الاثنين، 6 يونيو 2011

الصراع اللغوي في الجزائر: تأزيم الهوية

الصراع اللغوي في الجزائر: تأزيم الهوية بقلم : د ديدوح عمر التعدد اللغوي ظاهرة طبيعية في دول العالم قاطبة، ولا ضير أن يتخذ التعدد اللغوي مسلك التطعيم وانفتاح الثقافة الوطنية على الثقافات الأجنبية لتوسيع دائرة التفكير اللغوي بما يخدم اللغة الوطنية، وقد مورس هذا النموذج في المجتمع الإسلامي في أزهى عصور الحضارة الإسلامية، ولم تشك العربية ضيقًا و لا تشويشًا ولا عجزًا ولا عزلة بل ظلت تلك اللغات خادمة للغة العربية معلنة انقيادها عن طواعية. وما وجود لهجات محلية في دول المغرب العربي - مثلاً - إلاّ شاهد عدل على حسن الجوار للغة العربية. فالتعددية اللغوية إن برزت بصورة طبيعية نابعة من متطلبات المجتمع المتطلع إلى المعرفة الإنسانية فهي ظاهرة صحية، وأما إن سلك التعدد اللغوي مسلكًا إيديولوجيًا سياسيًا تحت أقنعة مختلفة، ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبلها العذاب، فذلك هو المسخ الثقافي و الحضاري، والاستعمار في شكله الجديد. ظلت اللغة العربية في الجزائر وعاء حفظ شخصية الشعب الجزائري من الاندماج في الشخصية الفرنسية، فقاومت عوامل المسخ، والتدجين اللذين خططت لهما السلطات الاستعمارية ضمن مخططاتها الواسعة، من تنصير، وتدمير للمقومات الأساسية، الدينية، والاجتماعية، والتاريخية، والنفسية، والاندماجية مع دعاة الإدماج. لقد ظهر على أرض الواقع اللغوي في الجزائر أصوات ناشزة لم تنل وفاق كل الجزائريين، بمن فيهم الأمازيغ الخلص المؤمنون بوحدة الجزائر وبقداسة اللغة العربية المرتبطة برسالة النور فهي قائمة مستقرة ما أقام القرآن و استقر، و هي راحلة مستنفرة ما ارتحل القرآن الكريم. لقد سخّرت الأطراف المعادية للغة العربية، ولعروبة الجزائر، كل ما أتيح لها للوقوف أمام قوانين التعريب وإفشالها بشتى المساعي، والتماطل في البحث عن الحلول الناجعة لترقية اللغة العربية، وتهميش الكفاءات المعرّبة منذ الاستقلال رغم أن الدستور الجزائري والميثاق الوطني ومراسيم الجمهورية الجزائرية كلها تنص على أن اللغة العربية في الجزائر هي اللغة الوطنية والرسمية. مع كل ذلك تطفو على سطح الواقع شعارات زائغة تحنّ إلى لغة المستعمر حينًا، وتطالب بترسيم اللغة الأمازيغية حينًا آخر ليلتف ما يعرف بالفرانكفونيين بالأمازيغين وكلما شعر الفرانكفونيون بانحسار وجودهم لدى الطبقات الشعبية طلبوا المدد من التيار الأمازيغي بدعوى وطنية اللغة الأمازيغة ولسان حالهم يقول ابقوا على الفرنسية نرفع أيدينا عن العربية. جذور الصراع اللغوي في الجزائر استغل الوجود الاستعماري بالجزائر البربر كوسيلة لإدارة صراع سياسي قوي ضد اللغة العربية ولقد حاول إيهام الرأي العام بأنه في المغرب العربي والجزائر بصورة خاصة شعبان متمايزان الشعب الأمازيغي والشعب العربي وحاول تبرير هذا التقسيم الوهمي فاستغله وسيلة لبث سموم النفرة ونشر العداء بين العرب والبربر وبعد ذلك بدأت تعشش في بعض الذهنيات الموالية لفرنسا فكرة أمازيغية الجزائر، وبدأت مع تصدير هذه الفكرة ظهور جبهة العداوة للعرب والعربية لأول مرة منذ استقرار العربية بالمغرب العربي. غير أن الواقع يؤكد أن الأمازيغ تعربوا عبر حقب زمنية ضاربة في القدم، بل إن هناك من يؤكد أن الأمازيغ عرب عاربة استوطنوا شمال إفريقيا قبل الفتح الإسلامي. فالأمازيغ البتر والأمازيغ البرانس وهم سكان تيزي وزو وهي بؤرة التوتر في المسألة الأمازيغية لا تزال محتفظة بلهجاتها الأمازيغية، ولكنها لهجات متعددة حتى في دوائر ولاية تيزي وزو. وأما الأمازيغ البتر وهم الشاوية فهم لا يطرحون مشكلة لغوية بديلة للغة العربية بل يعتزون باللغة العربية وبالانتماء العربي الإسلامي، ويشهد التاريخ أنهم أبلوا بلاءًا حسنًا من أجل خدمة اللغة العربية ونشرها، والغيرة عليها والحقيقة التي لا ينكرها ذو عقل أن كل انتصارات اللغة العربية في الجزائر أثناء الاحتلال وبعده كان مصدرها الشاوية، فلقد غاب عن دعاة أمزغة الجزائر، أن اللغة العربية تجذرت في الجزائر واستقرت باستقرار العرب الفاتحين منذ الفتح العربي الإسلامي، ولقد أخذت في الانتشار وساهم الأمازيغ في نشرها وتنميتها. ولقد نبه العلماء المسلمون الجزائريون إلى خطر التفرقة اللغوية «قد فهمنا والله ما يراد بنا، وإننا نعلن لخصوم الإسلام والعربية، أننا عقدنا العزم على المقاومة المشروعة ونمضي بعون الله، في تعليم ديننا ولغتنا رغم كل ما يصيبنا، ولن يصدنا عن ذلك شيء فنكون قد شاركنا في قتلها بأيدينا، وإننا على يقين من أن العاقبة – وإن طال البلاء – لنا وأن النصر حليفنا، لأننا قد عرفنا إيمانًا وشهدنا عيانًا أن الإسلام والعربية قضى الله بخلودهما ولو اجتمع كلهم على محاربتهما»(1) وحماس الجزائريين المخلص للعربية نلمسه من قراءة القيم الآتية للشيخ أحمد سحنون رحمه الله: يا فتية الضاد حان الوقت فاطرحوا هذا الونى وانهضوا فالناس قد طاروا أرواح آبائكم في الخلد قد هتفت تحــرروا فــــجميع النــاس أحرار(2) لكن أبناء الجزائر اليوم أداروا ظهورهم لماضيهم، فجهلوا ما كان عليه من عز وذل، ونعيم وبؤس، ومدنية وهمجية، وسيادة وعبودية، وقد نجدهم يتسارعون للاطلاع على تاريخ الأمم الأجنبية فيقصرون الكمال عليها... ويحكمون على أمتهم بالهمجية كأنهم يرون أن داءها ليس له دواء وربما طلبوا لها من الدواء ما هو عليه الداء (3)، هذا الواقع لا يعمم لأنه في المقابل هناك من أخذتهم العزة بمهمة النهوض بالجزائر والنهوض بالعربية(4). بداية الصراع اللغوي والعداء للعربية إن تشخيص الوضع اللغوي في الجزائر يتطلب استعراض السياسة الفرنسية المتمثلة في القضاء على الدين الإسلامي باعتباره الحصن الحصين للمقومات الوطنية وكانت تنظر إلى الإسلام على أنه القرآن الكريم واللغة العربية، والنص الآتي يعزز ذلك، ففي أوائل الاحتلال أصدرت السلطات الاستعمارية التعليمات الآتية: «إن إيالة الجزائر لن تصبح مملكة فرنسية إلا عندما تصبح لغتنا هناك لغة قومية والعمل الجبار الذي يترتب علينا إنجازه هو السعي إلى نشر اللغة الفرنسية بين الأهالي - بالتدريج- إلى أن تقوم مقام اللغة العربية الدارجة بينهم الآن»(5). وفي المسعى نفسه يتكلم الفريد لامبو وزير التعليم الفرنسي عن مراحل احتلال الجزائر 1897 قائلاً: «سوف يتحقق الغزو الثالث عن طريق المدرسة إذ يجب أن نضمن السيطرة للغتنا وأن ندخل في أذهان الفكرة التي نحملها عن أنفسنا عن فرنسا ودورها في العالم وأن تحل المفاهيم الأوروبية الدقيقة محل الجهل والأفكار متخلفة»(6). وبتلك التعليمات ظلت الجزائر طيلة فترة الاحتلال تعاني من ويلات الاستعمار..فألحقت الأضرار بشخصية الشعب ومقوّماته الأساسية المتمثلة في اللغة العربية التي صارت محظورة أو محكومًا عليها بالتقهقر و التدني..»(7). فالوضع اللغوي للسان العربي في الجزائر اليوم مرتبط بتاريخ اللغة العربية في الجزائر، وما تعرضت له من حرب ضروس أوهنت وجودها، فاعوجت في متنها وصيغها، ولقد منعت إدارة الاحتلال استعمال اللغة العربية وجعلته أجنبيًا وأصدرت تشريعات تعرف بـ: CODE DE L’INDIGENA فأغلقت بمقتضاها المدارس القرآنية والكتاتيب. ولقد صرح أحد مسؤولي الاحتلال أنه: «عندما تندثر المدارس القرآنية ولا يبقى منها حتى الغبار وعندما يعود العرب إلى بداية الإنسانية على هذه الأرض فإنه يمكن تلقين هؤلاء بعض الشيء وظن الجنرال هانوتو أن الأمة قد دفنت مع لسانها فقال: «إن مسألة العرب قد دفنت نهائيًا ولم يبق لهم سوى الموت أو الهجرة أو قبول خدمة أسيادهم الأقوياء»(8). ولقد بدأت سلطة الاحتلال نتيجة هذه التعليمات تطبيق المخطط الآتي: - القضاء على معظم مراكز الثقافة العربية و اللغة العربية التي تتمثل في المدارس والجوامع والزوايا فحوّلت أغلبها إلى كنائس وصادرت الثقافة العربية. - نهب التراث الثقافي العربي الإسلامي. - مصادرة معظم الصحف العربية. - مصادرة معظم معاهد التربية والتعليم العربية وتعويضها بمدارس فرنسية ينتقى روادها من الجزائريين وفق شروط محدودة وبغرض إنشاء فئة من الجزائريين موالية لفرنسا، ولقد كتب أحد المناصرين لإبادة اللغة العربية من الجزائر قائلاً: «إن أحسن وسيلة لتغيير الشعوب البدائية في مستعمراتنا وجعلهم أكثر ولاء وأخلص في خدمتهم لمشاريعنا باستمرار وبذلك يتأثرون بعاداتنا الفكرية وتقاليدنا، فالمقصود إذن وباختصار هو أن نفتح لهم بعض المدارس لكي تتكيف فيها عقولهم حسبما نريد»(9). كما تم تقسيم اللغة العربية إلى ثلاث لغات: أ- عربية عامية. ب- عربية فصحى. ج- عربية حديثة. وإمعانًا في تمزيق هذه اللغة وفصلها عن الشعب أصدرت الحكومة الفرنسية مرسومًا عام 1958 على لسان وزير داخليتها، يقضي باعتبار اللغة العربية، لغة أجنبية في الجزائر. التشكيك في وحدة الشعب الجزائري بزرع فكرة الجزائر بربرية فقوبلت هذه الفكرة برد عنيف من الجزائريين فقد عبر أحدهم عن خرافة فكرة بربرية الجزائريين: «إن القبائل مسلمون عرب كتابهم القرآن يقرؤونه بالعربية ولا يرضون بدينهم ولا بلغتهم بديلاً ولكن الظالمين لا يعقلون»(10) وظلت السلطات الفرنسية متمسكة بزرع فكرة تعدد الأجناس بالجزائر وبالتالي تعدد اللغات وإشاعة أن هذا الوطن مجموعة أجناس ولغات لا ترجح إحداهن على الأخرى فلا تستحق إحداهن أن تكون رسمية»(11). وليتجنب الجزائريون شرورهم وتماديهم، سعوا إلى توحيد صفوفهم، وفرض شخصية وطنية، لا مجال للطعن فيها. فلا سبيل إلى نكران الأصول الأمازيغية للجزائر فما فتئ الإسلام يستقر حتى دخلوه طائعين، فتعلموا اللغة العربية وامتزجوا بالعرب وأصبحوا شعبًا واحدًا «متحدًا غاية في الامتزاج، وأي افتراق يبقى بعد أن اتحد الفؤاد واتحد اللسان»(12) فليس في المسألة فاصلة بين العربية والبربرية إلا بما تمتاز به كل لغة من خصال حضارية وجاذبية فطرية نفسية – إن جاز التعبير- وهو الجانب الذي عبر عنه الإبراهيمي «بالسحر» الدافع إلى عملية الاختيار والاقتناع الذاتي بالعربية إذ البقاء في عرف الحضارة للأصلح»(13). وهكذا أصبحت اللغة العربية، والآداب العربية، لسان الأمة الجزائرية كلها، وهذه حقيقة مشرفة للجزائريين لا ينكرها على أمتنا ابن بار يتكيف مع الظروف تكيفًا مناسبًا، لا ينكر ماله وما عليه. ومن هنا أدت اللغة العربية -على مر القرون- دورًا في التماسك الاجتماعي، والقومي للمجتمع الجزائري، «لا يمكن التقليل من شأنه لأن معظم التجمعات القومية الموجودة في عالمنا هي أساسًا تجمعات لغوية، وإن يقظة المشاعر القومية تبدو آثارها الأولى في الغالب، في الحرص على استخدام اللغة القومية، وتنقيتها من المفردات والتركيبات اللغوية الدخيلة وهذا أمر طبيعي، لأن الذين يتكلمون لغة واحدة هم أقرب إلى التفاهم»(14). فاللغة العربية - إلى جانب الدين الإسلامي، والوطن الجزائري، والثقافة العربية الإسلامية - من أبرز مقومات الشخصية الوطنية الجزائرية. والشخصية الوطنية للشعب الجزائري، هي قبل كل شيء نفسيته وما يتفرع عن هذه النفسية من تقاليد ومواقف وآمال ومطامع، وهي بصفة عامة هذه الحضارة العربية الإسلامية التي تتحرك في إطارها، وما الدين واللغة إلا مظاهر لهذه النفسية»(15) والمحافظة على هذه المظاهر هي محافظة على الشخصية الوطنية. ولا تزال علاقة اللغة بالشخصية الوطنية تسيل حبر كثير من المثقفين الجزائريين إلى يومنا هذا، إذ يقول الأستاذ محمد تيمور: «فإذا كانت الإمبراطورية العربية قد أسدل ستارها على مسرح، فهي قائمة في مظهر لغوي يربط بين من ضمت من شعوب، ونحن نعمل بواعثنا الظاهرة والخافية على استبقاء رباطنا الإمبراطوري في صورة اللغة العربية وكأننا بهذا الرباط نعمل على إحياء إمبراطوريتنا الزائلة على نحو يلائم ملابساتنا الحضارية، فإيماننا بالفصحى مستمد من إيماننا بتلك الإمبراطورية التي تتجمع فيها أمجادنا التليدة وإننا بذلك الإيمان نستمسك بمقومات شخصيتنا العزيزة علينا وعلى تاريخ الإنسانية جميعًا، وفي هذا الاستمساك تلتقي مشاعرنا الطبيعية لحماية أنفسنا من معترك تنازع البقاء»(16). الشخصية الوطنية الجزائرية والهوية العربية إن الحديث عن الشخصية الوطنية في الجزائر، يقودنا إلى تحديد إطارها العام، الذي تندرج فيه، ألا وهو إطار القومية العربية، إذ لا مجال للتفكير ولا للمساومة، فابن باديس وبكلمة واحدة لخص لنا هذا الإطار، في كلمة وضعها عنوانًا لإحدى مقالاته في جوان 1936م «محمد(عليه الصلاة والسلام) رجل القومية العربية»، فما بالك لو قلنا لك أنك لست مسؤولاً على أمة كما هو حال نبينا، وأن مسؤوليتك لا تتعدى شخصك أنت، لأن عناية كل امرئ بنفسه، ليكون ذا أثر نافع في الناس من حوله، هي إسهام يشكر عليه ويحسب له، هكذا ينبغي لشعبنا أن يكون قد شعر بنفسه، فنظر إلى ماضيه، وحاله، ومستقبله، فأخذ الأصول الثابتة من الماضي، وأصلح من شأنه في الحال، ومد يده لبناء المستقبل. هذا باختصار ما نستنتجه من عمل خاتم الأنبياء «رسول الإنسانية ورجل الأمة العربية الذي نهتدي بهديه ونخدم القومية العربية خدمته، ونوجهها توجيهه، ونحيا لها، ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون، وخدع المخادعون، واضطرب المضطربون»(17). يتضح من النص السابق أن ابن باديس قد فسر القومية العربية بالتفسير و الفهم الذي يتبناه الفكر العربي الحديث، للقومية العربية، فهو يتحدث عن وطن إسلامي، أي وطن عربي، يعتمد على تراث إسلامي، وكم هو واسع هذا الوطن. إن القومية العربية، إذن هي إطار للشخصية الوطنية الجزائرية، والدفاع عنها، هو دفاع عن دعائمها، التي تعد اللغة العربية - لغة القرآن- إحدى أهم هذه الدعائم، فهي تعتبر بمنزلة «الوعاء الذي تتشكل به وتحتفظ فيه، وتنتقل بواسطته أفكار الشعب.... فقلب الشعب ينبض في لغته، وروحه تكمن في بقاء هذه اللغة»(18) فلم نترك الوهن والضعف يصيبان هذا القلب ويسلبان الروح منا، ونحن نضع الكف على الكف بحجة أو بأخرى، بأعذار واهية لا يتقبلها عقل ولا ضمير واع لما آلت إليه أمتنا. «إن لهذه اللغة على الأمة الجزائرية - الشعب الجزائري- حقين أكيدين: كل منهما يقتضي وجوب تعلمها، فكيف إذا اجتمعا، حق من حيث إنها لغة دين الأمة، بحكم أن الأمة مسلمة، وحق أنها لغة جنسها بحكم أن الأمة عربية الجنس، ففي المحافظة عليها محافظة على جنسية ودين معًا»(19). وإنصافها لا يكون بفرضها على المدارس الابتدائية بقدر ما يكون على رجال الثقافة وحامليها المتخرجين من الجامعات والمعاهد. لا تزال لغتنا مقصورة على الأدب والجمال، والشعر، والخيال دون الخوض في العلوم الدقيقة الأخرى، عبارة طالما رددها أبناء هذا الوطن، فما حجتهم وقد نجحت بلدان عربية في فرضها لغة للعلوم الدقيقة الأخرى؟ ما حجتهم وقد نجحت بلدان في فرضها لغة التعليم العالي؟ فسوريا كمثال ناجح أيقنت «أن اللغة القومية مقدسة، ينبغي أن تكون هي لغة التعليم العالي في بلد يتمتع باستقلال حقيقي في بلد ذي سيادة، حر ديمقراطي، هذه هي الحقيقة الواضحة»(20). فمنذ أبعدت اللغة العربية - في الجزائر-عن ميدان التعليم الرسمي عام 1958 حرمت إمكانية اكتساب مميزات اللغة العلمية، وكان الجزائريون قد أخطؤوا خطأ فادحًا حين اعتقدوا أن جمود هذه اللغة سيزول بزوال المستعمر، وأن تخلصهم من المستعمر سيجعلهم بفضل الاستقلال، وبدون أي جهد عقلي منظم، قادرين على جعل لغتهم تحتل بصورة تلقائية، مكانة اللغة العلمية، في ظرف عام أو عامين أو عشر سنوات، وهذا ما جعل «وضعنا الثقافي اليوم هو وضع المصاب بالمجاعة تبدو عليه أعراض كل الأمراض دون تحديد واحد منها بوضوح...»(21). أفلا «يتعين على كل أمة، تتمسك بلغتها الخاصة، تمسكها بحياتها، وتعتبر هذا التمسك بمثابة الواجب المقدس، والحق المشروع الذي تهون في سبيله أرواح الأفراد»(22). كما كانت أرواح آبائنا، ممن دافعوا عن لغة الأمة العربية ضد الاستعمار، لأن سياسته كانت واضحة، فهل من مرشد لنا نحن جيل اليوم إلى من يستعملنا سلاحًا ضد لغتنا؟ وسندافع، مستعدون نحن لذلك لكن ضد من؟ ضد لغات أجنبية، لم يفرضها أصحابها، بقدر ما تقبلها واستجلبها شعب هذه الأمة، أم ضد شك في العروبة نسبت للبرابرة عنوة أو طواعية، أم ضد تحديات فرضها العصر، وسلم أهلها بعدم قدرة هذه العربية على محاربتها؟ اتسم الوضع اللغوي في الجزائر بتنظيم محكم من أعداء الجزائر لافتعال صراع بين اللغة العربية والفرنسية في البداية وحين احتدم الصراع بين العربية و الفرنسية فصارعت اللغة العربية اللغة الفرنسية كادت تبيدها من الجزائر عاود المعادون للعربية الكرة بين العربية واللهجات الأمازيغية، تحت غطاء أولوية الأمازيغية لأنها لغة السكان الأصليين للجزائر، وأولى لها أن تكون اللغة الوطنية والرسمية إلى جانب العربية، فبدأت الحملة صراحة على العربية، وهو، وضع أملاه الاستعمار وتغاضى عنه المسؤولون ليتفاقم ويستحيل إلى مشكلة تهدد مصير الشعب الجزائري. وكان حريًا اتخاذ تدابير حكيمة لفرض اللغة العربية في شتى مناحي الحياة، كخيار دستوري للشعب الجزائري لا يمس، ولقد أدركت الحكومات الجزائرية كلها أهمية هذا الخيار فبادرت منذ استقلال الجزائر بسن قوانين صارمة للتمكين للغة العربية في الجزائر، ولعل الفجوات التي صارت ثغرات ثبطت السير الطبيعي للغة العربية لتستعيد مكانتها الطبيعية في الجزائر راجع إلى العوامل الآتية: - عدم شروع الدولة الجزائرية – غداة الاستقلال مباشرة- في تعريب الإدارة وتعريب الموظفين الجزائريين، فكانت الحاجة إلى فئة تتقن الفرنسية لتسير أمور البلاد، وكم كانت امتيازات هذه الفئة مغرية جعلتها تدين للفرنسية بالولاء إذا رفعت من شأنهم. - عدم اهتمام الدولة بتكوين إطارات باللغة العربية رغم استعداد الموظفين لذلك حسب ما جاء في تصريح أحدهم حيث قال: «كان من المفروض أن نعود إلى لغتنا بمجرد الحصول على الاستقلال، وإنني أعتقد شخصيًا أن الشعب الجزائري، لو قررنا التعريب الكامل في 1962 لاعتبر قرار مثل هذا طبيعيًا ولتكيف مع الوضع الجديد»(23). - استمرار الدولة بعد الاستقلال في تكوين الإطارات على مختلف المستويات والتخصصات باللغة الفرنسية. - عدم إقرار الدولة بالتعريب الكامل للتعليم حيث بدأ في السنة الدراسية 1962-1963 بإدخال مادة اللغة العربية في المناهج الدراسية بمعدل ساعة واحدة في اليوم في المرحلة الابتدائية وثلاث ساعات في الأسبوع في المرحلة الإعدادية والثانوية. - عدم فسح المجال أمام المتعلمين باللغة العربية لتقلد المناصب القيادية في الإدارة. - وقف الوظيفة على المتعلمين باللغة الفرنسية في معظم المجالات الحيوية والمناصب الهامة، وذلك بإجراء امتحانات القبول باللغة الفرنسية. في عالم اليوم «نفضل فتات الأجنبي لأنه جاهز، على أن نخدم أرضنا البكر ونطاع غرسنا وثمارنا، لأن الغرس يتطلب منا عملاً وجهدًا. إننا نفضل أن نسير في شوارع غيرنا لأنها معبدة ومريحة على أن نكشف مجاهل أنفسنا وأحراش أرضنا ومشاكل شعبنا»(24). وما دامت اللغة الوطنية خرجت من الاحتلال وهي في مثل حالتنا الصحية تدهورًا وضعفًا، فقد تبرأنا منها لأننا الآن نحن الذين سنحملها وهي مشلولة وفضلنا أن تحملنا الفرنسية على أجنحتها لأننا أمامها نحن المشلولون(25). إن المشكلة الحقيقة في الجزائر هي مشكلة الثقافة، فبلادنا خرجت منتصرة في ثورة السياسة منهزمة في ثورة الثقافة، إذ أصبح للعربية أعداء من أبنائها يرمونها بالوهن والضعف، ينادون بضرورة تبني لغة أخرى وأي لغة، إنها لغة الاستعمار نفسه، ضرة تقاسمها حقوقها في عقر دارها. إنهم مجموعة بدأت قليلة، لتنتهي فئة من الشعب لها كلمتها ويؤخذ برأيها، وهم دعاة الازدواج، وقبل أن نخوض في تسميتهم ونتعمق في موقفهم ضد اللغة العربية، نعرج على مصطلح «الازدواج اللغوي» لنعطيه القليل من حقه، بحكم تردده على الألسنة المفكرة في الجزائر خاصة، والبلدان العربية عامة، وبالأخص عند المنادين بالتعريب، فهو كثيرًا ما اقترن به، إن لم نقل كان مكملاً له. الازدواجية اللغوية لا يكاد أي بلد في العالم يسلم من تعدد اللغات، إما لأسباب تاريخية – الاستعمار ومخلفاته الثقافية – وإما لأسباب حضارية، دعت إليها ضرورة التقدم، والتطور العلمي، وعلى هذا الأساس، هناك من تقبل الازدواجية اللغوية، وكانت نعمة عليه، رفعت من شأنه، وصيرته في عداد الدول المتقدمة، وهناك من لم يحسن فهمها، والعمل بها، فكانت نقمة عليه زادته تدنيًا وتدهورًا، كما هو الحال في أغلب الدول العربية. تعريف الازدواجية «الازدواجية في ظاهرها العام هي اعتماد البلاد على لغتين أو أكثر في التعليم وبالتالي في الاستعمال اليومي في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية»(26). ولابن خلدون رأي فيها حيث قال: «البعد عن اللسان الأصلي، إنما هو بمخالطة العجمة، فمن خالط العجمة، أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم، كما قلناه، وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب، و من الملكة الثانية التي للعجم، فعلى مقدار ما يسمعون من العجم، ويربون عليه يبتعدون عن الملكة الأولى»(27). ومن هنا نستنتج أن الازدواجية اللغوية، لها جذور ضاربة في التاريخ، حيث ظهرت عند العرب القدامى، فبعملية حسابية بسيطة يمكننا تحديد زمن اختلاط العرب بغيرهم، والذي حدده المؤرخون بظهور الإسلام واضطرار العرب للتوسع في أراضيهم، ونشر الإسلام في بقاع العالم، لكن كلّ ما في الأمر أنهم كانوا يسمّونها «مخالطة العجمة»، واليوم أطلقوا عليها اسم «الازدواجية اللغوية». أنواع الازدواجية أ - الازدواجية العامة والازدواجية الخاصة: الازدواجية العامة: تشمل كلّ المجالات في البلاد كالتعليم، والإعلام، وكذا الإدارة، بحجّة مساعدة اللغة الوطنية -العربية - على النهوض أو بسبب الاعتقاد أن هذه اللغة لا تقدر في الوقت الحاضر أن تكون لغة كلّ شيء في البلاد، وبالتالي يرى أصحابها استبقاء الضرّة إلى أجل غير معلوم. الازدواجية الخاصة: هي استعمال اللغة الأجنبية في قطاع، أو قطاعات من الحياة الاجتماعية دون القطاعات الأخرى، كأن تستعمل في التعليم العالي دون التعليم الثانوي(28). ب - الازدواجية الدائمة والازدواجية المرحلية: الازدواجية الدّائمة: هي أن ينطلق هذا البلد العربي، أو ذاك من مبدأ الأصالة، والتفتّح فيعتمد لغتين للاستعمال في البلاد، واحدة تمثل الأصالة، والماضي بما يمثله من عواطف وقيم، وتراث وثقافة دينية، يفرض استبقاءها الواقع التاريخي، والثقافي للفئات العريضة من أفراد المجتمع، وواحدة توصف بأنها مفتاح التقدم وغزو الكواكب، فيرى الحارسون على مستقبل البلاد استبقاءها ونشرها لتصل بالبلاد إلى مصاف الدول المتحضرة، على اعتبار أن اعتماد اللغة العربية وحدها على ما هي عليه - في نظرهم- من جمود وضعف ستجمد حركة التنمية في البلد حتمًا. الازدواجية المرحلية: هي التي تعتمد فيها اللغة الأجنبية -لظروف تفرضها الضرورة- لتهيئة الإطارات الوطنية المتكونة باللغة الوطنية، لتقوم بمهمة التعريب الكامل والشامل(29). جـ - الازدواجية الفئوية والازدواجية الفردية: الازدواجية الفئوية: هي التي تؤدي فيها السياسة التربوية، والتعليمية في البلد، إلى خلق فئات لغوية كل حسب اللغة التي يتكلم بها، وطبعًا ترتيب اللغة الوطنية معروف بينها (المرتبة الأخيرة). الازدواجية الفردية: هي أن يكون الفرد المتعلم في المجتمع عارفًا بلغتين اثنتين (لغة وطنية ولغة أجنبية) معرفة جيدة بحيث يستطيع استعمال كلتيهما بنفس الدرجة والكفاءة، وهذا النوع من الازدواجية لا يضر بل يفيد الكفاءات اللغوية للأفراد إذا روعيت فيه الشروط(30). د- الازدواجية الإيجابية والازدواجية السلبية: الازدواجية الإيجابية: هي ازدواجية تعتمد منذ البداية كمرحلة النهوض بمستوى اللغة الوطنية، لكن بالقدر الذي يفيد لغتنا ولا يضر بها. الازدواجية السلبية: هي الازدواجية التي تتجاوز حدها لتنقلب إلى ضدها، فتسيء أكثر مما تبني ومن نتائجها خلق فئات، وطبقات اجتماعية متعارضة المصالح، والاهتمامات، والاتجاهات الفكرية، والثقافية. والجزائر اليوم تعيش تجربة صعبة في المجال اللغوي فهي تحاول تحقيق جميع أنواع الازدواجية، ولم تكن « النتائج الفعالة التي عادت بها العربية غير المنافسة المذلة التي قلبت المفاهيم والقيم فأصبح الدخيل أصيلاً، والأصيل دخيلاً، والغريب ابن الدار، والمواطن، والوطني غريبًا»(31). معاناة اللغة العربية من الازدواجية اللغوية في الجزائر إن سبب مأساة اللغة العربية في بلادنا هو انشطار مثقفيها إلى شطرين: فئة ذات ثقافة فرنسية (المفرنسين)، وفئة معارضة، ومحاربة لها ذات ثقافة وطنية (المعربين) . أما الفئة الأولى فهم الذين تبنتهم فرنسا، وعلمتهم لغتها، وثقافتها، وأوقعت في روعهم أن الثقافة تنحصر فيها، وأن تاريخ الجزائر بدأ بقدومها (سنة 1830)، وجردتهم من كل مكتسباتهم الراسخة فأصبحوا «يقدسون أعلام الفكر الأجنبي جاهلين أن ديكارت سبقه الغزالي، وأن فيكو سبقه ابن خلدون، وديفو سبقه المعري، وأن لمارتين سبقه عمر بن أبي ربيعة»(32). ويمكننا تلخيص موقف هذه الفئة في: إن الجزائر استقلت، ولم يكن للعربية وجود في المدرسة الجزائرية، وأن اللغة التي كانت مستعملة، وكان يفهمها الشعب الجزائري هي اللغة الفرنسية، وهذه الأخيرة متطورة جدًا، وصالحة للعلوم في حين أن العربية لا وجود لها، وهي متأخرة، وعاجزة عن إحداث نهضة ثقافية، وعلمية في بلادنا ولهذا فسيكون «من الحمق ومن إضاعة الوقت أن نهمل لغة حية في سبيل لغة أثرية يستحيل عليها التطور. والحقيقة أنه لا توجد لغة بدائية، أو جامدة، أو قاصرة، وإنما يوجد قوم بدائيون، وجامدون لأن أي لغة قادرة على التطور، والنمو، واستنباط المفردات، والتراكيب الملائمة للحاجة الجديدة، والمخترعات لدى أهلها، وإذا لم يكن لدى أهلها حاجة إلى الاختراعات، والاستعمالات فإن اللغة تبقى كما هي، والمخترعات لدى أهلها وإذا لم يكن لدى أهلها حاجة إلى هذه الاختراعات والاستعمالات فإن اللغة تبقى كما هي(33). وهذا الموقف الصريح عن نيتهم في إبقاء الفرنسية كلغة إلى جانب العربية كلغة أدب ودين، يرفضه المنطق السليم، ويأبى أن يطرد الغازي من الأوطان المستعمرة الأقطار، وتبقى لغته عالقة بالأفكار ساكنة في المشاعر، فلا استقلال دون طرد ذوات الأجانب، وحرية دون محو أخلاقهم، وأفكارهم المتمثلة في لغتهم. ويأتي من الفئة الأخرى – المعربين- التي نضم صوتنا إليها قائلين: «إنكم تخلطون خلطًا شديدًا في أمر الازدواج اللغوي، فليس هذا الأخير هو أن نقسم المواد المدروسة بين لغتين ولا أن نخصص إحداهما بالمواد العلمية والأخرى بالمواد الاجتماعية والأدبية والدينية، بل هو أن يتقن المواطن اللغة القومية إتقانًا كاملاً شاملاً، وأن يعرف لغة أجنبية معرفة حسنة كلغة ليس غير. هذا هو الازدواج اللغوي عند كل من يفكر ويقدر للكلمات موقعها من الكلام، وأما أن يعتمد على هذا، لمعارضة شيوعية اللغة القومية في دارها، فهذا هو الحيف بعينه، وهذا هو الضلال الذي ينبغي أن يشفى منه كل جزائري يقدر مسؤوليته كمواطن»(34). وتستمر محاولات المطالبين بالمحافظة على الفرنسية، بلفت أنظارنا إلى المستوى العلمي والفني الذي أحرزته، وكأنهم يتخيلون أننا نجهل قيمة هذه اللغة، وننكرها، ولو أنهم تعمقوا فيما يطالبون به، وعادوا إلى ما قبل القرن السادس عشر الميلادي - العهد الذي كانت فيه العربية لغة العلم والحضارة- لأدركوا أنهم ومن حيث لا يشعرون يؤيدون رأينا في وجوب إعادة اللغة القومية إلى مكانتها. ذلك أن الفرنسية قبل أن تبلغ ما هي عليه اليوم، كانت لغة ميتة، أو كالميتة في وطنها، لولا جهاد رجالاتها أمثال «رونسار»، و«دوبيلي» ضد من كانوا يرون أن الفرنسية لا تصلح لإحداث نهضة ثقافية، وهو نفس الموقف الذي نتخذه نحن اليوم ضد من يرون أن العربية غير صالحة لمواكبة التطور العلمي(35). «هذه الفرنسية التي اعتبرت بغير حق في بلادنا، لغة العلم، والخير، والإدارة، تشكو كثرة الأزمنة، والقوالب وصعوبة الإملاء، والإلقاء، وكثرة الحروف، وتنوعها، وتقاربها في اللفظ الواحد. فهل هانت لغة فرنسا عند الفرنسيين لأنها صعبة ؟»(36). ثم كيف نرضى للعربية وهي الأكثر عظمة -لغة القرآن- أن تهان وتدفن في أرضها وبأيدي أبنائها؟ ‏أيطربكم من جانب الغرب ناعب ينادي بوأدي في ربيع حياتي(37) وهل يوجد في الفرنسية ما بخلت به ما عجزت عنه العربية؟ يدعي أنصار الازدواج أن -الازدواج اللغوي- ما هو إلا مرحلة انتقالية يتطلبها الظرف الحالي للبلاد، وإنهم ينتظرون نهوض العربية إلى جانب الفرنسية. فكيف تنهض هذه اللغة وقد جلب إليها منافس خطير ساعدته الظروف التاريخية، والسياسية، والثقافية على أن يكون مستجيبًا أكثر لمقتضيات الحياة العلمية المحلية. ‏لقد أجبرت العربية أن تخوض سباقًا معروف سابقًا أنها ستخسره لأنها خارجة من وسط يعيش حالة استلاب ثقافي، ومثقلة بأوزار عهود الجمود، والتقوقع، فصغرت في نظر شعبها، ورأى في غيرها مخرجًا له، يتبع ثقافة غير ثقافته، ويسير كالدابة مغمض العينين، مكبل اليدين، يرضى في حقه، وحق أمته ما رخص «يبلع الشتائم الموجهة إليه، وتبناها، وما يبقى له هو محاولة التجرد من نفسه، وتقمص شخصية الأمة الغالبة... حتى يتم اندماجه فيها كلية، ولا تنطبق عليه كلمات التحقير المخصصة لبني قومه»(38). ‏علينا أن ندرك تمام الإدراك أن حرية، وعزة، وسيادة أية أمة تكون في سيادة لغتها، وإذا كانت عاجزة عن مواكبة التطور فمهمتنا النهوض، والإسراع إلى تطويرها، وخلق روح جديدة، ونفس جديد لهذه اللغة لا باستجلاب شريك لها، وأي شريك لأن «الازدواجية قد تكون مفيدة للغتين متقاربتين في المستوى، إما بين لغة في نهاية تطورها، وأخرى في بداية هذا التطور، تعني أن تأكل القوية الضعيفة، وتطرد المتطورة المتخلفة من دارها»(39). هذا هو الهدف الحقيقي من الازدواجية التي ينادي بها المتفرنسون «هدف لا يخرج عن طريق مقاسمة اللغة القومية لسيادتها في عقر دارها»(40). ولهذا نحن نلح على ضرورة الفهم الصحيح لهذا المصطلح -الازدواج اللغوي- فإذا كان المقصود منه تعجيز، وتحقير اللغة العربية فهذا ما لا نسمح به، ولو من باب النقاش والمداولة فيه. أما إذا كان المقصود منه هو مجرد إتقان لغة أخرى أجنبية تمكننا من الانفتاح والتطلع إلى مستقبل متطور، فنحن من أنصار هذا الازدواج، ونؤيده، ونختار له بدل اللغة الواحدة عدة لغات، وسنكون من المرحبين بها دون نسيان «إن الإنسان العاقل لا يفكر في الترحيب بالناس إلا إذا كان له منزل يأوي إليه، ومعنى ذلك أن الأخذ عن الغير مفيد شريطة المحافظة على أصالتنا»(41). إن ثقافة شعبنا تعتمد على تعليم اللغة العربية في المراحل الأولى، ثم الاستعانة بلغة أخرى – الفرنسية مثلاً- في مراحل متأخرة كالطور الثانوي، وبهذا يكون الطفل قد صبغت بذهنه لغته القومية، والفرنسية تبقى مجرد لغة في ذهنه، ولسانه. «لقد وددنا ومازلنا – بكل صدق- لو يفهم هؤلاء الناس - ممن ينطقون ويدافعون عن اللغة الفرنسية- الازدواج اللغوي كما نفهمه، ويفهمه العقلاء في بلدان العالم، وإذن نلتقي عند مجموعة من المبادئ ترد إلى الجزائر شخصيتها الثقافية والقومية، وتدعم هذه الشخصية لا بلغة أجنبية واحدة وإنما بلغات أجنبية عديدة، ‏تمكن بلادنا من التعامل على قدم المساواة مع جميع البلدان الصديقة، وغير الصديقة لتفق على حقيقة أولية، وهي أن لا استقلال، ولا رقي إلا في إطار قومي، وباللغة القومية، وبعدما يسهل علينا أن نتفاهم على المكانة التي يجب أن نخصصها للفرنسية، أو للغة أخرى»(42). لقد آثر بعض المحدثين استخدام مصطلح «الازدواجية»، وهم يتحدثون عن الفصحىالعامية كمشكلة تعاني منها شعوب البلدان العربية.و«يميل الدكتور إميل يعقوب إلى أن يسميها «الثنائية اللغوية»، ويبدو أن هذا التداخل يمتد إلى العصر الجاهلي حينما كان في القبيلة مستويان للتعبير»(43). ومن هنا رأى اللغويون استخدام مصطلح (المستوى)، وهم يتحدثون عن اللغة العربية كلغة قائمة في حد ذاتها تنقسم إلى مستويين : المستوى الفصيح، والمستوى العامي. مبادرة الحل النهائي للأزمة اللغوية في الجزائر ‏ارتأى الغيورون على الوحدة السياسية والثقافية للجزائر قضية التعريب كحل يفرض على الأمة استخدام العربية، نظرًا للحالة التي فرضت على الواقع الثقافي الجزائري، فظهر نوع من التصدع في الوحدة ‏الاجتماعية، فكان التعريب القضية التي فرضها الماضي، و‏حتمها الحاضر، ‏ويؤكدها المستقبل، والمراد بالتعريب هو استخدام اللغة العربية، لغة في كل مناحي الحياة المختلفة في الجزائر. وقد استخدم هذا المعنى للتعريب في الفتوحات الإسلامية خلال القرون الثلاثة الأولى، فالتعريب في بلادنا هو جزء من حركة التاريخ التي ترتبط بمراحل التطور التي تعيشها أمتنا وليس في استطاعة أحد إيقاف حركة التاريخ(44). ‏إن الخيار بين اللغة الوطنية واللغة الأجنبية أمر غير وارد البتة، فمنذ أن صرح الرئيس الراحل «هواري بومدين» أن التعريب مطلب ثوري لا هدف فقط» قد ميز بين المطلب والهدف. فكونه «مطلبًا» يمنحه صفة المشروعية الثورية ويجعله في مقدمة الاهتمامات، ويجند من أجل تحقيقه جميع الوسائل، في حين لو كان مجرد «هدف» فهو لا يعني أكثر من أنه أحد الأهداف البعيدة التي نسعى لتحقيقها والتي يمكن لها أن تنتظر(45). ‏لا يمكن أن يجري النقاش حول التعريب إلا فيما يخص المناهج والوسائل والمراحل، ومن هنا لم يعد التعريب اختيارًا سياسيًا، بل فرضًا طبيعيًا فرضه علينا واقعنا الاجتماعي. ‏لقد‏ دخل التعريب مرحلة التنفيذ القانوني، ولم يعد بإمكان المناوئين له الوقوف في وجهه جهارًا، فتغير أسلوبهم، واستمرت مقاومتهم للتعريب تحت صور متعددة، أخطر مما كانت عليه في السابق، ‏فهي مؤامرات مدروسة، استغلوا غياب المراقبة، في تنفيذها في حين كان اهتمام أنصار التعريب منصبًا على الشعارات الحماسية التي رددها معهم أعداؤه، بل كانوا في الظاهر أكثر حماسة منهم، وكان أسلوبًا ذكيًا من هؤلاء مكنهم من احتلال مناصب مهمة للتحكم بمصير هذه الفكرة الفتية، وأصبحوا هم المشرعين والمخططين، والساهرين على التعريب بدراسات، وحسابات تسير به للنهاية المحدودة، والمحددة بالفشل والإخفاق(46). كان التعريب ومازال أحد الأهداف السامية للمجتمع الجزائري بدءًا من عهد الاحتلال أصر القادة في مختلف بل أشد المناطق على أن التعريب مطلب وطني وهدف ثوري، ووصولاً إلى يومنا هذا حيث أصبحت الضرورة ملحة، ‏، إلحاحًا من أي زمن مضى بوجود موجة التعالي على الواقع الثقافي العربي الأصيل، ‏والتنكر له، ومحاربة اللغة العربية التي تحافظ على هذا الواقع ضد مختلف عوامل المسخ والذوبان. الخلاصة ينتهي بنا المطاف هنا وقد رأينا أن اللغة العربية قد خاضت حربًا ضروسًا ضد اللغة الفرنسية، وكيف جابهت السلطات الاستعمارية اللغة العربية، وقد مارست ضدها أقسى القوانين الداعية إلى إبادتها من الجزائر بدعوى أنها لغة أجنبية دخيلة على الجزائريين، وفي المقابل إصرار الجزائريين على عروبتهم ومقاومة الفرنسية لغة المستعمر، وافتعال فرنسا صراعًا لغويًا بين العربية واللهجات الأمازيغية إرضاء لتغليف هزائمها المنكرة أمام الجزائر في المعارك المسلحة، ثم انهزامها أمام اللغة العربية في معركة البناء والتشييد بعد الاستقلال، ولم تجد منفذًا للرجوع إلى الجزائر إلاّ بافتعال الصراع اللغوي الثقافي في الجزائر، وإن هذا المسعى هو آخر معقل لها في المغرب العربي ـ بأذن الله ـ وسوف تنتصر اللغة العربية كما انتصرت بالأمس وسوف تحبط كل محاولة للنيل منها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق