدةٍ منها. وهنا نرى أن هذه السياسة التعسفية التجزيئية للقبائل من خلال ترسيماتٍ حدوديةٍ استعماريةٍ، أدت إلى تفكيك البنية القبلية من أجل تسهيل عملية توطينها في مجالاتٍ مختلفةٍ6.

لقد سبق للباحث أحمد جوماني أن تناول هذا الموضوع في مقال له حول ((كبار الرحل والحدود الاستعمارية))7. والخلاصة الأساسية لهذا البحث هو أن الترحال الرعوي تأثر كثيراً بالسياسات الاستعمارية، والهادفة إلى مراقبة تحركات الرحل في أفق توطينهم في مراكز مستقرة والقضاء على البداوة.  وفي هذا الشأن، يرى بوبريك بأن الحدود التي وضعتها القوى الاستعمارية، دون مراعاة للظروف الاجتماعية والتاريخية والجغرافية للصحراء، قد تم فرضها تدريجياً. وبالتالي كانت القبائل ملزمةً بأن تخضع في ترحالها للتعسف الإداري والعسكري للسلطات الاستعمارية التي سنت مجموعة من الإجراءات القانونية لتنظيم حركات الرحل وتنقلاتهم في المجال.

وهكذا، شكل رسم الحدود عاملاً أساسياً لانهيار أسس الحياة البدوية، التي لم تكن تتأسس فقط على الرعي والترحال، بل كانت تقوم أيضاً على التجارة وحضور الأسواق والمواسم.  لكن تأثير الحدود سيبلغ كذلك المجال الاقتصادي، من خلال تقييد حركة التبادل التجاري بعد أن أصبح الوصول إلى الأسواق أمراً شبه مستحيل بفعل سياسة الحدود (ص. 173).  وقد كان لهذا الوضع انعكاساتٌ بالغةٌ على الاقتصاد البدوي، ومعه نمط عيش الترحال الذي لم يقوَ على الصمود أمام العوامل الخارجية المتمثلة في الاستعمار.

خامساً: نهاية البداوة أم نهاية الحضارة؟

بعد أزيد من نصف قرنٍ من التغيرات الاجتماعية والسياسية في منطقة الصحراء الأطلنطية، عرفت البداوة تفككاً عميقاً. فلم يعد الترحال أسلوباً لطلب الرزق، ولم تعد الخيمة فضاءً للسكن، ولم يعد الجمل وسيلةً للتنقل في الفيافي، ولم يعد للقبيلة حضورٌ وازنٌ كما كان من قبل، بل صارت المدينة بمقوماتها الحداثية ملاذاً محتوماً لأهل الصحراء وسكانها.  وقد أرجع الباحث رحال بوبريك هذا التحول الجديد في نمط العيش لدى الرحل إلى ثلاثة عواملٍ جوهريةٍ: السياسة الاستعمارية، وموجات الجفاف، وحرب الصحراء.

ويقدم رحال بوبريكن في هذا الصدد، في هذه الدراسة معطياتٍ دقيقةً عن ما يسميه ﺑ ((صيرورة الاستقرار)).  ويعني بها مجموع المراحل والظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والطبيعية التي عرفتها منطقة الصحراء، والتي فرضت عملية استقرار البدو الرحل وتوطينهم بالمراكز الحضرية المحدثة من قبل الاستعمار الإسباني.  فقد أدت السياسة الاستعمارية لإسبانيا القائمة على الإدارة غير المباشرة والاستغلال الاقتصادي للموارد الطبيعية (المعادن والثروة السمكية)، إلى تسارع وتيرة استقرار البدو الرحل وانخراطهم في المشروع الاستعماري المبني على التحضر والتوطين في مقابل الترحال والتنقل الذي كان سائداً. فضلاً عن ذلك، دفعت موجات الجفاف الرحل إلى اللجوء إلى المدينة باعتبارها الملجأ الأخير للعيش بعد تقويض الرعي الترحالي (ص. 183).

لقد نهجت إسبانيا سياسةً استعماريةً هجينةً ذات هدفين أساسيين: الأول، اقتصاديٌ يتمثل في استنزاف الثروات الموجودة، والثاني، سياسيٌ يكمن في مراقبة تحركات الرحل، وبالتالي القضاء على الترحال.  ومن أجل ذلك شرعت الإدارة العسكرية الإسبانية بعد ضمها لمنطقة الصحراء كمقاطعة إسبانية سنة 1958 في مجموعة من الإجراءات والتدابير لإحكام السيطرة على الإقليم.  وقد كان من بين تلك الإجراءات دمج البدو في حياة المدينة عير سياسة الإعمار والبناء وشق الطرق وتشييد المباني، ومساعدتهم في الانخراط في الحياة الحضرية وما تقتضيه من العمل المأجور والمهن المتعددة والسكن في مساكن قارة عوض الخيمة المتنقلة.

ونتيجةً لذلك انخرط عددٌ كبيرٌ من الرحل في الحياة الحضرية الجديدة كي يتحرر من إكراهات التقلبات المناخية وما ينتج عنها من أزمة جفافٍ تجعله مهدداً دائماً بفقدان مورد رزقه (ص. 196). فقد أدى توالي سنوات من الجفاف إلى هلاك أعدادٍ كبيرةٍ من قطعان الماشية.  وبالتالي أصبحت المدينة ملاذاً لكثير من العائلات البدوية.  وأصبح معه الاستقرار مآلاً لا مفر منه في عالمٍ تغير بالكامل (ص. 198). إن تراجع حياة الترحال بل ونهايته، بغض النظر عن الظروف التي عرفتها الممارسة الرعوية ذاتها، شكل نتيجةً حتميةً لظهور المدينة في الصحراء.

ومن جهةٍ أخرى، لعبت حرب الصحراء دوراً كبيراً في طرد الرحل نحو المدن.  وقد عمل بوبريك على توضيح هذا العامل من خلال ربطه بين الأحداث السياسية التي وقعت في السبعينيات و التغيير الجذري الذي حصل في طريقة حياة الرحل. وبالنسبة إليه، فاندلاع حرب الصحراء في نونبر 1975 شكل الحدث الرئيس الذي أجبر آخر الرحل على الاستقرار (ص. 199).  ومعلومٌ أن الحروب والاضطرابات السياسية كانت تشكل دائماً، وعبر التاريخ، عاملاً حاسماً في تغيير البنية السكانية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات.  وهكذا اضطرّ الرحل بعد توتر الأوضاع السياسية ونشوء المعارك بين الإسبانيين والصحراويين إلى مغادرة المجال الرعوي، والإقامة بالمدن، بما يعني ذلك من انتقالٍ من نمط عيشٍ ترحاليٍ إلى نمطٍ آخر جديدٍ مرتبطٍ بالحياة الحضرية.  وهو تحولٌ عبّر عنه بوبريك بكونه انتقالٌ من الخيمة كرمزٍ للبداوة إلى المنزل كشعارٍ للمدينة، وما استحدثه ذلك من تغيراتٍ في أسلوب الحياة الاجتماعية الذي تأثر أيما تأثرٍ بالوظائف الجديدة للمدينة وخصائصها الحضرية.

وهكذا، يحق لنا أن نتساءل في هذا المقام عن الدور الذي لعبته نشأة المدينة في الصحراء في قلب موازين الفضاء الصحراوي، الذي لم يكن يعرف عن الاستقرار والتمدن شيئا، سوى ما كان يتواجد في بعض الواحات التي كانت تفصل بين مجال الصحراء والمناطق الخصبة الواقعة من الشمال أو الجنوب منها. وبالتالي فمن البديهي أن يستقر في الذهن التساؤل عن كيف يمكن الحديث عن عالمين مختلفين في الصحراء: عالمٌ حضريٌ وآخر بدويٌ؟ إن هذا الإشكال تنبه إليه باحثنا رحال بوبريك في معرض حديثة عن ظهور المدينة، وأشار إلى أن الصحراء لم تكن تعرف مراكز مستقرةً، وبالتالي لم تكن هناك ثقافةٌ حضريةٌ مقابل ثقافةٍ بدويةٍ (ص. 200).

إلا أن ما يسترعي الانتباه في هذا الإطار هو مدى قدرة البدو الرحل الذين أَلِفُوا حياة البداوة على الاندماج في الحياة الحضرية، وكيف أثر ذلك في شخصيتهم وقيمهم وتكوينهم النفسي وأسلوب تفكيرهم وأنماط سلوكهم.  وقد استطاع بوبريك دراسة هذا الموضوع، وقدَّم تحليلاتٍ مكنت من فهم هذا التحول المفصلي في حياة البدو، وخاصةً على مستوى الفضاء المنزلي وكيفية استعماله والمعايير الاجتماعية والثقافية المعتمدة في ذلك، والتي تُوضِّحُ مدى استمرار تعلق البدو المستقرين بما كانوا عليه في زمن البداوة.

وصفوةُ القول، إن استقرار البدو في المجتمع الصحراوي كان له وقعٌ كبيرٌ على المظهر العام للصحراء. ففي الوقت الذي كانت فيه مجالاً بدوياً يأوي حضارةً عريقةً فتنت خيال العديد من المؤرخين والجغرافيين والرحالة والمستكشفين والتجار الذي كانوا يعبرون ما بين ضفتيها، أصبحت اليوم كلها مدناً ومراكز استقرارٍ متفرقةٍ ومشتتةٍ.  فقد أجبر الرحل على التخلي عن نمط حياةٍ دام لقرونٍ ليجدوا أنفسهم في فضاءٍ غريبٍ عنهم (ص. 230).  فلم تكن عملية الاستقرار هذه مجرد استقطابٍ للسكان نحو المدن، بل شكلت عملية استئصالٍ للحياة البدوية، وتدميرٍ لأسلوب الترحال الرعوي بما له وما عليه. إنه فعلٌ وخيمٌ سماه بوبريك ﺑ ((عملية الاجتثاث)). إنه الوصف الذي يُعبر أحسن تعبيرٍ عن ما عرفه المجتمع الصحراوي من تغيرٍ عميقٍ.

على سبيل الختم

يُمثل كتاب “المجتمع الصحراوي من عالم الخيمة إلى فضاء المدينة” لرحال بوبريك، ومعه هذه القراءة الخاطفة، فرصةً للقارئ العربي عموماً، للتعرف عن قرب وبأسلوبٍ علميٍ مبسطٍ، عن مجال الصحراء الأطلنطية وعن مسارها التاريخي والاجتماعي والثقافي. فالدراسة تضم معطياتٍ غزيرةٍ حول البنية الاجتماعية للمجتمع الصحراوي زمن البداوة، والتحولات التي شهدها بدءاً من الدخول الاستعماري إلى المنطقة وحتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، إثر عملية استقرار البدو الرحل وما واكبها من تحولٍ في نمط العيش.

إجمالاً، إن القراءة التحليلية النقدية للدراسة السالفة، أظهرت أنه على أهميتها تبقى بحاجةٍ إلى دراساتٍ أخرى ميدانيةٍ في مجالي علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، إذ مازالت هناك أسئلةٌ كثيرةٌ تحتاج إلى تكثيف الأبحاث فيها، وخاصّةً ما يتعلق بتبيان مدى تأثير الظاهرة الحضرية بالصحراء على الجانب الثقافي، ونعني بذاك ما مدى حفاظ المجتمع الصحراوي على ثقافته الغنية التي ميزته لقرونٍ عدةٍ، بعد الاندماج مع حياة المدينة ومتطلباتها العصرية. ثم إن الموضوع يطرح قضايا وإشكالات أخرى تستدعي البحث والتفكير، منها على سبيل المثال لا الحصر: مسألة الرحل في الوقت الراهن، والتعايش القبلي والإثني في المدن الصحراوية، واستثمار الرصيد التاريخي والاجتماعي للمجتمعات البدوية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمجالية الشاملة.

 

 

الهوامش

1 إذا كان التأثير الألماني في الأربعينيات من القرن الماضي واضحًا في عمل خوليو كارو بارخا الأنثروبولوجي، ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانت اهتماماته أكثر ارتباطًا بالعالم الأنجلوسكسوني وبفكرة الوظيفية. لكن لا يمكن أن يتوافق الموقف التاريخي الواضح لكارو باروجا مع الرؤية الكلاسيكية للوظيفية التي اقترحها مالينوفسكي أو رادكليف براون، لأنه إلى حدٍّ ما موقفٌ ضيقٌ، وقائمٌ على التزامن المطلق مع نموذج المجتمعات البدائية والمعزولة نسبيًا؛ وبالتالي فإن ما يجمع أعماله هو نقد النظرية الوظيفية وتكييفها مع المجتمعات المعقدة ومع التصور التاريخي الذي أنشأه إيفانز بريتشارد. ولكن يجب القول أيضًا بأن التاريخ، جنبًا إلى جنب مع الأنثروبولوجيا الاجتماعية، يظهر كمكونٍ أساسيٍ في تحليلات باروخا، وكشرطٍ متوافقٍ تمامًا مع الوظيفية الأنثروبولوجية. منذ هذا الوقت، وجد باروخا طريقته الخاصة التي يشار إليه بالبنيوية التاريخية. يمكن الرجوع إلى:

Carmen Ortiz Garcia, «Julio Caro Baroja, antropólogo e historiador social», in: RDTP, LI, 1, 1996, p. 292.

2  رحال بوبريك، دراسات صحراوية: السلطة، الدين، والمجمع، دار أبي رقراق، الرباط، ط1، 2008، ص 6.

3 Abdel Wedoud Ould Cheikh, La société Maure: Éléments d’anthropologie historique, publication de center des études sahariennes, impressions bourgreg, Rabat, 2017, p. 31.

4 تُعد الدراسة التي أنجزها الباحث الموريتاني أحمد مولود ولد أيّده الهلال عن مدن موريتانيا العتيقة من الأعمال الجادة التي تناولت هذا النوع من المدن المسمى بالقصور في المجال البيضاني بشكل عام. ويمكن للمهتم أن يطلع على هذا العمل القيم، ليتبين له مدى خصوصية وتفرد هذا النوع من المراكز التي احتضنت نمطاً معيناً من الاستقرار في وسطٍ صحراويٍ شاسعٍ متّسمٍ بالبداوة والترحال الرعوي. اُنظر: أحمد مولود ولد أيّده الهلال، مدن موريتانيا العتيقة: قصور ولاته، وودان وتيشيت وشنقيط، منشورات مركز الدراسات الصحراوية، دار أبي رقراق، الرباط، 2014.

5 يُنظَرُ للباحث نفسه: «الساقية الحمراء أرض الأولياء»، في: الصحراء جدلية الإنسان والمجال، مؤلف جماعي (إعداد وتقديم: محمد البوزيدي)، منشورات جمعية الشعلة للتربية والثقافة، طباعة برانت، أﮔادير، 2013، ص, 107-124.

6 محمد بو النعناع، «دينامية الوسط الحضري بالصحراء: حالة مدينة أگلميم»، في: الديناميات الاجتماعية وأفق البحث بالصحراء، تنسيق رحال بوبريك وعبد الله هرهار، منشورات مركز الدراسات الصحراوية، دار أبي رقراق، الرباط، 2016، ص. 226.

7 أحمد جوماني، «كبار الرحل والحدود الاستعمارية»، في: التراث الصحراوي التاريخ والذاكرة، أعمال ندوة الداخلة الدولية، منشورات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، دار النشر ملتقى الطرق، الدار البيضاء، 2014، ص. 77-99.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق