السبت، 24 أغسطس 2013

التفاعل اللغوي والبرمجة الكونية

التفاعل اللغوي والبرمجة الكونية / حسين عجمية

husan_ajmyaالقدرة اللغوية صيغة تعبيرية متفاعلة مع التغيرات الجارية مهما بلغت قوة الدقة في بنيتها التكنولوجية وقدرة اختصارها  للوجود على نحو تشكيل الوعي البشري ضمن إطار الدمج الالكتروني للمعارف والثقافات البشرية .
فقدرة اللغة على مواجهة التحديات الناشئة والتغيرات الطارئة على البنية التكوينية للمعارف الإنسانية، يجعلها متداخلة مع بنية العالم في جوهره وأساس تطوره الدائم، والتفاعل مع المتغيرات  بحيوية فائقة، لأن الوعي التعبيري والثقافي هو الطاقة الكاملة عند الشعوب، لتأمين التفاعل مع التغيرات الجارية والمتزامنة مع التطورات السريعة للمعارف العلمية والبرامج الالكترونية وأجهزة الإرسال الموجه، لقد تفاعلت مع حياة الشعوب الداخلة في نظام يسعى للإنقلاب على وجوده التاريخي وتعديل البنية الاجتماعية للوجود البشري، من خلال بث كم هائل من المعرفة المختلفة والمغايرة والمتضاربة أحياناً أخرى، على كامل الساحة الكونية للوجود الأرضي . فالقدرة اللغوية على الانفتاح على كافة المسائل المتعلقة بالوجود، والقدرة على معرفتها وتضمينها وعياً ينسجم مع البنية العقلية والمعرفية ـ وقدرتها على احتواء المعارف وأنماط السلوك وطبيعة العقائد والطقوس، نابعة أساساً من بنيتها التكوينية والطريقة التي نشأة فيها، فاللغة المعدة لمواجهة التحديات وأساليب التفاعل مع العقل هي لغة حية في أساس تكوينها، فالطاقة اللغوية طاقة انفتاحية على المعارف العلمية والتقنية، ومجمل المفاهيم الفكرية والفلسفية قادرة على إحداث تحولات جذرية في البنية المفاهيمية والثقافية السائدة، لأنها مترافقة مع همه معرفية وتهيئة ذهنية وصفاء في البعد الشعوري والوجداني للانخراط في المشاركة الواعية لبناء الحضارة الإنسانية، والإسهام في بناء واقع ثقافي كوني، متعمق وقادر على النهوض الاجتماعي والاقتصادي، فيما يعزز التفاعل وإرساء قواعد ناظمة لعلاقات فاعلة في الوجود العالمي .
اللغة الحية تدخل المعترك الكوني لأنها تدرك بأن مجالات الانفتاح في بنيتها لا يمكن التأثير فيه ولا يمكن  إنهاء دوره وأثره في البنية التكوينية المعرفية والمضامين النفسية الداخلة في وجودها بعمق تاريخي منقطع النظير .
المعرفة عطاء يعطي الاتساع في الوعي الاجتماعي تعمقه وتزيد محتواه وترفع مستواه التفاعلي ليدخل في مجرى الحياة الإنسانية على أساس متين، ويمتلك أسلوباً للتفاعل مع المتغيرات الجارية في العلم . في الاتجاه المقابل غالباً ما يعمل المجتمع للحد من النشاط المعرفي ويعطيه حدوداً، إنه يقلص الوعي الفعال في حدود ويقلل من محتواه الفعلي، فيظهر الوعي المعرفي محاطاً بأسلاك شائكة لا يجوز اختراقها، لأن المجتمع لا يريد العبور خلف حدوده، فيعطي الأفكار مردوداً يعادل قدرته على الحركة والتفاعل مع الوعي الخارج عن الإطار الاجتماعي، ويحدد المعرفة القادرة على الدخول في بنيته، فيخلق التباين الاجتماعي الفكري في المجتمعات الإنسانية، وتتحدد هوياتها من خلال المضامين المعرفية المنبثقة من بنيتها الداخلية، بشكل يقلل قدرة التفاعل الكوني في ابتكار المعارف وتصميم محتواها على كامل الوجود الإنساني .
فالسرعة في إحداث التبدلات الاجتماعية قائمة على وعي مختلف في وجوده عن الوعي الثقافي الناشط داخل البناء الاجتماعي، لأن السرعة في إحداث التبدلات الاجتماعية تحتاج إلى وعي علمي وأساليب عملية يضعها العلم أمام الوجود الاجتماعي لتدخل في نظامه، وتكون قادرة على خلق الظروف المغايرة لما هو سائد، فالسرعة التي حققها العلم في تطوير وسائل التعبير والاتصال تمتلك في بنيتها ما يجعلها توفر كافة السبل والوسائل لتأمين الاتصال بين الناس، وتجعل إمكانية المعرفة واسعة إلى حد بعيد، وتسرع الوقت اللازم لإكتساب المعارف والإطلاع السريع على تجارب الأمم وكافة الإنجازات الثقافية، والكثير من أنماط الحياة المختلفة .
فالتقدم التكنولوجي يجعل التواصل الإنساني مرئياً ومسموعاً والتقارب الإنساني يصبح واضحاً لأن الوعي مباشر والمشاهدة حية، فلا شيء يقوم بتزوير الحقائق ولا مجال للشائعات والأكاذيب والتلفيقات على أساليب الوجود ومختلف  أنماط الوعي والسلوك للمجتمعات المتغايرة الثقافات، فتظهر الحقائق متجلية للعيان كمشاهد وسامع وحتى التواصل الشخصي يلعب دوراً في نبذ الأوهام المعبأة للعقول حول البنية الأخلاقية وغيرها من الأنماط المختلفة عند كل الشعوب، فالحقائق تأتي من الأخر بشكل مباشر مترافقة مع توضيح جميع الخصائص والسمات التي تقوم عليها العقول في العالم .
فالاتساع المتزايد  لوسائل الاتصال الكونية وقدرة المتابعة اللحظية لكافة المجريات العالمية، تعمق روح المشاركة الوجدانية بين الشعوب وتجعلهم منفعلين أمام نوازل الدهر والمشاكل المأساوية الحاصلة في أماكن متفرقة من العالم، نظراً للمشاهدة العيانية للأحداث بتفاصيلها الدقيقة، فيتعمق البناء التفاعلي والقدرة على التلاحم أمام مآسي الوجود ويرتفع الوعي المحلي حتى التلاقي مع الوعي العالمي، ويتأمن وضع عالمي مخالف في طبيعته وسلوكه عن أناط التفاعل السابق بسبب انتشار وسائل الاتصال المتقنة فتدخل العادات والأساليب الاجتماعية وكل ما يمكن أن يستوعبه الإنسان داخل بنيته النفسية، فيتسع الأفق العام للأفكار بما يعزز التواصل والقدرة على قبول الاختلاف، فجميع الأفكار والعادات والتقاليد تظهر وكأنها طبيعية لا تؤثر في النفس المغايرة بشكل يجعلها رفضية أو مستهجنة، لأن الحياة الكونية تهذب العقول وتعزز طاقة الاستيعاب فيها، فينشأ واقع يمكن الاعتماد عليه في خلق وعي قادر على التجاوب  مع المتطلبات الإنسانية، وتتخذ كافة الإبداعات ومجمل الأفكار الناشئة عن قدرة التوسع المماثل لماهية الكون، وتتجه جميع الإنجازات المادية والعقلية لتلبية الضرورات على إجمالي المساحة الجغرافية للوجود البشري .
بهذا التعمق تنفتح الآفاق ويدخل الإنسان عصر الكونية وتتوسع الطاقات اللغوية لتندمج وتتفاعل مع كافة اللغات الحية في العالم، ويتهيأ الواقع لتغيير مضمونه التاريخي، بحيث يطهر الإنسان فاعلاً في محيط أوسع، ويدخل في نظام من علاقات متفاعلة ومتواصلة مع كافة العناصر البشرية، وتزداد القدرة البشرية على تحديد مصادر الشر على الأمن والسلام والوجود، وتتسع جهود المواجهة لكل عمل أو تخريب يمس العملية الجوهرية للتقدم الاجتماعي وخلق بؤر للتوتر الدائم وتزداد قوة الرفض الإنسانية لكل ما يعيق وجودها الحر والآمن، إنها مرحلة شديدة التفاعل لخلق واقع مغاير للتوجهات الحربية من أجل مصالح محلية ضيقة، وترتفع المسؤولية إلى المستوى المعبر عن الحرص الشديد لمجمل المسائل والأهداف والغايات الحريصة على تأمين سلامة الكوكب من جميع الأخطار الناتجة عن الجوع وتفاقم الأمراض ويأتي في مقدمتها الأخطار الناتجة عن التلوث والأخطار الناتجة عن الحروب، وتوحيد الجهود الإنسانية للقضاء على الأمراض وكافة المشاكل الناتجة عن الأخطار الإنسانية .
فيما يخص المحور الأساسي للعلاقة التعليمية بين المعلم والمتعلم يتم التغيير التدريجي للدور المحاط بجوهر العملية التعليمية والمؤسس على إعطاء المعلم القيمة الفعلية في عملية التعليم على كامل المساحة التاريخية قبل ظهور التكنولوجيا، لقد كان المعلم فعالية متصفة بالبعد والسعة والاحترام ويلعب دوراً مهماً في واقع يتصف بالنهوض، فالمعلم كان مفتاح المعرفة وأساس بناءها، يمتلك قيمة ذاتية لأهميته في إعداد الإنسان القادر للدخول ضمن الفاعلية الاجتماعية والعلمية ومجمل الهيكلية الإدارية والسياسية المتشكلة في بنية المجتمع وهو الناظم الأساسي لإعداد العقول القادرة على تأمين الغطاء الهيكلي للمجتمع ورفده بالكوادر اللازمة للقيام بالأعباء الاجتماعية والثقافية بمختلف أشكالها، غير أن الواقع لم يستمر على نفس الدرجة من التتابع في صياغة الواقع وتوضيح دوره، فالتطور التقني البالغ الدقة غير المجرى البنائي لهيكلة التعليم ذاتها وشق مجرى مخالف لما هو قائم، حيث ظهر المتعلم بأنه المحور الأساسي لعملية التعليم فتغيرت نمطية العلاقة الداخلية في المجتمع لتؤكد بان جوهر العملية التعليمية مبنية أساساً على إعداد متعلم كفوء يمتلك قدرة توجيه الذات وصيانتها وتشكيل محتواها بما يتفق مع التغيرات الكونية، فدخلت التربية كأساس مرافق لعملية العطاء المعرفي، فليس من الواجب إعطاء الإنسان القدر المطلوب من المعارف المكتسبة دون أن يرافقها أخلاق تعطيها بعدها الواعي في التفاعل الاجتماعي والعالمي، كي لا تظهر المعرفة وكأنها ثمار كثيفة على أشجار عارية من الخضرة، لأن ما يعطي مذاق ثمرة العلم نكهتها الخاصة هي التفاعلات القائمة في أوراقها لأنها تكمل المواد الضرورية في تركيب الثمرة وتعطيها قدرة النضج الصحيح والمفيد .
 إن العالم بدأ يدرك أكثر فأكثر بأن الوجود العلمي والتفوق العلمي في جميع مجالات الحياة قد يؤدي إلى كوارث إن لم ترافقه فاعلية قيمية تقيه من خطر الانجراف نحو المتاهات المضللة، فالإرهاب هو الصورة الأكثر وضوحاً لهذه المسألة، كما أن البنية التكنولوجية القابلة للانحراف تميل إلى الاستهتار بالعلم والمعرفة وإن التساهل في ضبط القيم التفاعلية في المجتمع تغيّر النظرة تجاه القيمة الأساسية للحياة وتظهر الفعاليات الاجتماعية الهامة وكأنها لا تعبر عن مضمونها الحقيقة لأن النظام الاجتماعي لا يعطيها الأهمية الكافية، فعندما  ينظر المجتمع إلى ممثلي العدالة وكأنهم تجار أو قيمة موازية لسائقي الأجرة ضمن وظائف اجتماعية يتراكم الفساد فيها و يظهر النسيج الاجتماعي كأوراق مختلفة تغطي الأرض ولا يفوح منها سوى رائحة العفن .
فالسرعة الكمية لتزايد وسائل الاتصال وتقنياتها العالية تؤدي إلى عزوف الناس عن قراءة المطولات والاكتفاء بالقراءات المختصرة، والحصيلة النهائية لعطاءات الفكر المختلفة، فعندما كانت الاتصالات تعاني من البطء الشديد كانت الموسوعات والروايات الضخمة هي السائدة والمعبرة عن روح المجتمع، فالإسهاب ووصف الأفكار ومقدرتها على التسلية كان الواقع السائد في المجتمعات الهادئة كما هي الحال في الكوميديا الإلهية لدانتي وألف ليلة وليلة، فالموسوعات الفكرية والقصصية هي السمة الأساسية لعصر التفاعل البطيء والطويل .
وفي العصر الراهن وأمام تزايد الكم الهائل من قنوات الاتصال والبث الموجه والتنوع في وسائل التعبير والتفاعل بين البشر، أحدث عصراً يعتمد في حياته على قصر المعلومات والمعارف المكثفة وظهور إمكانية دمج كم هائل من المعارف في مساحات صغيرة جداً، وانتقاء ما هو ضروري منها وما يناسب الوضع الاجتماعي والثقافي والعلمي للفرد إضافة إلى قدرة  الإطلاع على كافة أنواع البث التلفزيوني في العالم وقدرة الدخول إلى كافة الشبكات والمواقع على اختلاف مستوياتها، فالواقع الجديد وما يحويه من مضامين لا بد أن يرفع الوجود البشري إلى عصر مختلف في ماهيته الأساسية، ولا بد أن يكون للعالم نظام يخالف كل ما هو سائد قبل ظهور الواقع الجديد، ولا بد  أن تصبح النمطية الاجتماعية في العالم على قدر كبير من الترابط والتقارب، وبالتالي فإن الحياة وكافة المسائل المتعلقة بها لا بد أن يصونها الواقع الكوني المتشكل لأن المشاكل لم تعد تحصل في إطار هامشي بعيد عن اهتمام الشعوب وتطلعاتها، فما دام الاندماج الكوني مستمر في التفاعل بين أرجاء المعمورة، لا بد أن يتوافق مع الدمج الفعال للنظم والقوانين السائدة في الكون لأن الحياة في ترابطها المنسجم تؤدي إلى ترابط كافة مكوناتها، وبالتالي التوصل إلى حلول جماعية تهم العالم أجمع وتخص العالم أجمع، فالقدرة  على الانعزال اضمحلت كثيراً وهي مستمرة في ذلك، وبالتالي فإن الانفتاح الكوني لا بد أن يتوافق مع وعي كوني ونظام كوني .
 
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :1978 الخميس 22 / 12 / 2011)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق