مدونة تهتم باللسانيات التداولية التفاعلية الاجتماعية تحاول ان ترسم طريقا مميزا في معالجة الاشكالات المعرفية المطروحة في هذا النسق العلمي بالمناقشة والرصد والتحليل والمتابعة
الخميس، 30 يونيو 2011
دراسة لغويّة اجتماعيّة لظاهرة المغالاة (الشوفنيّة) لدى الشباب الأردني كما تعكسها الكتابة على الجدران
دراسة لغويّة اجتماعيّة لظاهرة المغالاة (الشوفنيّة) لدى الشباب الأردني كما تعكسها الكتابة على الجدران
الطالب/ سهاد فاروق رفيق الحميدي
قسم اللغويات-الجامعة الأردنيّة
المشرف /الدكتور حسين ياغي
المُلخَّص :
يعتقد الكثيرون بأن الكتابة على الجدران Graffiti هي سلوك غير سويّ لأنّها ليست المكان الصحيح للتّعبيرعن الرأي بصورة حضاريّة. و يعتقد آخرون بأنّ ظاهرة الكتابة على الجدران تزداد سوءاً عندما يكون محتوى الكتابة سلبيّ، كأن يؤثّر سلبيّاً على الوحدة الوطنية بين أبناء المجتمع الواحد و يتعارض مع سياسات الدولة في تقوية الوحدة الوطنية. فانتشار الكتابة السلبيّة قد تُعرّض الوطن لمشاكل التنافر بين المواطنين بدلاً من التعاون والّتكاتف لحلّ مشاكل المجتمع الحقيقية كالبطالة والأميّة والجريمة. كما تعطي هذه الظاهرة صورةً سلبيّةً عن المجتمع بأكمله من خلال ما تمثّله هذه الفئة فقط من قيم متطرّفة تتعارض مع قيم المجتمع الأصيلة. يتناول هذا البحث المغالاة (الشوفنيّة) كظاهرة اجتماعية خطيرة في الأردن بالإضافة إلى ظاهرتين مرتبطتين بها هما الأنانية والانتماء الوطنيّ كما تُعَبّر عنها الكتابة على الجدران. ويتقصّى هذا البحث تأثير عدد من العوامل على ظاهرة الكتابة الشوفينيّة، مثل عامل المكان الذي أُخذت منه الكتابة، والسطح المستخدم للكتابة، وجنس الأشخاص الذين يلجأون إلى هذا الأسلوب من التعبير وعمرهم ، وسريّة الأسطح المستخدمة للكتابة. ويقوم البحث بعد ذلك بتحليل نوعيّ للجمل الشوفنية ذاتها من حيث الشكل اللغويّ والمحتوى؛ أما من حيث الشكل اللغوي، فيدرس البحث ما إذا كانت لغة المكتوبات عربيّة أم إنجليزية، عامّية أم فصحى، أدبيّة أم غير أدبيّة، إذا كانت قويّة التأثير أم بدرجة قوّة عاديّة. أمّا من حيث المحتوى، فيدرس البحث ما إذا كانت المغالاة تتضمن انتماءً أو تعصبّاً للبلد، أو للقبيلة، أو للرّياضة، وفيما إذا كان هدف الكاتب هو التصريح عن رأيه، أوهجوما على غيره، أو دفاعا ورداً على ما كتبه غيره،أوالتماساً لطلب ما. ويتضمّن تحليل المحتوى كذلك تحليل المزاج العام لكاتب الجمل وقت كتابتها؛ ما إن كانت هذه الكتابة تعبّرعن فخر، أوغضب، أوحزن، أوسعادة. وأخيرا وليس آخراً، حاولنا استقصاء الآثار النفسيّة التي قد تتركها الكتابة على القارئ، فميّزنا بين ما هو موحِّد و مفرِّق ومحايد. و خلص البحث إلى التأكيد على خطورة هذه الظّاهرة الاجتماعية نظراً لمحتواها السلبيّ على المجتمع خاصّة و أن العيّنة المدروسة هي من طلاب الجامعات وأبناء المدارس الذين هم مستقبل الأمّة وبسواعدهم تُبنى. كما أوصى البحث في نهايته قادة المجتمع باتخاذ الإجراءات الضروريّة لمحاربة هذه الظاهرة.
المقدمة :
تعتبر ظاهرة الكتابة على الجدران من الظّواهر التي تعكس بشكل جليّ المفاهيم الاجتماعية للأفراد بما في ذلك الأمراض التي يعاني منها المجتمع من خلال ما يعاني منه أفراد هذه الفئـة ، ومن هذه الأمراض وأخطرها: الشوفنيّة أو التعصّب الأعمى لبلد أو قبيلة أو عائلة أو ديانة ما الى غير ذلك. حيث يؤدي هذا التعصّب غير المبني على الحقائق العـلميّة إلى مشكلات في غاية الخطورة والتي ستؤثر حتماً على حياة الفرد بشكل خاص وعلى الوحدة الوطنية ككل. فانتشار الكتابات التي توحي أو تُصرّح بالشوفينيّة قد يؤدّي إلى تزايد عدد من يقوم بالكتابة على الجدران أو زيادة عدد من يقرأ هذه الكتابات أو زيادة أنواع التعصّب و تطور تاثيراتها السلبيّة على المجتمع.
ومن هنا، قررنا دراسة موضوع الشوفنيّة أو التعصّب الأعمى لدى الشباب الأردني كما تعكسه الكتابة على الجدران. ويهدف هذا البحث إلى دراسة تلك الفئة التي تلجأ إلى مثل هذا النوع من التعبير النفسي عن قرب من خلال معرفة جنس الكاتب وعمره ومستواه التعليمي، حيث ستقودنا هذه العوامل وغيرها إلى التعرّف على أهداف الكاتب ونوع التعصّب الذي يعاني منه والمزاج العام له أثناء الكتابة بالإضافة إلى معرفة ما يترتب على هذه الكتابة من آثار في نفس القارئ.
هذا البحث قائم على منهجيّة علميّة تعتمد على التحليل النّوعي لمحتوى الكتابة ثم استخدام التحليل الكمي لتكميم المعلومات النوعية وإيجاد ارتباطات إحصائية مع متغيّرات متعددة. ويطمح هذا البحث إلى المساهمة في كشف هذه الأمراض الاجتماعية وتقديم تصّور علميّ حول ارتباط محتوى الكتابة مع متغيّرات شخصيّة (ديمغرافيّة) و متغيّرات هامّة أخرى. و تكمن مشكلة الكتابة على الجدران في أنها وسيلة تعبير غير مقيّدة بضوابط أخلاقية لعدم معرفة هوية كاتبها و لعدم التمكّن من ملاحقته قانونيا لتحميله مسؤولية الإضرار بالممتلكات العامّة و الخاصّة.
الدّراسات السابقة:
يمكن تعريف الكتابة على الجدران بالكتابة على الممتلكات العامّة أو الخاصّة والتي غالباً ما تكون غير قانونيّة (رأفت الروسان:2005)، إذ يمكننا رؤية هذه الظّاهرة في كل مكان تقريباً، على جدران المدارس، وفي الجامعات، وعلى جدران المرافق العامّة، وغيرها من الأماكن.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الظّاهرة تعود إلى آلاف السّنين، بل إلى بداية المجتمع البشريّ، فقد اعتاد الإنسان على الكتابة على النقوش والقبور وأماكن أخرى، ويقول جون بايتس ومايكل مارتن (1980:300): "قد أضحكت الكتابة على الجدران العامّة والرسم عليها كوسيلة للتّعبير عن النّفس الذي يُجهل صاحبه المتمعّنين في هذه النقوش وأغضبتهم على الأقل منذ زمن بومباي".
وهناك من يعتبرها فنّاً وثقافة، وهناك من ينظر إليها على أنها جريمة فيها انتهاك للممتلكات العامّة والخّاصّة، ويقول ناصر الحمود(2000): "إن الكتابة على الجدران شكل غير حضاري حيث تعدم املاك الآخرين بالكتابة عليها سواء كان هذا الملك خاصا او عاما, ولو عرف هذا الكاتب تلك الدعوات التي تنهال عليه من المتأذين وغيرهم لأقلع عن هذا التصرف المشين".
وقد قامت عدّة دراسات بالبحث في موضوع الكتابة على الجدران. فقام فيريل جي بدراسة خصائص هذه الظاهرة في دنفر في الولايات المتّحدة الأمريكيّة حيث غدت تعتبر ثقافة مدنيّة معاصرة، وقد تطوّرت هذه الظاهرة في الولايات المتحدة الأمريكية تبعاً للتمييز بين البيض وسكّان أمريكا الأصليّين حيث أصبحت جزءاً من ثقافة وموسيقى "الهيب هوب".(فيريل جي1993).
وتركّز دراسة قام بها نيكولاس برايدن وإيريك ميلبيرغ (2003) على دراسة الكتابة على الجدران في جامعة هامبولت كنوع مهم من التواصل بين الناس من خلال جمع هذه الجمل وتوزيعها إلى فئات. أي أنها نوع من اللغة الخاصة او اللغة المٌشفَّرة التي يستخدمها البعض للتواصّل كلغة بديلة عن لغة الرسائل والصحف أوحتى رسائل الإحتجاج على الظلم أوالتمييز أو كبديل عن كتابة العرائض لطلب الخدمات أو تحسينها في بعض الأحياء و المناطق.
أما في العالم العربيّ، فلم يكن هناك الكثير من الدراسات في هذا الموضوع، ومنها ما قام به جون بايتس و مايكل مارتن(1980)، إذ درسا مدى انتشار هذه الظاهرة في إحدى الجامعات العربيّة معتمدين على الكتابات الجداريّة الموجودة في مرافق الجامعة وبشكلٍ رئيسيّ في دور الخلاء، وهدف بحثهم إلى إيجاد الفروق في محتوى الكتابة الجداريّة بين الإناث والذكور حيث خلص إلى أن نسبة الإناث اللواتي يلجأن إلى هذا النوع من الكتابة أكبر من نسبة الذكور مع تركّز مواضيعهنَّ المثارة على الجنس وما يرتبط به من مواضيع أخرى. وهذا يتناقض مع ما أثبته كلٌ من روبرت لتل وماري شيبل(1987) بأن نسبة الذكور الذين يلجأون إلى هذا النوع من جريمة الممتلكات متساوية مع نسبة الإناث. . وهذا التباين بين الدراستين يعتبر حافزاً لنا لإجراء الدراسة الحاليّة من أجل إضاءة المزيد من المعرفة حول هذه الظاهرة خاصّة أن الباحث ينتمي إلى نفس ثقافة المبحوثين وبالتالي فإن فهم لغة الكتابة لن يشكل عقبة تحول دون فهم المعاني المتعددة للكلمات التي يستخدمها كاتبو الجدران. و هذه الميزة تفتقد لها دراسة بايتس و مارتن (1980)، إضافة الى حداثة الدراسة الحالية و قدم الدراسة سابقة الذكر.
أمّا ستاينبيرغ (1990)، الذي درس ظاهرة الكتابة على الجدران في فلسطين زمن الانتفاضة، فيؤكّد على أهميّة هذه الظاهرة للفلسطينيّين الذين لا يجدون وسيلة أخرى للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم و"انتفاضتهم". أمّا إبراهيم محمد وطارق محمد(2004) فيركّزان على: "رسم أهم ملامح وخصائص الكتابة الفلسطينيّة الجداريّة" والتي باتت مشهورة لدى العالم بأسره لشهرتها الكبيرة والأنماط المتعدّدة التي تمثلها.
وفي العراق تركّز مواضيع الكتابة على الجدران على المواضيع السياسية خاصّة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام2003 وسقوط حكومة صدّام حسين، ويقول جورج زياد(2003) في هذا الموضوع: "أصبحت بغداد مدينة للكتابة على الجدران إذ تستفيد الأحزاب السياسيّة من الفراغ السياسي الذي يعيشه العراق بدون حكومة منتَخَبَة أو أو برلمان أو دستور".
في الجزء التالي من البحث سوف نناقش حيثيّات ظاهرة الكتابة على الجدران في الاردن حيث تكتسب هذه الظاهرة في الأردن تميّزاً خاصاً وذلك لأن المجتمع الأردني مجتمع شابّ (غالبية المواطنين هم في عمر الشباب) و أنه مجتمع متعدّد الخلفيّات كما هو المجتمع الأمريكي مثلا، إضافة الى أنه مجتمع متعلّم بنسب كبيرة جداً مقارنة بدول أوروبية و عربية و آسيوية. و هناك ميزة أخرة للأردن هو أنه مجتمع محافظ وغالباً ما تتم كتابتها خلال الليل أو بسرية تامة.
ولدراسة هذه الظاهرة ومدى انتشارها في الأردن، لابدّ أوّلاً من إعطاء نبذةٍ وإن كانت سريعةً عن المجتمع الأردني والتقسيمات الاجتماعيّة فيه:
أولاً: تنقسم المملكة الأردنيّة الهاشميّة إلى اثنتي عشرة محافظة: محافظة العاصمة، وإربد، والزرقاء، وعجلون، وجرش، والرمثا، والكرك، والطفيلة، ومعان، والعقبة، والمفرق، ومادبا. ويتوزّع سكان المملكة على هذه المحافظات مع التركّز الكبير في محافظة العاصمة، ونتيجةً لذلك، تضم الجامعات الموجودة في عمّان طلاباً من مختلف المحافظات والبيئات، فتغدو الجامعة مدينة مُصَغَّرة من مختلف الفئات الاجتماعيّة.
ثانياً: منذ تأسيس إمارة شرق الأردن في 1923، بدأت القبائل والعشائر الأردنيّة تلعب دوراً سياسياً هامّاً لما كان لها من تأثير قبل إعلان تأسيس الإمارة، ومن الأمثلة على بعض هذه العشائر التي مازالت فاعلة على الساحة الوطنية: عشائر بني حسن، وبني صخر ، والعدوان ، والحويطات ، والعبادي ، وغيرها (ويكيبيديا:27/7/2009). وكانت القبائل الأردنيّة مشاركاً فعّالاً في عمليّة تأسيس الدولة (ألون يوف:2007). وانطلاقاً من هذا الدور، أصبحت القبائل الأردنيّة مصدراً للانتماء والاعتزاز والفخر لأبنائها. كما أن هناك تراثاً ثقافياً مهماً نتج عن الحياة تحت الانتداب البريطاني للأردن، هذا الانتداب الذي مهّد الطّريق للقبائل الوطنيّة الأردنية لتتّخذ نمطاً ممَيّزاً في التعايش حول المصالح المشتركة ضد الأجنبيّة. ثالثاً، بعد التهجير القسريّ للفلسطينيّين في عاميّ 1948 و1967، ارتفع عدد سكّان الأردن بشكل كبير جداً (ألون يوف، 2007:168). و تم دمج الشعبين في مجتمع واحد مع نسبة كبيرة جداً من اللاجئين حيث دخلت المملكة الأردنيّة الهاشميّة مرحلة جديدة من الشعورالوطني. وأدت هذه العوامل وغيرها إلى تميّز الوطنيّة الأردنيّة واتخاذها شكلاً خاصّاً بدءاً بتنوّع القبائل ودورها السياسي، وانتهاءاً بظهور الأردنيّين من أصول فلسطينيّة على أرض المملكة واستمرار مشاركتهم السياسية والاقتصادية إلى جانب إخوتهم.
ويعدّ التعصّب من المسائل الخطيرة التي تؤثر في طريقة تفكير المتعصِّب و قد تقوده إلى انتهاج طريقة خاطئة في الحكم على الآخرين. ويعرّف جيم ماكنايت وجينا ساتن (1994) التعصّب الشوفيني على أنه المفهوم أو الاعتقاد الذي يملكه الإنسان تجاه شخص ما بالاعتماد فقط على الصور النمطيّة والأحكام المسبقة التي يملكها هذا الشخص. ويضيفا موضّحَيْن جذور التعصّب (1994:237): "نتعلّم أن نكون متعصّبين بنفس الطريقة التي نتعلّم بها أن نكون أعضاء في مجتمعنا، فهو جزء لا يتجزّأ من عمليّة النمو. حيث نعكس كل التعصّب الموجود لدى آبائنا، وأقراننا، ومعلّمينا، ووسائل الإعلام، والقادة السّياسيّين وغيرهم من المشتركين في عمليّة التأهيل الاجتماعي". . وهذا يعني بأنّ التعصب الشوفيني يبدأ كتعصب بسيط ثم يستمر بالتطور حتى يأخذ شكلا متطرفاً من التعصب، وهو الشكل الذي نسميه الشوفينية. فالتعصب إذا لم تتم معالجته من البداية فإنه يصبح ظاهرة مرضية في المجتمع و ينتقل هذا المرض من فرد إلى آخر كالعدوى، و هي ما نسميه بالعدوى الاجتماعية (انظر، ياغي 2009).
أمّا عن ظاهرة الكتابة على الجدران في الأردن، فهو كغيره من الدول التي تدلّ فيها هذه الظاهرة على المفاهيم والاتجاهات الفكريّة للأفراد والجماعات،إلا أنه لم تقم الدراسات الكافية التي من خلالها نستدلّ على أنماط التفكير أوالسلوك المنتشرة بين الشباب الأردنيّ. ولربّما كانت هذه الظاهرة في الأردن إحدى وسائل نشر الأفكار والتعبير عن الرأي كالإعلام والصحافة وغيرها من الوسائل. فقد قام الروسان بعمل دراسة لغويّة اجتماعيّة لظاهرة الكتابة على الجدران في الأردن، حيث قام بتقسيم الكتابات الجداريّة حسب الوظيفة التي تؤدّيها إلى إحدى وعشرين وظيفة، أذكر منها: الشهرة والتحدّث عن الذات، والمحتوى السياسي، والإخلاص والانتماء، وغيرها من الوظائف السياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة (الروسان، 2005). وخلص إلى أن هذه الكتابات في الأردن "لا تملك وظيفة فنيّة بل تحتاج إلى الكثير من التنظيم لتصبح كذلك كما هي في العالم الغربيّ" (2005:111). ومعنى هذا التحليل أن الكتابة على الجدران في الأردن ليس أمراً ترفيهياً أو فنياً جمالياً أومن أجل إعطاء طابع جمالي للمدينة او للبناء. ففي مدن مثل نيوميكسيكو يقوم بعض الأشخاص بتزيين جدران بعض الأبنية برسومات فنية و ألوان جميلة للحفاظ على الطابع الترفيهي للمدينة. أما في الاردن فإن الكتابة على الجدران تأخذ بعداً جدياً و من الصّعب التغاضي عن الأبعاد الثقافية أوالسياسية لها.
أهميّة البحث:
يركّز هذا البحث الذي نقوم به على دراسة ظاهرة الكتابة على الجدران في الأردنّ من منظور الشّوفنيّة أو التعصّب والذي لم تثره دراسة فعليّة للآن حسب معرفة الباحث، وهذا ما يميّزها عن غيرها من الدراسات في العالم العربيّ بشكل عام وفي الأردن بشكل خاصّ. وسيقوم الباحث بجمع البيانات من جدران مختلفة وموزّعة في أماكن عديدة في الأردن مع التركيز على الكتابات الموجودة في المؤسّسات التعليميّة كالجامعات والمدارس، ومع تركيز أكبر على الكتابات الموجودة في المرافق الصحيّة لاعتقاد الباحث أن ما يثار على جدرانها لا يثار في أماكن أخرى لخصوصيّة هذه الأماكن. وتكمن أهمية البحث كذلك في أنه يتطرق إلى دراسة محتوى الكتابة و ربط ذلك بمتغيّرات هامّة أخرى كالعمر والحدّة واللغة المستخدمة، إلخ. و لأنّ البحث نوعيّ و كمّيّ في الوقت نفسه، فإنه يريد التوصل إلى نتائج تخدم المجتمع وتصف ظاهرة الكتابة على الجدران وخصوصاً المحتوى الشوفينيّ فيها وتقديم توصيات علميّة تخدم صانعي القرارات والآباء والمربين من أجل كبح جماح هذه الظاهرة السلبية قبل انتشار التعصب الشوفيني في المجتمع بشكل متزايد بحيث يضعف الوحدة الوطنية ويهدد الحياة المشتركة لكل مواطني أو ساكني الاردن.
تعريف المتغيّرات وقياسها:
من أجل تحديد معنى كلّ مصطلح نستخدمه في هذا البحث ومن أجل قياسه بأسلوب علميّ دقيق، سوف نقوم بتعريف المصطلحات ثمّ تحديد آليّة قياس كلّ متغيّر:
Graffiti: الكتابة على الممتلكات العّامة أو الخاصّة والتي غالباً ما تكون غير قانونيّة (الروسان: 2005) ، وسوف نشير إلى هذا المصطلح بكلمة "كتابة" لأغراض الاختصار.
المكان: هو الموقع الجغرافي أو الحيّز المكاني الذي تتواجد فيه الكتابة. وسوف يتم قياس متغيّر (المكان) من خلال تصنيف مكان الكتابة إلى ثلاثة أقسام: الجامعات (حكوميّة وخاصّة)، والمدارس (حكوميّة وخاصّة)، والحارات.
السريّة: هي درجة ظهور الكتابة للجمهور أو لعموم الناس. وسوف يتم قياس متغيّر (السريّة) من خلال تحديد السطح الذي تمّت عليه الكتابة: هل هو سطح ظاهر لعموم الناس كأن تكون الكتابة على جدار في الطّريق العام أم أنه مخفيّ بحيث لا يقرأه إلاّ عدد معيّن من الناس كأن تكون الكتابة في مكان سريّ كداخل الحمّامات العامّة فلا يقرأها إلآ من يدخل الحمّام.
السطح: هو الأرضيّة التي تمّت الكتابة عليها. وسوف يتمّ قياس متغيّر (السطح) من خلال تقسيمه إلى جدار أو باب أو أثاث أو غيره.
الجنس: هو تغليب جنس الكاتب حسب سريّة السطح بحيث نقرّر أن الكاتب أنثى إذا كانت الكتابة موجودة في مكان خاصّ بالإناث مثل حمّامات الإناث، وإذا كانت الكتابة على سطح عام فغلّبنا أن يكون جنس الكاتب غير معروف.
العمر: تمّ تحديد عمر الكاتب بناءً على مكان الكتابة؛ فإذا كانت الكتابة داخل الجامعات اعتبرنا أن الكاتب راشد، وإذا كان مكان الكتابة هو مدرسة اعتبرنا أن الكاتب مراهق، وإذا كان مكان الكتابة غير ذلك اعتبرنا أن العمر غير معروف.
الوقاحة: هي ورود ألفاظ نابية أو معيبة في الكتابة. وسوف يتمّ قياس متغيّر (الوقاحة) من خلال تقسيمه إلى فئتين هما: وقح، وغير وقح.
المغالاة: هي الانحياز في الكتابة لشيء معيّن. وسيتم قياس متغيّر (المغالاة) من خلال تقسيم الجمل التي تتضمّن انحيازاً إلى : انتماء وتعصّب وأنا.
الانتماء: هو المغالاة لفئة (بلد، قبيلة، عائلة) وحبّها بما يتضمّن جميع أعضائها دون استثناء أحد ودون إظهار ترفّعها على فئة أخرى سواء بالإساءة إليها أو من غير الإساءة.
التعصّب: هو المغالاة المتطرّفة لفـئة (بلد أو قبيلة أو عائلة) التي تستثني فئات أخرى مع إظهار ترفّعها وتفوّقها عليها سواء بالإساءة لها أو من غير الإساءة.
الأنا: هو المغالاة للذات والانتماء لها من غير الإساءة للآخر.
موضوع المغالاة: هو تضمّن الكتابة مواضيع تتعلّق بالأردن أو فلسطين أو الأردن وفلسطين معاً. وبناءً على ذلك، سيتم قياس متغيّر (موضوع المغالاة) من خلال تقسيم موضوع الكتابة إلى: موضوع حول الأردن، وموضوع حول فلسطين، وموضوع حول الأردن وفلسطين معاً، ومواضيع لا تتعلّق بالأردن أو فلسطين.
القبليّة: هي تأكيد الكاتب على اسم قبيلة محدّدة. وسوف يتم قياس متغيّر (القبليّة) من خلال تقسيم المغالاة في الكتابة إلى مغالاة حول القبيلة أو مغالاة غير قبليّة.
الفريق الرياضيّ: ورود اسم فريق رياضيّ يلعب داخل الأردن في الكتابة. وسيتم قياس هذا المتغيّر من خلال تقسيم جمل الكتابة إلى جمل فيها مغالاة إلى فريق رياضيّ معيّن وجمل فيها مغالاة لغير الفِرَقِ الرياضية.
العدائيّة: هي ورود ألفاظ في الكتابة فيها اعتداء على الآخر. وسيتم قياس متغيّر (العدائيّة) من خلال تقسيم الجمل إلى ما هو عدائيّ وغير عدائيّ.
الّلّهجة: هي طريقة التعبير الكتابيّ. وسيتم قياس هذا المتغيّر من خلال تحديد طريقة التعبير هل هي طريقة فصيحة أم طريقة عاميّة.
هدف الكتابة: هو وجود غاية معيّنة من الكتابة. وسيتم تقسيم الغايات إلى أربع فئـات: هجوميّ إذا تضمّنت الكتابة كلمات فيها تهجّم على الآخر، ودفاعيّ إذا كان في الكتابة ردٌّ على هجوم من الآخر أو دفاعٌ عن شيء معيّن، وطلباً إذا تضمّنت الكتابة التماساً لطلب شيء ما، وتصريحاً إذا تضمّنت الكتابة كلمات تعبّر عن رأي كاتبها أو عن موقف فكريّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ له.
أسلوب الكتابة: هو الطريقة الأدبيّة التي تمّ التعبير فيها من خلال استخدام أحد أسلوبين هما الأسلوب الأدبيّ وذلك إذا تضمّنت الكتابة أسلوباً شعريّاً والأسلوب غير الأدبيّ.
الحدّة: هي ورود كلمات في الكتابة توحي بوجود نوع من الشدّة في التعبير. ولذلك فقد تمّ قياس متغيّر (الحدّة) من خلال تقسيم الكتابة إلى كتابة فيها حدّة شديدة وكتابة فيها حدّة عاديّة.
مزاج الكاتب: هو تضمّن الكتابة كلمات توحي بمزاجيّة الكاتب عند كتابته للجمل. ويُقسم مزاج الكاتب إلى مزاج غاضب ومزاج مفتخر ومزاج حزين ومزاج سعيد.
اللغة: هي لغة الكتابة هل هي لغة عربيّة أم انجليزيّة.
الأثر: هو الانطباع أو الشعور الذي تتركه الكتابة في نفس القارئ. وسيتم قياس متغيّر (الأثر) من خلال تقسيمه إلى ثلاث فئـات: أثر يوحّد بين الناس، وأثر يفرّق بين الناس، وأثر حياديّ لايفرّق ولا يوحّد.
منهجيّة البحث:
في هذا القسم من البحث، يعرض الباحث المنهجيّة التي يتّبعها أثناء عمل الدراسة الاجتماعيّة اللُّغوية لظاهرة الشوفنيّة لدى الشّباب الأردني كما تعكسها الكتابة على الجدران. ويتضمّن هذا القسم إدراجاً للفرضيّات التي يحاول الباحث إثبات صحتها، وشرحاً تفصيليّاً لكلٍّ من تجميع البيانات وتحليلها والأدوات المستخدمة. وفيما يلي توضيح لكل منها.
فرضيّات البحث:
يحاول الباحث من خلال هذه الدراسة الإجابة عن الأسئلة التالية:
• ما هو أكثر مواضيع المغالاة (الأردن أو فلسطين أو الأردن وفلسطين معاً) انتشاراً بين الجمل التي تدلّ على التعصّب؟
• ما المكانة التي تتمتّع بها القبليّة في الأردن حاليّاً؟ وهل يغلب التعصّب للقبيلة على الانتماء لها بين الشّباب الأردنيّ؟
• هل تُعدّ الأفرقة الرياضيّة عاملاً مثيراً للتعصّب بين الشباب الأردني؟ وما أسباب ذلك؟
• هل تتأثر اللهجة المستخدمة في التعبير عن المغالاة بالمستوى التعليميّ للكاتب؟
• هل تتأثر عدائيّة الكاتب بمدى اطّلاع الناس على ما يكتبه؟
• ما الأهداف التي يملكها الكاتب كوسيلة للتعبير عن التعصّب؟
• ما الجنس الذي يميل للنّزعة التعصّبيّة أو الانتمائيّة أو الأنانية أكثر من غيره؟ وهل تنتشر القبليّة بين الشباب الأردنيّ بشكل أكبر مما تنتشر بين الشابات الأردنيّات؟
• من يملك النزعة القبليّة أكثر؟ طلاب الجامعات أم طلاب المدارس
• ما مدى خطورة ظاهرة الشوفنيّة في الأردن؟
البيانات وتجميعها:
لأن الباحث أراد دراسة ظاهرة الشوفنيّة لدى الشباب الأردني كما تعكسها الكتابة على الجدران، قام بجمع العيّنات التي تمثّل جميع الفئات التي اعتقد أن لها تأثيراً واضحاً على المغالاة (الانتماء أو التعصّب أو الأنا) ، بالإضافة إلى المتغيّرات التي تحدّد أهميّة القبليّة في الأردن . وفيما يلي شرح مفصّل لكل من هذه المتغيّرات وسبب اختيارها.
المكان:
من المعروف أن الأشخاص المتعلّمين يختلفون في طريقة تفكيرهم عن عامّة الناس، فقام الباحث بجمع عيّنات من جامعات مختلفة كالجامعة الأردنيّة وجامعة البلقاء والجامعة الهاشميّة وجامعة الإسراء وغيرها، كما أُخذَت عيّنات من مدارس مختلفة مثل مدرسة مادبا ومدرسة الأميرة بسمة ومدارس السابلة، ومن حارات وشوارع عدّة كالشوارع الموجودة في منطقة الهاشمي الشمالي وأبو نصير وجبل النصر وغيرها.
الجنس:
يعتقد معظم الناس أن كتابة الإناث تختلف عن كتابة الذكور من حيث المحتوى والشكل اللُّغوي، لذلك قام الباحث بدراسة أثر هذا المتغيّر على كل من المغالاة والقبليّة، وجمع عيّنات مختلفة من حمّامات الإناث ومن حمّامات الذكور.
العمر:
يتصرّف المراهقون بطريقة مختلفة عن الراشدين، لذلك اعتقد الباحث أن كتاباتهم ستكون مختلفة كذلك، فقسّم البيانات إلى بيانات كتبها مراهقون إذا أُخذت من المدارس، وبيانات كتبها راشدون إذا أُخذت من الجامعات، وأخرى كتبها أشخاص يُجهل عمرهم إذا جُمعت من الحارات.
السطح:
من المتوقّع أن تستخدم أسطح معيّنة أكثر من غيرها في الكتابة، لذا قرّر الباحث جمع عيّنات كُتبت على أسطح مختلفة كالأبواب والجدران والأثاث وغيرها، آملاً أنها ستؤثّر على المغالاة (الانتماء والتعصّب والأنا) والقبليّة.
السريّة:
يوافق معظم الناس على أن وجودهم في أماكن سريّة بحيث لا يراهم الكثير من الناس يعطيهم مزيداً من الاطمئنان بحيث يناقشون أموراً تندر مناقشتها في الأماكن العامّة، لذلك جمع الباحث عيّنات من أماكن ذات سريّة عالية (الحمّامات بشكل رئيسيّ) ومن أماكن أخرى عامّة كالشوارع والصفوف وغيرها.
الأدوات المستخدمة:
اعتمد الباحث بشكل أساسيّ على آلات التصوير (الكاميرات) لتجميع البيانات الموجودة في الأماكن المختلفة، إلاّ أنه في بعض الحالات، حيث يكون من الصّعب تصوير البيانات لعدم وضوحها، قام بتدوينها يدويّاً كطريقة بديلة لتجميع البيانات.
تحليل البيانات:
بعد إنهاء عمليّة جمع البيانات، قام الباحث أولاً بفتح ملفّ للصّور التي تمّ التقاطها، ثمّ قام بكتابة الجمل وتحويلها إلى نصوص، ثمّ بدأ بتدوين هذه البيانات على ملفّ إكسل، حيث أضاف تسمية لكل متغيّر ظواهريّ أو تفسيريّ.
الجداول:
بعد تحويل البيانات الموجودة في الصّور إلى نصوص وإدخالها في ملفّ إكسل، قام الباحث بإعطاء كل عامود من المتغيّرات الظواهريّة والتفسيريّة عدداً من الفئات، ففي عامود المكان، ميّز الباحث بين البيانات الموجودة في الجامعات((uni، والمدارس(sch)، والحارات(nei). وفي عامود الجنس ميّز الباحث بين كتابات الإناث(f)، والذكور(m) وما لا يُعرف جنس كاتبه(n). أما في عامود العمر ، فهناك الراشدون(adult) ، والمراهقون(teen)، ومالا يُعرف عمر كاتبه(un). وفي عامود السطح ميّز الباحث بين الأبواب(door)، والجدران(wall) والأثاث(fur) وغيرها. أما في السريّة، فهناك ما هو سريّ(priv) وعامّ (pub). وفي عامود المغالاة، ميّز الباحث بين الانتماء(pat) والتعصّب(cha) والأنا (ego). وعند تحليل عامود المغالاة من حيث المحتوى من خلال المتغيّرات التي تتبعه، قسّم الباحث موضوع المغالاة إلى الأردن(jo)، وفلسطين(pal)، والأردن وفلسطين معاً(jo/pal) وما لايتناول البلد كموضوع له (n-count). وفي عامود القبليّة هناك ماهو قبليّ (trib)، وغير قبليّ (n/trib). أمّا في الفريق الرياضي فيوجد ماهو رياضيّ (sport)، وغير رياضيّ (n-sport). وفي اللهجة المستخدمة، ميّز الباحث بين عامّيّ (colloq) ، وفصيح (stand). وعند تحديد هدف الكتابة، فهناك الهجوم (attack)، والدفاع (defense)، والتّصريح (sta-of-pos)، والتماس طلب (suplicat). وفي عامود الأسلوب، فهناك الأسلوب الأدبيّ (lit)، وغير الأدبيّ (n-lit). وعند إيجاد حدّة الكتابة، هناك ما هو شديد الحدّة (strong)، وماهو بحدّة عاديّة (normal). أمّا عامود مزاج الكاتب، ففيه ما يعبّر عن فخر(proud)، أوغضب (angry)، أو سعادة (happy)، أو حزن (sad)، أو محايدة (neutral). وفي عامود اللغة يوجد ما هو عربيّ (arabic)، وانجليزيّ (english). أمّا عامود الأثر، ففيه ما يدلّ على التفريق (divisive)، والتوحيد (cohesive)، والمحايدة (neutral).
التحليل الإحصائيّ:
بعد إدخال البيانات وترتيبها في ملفّ إكسل، قام الباحث بإنشاء ملف (SPSS)، وإدخال المتغيّرات في صفحة عرض المتغيّر، ومن ثمّ نسخ البيانات وتحليلها مستخدماً الجداول من التحليل الإحصائيّ، حيث قام بإدخال المتغيّرات التفسيريّة في الصفوف والمتغيّرات الظّواهرية في الأعمدة، بعدها طبّق اختبار كاي التربيعي مع اختيار الصّفوف والأعمدة للحصول على جداول (SPSS) النّهائيّة.
النتائج:
من أجل الوصول إلى نتائج علميّة دقيقة فيما يتعلّق بموضوع الشوفنيّة، سيقوم الباحث في هذا الجزء بعرض بعض نتائج البحث وتفسيرها. وسيقتصر على أهم النتائج نظراً إلى ضيق المُقام والحدود التي تفرضها متطلبات الملتقى الإبداعي الثاني عشر الذي ينظّمه المجلس العربي لتدريب طلاب الجامعات.
سيتم دراسة المغالاة من خلال معرفة تأثير عوامل عدّة كموضوع المغالاة (الأردن أو فلسطين أو الأردن وفلسطين معاً)، والفريق الرياضي، والقبليّة، وجنس الكاتب، وهدف الكتابة، والأثر الذي تتركه الكتابة في نفس القارئ. بعدها سيقوم الباحث بدراسة تأثير جنس الكاتب وعمره على القبليّة. بعد ذلك سيدرس عدائيّة الجمل من خلال معرفة درجة سريّة السطح المستَخدم في الكتابة.
1.المغالاة (التعصّب،الانتماء،الأنا):
يتفرّد هذا الجزء بدراسة مغالاة الجمل (التعصّب ، الانتماء ، الأنا)، فقد أظهرت النتائج أن نسبة كبيرة من العيّنة تملك مغالاة إلى أحد الأمور الثلاثة : الانتماء (39.3%) ، أوالتعصّب (27.2%) ، أوالأنا(33.5%). ويمكن توضيح المغالاة في الكتابة من خلال عدّة عوامل أو متغيّرات.
وقام هذا البحث بدراسة أثر العوامل التالية على المغالاة:
1. موضوع المغالاة.
2. الفريق الرياضيّ.
3. القبليّة.
4. جنس الكاتب.
5. هدف الكتابة.
6. الأثر الذي تتركه الكتابة في نفس القارئ.
وفيما يلي شرح مفصّل لنتائج التحليل ، والتي تم تلخيصها في جدول رقم (1):
جدول رقم (1): قيم كاي التربيعي بين متغير المغالاة (الشوفينية) و المتغيرات المستقلة
اسم المتغيرات المستقلة قيمة كاي التربيعي الدلالة الاحصائية
موضوع المغالاة 547.929 0.000
الفريق الرياضيّ 97.105 0.000
القبليّة 7.121 0.028
جنس الكاتب 4.728 0.316
هدف الكتابة 119.445 0.000
الأثر 575.495 0.000
وفيما يلي شرح مفصّل لنتائج التحليل:
1.1.موضوع المغالاة:
أظهر التحليل الإحصائي وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري المغالاة وموضوع المغالاة، حيث كانت قيمة كاي التربيعي547.929 ،وإذا قمنا بدراسة تأثير موضوع المغالاة (الأردن أو فلسطين أو الاثنين معاً) على المغالاة، سنجد أن نسبة كبيرة من الجمل الانتمائيّة تذكر الأردن كموضوع للمغالاة (49,6%)، وأن نسبة قليلة من الجمل التي تعبّر عن الانتماء (12,6%) تتناول الأردن وفلسطين معاً. أمّا من ناحية التعصّب، فوجدنا أن هناك نسبة كبيرة من الجمل تعبّر عن التعصّب للأردن (70,9%).
2.1. الفريق الرياضيّ:
من خلال دراسة تأثير الفريق الرياضيّ المذكورفي الكتابة على المغالاة، وجد الباحث أن هناك دلالة إحصائيّة بينهما، فقد كانت قيمة كاي التربيعي 97.105 حيث وجد أن نسبة كبيرة من الجمل التي تذكر إحدى الأفرقة الرياضيّة هي جمل تعصبيّة (79%) فجملة كهذه: "الوحدات وبس والباقي خس" تشير إلى التعصّب لفريق ما لكون الشخص منتمياً إليه فقط، بينما تدلّ نسبة قليلة منها على الانتماء الوطني (21%)، كما وجدنا أن نسبة لا بأس بها من الجمل التعصبيّة تتناول موضوعات رياضيّة (29,7%) . وتتلخّص الموضوعات الرياضية بشكل عام في تشجيع أحد الفريقين: الفيصلي أو الوحدات، فمن المعروف أن فريق الفيصلي يمثّل الأردن أما فريق الوحدات، فيضمّ أردنيّين من أصول فلسطينيّة، لذا فقد تستخدم الرياضة كوسيلة للتعصّب أو الانتماء الوطني إلى أحد البلدين. من هنا نرى بأن التعبير عن المشاعر الرياضية تتحول عند كتابتها على الجدران الى جمل ذات دلالات سياسية أو قومية وتصبح الرياضة كأنها تلخيص لتعصب جزء من المجتمع ضد جزء آخر.
3.1. القبليّة:
أظهر البحث أن الارتباط بين المغالاة والقبليّة له دلالة إحصائيّة، وكانت قيمة كاي التربيعي 7.121 . فقد أظهرت النتائج أن الجمل التي تعبّر عن انتماء وطني من خلال القبيلة تشكّل النسبة الأكبر من بين نسب عناصر الجُمَل الوطنية الأخرى (38.7%). بينما أظهرت أن نسبة كبيرة (43.8%) من الجمل التي تعبّر عن الأنا تستخدم اسم القبيلة للاعتزاز بها. كما أظهرت أن التعصّب الشوفيني للقبيلة لا يشكّل إلا نسبة قليلة من مجمل الجمل القبليّة (21.6%).
4.1. جنس الكاتب:
أثبتت النتائج أن الارتباط بين المغالاة وجنس الكاتب لا تعطي دلائل إحصائيّة، وكانت قيمة كاي التربيعي:4.728، إلاّ أنه قد تبيّن لنا أن الذكور غالباً ما يتناولون المواضيع المتعلّقة بالانتماء والتعصّب والأنا ككلّ في كتاباتهم الجدارية، فوجدنا أن (57.8%) من الجمل التي تعبّر عن مغالاةٍ (بغض النظر عن نوع هذه المغالاة) قد كُتبت من قبل الذكور، بينما تبلغ هذه النسبة عند الإناث (8.9%). وربّما يرجع هذا الاختلاف في النسب إلى طبيعة كلٍّ من الذكور والإناث واختلاف نواحي الاهتمام، فقد تركّز الإناث بشكل أكبر على التعبير عن الأمور العاطفيّة.
5.1. هدف الكتابة:
أظهر التحليل الإحصائيّ وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين المغالاة وهدف الكتابة، فبلغت قيمة كاي التربيعي 119.445، فقد أظهر أن جميع الجمل التي تعبّر عن الأنا تهدف إلى التصريح برأي (100%). أما الجُمَل التي تُعبرُ عن هجومٍ على الآخر، فق أثبت البحث أن الجمل التعصّبيّة تشكّل النسبة الكبرى منها (96.9%). كما أظهر أن (71.4%) من الجمل الدفاعيّة نهدف إلى التعبير عن الانتماء الوطني. والمهم في جميع هذه النتائج هي أنّ جميع الجمل هي جمل هادفة ولها رسالة واضحة بغض النظر عن محتوى تلك الرسالة.
6.1. الأثر:
أثبت التحليل الإحصائيّ وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري المغالاة والأثر الذي تتركه الكتابة في نفس القارئ، فبلغت قيمة كاي التربيعي 575.495، وأظهرت النتائج أن جميع الجمل التعصّبيّة تقريباً (95.8%) تترك آثاراً سيّئة في نفس القارئ وتدعو إلى التفرقة بين الناس، بينما أظهرت أن معظم الجمل التي تترك آثاراً حميدةً في نفس القارئ وتدعو إلى التّوحّد هي جمل تعبّر عن الانتماء الوطني، وهذا يؤكّد التناقض بين الانتماء الوطني والتعصّب الشوفيني.
2. القبليّة:
من المهم معرفة مكانة القبيلة عند التعبير عن الانتماء الوطني أو التعصّب الشوفيني أو الأنا، لذا يدرس هذا الجزء تأثير كلٍ من جنس الكاتب وعمره على استغلاله للقبلية في الكتابة ، وفيما يلي شرحٌ مفصّل لكلٍ منها:
1.4. جنس الكاتب:
أظهر البحث وجود علاقة بدلالة إحصائيّة بين هذين المتغيّرين، فبلغت قيمة كاي التربيعي 7.226 ، حيث أظهر أن الذكور يشكّلون أعلى نسبة من الأشخاص الذين يؤكّدون على القبليّة في كتاباتهم؛ إذ بلغت هذه النسبة (62.2%)، بينما لا تتعدّى الكتابات القبليّة التي تكتبها النساء (5.2%).
2.4. عمر الكاتب:
أثبت التحليل الإحصائيّ أن العلاقة بين عمر الكاتب والقبليّة لها دلالة إحصائيّة، فبلغت قيمة كاي التربيعي 23.254. وهذه تشير إلى أن أعلى نسبة من الكتابات التي تؤكّد على القبليّة قد كُتبت من قبل الراشدين (77.1%). كما إن نصف الكتابات المتعلّقة بالراشدين تقريباً (45.1%) تؤكّد على القبليّة سواء أكان ذلك انتماءً وطنياً للقبيلة أو تعصّباً لها.
3. العدائيّة:
قد يتأثر الكاتب عند التعبير عن عدائـيّته (هجوماً أم لا) بدرجة سريّة المكان الذي يكتب فيه، وهذا ما سيقوم الباحث بإثباته في هذا الجزء.
1.5. درجة سريّة المكان:
أثبت التحليل الإحصائيّ وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة كبيرة بين عدائيّة الكاتب ودرجة سريّة المكان الذي كتبَ فيه؛ فبلغت قيمة كاي التربيعي 42.433. أثبتت النتائج أن (77.1%) من الكتابات الموجودة في أماكن سريّة غير هجوميّة، وهذا قد يدل في الوهلة الأولى على شيء من التناقض، إلاّ أن الدارس لهذه الظاهرة الاجتماعيّة يجد العديد من الكتابات الموجودة في أماكن ذات سريّة عالية لا تنتمي إلى موضوع الشوفنيّة، فلا تعبّر عن تعصّب أو انتماء أو أنانيّة، بل تتناول مواضيع أخرى كالحب أو الجنس، وتحتاج مثل هذه المواضيع إلى مثل هذه الأماكن للتعبير عنها في مجتمع يكاد الحديث فيه عنها أمراً ممنوعاً. كما أظهرت النتائج أن الجمل الهجوميّة تكتَب في أماكن ذات سريّة عالية بقدر ما تُكتَب في الأماكن العامّة تقريباً.
مناقشة نتائج البحث:
يدرس هذا البحث ظاهرة الشوفنيّة لدى الشباب الأردني كما تعكسها ظاهرة الكتابة على الجدران. حيث قام الباحث بتصوير الكتابات الموجودة في أماكن مختلفة من الجامعات والمدارس الحكوميّة والخاصّة ومن الحارات، والموجودة على أسطح مختلفة بدرجات متفاوتة في السريّة. وبعد الدراسة والبحث تبيّن أن هناك نتائج مهمّة:
أكّد البحث وجود علاقة ذات دلالة احصائية بين المغالاة (الشوفينية) لدى الشباب الاردني وكلا من المتغيرات التالية: موضوع الكتابة التي فيها مغالاة، والفريق الرياضي، والقبلية، والعدائية، وهدف الكتابة، والأثر الذي تتركه الكتابة في نفس القاريء. كما أكد البحث عدم وجود علاقة بين المغالاة وجنس كاتب الجمل على الجدار. وكذلك أظهر البحث أنّ الإناث ليس لديهن مغالاة قبلية كما هو عند الذكور-وهذا من ما لم تره دراسة من قبل، وأن الاشخاص الأكبر عمراً هم أكثر مغالاة من غيرهم.
من النتائج الخطيرة التي أظهرها هذا البحث أن مسألة الأفرقة الرياضيّة تساهم في استثارة التعصّب بين الأردنيّين أكثر ممّا تساهم في تعزيز مفهوم الانتماء لفريق رياضيّ معيّن، ويرجع ذلك كما ذُكر في مواضعَ أخرى في هذا البحث إلى حقيقة أن أشهر الأفرقة الرياضيّة في الأردن تنقسم إلى فريقين اثنين: الفيصليّ والذي يضمّ الأردنيّين، وفريق الوحدات الذي يضمّ أردنيّين من أصول فلسطينيّة. ولتعزيز دور الرياضة في زيادة الانتماء لدى الأردنيّين من دون تعصّب لا بدّ من إيجاد حلّ لهذه المشكلة الخطيرة، وهنا يقترح الباحث دمج أعضاء الفريقين بحيث لا يكون كلّ فريق ممثّلاً لبلد منفصل، بل يكون كلا الفريقين ممثّلاً للأردن دون تعصّب.
وقد اقترح الروسان أن يتم عمل دراسة لظاهرة الكتابة على الجدران بهدف تحليل الجانب النفسيّ للكاتب (2005)، وهذا ما قام به هذا البحث، حيث أظهرت النتائج أن عدائيّة الكاتب تساهم بشكل كبير في تغليب النّزعة الشوفنيّة عليه، وهنا يكمن دور التربية والتعليم في نشر الوعي وتعزيز مفهوم الانتماء بين الأردنيّين دون كراهية أو حقد لا مرجع له يؤدّي إلى توارث العدائيّة في نفس المواطن مع الزمن.
كما لم تقم دراسة فعليّة لظاهرة الكتابة على جدران الحمّامات تحديداً في الأردن من قبل، حيث تكمن أهميّة مثل هذه الدراسة في أهميّة الموقع الذي توجد فيه الكتابة من حيث حريّة التعبير الكبيرة نظراً لسريّته. أمّا هذا البحث فقد أثبت أن عدائيّة الكاتب والتي تؤثّر حتماً على تعصّبه بالتحديد لا ترتبط بالضرورة بالأماكن ذات السريّة العالية، ويرجع هذا في رأي الباحث إلى استغلال هذه الأماكن في التعبير عن مواضيع أخرى مهمّة مثل الحب والجنس والمواضيع الشخصيّة.
من أخطر النتائج التي أثبتها الباحث أن موضوع الشوفنيّة من المواضيع الخطيرة التي تؤثّر على وحدة الوطن وتبثّ التفرقة بين أبنائه، فقد تبيّن أن جميع الجمل التي تترك اثاراً سيّئة في نفس القارئ وتدعو إلى التفرقة هي جمل تعبّر عن التعصّب، بينما تعبّر معظم الكتابات التي تدعو إلى التوحيد وتترك آثاراً حميدة في نفس القارئ عن الانتماء وهذا ما يؤكّده الباحث من التناقض التّام بين الانتماء والتعصّب.
التّوصيات:
يوصي البحث إجراء المزيد من الدراسات العلميّة المشابهة حول جوانب مختلفة من ظاهرة الكتابة على الجدران. كما يوصي صانعي القرارات في الدولة بضرورة اتخاذ الإجراءات العمليّة لمنع أو لتقييد قدرة الأشخاص على الكتابة على الجدران خاصّة في المرافق العامّة كما ينصح المسؤولون في البلديات بمراقبة المرافق العامة كالحمامات وإجراء صيانة مستمرة لها بحيث تتم عملية دهان الأسطح التي تتعرض للكتابة و ذلك حتى لا تبقى الكتابة عالقة لفترات طويلة. إضافة الى ذلك، ينصح بان تقوم مؤسسات المجتمع المدني و مؤسسات الدولة الرسمية و الخاصة و المؤسسات التعليمية بتثقيف الشباب و توضيح المضامين السلبيّة للكتابة على الجدران. أما بالنسبة لوسائل الإعلام بجميع أشكالها فعليها تثقيف المجتمع كله حول نتائج الكتابة على الجدران و تأثير المغالاة على صحة المجتمع وتطوّره، وفي الوقت ذاته يجب على الإعلام إتاحة فرص أكبر للشّباب حتى يعبّر عن آرائه بشكل صحي ومشروع بعيداً عن السريّة و التقوقع خلف مرجعيّات جهويّة تجزّئ المجتمع الواحد وتحوّل أحيائه ومدنه إلى كنتونات لا تربطها سوى صلات قانونيّة رسميّة بينما تتباعد عن بعضها روحياً وثقافياً وفكرياً.
المراجع الأجنبية:
Alon, Yoav. Making of Jordan : Tribes, Colonialism and the Modern State.London, , GBR: I. B. Tauris & Company, Limited, 2007
Al-Rousan, R. M. (2005). A Sociolinguistic Study of Graffiti in Jordan. M.A., Yarmouk University, Irbid, Jordan.
Bates, J. A., & Martin, M. (1980). The Thematic Content of Graffiti as a Nonreactive Indicator of Male and Female Attitudes. The Journal of Sex Research, 16(4), 300-315.
Bryden, N. (2003). Bathroom Walls Speak Out: An Exploratory Study of Restroom Graffiti. Retrieved 27/7/2009, 2009, from http://sorrel.humboldt.edu/~jgv1/319Web/examples/2003/BathroomWalls.pdf
Ferrell, J. (1993). Crimes of Style: Urban Graffiti and the Politics of Criminality. New York: Garland Publishing Inc.
Little, R. E., & Sheble, M. A. (1987). Graffiti Vandalism: Frequency and Context Differences Between the Sexes. American Journal of Criminal Justice, 11(2), 217-226.
McKnight, J., & Sutton, J. (1994). Social Psychology. Sydney: Prentice-Hall (Australia).
Approaches. Berkshire: McGraw Hill Education.
Steinberg, P. &A. Oliver. (1990). The Graffiti of the Intifada: A brief Survey. Jerusalem: Passia.
Ziyad, G. (2003). Iraqi Graffiti, Word Press. Retrieved July 13, 2004.
المراجع العربية:
الحمود، ناصر. (2000). تحجيم الهمجية يكون بالتربية والتوجيه. الجزيرة 10/4/2000 على الانترنت 13/7/2004.
محمد، إبراهيم و محمد، طارق. (2004). شعارات الانتفاضة. ط1. لندن: منشورات فلسطين المسلمة.
دراسة لغويّة اجتماعيّة عن الحُبّ عند الشباب العربي كما تعكسه الكتابة على الجدران
دراسة لغويّة اجتماعيّة عن الحُبّ عند الشباب العربي كما تعكسه الكتابة على الجدران.
الطالب / زين غالب موسى الطيب
قسم اللغويات-الجامعة الأردنيّة
المشرف /الدكتور حسين ياغي
ملخص :
يدرس هذا البحث مضامين الكتابة على الجدران في الجامعات والمدارس الأردنية المتعلقة بالحُبِّ من ناحية لغوية اجتماعية بهدف التعرف على هواجس و مشاعر و طرق تفكير الشباب العربي وفي ذات الوقت دراسة الخصائص اللغوية التي تلازم التعبير عن العواطف. فالعبارات المختزلة على الجدران تمثل شكلاً استثنائياً من أشكال التعبير، يختلط فيها العامي بالفصيح والركيك بالبليغ والسياسي بالعاطفي والديني. وحيثُ إن معظم البيانات التي جمعناها جاءت من الحمامات، فإنها تعبر عما يدور في نفس الكاتب دون قيد. وتتفاوت مساحة الحرية باختلاف مكان الجدار وطبيعة الكاتب. لقد أخذت الكاتبة 500 صورةً لكتاباتٍ كتبها طلاب وطالبات في مدارس وجامعات و حارات في عمان مُلاحِظَةً المكان الذي أُخِذَت منه ونوع السطح الذي كتبت عليه. وصنفتها حسب مواضيعها، واختارت منها ما كان في موضوع ٍ ذي صلةٍ بالحب، ثم أدخلت نصوصَها في قاعدة بيانات ذاكِرةً إزاء كل جُملة المكان والسطح الذي جاءت منه، ثم صنفت هذه الجُمَل حسب ما إن كان كاتبها ذكراً أو أنثى، والفئة العمرية له. ثم استعرضت نصوصَ الحُب جُملةً جُملة و قررتْ ما إذا كان الحُب الذي تُعبر عنه عذرياً أو ماجناً، واستقرأت هدفَ الكاتب إن كان إعلاناً أو دعوةً أو تأنيباً أو مدحاً أو إجابةً أو تعليقاً فلسفياً أو غناءً. ولاحظت قوة المشاعر التي تنتظم الجُملة والإيحاء الذي قد يستقرئه القارئ عن الموقف النفسي للكاتبِ إن كان مازحاً أو هازئاً أو غاضباً أو حزيناً أو فرحاً. ثم أدرجت إزاءَ كُل جُملة إن كانت لغتها إنجليزيةً أو عربيةً أو عربيةً بحروفٍ لاتينيةٍ. و حددت إن كانت لهجة النص عربيةً فصحى أو عامية. وتفحصت تركيب الجُملة نحوياً، فذكرت إن كانت الجُملة اسميةً أو فِعليةً، بسيطةً أو معقدةً. ودرست علاقة البنية اللغوية للمكتوبات بموضوعاتها وبأهداف خطاب الكاتب. حصلت الباحثةُ من خلال هذه الدراسة على نتائج أشارت إلى الاختلاف في الكتابات بين الجنسين، حيث تختلف عبارات الحُب التي يكتبها الذكور عن تلك التي تكتبها الإناث. فقد تبيّن أنّ الذكور يستعملون عباراتٍ شاعريةً ويعبرون عن المشاعر بطريقةٍ قوية على خلاف الإناث. ولكنّ عبارات الحُبّ الجسدي منتشرة بصورةٍ أكبر عند الإناث . ومع ذلك فالحُب العذري هو الأشيع عند الجنسين، دليلاً على أن المجتمع العربي لا يزال محافظاً على قيمه لا سيما ما كان منها متصلاً بالعلاقة بين الجنسين.
مقدمة:
يتناول هذا البحث موضوعاً واسعَ الانتشار على الصعيد العالمي وهو الحُبّ عند الشباب العربي كما تعكسه الكتابة على الجدران، وقد قامت الباحثة بجمع الكتابات التي على الجدران لبيان أهمية هذه الظاهرة بصفتها ملفتة للنظر واختارت أيضاً موضوع الحُبّ للتعرف على تفكير شباب المجتمع وهواجسهم. والكتابة على الجدران طريقة يستعملها كل شخص يريد التعبير عمّا في داخله لغاياتٍ معينة.
يلاحظ الباحثون أنّ معدّل الكتابة على جدران الشوارع قد ازداد بقدر كبير. هذه العادة التي رافقت الناس في القديم والحديث، الكتابة على الجدران سلوكٌ اجتماعيٌ معروف منذ الأزل أي منذ بدأ الإنسان التعبير عن نفسه بالكتابة على جدران الكهوف والأوراق ومن هنا بدأت مرحلة التأمل الأوليّ في دراسة هذه الظاهرة العالمية. أسبابٌ عديدة تدفع الشباب وغيرهم من الفئات العمرية إلى الكتابة على جدران الأماكن العامة والخاصة مما يجعلها ملفتة للنظر وإن هذه الظاهرة تعبر عن مكنون كاتبها المجهول، فهناك من يكتب منتصرا لفريق رياضي معين،ومن يكتب عبارةً أو رمزاً تخليداً لذكراه في المكان، ومن يتناول عبارات لا يجرؤ على كتابتها علناً أو على منابرَ مسموح الكتابة عليها بشروط كالموضوعات الجنسية وغيرها، وهناك من تستهويه عبارةٌ جميلة أو شعاراً معيناً يريد أن يعممه على الآخرين، ومن يحاول تشويه سمعة أحدٍ حقداً عليه أو كرهاً له وهناك من يكتب للتسلية.
وغالباً ما يكون هذا السلوك من فئة عمرية من الشباب المبكر الذين يعيشون حالات الانفعال ولديهم مكبوتات نفسية يصعب تنفيسها بالطرق المشروعة، فيلجئون إلى الكتابة بالخفية على الجدران دون أن تحمل هذه العبارات أسماءهم أو تواقيعهم, وفي أحسن الحالات قد تحمل رموزا معينة كمحاولة تخليد ذكرى ما،أما الكتابات الأخرى فغالبا ما تعبر عن إساءةٍ للغير أو مبالغة في التمجيد ، أو إساءةٍ لشريحة من المجتمع أو مؤسسة مثلاً كتعبيرٍ عن تعصبٍ أو حقدٍ معين .في البدء كانت الجدران أول صحف في التاريخ، تم استغلالها كوسيلة اتصال بين السلطة والشعب، واستخدمها الفراعنة في تمجيد حاكمهم ، وتوارث الإنسان هذه العلاقة واستمر في عشق الجدران التي تتيح له فرصة استثنائية في تحقيق ذاته بطرق متنوعة، والعلاقة ظلت راسخة لسنوات، على جدران الهرم الأكبر فقد حرص بعض جنود الحملة الفرنسية التي غزت مصر في نهايات القرن الثامن عشر على حفر أسمائهم. كانوا يرغبون في تخليد تلك اللحظة أو لتخليد أسمائهم عبرها، وأصبحت تلك الأسماء أثراً بدورها. وفي القرى التركية كانت الجدران حيث كانت الرسوم تكسو جدران البيوت من الخارج غير أن هذه الظاهرة تحتضر بدورها، ويعتبر البعض هذه الظاهرة على أنها ملمحاً تراثياً يرصده باحثو التراث الشعبي، ومنهم الشاعرالمصري مسعود شومان، الذي يشير إلى أن ما يدون على الجدران بصفة عامة كان يثير انتباهه.
الدراسات السابقة:
وكما ذكرت الباحثة سابقاً أن موضوع الحُبّ هو الأكثر انتشاراً بين موضوعات الكتابة على الجدران، لأن معظم الشباب (وهم يشكلون الأغلبية في المجتمع) يميلون إلى التعبير عن عواطفهم سواء أكانت رومانسية أم جنسية على الجدران أو الأسطُح أو في الحمّامات وّذلك حسب درجة وقاحة الجُمل. فقد تمّ تقسيم الكتابة على الجدران إلى قسمين :الكتابة السرية والكتابة العاميّة (شوارتز ودوفيدو ، 1984) . وأوضح شوارتز ودوفيدو بأن الكتابة السرية غالباً ما تعبّر عن المشاعر الداخلية للكاتب.
ويُعزَى هدف الشباب في البوح بمشاعرهم إلى أسبابٍ عديدة منها إعلان علاقة حُبّ بين شخصين، أو دعوة، أو كتابة مقطوعاتٍ شعرية أو غنائية لغرض التسلية أو المدح أو الذم، و غيرها من الأهداف التي تندرج تحت عنوان الحُبّ.
ولكنّ هل يوجد اختلافات بين الذكور والإناث من ناحية العواطف والتعبير عنها ؟
كانت المعتقدات توحي أنّ نسبة كتابات الذكور تفوق كتابات الإناث لكنّ مقالة (الكتابة التخريبية على الجدران) الواردة في المجلة الأمريكية للعدالة الجنائية عام 1987 أشارت إلى تساوي نسبة الكتابات على الجدران و اختلاف محتوى الكتابات بين الجنسين. و كما ورد في مقالة (هل تتغيّر الأوقات؟ التحليل للاختلافات بين الجنسين في الكتابات الجنسية) الموجودة في مجلة أدوار الجنسين عام 1987 أنّ الذكور عادةً يكتبون عباراتٍ جنسيةً أكثر من الإناث وهذه الفجوة آخذةٌ بالاتساع وهذا يعكس تزايد القيود المفروضة على مثل هذه التعبيرات.
لقد أظهرت مقالةٌ بعنوان (المضمون الموضوعي للكتابات بوصفه مؤشراً غير تفاعلي على مواقف الذكور والإناث) الواردة في مجلة بحوث الجنس عام 1980 أنّ نسبة كتابات النساء أكبر من كتابات الرجال و أن الكتابة عند النساء تتضمن مسائلَ معاديةً للجنس و مسائل تتعلق بالمضمون.
وحتى نتمكّن من معرفة الدوافع النفسية وراء الكتابة على الجدران عند الذكور والإناث، استعانت الباحثة بكتاب علم النفس الاجتماعي الصادر عم 1994 والذي تبين من خلاله أنّ معظم الاهتمام النظري يكمن في موضوع الحُبّ. ويقول العديد من المنظرين أنّ الحب الرومانسي ليس أكثر من إثارةٍ بين الجنسين و مهما كانت طبيعة الحب، فمن الواضح أن المرأة تنظر إلى الحُبّ بواقعيةٍ أكثر من الرجل. وذكر سترينبيرغ في كتاب علم النفس الاجتماعي مدى اهتمامه في التفاعلات بين أنواع الحب حيث قال ’’ هناك ثلاثة عوامل: الحميمة والالتزام والعاطفة والتي بدورها تؤدي إلى التوتر الديناميكي‘‘ (الصفحة 446،الفصل التاسع، علم النفس الاجتماعي 1994) .’’ الحُبّ لدى الرجال قويٌ وجنسيٌ وعاطفيّ لكنّه مجرد حُبٌّ غزلي وليس جَدّياً ولا يهدف إلى الارتباط غالباً، أمّا الحُبّ لدى النساء فهو عذريٌّ وواقعيّ ‘‘ (هندريك، 1986، كتاب علم النفس الاجتماعي الصفحة 446، الفصل التاسع).
’’ يُعتَبر الحُبّ أقوى شعور بوصفه المُسيطر والمُغيّر للسلوك الكُليّ لدى الإنسان، إنّ القدرة على التعبير عن الحب والعواطف تختلف من إنسانٍ لآخر، البعض يعبّرون عن مشاعرهم بصراحة، وأمّا البعض الآخر فيخجلون بمجرد النطق بكلمة حُبّ و بعض الناس مُقيّدون بالأعراف و التقاليد الاجتماعية.‘‘ ( رأفت الروسان، دراسة لغوية اجتماعية عن الكتابة على الجدران في الأردن، الصفحة 44، 2005).
إن الطبيعة الحساسة لقضية الحُبّ في الحضارة العربية يقود الأفراد إلى تفريغ عواطفهم على الجدران بهدف الرّاحة. وكما قال الخولي ’’ الجدران صحيفة الشوارع‘‘ و ’’الجدران مخابئ الحشود‘‘(الخولي، صحافة الشوارع والجدران، 2002).
و ستقوم الباحثة باستعراض منهجية البحث في الصفحات التالية.
تعريف المتغيّرات و قياسها:
من أجل تحديد معنى كلّ مصطلح في هذا البحث ومن أجل قياسه بأسلوب علميّ دقيق، سوف نستعرض المصطلحات ثمّ نحدّد آليّة قياس كلّ متغيّر.
تُعرّف الكتابة (Graffiti) بالكتابات الموجودة على الجدران والأسطح في الأماكن العامّة والخاصّة والتي يكتبها جماعة مجهولة الهويّة من الناس لغايات معينة، وسوف نشير إلى مصطلح الكتابة على الجدران بكلمة (كتابة) لأغراض الاختصار.
1- المكان: هو الموقع الجغرافي أو الحيّز المكاني الذي تتواجد فيه الكتابة. و سيتم قياس متغيّر (المكان) من خلال تصنيف مكان الكتابة إلى ثلاثة أقسام: الجامعات (حكوميّة وخاصّة)، والمدارس (حكوميّة وخاصّة)، والحارات.
2- السريّة: هي درجة ظهور الكتابة للجمهور أو لعموم الناس. وسوف يتم قياس متغيّر (السريّة) من خلال تحديد السطح الذي تمّت عليه الكتابة: هل هو سطح ظاهر لعموم الناس كأن تكون الكتابة على جدار في الطّريق العام أم أنه مخفيّ بحيث لا يقرأه إلاّ عدد معيّن من الناس كأن تكون الكتابة في مكان سريّ كداخل الحمّامات العامّة.
3- السطح: هو الأرضيّة التي تمّت الكتابة عليها. وسوف يتمّ قياس متغيّر (السطح) من خلال تقسيمه إلى جدارٍ أو بابٍ أو أثاثٍ أو غيره.
4- الجنس: هو تغليب جنس الكاتب حسب سريّة السطح بحيث نقرّر أن الكاتب أنثى إذا كانت الكتابة موجودة في مكان خاصّ بالإناث مثل حمّامات الإناث، وإذا كانت الكتابة على سطح عام فغلّبنا أن يكون جنس الكاتب غير معروف.
5- العمر: تمّ تحديد عمر الكاتب بناءً على مكان الكتابة؛ فإذا كانت الكتابة داخل الجامعات اعتبرنا أن الكاتب راشد، وإذا كان مكان الكتابة هو مدرسة اعتبرنا أن الكاتب مراهق، وإذا كان مكان الكتابة غير ذلك اعتبرنا أن العمر غير معروف.
6- الوقاحة: هي ورود ألفاظ نابية أو معيبة في الكتابة. وسوف يتمّ قياس متغيّر (الوقاحة) من خلال تقسيمه إلى فئتين هما: وقح (الحب بالجسد وليس بالقلب )، وغير وقح ( أنت حبيبي يا أحمد).
7- الموضوع: وهو مضمون الكتابات واعتبرناه هنا الحُبّ.
8- النوع: وهو ما نستدلّه من مضمون كتابات الحـُبّ، و سوف يتم قياس متغيّر (الحبّ) من خلال تقسيمه إلى فئتين هما: عُذريّ (انساني يا حبيبي ) وماجن (طلب مني علاقة).
9- هدف الكتابة: هو وجود غاية معيّنة من الكتابة. وسيتم تقسيم الغايات إلى أربع فئـات: (أ) إعلانٌ: إذا كان في الكتابة ما يشير إلى وجود علاقة حب بين شخصين أو رأي الكاتب أو وجود اسمين يجمعهما ما يدل على شيءٍ من الحب (رانيا ? عمر الى الابد) ، و (ب) طلبٌ : إذا كان في الكتابة ما يدل على سؤالٍ أو رقم هاتف أو إذا تضمّنت التماساً لطلب شيء ما (أنا بحب واحد شو أعمل) ، و (ت) تأنيبٌ: إذا تضمّنت الكتابة كلمات تدلّ على عبارات إذلال أو ذمٍ أو ندم (حرام تتركلي ألبي بحالة صعبة) ، و(ث) تعليق فلسفي : إذا كان في الكتابة شعر أو غناء أو مقولة بليغة حول موضوع الحُبّ (الحب دوما وليس يوما).
10- أسلوب الكتابة: هو الطريقة التي تمّ التعبير فيها من خلال استخدام أحد أسلوبين هما: الأسلوب الأدبيّ (عاشق الصحراء) وذلك إذا تضمّنت الكتابة أسلوباً شعريّاً والأسلوب غير الأدبيّ وهو الذي يفتقر إلى الإيقاع والبلاغة (من بعيد عيني عليها..وأنا كمان عيني عليه).
11- الحدّة: هي وجود كلمات في الكتابة توحي بنوع من الشدّة في التعبير. ولذلك فقد تمّ قياس متغيّر (الحدّة) من خلال تقسيم الكتابة إلى كتابة فيها حدّة شديدة (بحبك موت أنت عمري وبس) وكتابة فيها حدةّ عاديّة (مال الحلو زعلان).
12- مزاج الكاتب: هو تضمّن الكتابة كلمات توحي بمزاجيّة الكاتب عند كتابته للجمل. ويُقسم مزاج الكاتب إلى مزاج حزين (أصعب فراق) ومزاج سعيد (أنت الدنيا في حياتي أنت).
13- اللغة: هي لغة الكتابة هل هي لغة عربيّة أم انجليزيّة أم عربية بلغة لاتينية(ana w bubu forever).
14- الّلّهجة: هي نوع المفردات والتراكيب اللغوية المستخدمة في التعبير الكتابيّ. وسيتم قياس هذا المتغيّر بتعيين ما إذا كانت اللهجة المستخدمة فصيحة كالتي تستخدمها الصحف (ليت الليالي عن غرامي نهتني)، أو عامية كاللهجة الدارجة بين عامة الناس في تخاطبهم اليومي (بحبك).
15- التركيب النحوي: هو بناء الجمل من الناحية النحوية، وسيتم قياس هذا المتغيّر من خلال تحديد تركيبة الجُملة إذا كانت فعلية (انساني خلاص) أو اسمية (الحب دوما وليس يوما) أو معقدة (اصعب حب انه الانسان يضحي لاجل انسان اخر).
منهجية البحث:
يركّز هذا البحث على دراسة ظاهرة الكتابة على الجدران في الأردنّ حول موضوع الحُبّ عند الشباب العربي بشكل عام وفي الأردن بشكل خاصّ. وقد قامت الباحثة بجمع البيانات من جدران مختلفة وموزّعة في أماكن عديدة في الأردن مع التركيز على الكتابات الموجودة في المؤسّسات التعليميّة كالجامعات والمدارس، ومع تركيز أكبر على الكتابات الموجودة في المرافق الصحيّة لأن ما يثار على جدرانها لا يثار في أماكن أخرى لخصوصيّة هذه الأماكن.
اسئلة البحث:
يحاول الباحث من خلال هذه الدراسة الإجابة عن الأسئلة التالية:
- ما هو أكثر أنواع الحُبّ انتشاراً عند الشباب العربي في الكتابات على الجدران ؟
- هل تختلف طبيعة الحبّ باختلاف المكان الذي تمت أخذ الكتابات منه؟
- ما هي أهمّ العوامل التي تؤثر على نوع الحُبّ ؟
فرضيات البحث:
1- ما هو أكثر أهداف كتابات الحب انتشاراً حول كل من الحًبّ العذري و الماجن انتشاراً ؟
2- هل ينتشر الحُب العذريّ بين الشباب العربي بشكل أكبر مما ينتشر بين الشابات العربيات؟
3- هل تتأثر أهداف الكاتب بنوع الحُبّ الذي يعبر عنه؟ وكيف يتمّ ذلك؟
4- هل تتقيّد أهداف الكتابات بدرجة وقاحة الكاتب و ما أكثر الأهداف المكتوبة بدرجة أكبر من الوقاحة؟
5- هل تتأثر أهداف الكتابات بالمزاج النفسيّ للكاتب؟
6- ما أكثر الأهداف تأثُراً بمزاج الكاتب و أي الأهداف أقلها تأثُراً؟
7- هل تعبير الكاتب عن الحُبّ ناتجٌ عن حالة من السعادة أم الحزن؟
8- ما الجنس الذي يميل لاستعمال اللهجة الفصحى في التعبير أكثر من غيره؟
9- هل تُعدّ لغة كتابة الحب مؤشراً هاماً بالنسبة لقضية اضمحلال اللغة العربي؟ وما أسباب ذلك؟
10- ما هي نسبة درجة الوقاحة في كتابات الحُب ؟ وأي الجنسين يكتب بدرجة أوقح؟
11- ما مدى خطورة ظاهرة الحُب الماجن في المجتمع العربيّ؟
تجميع البيانات:
لأن الباحثة أرادت دراسة ظاهرة الحُبّ كما تعكسها الكتابة على الجدران، أخذت عدداً كبيراً من الكتابات من عمّان ومدنٍ خارج عمّان ومن أماكن مختلفة كالجامعات والمدارس العامّة منها والخاصّة والبنايات والحمّامات والمقاهي والحارات والجسور، ومن على أسطحٍ تتضمّن الجدران والأبواب والمكاتب وغيرها.فقد جمعت عبارات مكتوبة من كلا الجنسين ومن فئاتٍ عمرية مختلفة وراعت الكاتبة أن تكون جميع الكتابات حول موضوع الحُبّ. ثمّ قامت بإدخال الصور في جهاز الحاسوب. و في ما يلي شرحٌ تفصيلي للمتغيرات الرئيسة وسبب اختيارها.
المكان:
من المعروف أن الأشخاص المتعلّمين يختلفون في طريقة تفكيرهم عن عامّة الناس، فقد قامت الباحثة بجمع عيّنات من جامعات مختلفة كالجامعة الأردنيّة وجامعة البلقاء وجامعة الإسراء وغيرها، كما أُخذَت عيّنات من مدارس مختلفة مثل مدرسة مادبا ومدرسة الأميرة بسمة ومدارس السابلة ومدارس الرّونق، ومن حارات وشوارع عدّة كالشوارع الموجودة في منطقة الهاشمي الشمالي وأبو نصير وجبل النصر وغيرها.
الجنس:
يعتقد معظم الناس أن كتابة الإناث تختلف عن كتابة الذكور من حيث المحتوى والشكل اللُّغوي، لذلك قامت الباحثة بدراسة أثر هذا المتغيّر على كل من نوع الحُبّ والهدف ، وجمع عيّنات مختلفة من حمّامات الإناث ومن حمّامات الذكور.
العمر:
يتصرّف المراهقون بطريقة مختلفة عن الراشدين، لذلك اعتقدت الباحثة أن كتاباتهم ستكون مختلفة كذلك، فقسّمت البيانات إلى بيانات كتبها مراهقون إذا أُخذت من المدارس، وبيانات كتبها راشدون إذا أُخذت من الجامعات، وأخرى كتبها أشخاص يُجهل عمرهم إذا جُمعت من الحارات.
السطح:
من المتوقّع أن تستخدم أسطح معيّنة أكثر من غيرها في الكتابة، لذا قرّرت الباحثة جمع عيّنات كُتبت على أسطح مختلفة كالأبواب والجدران والأثاث وغيرها.
السريّة:
يوافق معظم الناس على أن وجودهم في أماكن سريّة بحيث لا يراهم الكثير من الناس يعطيهم مزيداً من الاطمئنان بحيث يناقشون أموراً تندر مناقشتها في الأماكن العامّة، لذلك جمعت الباحثة عيّنات من أماكن ذات سريّة عالية (الحمّامات بشكل رئيسيّ) ومن أماكن أخرى عامّة كالشوارع والصفوف وغيرها.
الأدوات المستخدمة:
اعتمدت الباحثة بشكل أساسيّ على آلات التصوير (الكاميرات) لتجميع البيانات الموجودة في الأماكن المختلفة، إلاّ أنه في بعض الحالات، حيث يكون من الصّعب تصوير البيانات لعدم وضوحها، قامت بتدوينها يدويّاً كطريقة بديلة لتجميع البيانات.
تحليل البيانات:
الجداول:
بعد إدخال الصور في الجهاز وحفظها في ملف، قامت الباحثة بإدخال نصوص الصور في قاعدة بيانات إكسل لتصنيف العبارات حيث قامت بإعطاء كل عامود من المتغيّرات الظواهريّة والتفسيريّة عدداً من الفئات فصنّفت الجُمل في عمود النصّtext))،ثمّ استعرضت العبارات جُملةً جُــملة وأدخلت المتغيّرات التي قاست الجُمل عليها في أعمدةٍ تتبع عامود النصّ أوّلـــها عامود المكان place)) وهو المكان الذي أُخِذت منه الكتابات و ينقسم إلى ثلاث فئات: الجامعة uni)) والمدرسة (sch) والحارة (nei) وغيرها ((oth ، يليه عامود درجة سرية الكتابات privacy)) والتي تحتوي على فئتين السريّة priv)) والعموميّة (pub)، ثمّ عامود السطح medium)) و الذي يشمل الجدار (wall) والأبواب (door) وأسطح الأثاث (fur) وغيرها ((oth ،ثمّ عامود الجنس gender)) والذي ينقسم إلى الذكور (m) والإناث f)) وما لا يُعرف جنس كاتبه (un)، يليه عامود الفئة العُمريّة (age) والذي يشمل الراشد (adult) والمُراهق (teen) ومالا يُعرف عمر كاتبه (un)، يليه عامود درجة الوقاحة (rudeness) ويشمل فئتين الوقح (r) وغير الوقح (nr)، يليه عامود الموضوع (topic) وهو الحُــبّ (lov) لجميع العبارات. يتبعـه عامود النّوع (type) الذي يُقسّـَم إلى عُذريّ (plat) وماجن (phys)، ثمّ عامود الهدف (purpose) والذي تمّ تصنيفه إلى إعلانٍ (dec) وطلبٍ (help) وتأنيبٍ (reb) وتعليقٍ فلسفيّ (philo)، ثمّ عامود الأسلوب (style) والذي يـُصنّف إلى فئتين أدبيّ (lit) وغير أدبيّ (non-lit)، يليه عامود الحـِدّة (intensity) حيث يُقـَسّم إلى شديد (str) وعادي (nor)، يتبعه عامود المزاج (mood) ويُـقسّم إلى سعيد (happ) وحزين (sad)وحيادي (neut)، ثمّ عامود اللّغة (language) ويشمل العربية (arab) والإنجليزية (eng) والعربية بالحروف اللاتينية (anglo)، ثمّ عامود اللهجة (register) الذي ينقسم إلى فُصحى (stand) وعامّية (colloq)، يليه عامود التركيب (structure) حيث ينقسم إلى جملة اسمية stat)) وفعلية (verb) ومُـعقّدة (comp).
بعد دراسة علاقة البنية اللغوية للمكتوبات بموضوعاتها وبأهداف خطاب الكاتب، قامت الباحثة بجدولة البيانات و تحليلها في برنامج التحليل الإحصائي SPSS، حيث قامت من خلاله باختبار كاي التربيعي (chi-square) لإجراء الإحصائيات والحصول على نتائج دقيقة وثابتة.
مناقشة النتائج:
يدرس هذا البحث قضية الحُبّ عند الشباب العربي كما تعكسه الكتابة على الجدران، ومن أجل الحصول على نتائج علميّة دقيقة فيما يتعلّق بموضوع الحُبّ، ستقوم الباحثة في هذا الجزء بعرض نتائج البحث وتفسيرها . فبعد أن قامت الباحثة بتحليل البيانات، حصلتْ على نتائج غير متوقعة استطاعت من خلالها استنتاج فرضيات تُبيّن العلاقة بين المتغيّرات، حيث أخذت الباحثة المتغيّرات على حدة وقاست تـأثير كل متغيّر على الآخر، فدرست تـأثير المكان الذي أُخِذت منه الكتابات على نوع الحب، ثمّ درست علاقة جنس الكاتب و تأثيره على نوع الحُبّ، وهدف الكتابات، والأسلوب الأدبيّ للمكتوبات، ولهجة المكتوبات، ودرست علاقة الفئة العُمرية للكاتب وأثرها على لغة المكتوبات، ثمّ درست تأثير درجة وقاحة المكتوبات على نوع الحُبّ، وهدف المكتوبات، ولاحظت أثر مزاج الكاتب على هدف المكتوبات، وأخيراً علاقة الهدف وأثره على نوع الحُبّ ، وفي ما يلي شرحٌ دقيق لنتائج التحليل.
1- علاقة المكان بنوع الحُبّ:
أظهر التحليل الإحصائي عدم وجود دلالة إحصائيّة بين متغيّري المكان ونوع الحُبّ، حيث كانت قيمة كاي التربيعي 5.363 و مستوى p=.147.
وإذا قمنا بدراسة تأثير المكان (الجامعات والمدارس والحارات) على نوع الحُـب (عذري وماجن)، فسنجد أنه لا يوجد فرق كبير بين النسب، فقد كانت نسبة عبارات الحُبّ العذري من الحارات 93.8% وهي قريبةٌ جداً من تلك التي أُخِذت من المدارس و التي تساوي نسبتها 95.0% وأما نسبة عبارات الحُبّ العذري في الجامعات فهي 91.4%. ولكنّ نسبة عبارات الحبّ العذري كبيرة جداً مقارنةً مع نسبة الحبّ الماجن الضئيلة و التي تُقَدّر بـ 6.5% فقط. وهذا مؤشر جيد على أن المجتمع لا يزال محافظاً من ناحيةٍ أخلاقية. لهذا فان الباحثين في المستقبل مدعون لدراسة هذه العلاقة حتّى تتضح أخلاق شباب الأجيال القادمة.
2- علاقة جنس الكاتب بـ(نوع الحُب، هدف الكتابات، الأسلوب الأدبي، اللهجة):
يهتمّ هذا الجزء بأثر جنس الكاتب على عددٍ من المتغيّرات. وقد أخذنا في هذا الجزء من الدراسة عدداً من المتغيرات الهامّة وذلك لاعتقاد الباحثة بمدى أهمية التّعرف على كتابات الذكور وكتابات الإناث على حدة لمعرفة وجوه الشبه والاختلاف في تعبيرهم عن نوع الحُبّ، وهدفهم من هذه الكتابات، وأسلوب الجنسين في التعبير، و اللهجة التي استُخدِمت في الكتابة. ونظراً لأنَّ البحث قد أثبت نتائج غير متوقعة من النسب لدى المتغيرات المبحوثة، فقد قمنا بتحليل علاقة جنس الكاتب بكلّ متغير على حدة:
2.1- نوع الحُبّ:
أظهر التحليل الإحصائي عدم وجود علاقة إحصائيّة بين متغيّري الجنس ونوع الحُبّ ،حيث كانت قيمة كاي التربيعي 6.320 ومستوى P=0.42.
يعتبر المجتمع العربي محافظاً من النواحي الأخلاقية وذلك للأسباب الدينية والتقاليد والأعراف الاجتماعية. ومن المعروف أن طريقة تفكير الذكور تختلف عن طريقة تفكير الإناث وحسب ما ورد في بحوثٍ و دراسات سابقة أن معظم الذكور تهمّهم المواضيع الجسدية على خلاف الإناث اللواتي يسعون إلى الحُبّ العذري. لكنّ هذا البحث أظهر عكس ذلك. فقد بلغت نسبة الإناث اللواتي يكتبن عبارات الحُب الماجن 10.7%، أما نسبة العبارات الماجنة التي يكتبها الذكور فبلغت 6.5%، وهذه النسبة برهنت شكليّة معتقدات البحوث السابقة حول هذه الظاهرة.
2.2- الهدف:
أظهر التحليل الإحصائي عدم وجود علاقة إحصائيّة بين متغيّري الجنس وهدف الكتابة حيث كانت قيمة كاي التربيعي 9.897 ومستوى P= .129.
من الطبيعي وجود هدف وراء ما يعبّر عنه الكاتب وكما ذكرنا سابقاً أن الهدف قد يكون إعلاناً أو طلباً أو تأنيباً أو تعليقاً فلسفيّاً، ومن هنا قررت الباحثة معرفة ما إذا كانت أهداف كتابات الذكور مشابهة لكتابات الإناث، فحصلت على نتائج متقاربة، فقد بلغت نسبة كتابات الإناث بهدف الإعلان 55.4% بفارقٍ بسيط بين كتابات الإعلان لدى الذكور و التي بلغت 52.4%، أما بالنسبة للطّلب فقد بلغت النسبة لدى الإناث 15.7% مقارنة مع النسبة لدى الذكور و التي بلغت 7.3%، وقد بلغت نسبة كتابات الإناث بهدف التعليق 21.5% وبلغت نسبة الذكور منها 29.0%، وأخيراً فقد كانت أقل نسبة من الكتابات بهدف التأنيب حيث بلغت عند الإناث 7.4% وعند الذكور 11.3%. عند دراسة البيانات لاحظنا أن نسبة الكتابة بهدف الطلب عند الإناث أعلى بسبب ارتفاع نسبة كتاباتهنّ حول الحُـبّ الماجن. وتبيّن أن نسبة كتابات الإعلان تفوق نسب الأهداف الأخرى.
2.3- الأسلوب الأدبي:
أظهر التحليل الإحصائي وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري الجنس والأسلوب الأدبي للكتابة، حيث كانت نسبة كاي التربيعي 7.648 ومستوى P=.022.
من أهم العوامل التي تندرج في موضوع الحُبّ الأسلوب الأدبيّ حيث غالباً ما يكون أسلوب الكتابة في الحب شعرياً أو أدبياً أو يحوي التشبيهات والصور الفنيّة، وقد قامت الباحثة بملاحظة أسلوب الكتابة عند الجنسين حيث أوضحت الدراسة أن 28.2% من الذكور من يستخدم الأسلوب الأدبيّ في الكتابة وأن 14.0% من الإناث يستخدمنَ هذا الأسلوب، وهذه النتيجة غير متوقعة لأننا اعتقدنا أن الأسلوب الأدبي شائعٌ لدى الإناث نظراً لكلامهنّ المدلّل ولكن هذه النتيجة أظهرت عكس ذلك.
2.4- اللهجة:
أظهر التحليل الإحصائي وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري الجنس ولهجة الكتابات، حيث كانت نسبة كاي التربيعي 10.363 ومستوى P=.006.
نلاحظ في زمننا هذا أن استخدام اللغة الفصحى تضائل تدريجياً، و ازداد استخدام العامية بنسبة أعلى، ولكن مَن مِن الجنسين يستخدم العامية أكثر ومن منهما يستعمل الفصحى أكثر؟
لقد أظهرت هذه الدراسة نسباً أثبتت تضاؤل اللهجة الفصحى حيث بلغت أن 14.9% من الإناث يستملنَ الفصحى و 24.2% من الذكور يستعملون اللهجة الفصحى وهي نسبةٌ لا بأس بها مقارنةً مع الإناث. أما بالنسبة للهجة العامية فقد ظهر أن 85.1% من الإناث يكتبنَ باللهجة العامية و75.8% من الذكور أيضاً يكتبون بالعامية. لكنّ السبب وراء استخدام الفصحى عند الذكور أكثر هو استخدامهم للأسلوب الأدبي في الكتابة والذي غالباً ما يتضمّن كلمات فصيحة وسليمة.
3- علاقة الفئة العمرية بــلغة الكتابات:
أظهر التحليل الإحصائي وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري الفئة العمريّة واللغة، حيث كانت نسبة كاي التربيعي 10.633 ومستوى P=.031.
يدرس هذا الجزء تأثير الفئة العمرية للكاتب سواء كان راشداً أم مراهقاً أم غير ذلك على متغيّر لغة الكتابة بهدف التوصل إلى معرفة اللغة الأكثر شيوعاً عند المراهقين والرّاشدين لأن هناك معتقدات بأن اللغة العربية المكتوبة بالحروف اللاتينية منتشرة بشكل كبير عند المراهقين، وبعد تحليل البحث أظهرت النتائج بأن أعلى نسبة من الكتابة العربية بالحروف اللاتينية من قِبَل المراهقين حيث بلغت 53.3% و بلغت نسبة العربيّة لديهم 26.2% في حين بلغت نسبة اللغة الإنجليزية 28.8%. أما بالنسبة للراشدين فلاحظنا أن 72.8% من الراشدين يكتبون باللغة العربيّة وهي نسبة عالية جداً بالنسبة للراشدين الذين يكتبون باللغة العربية بحروف لاتينية بنسبة 2.5% فقط، و 24.7% من الراشدين من يكتب باللغة الإنجليزية.
لقد تم من خلال دراسة هذا الجزء إثبات حقيقة استخدام اللغة العربية بحروف لاتينية عند المراهقين بنسبة عالية.
4- علاقة درجة الوقاحة بـ(نوع الحُبّ وهدف الكتابات):
يدرس هذا الجزء أثر درجة وقاحة الكتابات على كلٍ من نوع الحُب وهدف الكتابات، حيث قامت الباحثة بهذه الدراسة لغاية التمييز بين أكثر الكتابات سفالةً في المجتمع وسبب كتابتها بوقاحة. فيما يلي دراسة تأثير درجة الوقاحة على كل متغيّر:
4.1- أثر درجة الوقاحة على نوع الحُبّ:
أظهر التحليل الإحصائي وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري درجة وقاحة الجُمَل ونوع الحُبّ فقد وجدت أن الباحثة أن نسبة كاي التربيعي 81.630 ومستوى P= .000.
من الطبيعي أن نجد كتابات الحُب الماجن وقحة أكثر من كتابات الحُبّ العذري وهذا ما حققته نتائج الدراسة حيث بلغت نسبة درجة الوقاحة ضمن كتابات الحُبّ الماجن 72.7% وهي نسبة عالية بالنسبة لدرجة الوقاحة ضمن كتابات الحُب العذري والتي بلغت 27.3%. أمّا بالنسبة للكتابات غير الوقحة فقد بلغت في كتابات الحبّ العذري 95.4% مقارنةً بالكتابات غير الوقحة في كتابات الحُبّ الماجن بنسبة 4.6% فقط.
4.2- أثر درجة الوقاحة على هدف الكتابات:
أظهر التحليل الإحصائي وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري درجة وقاحة الجُمَل وهدف الكتابات حيث كانت نسبة كاي التربيعيّ 45.949 ومستوى P= .000.
تؤثر درجة وقاحة الجُمل على هدف الكتابات وقد لاحظنا نتيجة مُفاجِئة تبيّن من خلالها أن أعلى درجة وقاحة كانت ضمن الطّلب بنسبة 72.7%، مع تساوي وقاحة عبارات الإعلان و التأنيب والتعليق بنسبة 9.1%، ويعود سبب ارتفاع درجة وقاحة عبارات الطّلب إلى استخدام عبارات الطّلب في الحُبّ الماجن بكثرة.
5- علاقة مزاج الكاتب بهدف الكتابات:
يهتمّ هذا الجزء بدراسة مزاج الكتب ونفسيته في تعبيره عن هدفه. أظهر التحليل الإحصائي وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري مزاج الكاتب وهدف الكتابات حيث كانت قيمة كاي التربيعيّ 126.739 ومستوى P=.000.
أظهرت نتائج هذه الدراسة نسب مختلفة فقد بلغ معدّل كتابات الإعلان للكاتب إن كان سعيداً 82.3% وهي نسبة عالية مقارنة مع النسب الأخرى، أما بالنسبة للطّلب فقد بلغت أعلى نسبة للكاتب إن كان حزيناً 18.2% فقط، وبالنسبة للتعلية الفلسفي فوجدنا أعلى نسبة للكاتب حين يكون حزيناً حيث بلغت 38.5%، وأخيراً وجدنا أن أعلى نسبة للكتابة بهدف التأنيب كانت عند الكاتب حين يكون حزيناً أيضاً بمعدّل 21.7%. فلاحظنا أن الكاتب يكون في مزاجٍ فرح بصورةٍ كبيرةٍ عند كتابة الإعلان.
6- علاقة الهدف بنوع الحُبّ:
من أهم العوامل التي نستطيع من خلالها تحديد نوع الحُبّ إن كان عُذريّاً أو ماجناً هدف الكاتب من كتابته حيث قمنا بدراسة العلاقة بين المتغيرين و استطعنا الحصول على نتائج أشارت إلى أن أعلى نسبة من كتابات الإعلان تبلورت في الحُبّ العُذريّ بمعدّل 98.1%، في حين بلغت النسبة الأعلى في الحُبّ الماجن للطّلب بمعدّل 34.9%. وهذا يؤكد ما ذكرناه سابقاً حول استخدام الكتابات بهدف الطّلب في الحُبّ الماجن بكثرة. وقد أظهر التحليل الإحصائي وجود علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين متغيّري الهدف ونوع الحُبّ حيث وجدنا قيمة كاي التربيعي 68.592 ومستوى P=.000.
وهنا نستعرض أهمّ نتائج البحث التي كان بعضها متوقعاً و البعض الآخر غير متوقع.
وفيما يلي تلخيص مفصّل لأهم نتائج التحليل لتأثير المتغيرات على نوع الحُب وهدف الكتابة في جدول رقم (1) و(2):
جدول رقم (1): قيم كاي التربيعي بين متغير نوع الحُب والمتغيرات المستقلة
اسم المتغيرات المستقلة قيمة كاي التربيعي الدلالة الاحصائية
المكان 5.363 1740. لا يوجد علاقة ذات دلالة إحصائية
جنس الكاتب 6.320 0420. يوجد علاقة ذات دلالة إحصائية
درجة الوقاحة 81.630 يوجد علاقة ذات دلالة إحصائية واضحة 0000.
الهدف 68.592 يوجد علاقة ذات دلالة إحصائية واضحة 0000.
جدول رقم (2): قيم كاي التربيعي بين متغير هدف الكتابات والمتغيرات المستقلة
اسم المتغيرات المستقلة قيمة كاي التربيعي الدلالة الاحصائية
جنس الكاتب 9.897 1290. لا يوجد علاقة ذات دلالة إحصائية
درجة الوقاحة 45.949 يوجد علاقة ذات دلالة إحصائية واضحة 0000.
مزاج الكاتب 126.739 يوجد علاقة ذات دلالة إحصائية واضحة 0000.
الخاتمة والتوصيات:
كان الهدف من الدراسة الحالية هو دراسة ظاهرة الحُب عند الشباب العربي كما تعكسه الكتابة على الجدران من منظورٍ لغوي اجتماعيّ وتمت الدراسة النوعية لمحتوى الكتابات على الجدران ثم تم إجراء تحليل كمي لعلاقة نوع الحُب وهدف الكتابة على عدد من المتغيرات الهامة. و يشير التحليل إلى ظهور نتائج هامة.
ويؤكد البحث بان ظاهرة الكتابة على الجدران هي ظاهرة اجتماعية منتشرة في كل مكان و قد تصل أهدافها إلى السلبية أكثر من الإيجابي بحيث ممكن أن يسبب مشاكل كثيرة حين يُعبر بطريقة غير أخلاقية،. أو يكون محتوى الكتابة سلبيا. و قد أكد البحث وجود علاقة ذات دلالة إحصائية بين نوع الحُبّ لدى الشباب العربي و كلا من المتغيرات التالية: جنس الكاتب، و درجة الوقاحة، وهدف الكتابة. كما أكد البحث عدم وجود علاقة بين نوع الحُبّ و مكان كتابة الجُمل على الجدار. وكذلك أظهر البحث أنّ الإناث الكتابة عن الحبّ العذري تفوق كتابات الحبّ الماجن الأمر الذي يدلّ على حفاظة المجتمع و سلامة تفكير أبناءه. و قد بين البحث أنَّ الحبّ في الكتابة على الجدران يزداد كلما كان السطح الذي تتم عليه الكتابة مخفي مثل الكتابة في الحمامات العامة.و بناءاً على نتائج البحث يمكننا الإشارة إلى أن الكتابة على الجدران هي ظاهرة سلبية لأنها تقوم على التخريب في الممتلكات، وخاصة إذا كانت تتمحور حول موضوع الحُب الماجن. لذلك فيجب على المجتمع العمل على تحجيم ظاهرة الكتابة على الجدران طالما قد يكون لها آثار سلبية على أخلاق المجتمع.
ويوصي البحث بإجراء المزيد من الدراسات العلمية المشابهة حول جوانب مختلفة من ظاهرة الكتابة على الجدران. كما يُنصح بمنع وتقييد قدرة الأشخاص على الكتابة على الجدران خاصة في الحمامات العامة و مرافق المجتمع العامة من خلال مراقبة المرافق العامة كالحمامات و إجراء صيانة مستمرة لها بحيث تتم عملية دهان الأسطح التي تتعرض للكتابة و ذلك حتى لا تبقى الكتابة عالقة لفترات طويلة. إضافة إلى ذلك، أن يتم نشر التوعية في المؤسسات التعليمية ومن خلال وسائل الإعلام للمراهقين خاصة بتوضيح المضامين السلبية للكتابة على الجدران. كما يجب تثقيف الشباب حول خطورة الانحراف من خلال التعبير الخاطئ عن معتقدات علاقات الحُبّ بحيث تبقى الأمة محافظة في أعرافها وبعيدة عن المشاكل.
المراجع العربية:
الخولي، محمد. (2002). صحافة الشوارع والجدران، جريدة البيان 24/6/2004 على الانترنت 13/7/2004.
ياغي، عبد الفتاح، 2009، السياسات العامة مع تطبيقات في دول عربية و اجنبية، كتاب تحت الطبع.
المراجع الأجنبية:
Al-Rousan, R. M. (2005). A Sociolinguistic Study of Graffiti in Jordan. M.A., Yarmouk University, Irbid, Jordan.
Arluke, A., Kutakoff, L., & Levin, J. (2004). Are the Times Changing? An Analysis of Gender Differences in Sexual Graffiti Sex Roles, 16(1-2), 1-7.
Bates, J. A., & Martin, M. (1980). The Thematic Content of Graffiti as a Nonreactive Indicator of Male and Female Attitudes. The Journal of Sex Research, 16(4), 300-315.
Bryden, N. (2003). Bathroom Walls Speak Out: An Exploratory Study of Restroom Graffiti. Retrieved 27/7/2009, 2009, from
http://sorrel.humboldt.edu/~jgv1/319Web/examples/2003/BathroomWalls.pdf
Little, R. E., & Sheble, M. A. (1987). Graffiti Vandalism: Frequency and Context Differences Between the Sexes. American Journal of Criminal Justice, 11(2), 217-226.
McKnight, J., & Sutton, J. (1994). Social Psychology. Sydney: Prentice-Hall (Australia).
Rogers, W. S. (2003). Social Psychology: Experimental and Critical Approaches. Berkshire: McGraw Hill Education.
Tuffin, K. (2004). Understanding Critical Social Psychology. London: Sage Publications Inc.
خطاب الرشوة- دراسة لغوية اجتماعية
خطاب الرشوة- دراسة لغوية اجتماعية
تأليف: نادر سراج
الناشر: رياض الريّس للكتب والنشر - لبنان(2008)
في هذا الكتاب يعالج نادر سراج "خطاب الرشوة" في تداعياته اللغوية.مكونات هذا الخطاب تدرس للمرة الأولى في لغة الضاد، عبر إضاءة لغوية اجتماعية، ومن خلال معاينة منظومة متكاملة من الكنايات والتوصيفات وخطابات افرقاء عملية الرشوة الثلاثة، الراشي والمرتشي والرائش، فضلاً عن باقة منتقاة من مأثوراتنا الشعبية التي بحثت في الرشوة وأخواتها.
قراءة تداولية في محاورة الحجاج وغلام من أهل الكوفة
قراءة تداولية في محاورة الحجاج وغلام من أهل الكوفة
إعداد ا.د. وسمية عبدالمحسن المنصور
أستاذ النحو والصرف – جامعة الملك سعود
نشر في: (الكتاب التذكاري للمرحوم أ.د. أحمد مختار عمر – جامعة الكويت ـ كلية الآداب – قسم اللغة العربية الطبعة الأولى العام الدراسي 2008م- 2009م/ الكويت).
--------------------------------------------------------------------------------
استوقفتني رواية عن لقاء قائد بفتى عربي من أهل الكوفة في لحظة رسمتها المقادير دون ترتيب أو تدبير بشري، اللافت في الرواية السمات التي تنطق بها الشخصية العربية لفتيان ذلك العصر. والبلاغة التي تموج بها " وليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق ولا ألذ في الأسماع ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويما للبيان من طول استماع الأعراب العقلاء الفصحاء والعلماء البلغاء." وأمر آخر أثارني أن في النص شقين: شق يدرج في مستوى اللغة المحكية، فهو حوار جرى بين طرفين، يحقق وظائف الاتصال الاجتماعي بأغراضه الإبلاغية، وليس من سماته الخلق الإبداعي. والشق الثاني يقع في منطقة مُحَيِّرَة من تصانيف نصوص لغتنا العربية؛ فلا يمكن الزعم بأنه نص إبداعي يتحمل استحقاقات الإبداع وسماته، ولا هو مما ندرجه في اللغة المحكية التي تمثل مستوى من الاستعمال يجري على ألسنة العوام، لكننا نتابع الجاحظ في استعارة وصفه السابق بأنه: الكلام الأمتع والآنق والألذ... وجميع الأوصاف التي ساقها الجاحظ لوصف هذا النمط من مستويات اللغة في تلك الحقب من تاريخها الممتد.
الرواية نقلا عن الهفوات النادرة للصابئ: (قيل: إن أهل الكوفة أصابهم مطر شديد في يوم صائف عظيم الحر، حتى سقطت سقوفهم وتهدمت حيطانهم ، والحجاج إذ ذاك بها فركب وسار منفردا ينظر مبلغ أثره، فأتى موضعا يقال له العريان، فرأى غلاما من غلمان العرب، من أصبحهم وجها وأحسنهم شبابا، ومعه قوس وهو يتصيد، فقال الحجاج: أقبل يا غلام، فأقبل، فقال له ممن أنت يا غلام؟ قال: من الناس، قال: وأي الناس؟ قال:من ولد آدم، قال: فمن أبوك؟ قال: الذي ولدني قال: فأين ولدت؟ قال: على ظهر الأرض في بعض الحجرات، قال: فأين نشأت قال: مابين السماء والأرض في بعض الفلوات، قال: وما اسمك؟ قال: وما تريد من اسمي؟ قال: أحببت أن أعرفك قال: والله ما ضرني إنكارك إياي في سالف الدهر فينفعني اليوم علمك بي ومعرفتك لي! قال: إني أظنك مجنونا، قال: أحلني ذاك عندك مجيئي إليك سعيا، كأنني ممن يرجو منك خيرا، أو يخاف لك شرا، ولست هناك. قال: وما يدريك يا غلام؟ قال: لعيك بجوابي وإظهارك لساني، قال: فانطلق معي أفعل بك خيرا، قال: والله ما أرى فيك شيئا من الخير فأنطلق معك. قال: ما أسفهك يا غلام، قال: وما علمك بسفهي وأنني سفيه؟ وأنت قد ذهب بك التيه وذاك بك شبيه! فبينما هما في ذلك إذ أحدقت بهما خيل الحجاج فقالوا السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته؛ فقال مغضبا: احتفظوا بالغلام، ثم رجع إلى الكوفة فلما اطمأن به المجلس أمر بأن يقف عن جانبيه ستة آلاف رجل من الجند، بأيديهم الأعمدة والترسة والسيوف المخترطة ثم أمر بإدخال الغلام عليه، فدخل يخطر بين الصفين، لا يهوله ما يراه، حتى وقف بين يديه فقال له الحجاج: يا عدو الله أنت صاحب الكلام؛ لا أم لك ولا أب لك ولا أرض لك! قال الغلام: لو كنت عدو الله كنت شيطانا رجيما، وما أحد بلا أم ولا أب إلا آدم وحواء، والأرض ما هي لي ولا لك، فالله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وأنا صاحب الكلام، فما أنكرت منه؟ فلما رآه لم يغفل عن الجواب، ولا تغير في الخطاب، أمسك عنه مخافة أن يشتد غضبه فيقتله، وأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه فقال: هل أصابكم من هذا المطر؟ قال نعم، قال: فشهدت ابتداءه؟ قال نعم، قال فصفه لي؟ قال: والله لقد نظرت إليه حين أقبل تؤلفه الرياح، فوعهد الله ما عنانا ولا اكترثنا له، ثم لم يلبث أن صار نشاصا، لا ترى منه خلاصا، ثم تخندس وأظلم، واشتد واكتهم، وتزاحم حتى علا البقاع والتلاع، وبلغ رؤوس الجبال فهد الصخور وثور البحور، ثم هدأ بإذن من على العرش استوى، وذلك تقدير العزيز العليم. قال: يا غلام سلني حاجتك؟ قال والله ما أسأل إلا من أنا وأنت عنده في المسألة سواء! ذلك الله ربي وربك! فأمر له بعشرة آلاف درهم، وبعث به إلى عبد الملك بن مروان، فأضعف له الجائزة بعد أن عجب منه وأنفق عليه، وانصرف إلى أهله مسرورا.
ننظر إلى النص على إنه إبداع لغوي فحسب، نستمتع بجمالياته ومنطق مضمونه. وندع جانبا توثيق الرواية وكذلك تصديقها. ننحي قضية التشكيك ومناقشة منطقية الإشارات المصاحبة فالحجاج غير كونه صاحب سلطة وسطوة، وعنوان الجبروت والعنفوان؛ فالتاريخ الموثق يشهد له أنه من فحول الفصاحة وجسارة اللسان، وأقواله وخطبه تدرج في أعلى مراتب البيان.
وسواء أكان النص حقيقة أم هو مختلق بلسان الراوي؟ أسلم من تدخل الرواة؟ أم أعمل الكاتب فيه بيانه وإبداعه؟ إننا نتأمل النص مادة لغوية ونفكك بنيته.
لكل نص أبعاد تعتور بناءه ودلالاته تتمثل في البعد الوظيفي والبعد الدلالي والبعد الوصفي النظري والبعد التوليدي. ولا يمكن الجزم بالفصل بين تلك الأبعاد، فالحدود بينها متداخلة والقواسم مشتركة، يفضي بعضها إلى بعض، ويعمل بعضها على إضاءة الجانب الآخر وكشف غموضه وتجلية ظنونه. الحدود ليست رسما هندسيا بالمسطرة ولا يقينا ملزما للمتكلم، وإنما علاقات متشابكة يحاول القارئ أن يجمع بها بين متعة القراءة وتأمل الأبعاد.
في النص المروي ملامح ملونة: فلسفية، ولغوية بيانية، وملمح تربوي، وشيء من أدبيات السلطة.
تكشف المحاورة عن تمكن الفتى من المقدرة الجدلية، وهي مقدرة فطرية وافقت قانون المعرفة الفلسفي (المعرفة تنتقل من الحواسّ إلى المخيّلة إلى العقل) وما أظن الفتى تمكن منها تلقيا في أروقة الفلاسفة، مستمدا من جدلهم مذهبا، وإنما فطرة وسليقة تعززها مكتسبات تربوية عربية تفتقر للتعليم الانتظامي وتنمو بالخبرة التراكمية.
في المحاورة نلمح منهجا مغايرا للحوار السقراطي في جانب، ومتفقا معه في جانب آخر. فالحوار السقراطي ينطلق من السؤال" المستوفي لشروط إجابة تنضوي على شيء من الحقيقة... وهو الآلة التي بها يَسْتَخْرج سقراط الحقيقة من بواطن النفس، أو يُظْهِرها بعد كمون" . وعادة يقوم على سائل ذكي يسأل هو سقراط نفسه، وعلى مجيب من تلامذته، أو من عامة الناس. فالمحاورة الجدلية طرفاها عنصر قوي يوجه السؤال ويحفر بتؤدة في أعماق الآخر للوصول إلى الحقيقة. فيها يقود المحاور القوي مناظره الآخر إلى تمثل حقيقة هي جلية عند الطرف الأول (القوي) وكامنة عند الطرف الثاني (الجاهل أو عامة الناس) والأهم أن ينتهي الطرف الثاني إلى موافقة الأول لا تابعا ولا إمعة وإنما يبدو له أنه هو صاحب القول الفصل ويغيب عنه أنه قيد إلى هذا الرأي، وأن معرفته صنيعة تشكيل الآخر صنعها وأظهرها.
توافق المحاورة المعنية باهتمامنا منهج الحوار السقراطي بتحقق عنصر القوة في أحد الأطراف تلك القوة التي أظهرت له –اعتمادا على تصوره الذاتي- أن الطرف الآخر هو العنصر الضعيف المكمل لدائرة الجدل كما نعرفه في الحوار السقراطي؛ لكن المفارقة جاءت بمحاور يثق بملكاته ومعرفته. وتبتعد هذه المحاورة عن الحوار السقراطي أن فاعل البدء فيها لم يكن يبحث قضية أو معرفة فكرية وإنما مبادرته نوع من الإحاطة بما حوله، فعندما بادر الحجاج بالسؤال كانت مقومات الوعي بقوته حاضرة في ذهنه بشيء من العنفوان الذي يتوقع الإجابة المنتظرة فهو يمتلك المفاتيح كلها؛ لذا جاءت الصيغة الأمرية (أقبل يا غلام) تشعر بقوة الفعل لدى السائل، وإمكانه المطلق بتحريك الآخر انتقالا حسيا في المكان وانتقالا لفظيا في القول -كما يرى هو- لا كما هو الواقع. كانت استجابة الفتى وإقباله تحقيقا لإمكان الفعل الحركي، فيأتي السؤال الآخر بإرادة انتظار جواب متوقع سياقه، مجهول مضمونه؛ (فقال له ممن أنت يا غلام؟) يأتي المجيب بما يخالف القيادة فاللفظ يقطع إرادة التوقع، ويرهص بتفرد الشخص؛ (قال الغلام: من الناس). الإجابة تنطلق موعدة بأجيج محتدم، يصدم السائل بعض الشيء ولا يهزمه؛ فما زالت قوة السلطة ووهج نورها يقصي احتمالات تحقق نية الطرف الآخر للتصدي والمواجهة لذا تستمر المجادلة (قال: وأي الناس؟) هنا ينطلق الموقف الحواري من طرفين كلاهما يمسك بخيوط القيادة بفعل الطبيعة والتكوين، لا نعلم أيقود السائل المسؤول إلى الإجابة؟ أم أن المجيب يقود السائل إلى سؤال جديد. " إنَّ الرغبة بالحوار، هي رغبة باكتشاف مستمر للذات من خلال الآخر، بالتوازي مع اكتشاف مستمر وغير نهائي للآخر"
نتوقف عند قيادة المحاورة فقد كانت سجالا بين الاثنين، كلاهما يرتفع لديه مؤشر الوعي بعناصر قوته، وكلاهما يدرك أن الخيوط في يده، لذا يطلق مقولته وفي يقينه أنها المقولة الحاسمة التي ستفحم الطرف المقابل وتقضي عليه، وتقرر متى تنتهي المحاورة.
تقوم بنية الموقف الحواري على التداعي المنطقي السقراطي، فالفكرة تفضي إلى أخرى كفتل الحبل يبدأ من الطرف الأول لينتهي قويا في الطرف الثاني، فتتمازج عناصر الفتل بمنطقية، وتتداخل عناصرها. سؤال يرسم محيط الدائرة يتلوه الجواب، لكن الدائرة لا تفصح عن القائد والمقود؛ فكلاهما فاعلان ومفعولان في آن واحد. تتدحرج أقوالهما معا ككرة الثلج، تتنامى فيها العناصر كَمًّا، وتتطور فيها الدلالات كيفا، فهي كرة كبيرة عملاقة اعتورها فِعْلُ اثنين متباينين.
في المحاورة نمط من اللعب اللغوي يلتف على مضمون فلسفي، يوظف المشترك اللغوي في بنية الحوار؛ رغبة في حصر محاوره في شراك تنطلق من اللفظ لتحصر المعنى في وجه لا ينتبه له الطرف الثاني، وإن كان لا يجهله.
تتدافع بنية المحاورة بِطَرْقٍ قويٍ من الاثنين؛ السائل والمجيب. ويصبح الطرق على مكامن المعرفة ثنائي الأداة متبادل الطرق، ما أن يرفع أحدهما يده وقد دوى آثار طرقه، حتى يواليه الطرف الثاني بطرق آخر، يخالفه فعلا ويتكامل معه نغما. إنها ثنائية يتمازج فيها الفعلان بنغم منتظم يطرق الأول ثم يطرق الثاني؛ لذا تشوب ذاك الموقف الحواري صبغة التهكم السقراطي، الذي يفسره (جان بران) بأنه: "يقوم على إيقاع الإنسان الجاد في الفخ الذي نصبه هو بنفسه وذلك بأن يبين له أن هذا الشخص يستند إلى جهل بجهل نفسه...وهدف سقراط أن يستبعد الظنون التي لا تصمد أمام محك التفكير وأن يوبخها، إن صح القول، بوضعها في تضاد مع نفسها " .
هذا النمط الذي يتمسح باللغة وغايته التهكم تعرفه الثقافة العربية الشعبية العامية والمستوى الآخر من الثقافة الرسمية؛ أنقل رواية عن أبي أوس الشمسان" يقال: إن أهل عيون الجواء في القصيم أهل طرفة تعتمد على الاشتراك اللغوي، من ذلك أن أحدهم جلب بعيرًا إلى بريدة فوقف أحدهم عنده وهو لا يريد الشراء بل الثرثرة، وصاحب البعير يدرك ذلك. فلما سأله: البعير كم هو عليه؟ (أي كم ثمنه) قال: على أربع. (أي أربع قوائم)، فرد الرجل: أقول لك وشوّ عليه؟، فقال: على الأرض. فغضب الرجل من سخريته وشك أنه من أهل العيون فسأله: أنت عيوني؟ فقال: لا، عيونك في راسك" .
سياق المحاورة يشي برائحة التهكم، بل إن الغلام على وعي بمقاصده حين يجيب عن سؤال الحجاج: (وما يدريك يا غلام ؟ قال: لعيك بجوابي وإظهارك لساني قال: فانطلق معي أفعل بك خيرا قال: والله ما أرى فيك شيئا من الخير فأنطلق معك، قال: ما أسفهك يا غلام قال: وما علمك بسفهي وأنني سفيه؟ وأنت قد ذهب بك التيه وذاك بك شبيه.)
تتصاعد حدة الوعي بالذات عند الغلام بعد أن يُسْتَدْعى لمواجهة الحجاج في بلاطه تحوطه جنده مدججين بسلاحهم، ويتوهج المجلس بزينة السلطان وأبهته، وهيبة المكان وروعته؛ لكن الذات الواعية لا تعشو من نور وقتي بل تستضيء بنور دائم ينبع منها.
لحظة المواجهة لم تكسر تلك الذات المضيئة ولم تزعزع ثوابتها سيل الشتائم الموجعة؛ إذ يجيب الغلام "وأنا صاحب الكلام، فما أنكرت منه؟ " عندما يسأله الحجاج: " يا عدو الله أنت صاحب الكلام؛ لا أم لك ولا أب لك ولا أرض لك! "
يوعز الملمح الفلسفي في محاورة الحجاج والغلام بالاختيارات اللغوية، ذلك أننا نجعل في البعد الفلسفي إرهاصا للدرس اللغوي.
لا ينفصم البناء اللغوي في محاورة الحجاج والغلام عن المعنى، حيث يقوم معمار المحاورة على موقفين يشكلان دعائم جوانبها ، الموقف الأول لحظة لقاء الحجاج والغلام في بر منطقة العريان بعد هطول المطر، والموقف الثاني عندما أحضر الجند الغلام لمواجهة الأمير في بلاط الحجاج. الموقف الأول كان لحظة تشكل الخطاب فيها بين محاورين يخلو ذهن كل منهما من تصور لطبيعة المحاور الآخر، ولعل هذا الجهل بالآخر جعل كل طرف قائدا ومقودا في آن واحد، فلا الحجاج كان متوقعا هذه المقدرة اللجاجية عند الغلام ولا الغلام كان على دراية بمكانة الحجاج وأهميته، لذا قام البناء اللغوي على سلسلة من الأفعال الكلامية والجمل الإنشائية الطلبية، والجمل الإيحائية التي تبطن أكثر مما تظهر، "وهو الذي يسبق إلى العقول والأوهام لظهوره فيما هو المراد"
ولا يتحقق المعنى كاملا إلا بجهد من القارئ يعمل مخيلته في تقدير المحذوف واستكمال عناصر الصورة.
لقد تنبهت الدراسات البلاغية والأصولية التراثية إلى ما يشوب العلاقة في الموقف السياقي بين المتكلم والسامع واهتمت بالقرائن التي تجلي أسرار الخطاب وهو ما تعرفه الدراسات الحديثة بسياق الموقف وفي تراثنا الخصب إشارات واصطلاحات أخرى تتضمن مفاهيم سياقية حديثة من مثل مقتضى الحال ، والمقام ، والموقف والمشاهدة، والدليل، والقرينة . ولا يستكمل فهم النص إلا بجملة أمور أشار لها الجاحظ بأنها " التي تكشف قناع المعنى وتهتك الحجاب دون الضمير. " ويتوجه النقد اللغوي الحديث إلى دراسة هذا النوع من التراكيب داخل نصوصها وهو مذهب ( استرجاع البعد المفقود) يقول بسام ساعي في دراسة له عن قراءة النص التراثي "ومع هذا الفقدان المستمرّ لعناصر النصّ تبرز أمام القارئ الحصيف مهمّةٌ ليست سهلةً، وهي محاولة إعادة ترميم النصّ واستكمال ما فقده، وممارسة ما يمكن أن أسمّيه بعمليّة (استحضار الغائب واستبعاد الحاضر) من أجل الإمساك بالبعد المفقود منه" . ويقول " وهكذا يتحتّم علينا ونحن نقرأ تراثنا ببعده المكتوب أن نضيف إليه البعدين: المسموع والمنظور، لنتمكّن من قراءته بأبعاده الكاملة، ونفهمه بأكبر قدرٍ من الشفافية، ونصل إلى أقرب نقطةٍ ممكنة من صورته الأصليّة الحقيقيّة" .
يرسم الموقف الأول خطان متعاكسان يتبادل الحجاج والغلام أدوار السائل والمسؤول، يمسك الحجاج بمفتاح المحاورة حين تصدرت سلسلة الجمل الاستفهامية بطلب أمري يشي بقوة السائل (أقبل يا غلام) أعقبها فتيل أشعل المحاورة بأداتي الاستفهام عن الشخص(من وما) وعن المكان (أين) وهي أسئلة لا تقدم إجاباتها معرفة للسائل بقدر ما تمثل إحاطة السائل بالسيطرة على المسؤول وهو الجزء الغائب في النص المتحقق في واقع شخص الحجاج.
المحاورة حافلة بأنساق لغوية تتحكم في بنائها، يتوائم البناء النفسي ورسم شخصية المتحاورين مع ما يقتضيه سير المحاورة وطبيعة موضوعها. الموقف يقود اللغة، والمعاني تشكل التراكيب، "والبيان إحضار المعنى للنفس بسرعة وإدراك ... والدلالة إحضار المعنى للنفس وإن كان بإبطاء."
ولما كان الموقف نتيجة صدفة رتبها القدر ولم يتدخل بها بشر فاللغة عفوية تصدر عن محصلة تراكمية تفعل فيها طبيعة الشخصية ومعرفتها بذاتها وجهلها بالآخر لذا تتوالى الجمل الإنشائية مجللة بدلالات ظاهرة وباطنة تتلون تراكيبها ما بين الاستفهام والتعجب والجملة المثبتة المؤكدة والمنفية المنكرة.
نقف عند نص المحاورة نفكك بناءها اللغوي، والنص كما عرفه أحد الباحثين: "منجز لغوي ذو علاقة ترابطية فيما بين مكوناته المتتابعة، وذو غرض إبلاغي، وبينه وبين الموقف علاقة حضور متبادل." وما عرضنا إلا محاولة تنظر إلى الجملة في سياقها النصي مستفيدة من النظر البلاغي الذي يقسم الجمل إلى إنشائية وخبرية مع شغف باستنطاق التراكيب لكشف معان يستدعيها الموقف اللغوي متضامنا مع تركيب الشخصية وسياق المحاورة.
كانت إجابات الغلام مقتضبة تلبس ثوب الجمل البسيطة لفظا المكثفة معنى، مع حذف لأحد عناصرها (من الناس) و(من ولد آدم) فالمحذوف سائغ قي هذا السياق، منوع الصيغ فهو يحذف الضمير (أنا) جوابا في السياق السابق كما يحذف الفعل في جواب سؤال عن المكان (أين ولدت؟ وأين نشأت؟) يقول ابن جني: "قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحركة، وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه، وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته." لكن الحذف في جواب الغلام لم يكن غايته الإيجاز فحسب أو توسل بإمكان لغوي تتيحه قرائن اللفظ ، وإنما الحذف جاء محملا بدلالة الضجر والملل من ذلك السائل الذي تطفل على خصوصية الغلام الذي لم يجد بدا من أن يختطف خيط السائل فيجر الحجاج إلى مستنقع الاستفهام الإنكاري (وما تريد من اسمي ؟) ثم تساوقت الجمل الإنشائية بتسلط من الغلام مدعوما تارة بالقسم (والله) وتارة باستفهام وفيهما يتصاعد مؤشر الإنكار الذي يجعل الحجاج يدور في حلقة مغلقة من توالي الاستفزازات الإنكارية وهو لا يملك إلا التمسك بخيوط الجواب القسري الذي يقاد إليه، فلا التهكم الذي سيق بصيغة التوكيد (إني أظنك مجنونا) هزم الغلام نفسيا، ولا إغراء المنافع أجدي بأن يردعه؛ وإن تلبس الشرط المحذوف الصيغة الطلبية (فانطلق معي أفعل بك خيرا) لم تتوقف سيل طلقات الغلام النارية المنهمرة بردود منطقية تسد على الحجاج المنافذ، يلونها بجمل مركبة تركيبا جوابيا مثل (والله ما ضرني إنكارك إياي في سالف الدهر فينفعني اليوم علمك بي ومعرفتك لي!) ثم يشعلها باستفهام إنكاري (أحلني ذاك عندك مجيئي إليك سعيا كأنني ممن يرجو منك خيرا أو يخاف لك شرا) يلحقه بتوكيد مباغت (ولست هناك). يفضح النص الحواري خفايا المعنى" تبتدئ العرب الشيء من كلامها يَـِبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله " فيلتقط الحجاج أنفاسه بعض الشيء محاولا إنهاء المحاورة بهدوء بصيغة ثوبها الاستفهام وباطنها الحرج الذي لم ينتظر، والصدمة المتصاعدة (وما يدريك يا غلام؟) لكن ذخيرة الغلام ما زالت حية تتقد بالاستدلال المنطقي والتعليل المحكم: (لعيك بجوابي وإظهارك لساني) فالعلة جلية للغلام وإن كان الحجاج قد اجتهد في مداراتها، والتهكم قد تمادى في الكناية (وإظهارك لساني) فلا خير يُرْجَى ولا شر يُخْشَى من أحمق يدخل نفسه في جدال لم يتبين سلفا قدرات الطرف المواجه.
ذلك الرد جعل غضب الحجاج بركانا منفجرا في صيغة تعجب محملة بكل دلالات المعنى الحبيس في صدره، يتضافر فيها البناء التركيبي من صيغة تعجب، والمنطوق المعجمي للفظ فعل التعجب (السفه) ثم يعقبه توكيد المتعجب منه بنداء يؤكد عموم السفه في شخص الغلام ولا يخصص رأيا أو قولا، وذلك حين صاح الحجاج: (ما أسفهك يا غلام!) وإذا أمكن الموقف من استحضار هيئة الحجاج وما تتطلبه من مسلك أدائي يتحفز لاقتناص كل الأدوات التي تمكنه من حسم الجدال لصالحه وهو ما يقتضيه سياق الموقف، فإن الطرف الآخر واثق مشاكس لا ينال منه التسفيه، ولا تلين عريكته لذا يعجل بضربة قاضية مختارة من نوعية الردود السابقة بل أشدها مضاء باستفهام يرشح بكل الدلالات الإنكارية والتعجبية (وما علمك بسفهي وأنني سفيه؟) ثم يذيله بتوكيد عاصف قاصم اختار له جملة حالية مؤكدة منغمة موسيقية (وأنت قد ذهب بك التيه وذاك بك شبيه!)
لقد تحققت للغلام السيطرة اللغوية بتوظيف المفارقة فالتصاق التيه بالحجاج وشبهه به أدعى إلى الاتصاف بالسفه وهو منبع المفارقة التي " يكون فيها المعنى الخفي في تضاد حار مع المعنى الظاهري." وفي النثر ما في الشعر من تفرد الصياغة وقوة التصوير مع اختلاف نسيج مادتهما. الموسيقى الداخلية مكثفة في نص المحاورة، وهي ما جعل التماسك بين اللفظ والمضمون يحدثان إشراقا في النص وتنغيما يستحضر موقف الخطاب بأبعاده الظاهرة والكامنة، الملفوظ منها والملحوظ، الظاهر والمقدر. فتقسيم الجمل والمطابقة، والفواصل وإقفال الجمل المتوالية بما يشبه التجنيس والتضاد، وتماثل الأصوات جميعها تغري بتنغيمها القارئ، فيأخذه إلى حياة أخرى للفظ على لسان قائله، لا رسمه حبيسا في قرطاس. ولننظر مثال: (على ظهر الأرض في بعض الحجرات قال: فأين نشأت قال: مابين السماء والأرض في بعض الفلوات) وكذلك (وما علمك بسفهي وأنني سفيه؟ وأنت قد ذهب بك التيه وذاك بك شبيه!).
تفعل حركة الضمائر في حيوية الخطاب وموسيقاه بين الذوات المتكلمة (أنا) و(أنت) فكل من الحجاج والغلام متكلم مرة ومخاطب مرة أخرى، هذا الخطاب المتبادل جعل القذائف اللفظية تعنف تارة، وتركن إلى الهدوء تارة أخرى فتنخفض حدة نبرها (قال: وما يدريك يا غلام ؟ قال: لعيك بجوابي وإظهارك لساني قال: فانطلق معي أفعل بك خيرا قال: والله ما أرى فيك شيئا من الخير فأنطلق معك).
استدعى الموقف تلوين المؤكدات السياقية وهي المؤكدات التي يمور بها النص غير ما ضيقه النحاة بنطاق (المؤكد اللفظي والمؤكد المعنوي) فالغلام يعزز إجابته المبهمة بتعيين المكان فكأنما يؤكد للسائل حقيقة أنه لا يرغب بالإفصاح عن شخصه (فأين ولدت ؟ قال: على ظهر الأرض في بعض الحجرات قال: فأين نشأت قال: مابين السماء والأرض في بعض الفلوات) ويأتي ضمير النصب المنفصل(إنكارك إياي) أمضى في التوكيد من ضمير النصب المتصل (أن تنكرني) وللجملة المركبة جوابيا أثر في تعزيز القسم الذي تصدرت به ( والله ما ضرني إنكارك إياي في سالف الدهر فينفعني اليوم علمك بي ) ويؤدي العطف دوره في تأكيد الجملة سياقيا (ومعرفتك لي) أما الحجاج ففي تعليقه تصدير بحرف وظيفته التوكيد (إني) والفعل القلبي دل على اليقين وليس الترجيح في هذا السياق ( إني أظنك مجنونا). كما نجد في تحول إجابات الغلام من النمط الإخباري إلى الإنشائي الاستفهامي شيئا من التوكيد الضمني (أحلني ذاك عندك مجيئي إليك سعيا) إضافة إلى ما تتحمله الإجابة من استغراق سد منافذ كل الإمكانات المحتملة (كأنني ممن يرجو منك خيرا أو يخاف لك شرا) وتقفل الإجابة بمؤكد قوي و(لست هناك) ولعل هذه القفلة تعزز أن هذا الشق هو من مستويات اللغة المحكية.
في الموقف الثاني تتخذ المحاورة شكلين مختلفين فالظرف قد اختلف مكانيا والاعتذار بالجهل بمكانة الحجاج قد رُفِع. المكان بلاط الحجاج بين جنده وهو في قمة سلطانه، أما الفتى فهو محجوز بالإكراه إذعانا لأمر الحجاج بجلبه بعد أن أُقْفِل الشق الأول من المحاورة بقذيفة الغلام الساحقة أن رد عليه الاتهام بالسفه وأن التيه لاصق بالحجاج.
يستعد الحجاج للموقف الثاني بكامل جاه السلطان، وتوالي الأيام على الغلام في حجزه القسري، المفروض عليه بأمر الحجاج، لم تكن غاية الحجز عقوبة يوقعها الطرف المستقوي بالسلطة وهو الحجاج على غلام من عامة الشعب، فللحجاج من الذكاء ما يقشع ضبابية الرؤية لتستبين له قوة غلام سندها ثبات في الجنان، وإشراق في البيان، وإنما غاية الحجز ليراجع الغلام نفسه؛ عله يعتذر بعد أن تبينت له شخصية السائل وكشفت الحجب (فلما اطمأن به المجلس أمر بأن يقف عن جانبيه ستة آلاف رجل من الجند، بأيديهم الأعمدة والترسة والسيوف المخترطة ثم أمر بإدخال الغلام عليه) وتتنامى عناصر قوة الحجاج بالجنوح اللفظي فالغلام كسير النفس بحجزه، وبما يراه من مظاهر الجبروت من جند وسلاح. هكذا قيم الحجاج الموقف وخلص إلى نتائجه؛ وهو ما سوغت له نفسه بأن يبادر بالهجوم اللفظي والسباب الجارح (يا عدو الله أنت صاحب الكلام؛ لا أم لك ولا أب لك ولا أرض لك!) وما كان يخطر بباله أن تقوم للغلام قائمة في هذا المقام؛ لكن المفارقة تظهر في المسلك والملفظ (فدخل يخطر بين الصفين، لا يهوله ما يراه) بل تأتي إجاباته مفصحة عن شجاعة عتيدة، وبيان رصين بلفظ مكافئ للسؤال. وتخلص بليغ، لغته مشرقة بالاستدلال المنطقي والتوكيد اليقيني (لو كنت عدو الله كنت شيطانا رجيما، وما أحد بلا أم ولا أب إلا آدم وحواء، والأرض ما هي لي ولا لك، فالله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وأنا صاحب الكلام، فما أنكرت منه؟) رد ملفوظ لا يكترث الناطق بعواقبه. هنا يبلغ صراع النفس عند الحجاج ذروته؛ فالكتاب مقروء لا غموض فيه، والرسالة جلية وصلت لعقله وروحه. تَحَرَّج الحجاج من الانسياق إلى ضعفه البشري (فلما رآه لم يغفل عن الجواب، ولا تغير في الخطاب، أمسك عنه مخافة أن يشتد غضبه فيقتله) هنا يتجلى أدب الملوك: الصمت والتفكير ثم تحويل مجرى المحاورة إلى استعراض لغوي بياني (وأطرق طويلا ثم رفع رأسه إليه فقال: هل أصابكم من هذا المطر؟ قال نعم، قال: فشهدت ابتداءه؟ قال نعم، قال فصفه لي؟) يفتح الحجاج للغلام ساحة ميدان آخر، يصول فيها ويجول، بعيدا عن قذائف الجدال واللجاج. وكما كان الغلام سيفا بتارا في الأولى كان نهرا فياضا في الثانية, هو مفوه في الحالين إنما لكل مقام مقال، فالجمل في النص الثاني إخبارية تعتمل بالوصف والكنايات، وإن تصدرت بالقسم فهو للتوكيد أو أنه نسق من الاستعمال الوظيفي الذي لا يغفل عن كون هذا المطر من آيات الله سبحانه خالق كل شيء ومدبر الأمور (والله لقد نظرت إليه حين أقبل تؤلفه الرياح، فوعهد الله ما عنانا ولا اكترثنا له، ثم لم يلبث أن صار نشاصا، لا ترى منه خلاصا، ثم تخندس وأظلم، واشتد واكتهم، وتزاحم حتى علا البقاع والتلاع، وبلغ رؤوس الجبال فهد الصخور وثور البحور، ثم هدأ بإذن من على العرش استوى، وذلك تقدير العزيز العليم).
تظهر في النص أساليب تؤرخ للعصر الذي كانت فيه حية نابضة (لا أم لك ولا أب لك ولا أرض لك!) ومفردات ندرجها اليوم في مرحلة سالفة من حياة معجمنا اللغوي مثال (نشاص وتخندس واكتهم)
اعتنت اللغة بالوصف والكنايات وحشدت التصاوير المتوالية لرصد مراحل المطر من الأدنى إلى الأعلى ومن أصله كغيم (حين أقبل تؤلفه الرياح) إلى أن بدأت المرحلة الثانية بالنشاص وهي السحاب المرتفع: جاء في لسان العرب: "الغيم الذي يرتفع بعضه فوق بعض وليس بمنبسط" فلما أطبق عليهم لم يروا خلاصا، بعدها كانت المرحلة الثالثة وفيها ذروة الأمر فناسيتها ألفاظ من معجم القوة (ثم تخندس وأظلم، واشتد واكتهم، وتزاحم حتى علا البقاع والتلاع، وبلغ رؤوس الجبال فهد الصخور وثور البحور) وينتهي بهدوء تناسبه الجملة التقريرية (ثم هدأ بإذن من على العرش استوى، وذلك تقدير العزيز العليم).
التصوير يرصد بدايات المطر ويتصاعد اللفظ مع حركة الإعصار ليصل مداه المقدر له وينتهي بإذن الله على حيث بدأ.
في هذا الشق الوصفي من المحاورة نلمح قرائن المكان الذي جاء منه الغلام فهي منطقة وادي تحوطه التلاع والجبال فالمطر علا البقاع وارتفع منسوبه إلى التلاع وهي " ما ارْتَفَعَ من الأرضِ، وما انْهَبَطَ منها، ضِدٌّ، ومَسيلُ الماءِ، وما اتَّسَعَ من فُوَّهَةِ الوادي." وإشارة إلى أن المنطقة قريبة من النهر والعرب تطلق على الماء المالح والعذب بحر.
بعد أن هدأت النفوس، وانتشت الآذان بالوصف البليغ، يقتضي المقام تصرف الملوك (سلني حاجتك؟) لكن الغلام شخصية لا تتناقض، متصالحة مع نفسها، واعية لما تقاد إليه فجاءت الإجابة على السؤال الرقيق بجملة تتسق والنسق البياني للغلام ( قال والله ما أسأل إلا من أنا وأنت عنده في المسألة سواء! ذلك الله ربي وربك!) وهنا يتجلى أدب الملوك بمكافأة جزلة وتمكين الغلام من أن يحظى بلقاء الخليفة في دمشق الذي (أضعف له الجائزة بعد أن عجب منه وأنفق عليه، وانصرف إلى أهله مسرورا.)
تثير تلك المحاورة جملة من التساؤلات تتصل بعلاقة الموقف اللغوي بالموقف السياقي، أو بتعبير آخر علاقة الدال اللغوي الخاص بالدال السيميائي العام الذي يكشف ما خفي من المعنى بين تضاعيف إشارات، واستدعاءات المحذوف مما لم يرد لفظا ويتطلبه المعنى. وهو ما يعبر عنه هاليداي: " هو النص الأخر ، أو النص المصاحب للظاهر، وهو بمثابة الجسر الذي يربط التمثيل اللغوي ببيئته الخارجية"
وتساؤل آخر حول استحضار الماضي؛ لماذا نلتفت إلى التراث؟ نجتر ذاكرة أمة قضت آجالها واستمرت أجيالها، فالقوم اليوم هم قوم الأمس اسما لكنهم غير القوم فعلا. أتمجيد للتاريخ ذلك الشغف بالتراث؟ أم بكاء وحسرة على واقع؟ كيف استقامت لأسلافنا تلك الجسارة المقتحمة وهم محاطون بأمم أكثر منهم قوة وأوغل في حفر مكانهم في التاريخ؟ أوتكون المعرفة الإنسانية كامنة عند أمة وناضبة عند أخرى؟
تنطق المحاورة بحقيقة أن المجد كان سمة أمة لا أفراد، فلم يكن هناك الزعيم الواحد الأوحد، والصدفة التاريخية التي لا تتكرر، أو المهاب والمهيب؟ فقد كان للغلمان والفتيان حق في الحوار والمجادلة، قبل أن تبتدع الأمم المتحدة حقوق الإنسان بحقب طويلة.
وتسجل المحاورة للشباب العربي في تاريخنا صفحات متوهجة بفعل الأنفة والاعتزاز، والاستمتاع بممارسة كينونة الذات مع فصاحة في اللسان، وثبات الجنان، وإشراق البيان.
من الممكن لقارئ آخر أن يستكنه بشيء من التأمل ملامح أخرى تفوت على قارئ آخر، فالقراءة تفرد لها جمال خصوصية التلقي والفهم.
الجاحظ (255 هـ )؛ البيان والتبيين؛ تحقيق عبد السلام هارون (ط3 مكتبة الخانجي) 1/ 145
الصابئ؛ غرس النعمة أبي الحسن محمد بن هلال (ت 480هـ) الهفوات النادرة؛ تحقيق صالح الأشتر (ط1 مجمع اللغة العربية /دمشق 1387هـ - 1967م) ص 228- 230
(مكتبة التراث الأزهرية / القاهرة 2003م) ص 123
جان بران؛ سقراط أمجد الفلاسفة، ترجمة جورج أبو كسم. (ط 1 ، دار الأبجدية/ دمشق 1994م) ص 98
محمود حيدر؛ مفهوم الحوار في إشكاليات الاختلاف والتواصل ونظام القيم- مجلة الفكر السياسي؛ ( اتحاد الكتاب العرب بدمشق) - العدد 21 السنة الثامنة شتاء 2005.
جان بران؛ سقراط أمجد الفلاسفة، ترجمة جورج أبو كسم ص 113.
أبو أوس الشمسان؛ مصيدة المشترك اللفظي (الجزيرة - الثقافية؛ العدد 247 / الرياض 7/ 5/ 1429هـ)
السرخسي؛ (490 هـ ) صول السرخسي تحقيق أبو الوفا الأفغاني (دار المعرفة / بيروت 1973م) 1/ 163
التفتازاني (791 هـ ) شروح التلخيص (بيروت دار الكتب العلمية د. ت.) 1/122- 123
ابن رشيق( 456هـ ) العمدة في محاسن الشعر؛ تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد (مطبعة السعادة/ القاهرة 1383هـ ) ص 199 والقزويني (739 هـ ) ؛ الإيضاح في علوم البلاغة (مكتبة محمد علي صبيح القاهرة/ 1390 هـ ) ص 7- 8
البغدادي؛ خزانة الأدب؛ تحقيق عبد السلام هارون (ط 2 مكتبة الخانجي / القاهرة 1402 هـ ) 4/ 384
ابن السراج (316 هـ )؛ الأصول في النحو؛ تحقيق عبد الحسين الفتلي (ط1 مؤسسة الرسالة / بيروت 1405 هـ) 2/ 274
االسيوطي(911 هـ )؛ الأشباه والنظائر في النحو؛ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد (مكتبة الكليات الأزهرية / القاهرة 1295 هـ ) 1/ 268
السيوطي (911 هـ )؛ همع الهوامع تحقيق عبد العال مكرم سالم (دار البحوث العلمية 1394 هـ ) 2/ 224
الجاحظ (255 هـ )؛ البيان والتبيين؛ تحقيق عبد السلام هارون (ط3 مكتبة الخانجي) 1/ 75
بسام ساعي؛ قراءة النصّ التراثيّ: استرجاع البعد المفقود؛ (مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب العدد 98 - السنة الخامسة والعشرون / دمشق حزيران 2005 م
المرجع نفسه
ابن رشيق( 456هـ ) العمدة في محاسن الشعر؛ تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد (مطبعة السعادة/ القاهرة 1383هـ ) 1/ 254
الطلحي؛ ردة الله بن ردة بن ضيف الله؛ دلالة السياق، رسالة دكتوراه مخطوطة (المملكة العربية السعودية جامعة أم القرى / مكة المكرمة 1418 هـ ) ص 44
ابن جني (398 هـ )؛ الخصائص تحقيق محمد علي النجار (ط3 الهيئة المصرية العامة للكتاب / القاهرة 1416 هـ) 2/ 326
الشافعي (204 هـ )؛ الرسالة تحقيق أحمد محمد شاكر، (ط2 دار التراث / القاهرة 1393هـ ). ص 52
جاب الله؛ أسامة عبد العزيز؛ جماليات المفارقة النصية
(موقع مجلة ديوان العرب الإلكترونيةhttp://www.diwanalarab.com 15/ 4/ 2008م)
ورثت اللهجات العربية المعاصرة نماذج من هذه القفلات التي يعجز فيها المتكلم السامع فيفحمه منها في نجد (امْعَصِي) (وتخسي) وفي الكويت (حامض على بوزك) وفي الشام (بعيد عن شواربك) وليست هذه القفلات محكومة ببيئتها بل هي متنقلة بطبيعتها.
اين منظور؛ اللسان مادة (ن ش ص)
اين منظور؛ اللسان مادة (ت ل ع)
مرج البحرين يلتقيان الرحمن 19
البركاوي؛ عبد الفتاح عبد العليم ؛ دلالة السياق بين التراث وعلم اللغة الحديث. (ط 1، دار المنار/ القاهرة 1411 هـ ) ص 37
عوض؛ يوسف نور؛ علم النص ونظرية الترجمة؛ (ط1 دار الثقة للنشر والتوزيع / مكة المكرمة 1410هـ ) ص 29
السبت، 25 يونيو 2011
هل العلاقة بين الأمازيغية والعربية علاقة تصارع أم تعايش؟
هل العلاقة بين الأمازيغية والعربية علاقة تصارع أم تعايش؟
التجاني بولعوالي
الحوار المتمدن - العدد: 2622 - 2009 / 4 / 20
---------------------------------------------------------------------------------
إن ما يفهم من خلال الكثير من الكتابات والآراء، أن المغالطة التي يقع فيها أصحابها هي التفريق بين ما هو عربي وما هو أمازيغي، وخلق المثبطات بين الثقافة العربية التي تتقنع أحيانا بلبوس الإسلام، وتجعله مسندا لها يمنحها صفة القداسة، ويضفي على مكوناتها طابع الشرعية، وبين التراث الأمازيغي الذي ظل يختزله التصور الرسمي ومن حذا حذوه في ما هو فلكلوري ومتحفي، ويعامل من منظور انتقائي ينصب فيه الاهتمام على الجوانب القابلة للاستهلاك السياحي أو السياسي لا غيرهما، والملاحظ أنه كلما كان يدور النقاش حول الأمازيغية في شقها اللغوي، كلما كان يطفو على السطح ذلك الجدل العقيم، الذي عهدته هذه القضية بسخونته وحدته وتعصبه، ناهيك عن النقاشات الأخرى التي تتعلق بأصل الأمازيغ وأخلاقهم وتاريخهم، والثقافة التي أنتجوها وغير ذلك، حتى أن بعض المواقف اجتهدت، كما يشير الأستاذ إبراهيم أخياط، في نعت "الأمازيغية باللغة الوثنية، إشارة إلى أنها وجدت بالمغرب وشمال أفريقيا قبل الفتح الإسلامي، وهو كلام ضعيف الحجة... (بالنظر) إلى ما فيه من جهل بتاريخ العربية ذاتها التي كانت من اللغات الوثنية قبل الإسلام".(1)
ونظرا إلى أهمية اللغة باعتبارها، حسب هايدغر، تجعل من الموجود وجودا منكشفا في حالة فعل، نقول: إن التعدد اللغوي شيء عادي، فهو يتخذ صبغة عالمية، لا تخلو منه بقعة من بقع الكرة الأرضية التي يحيا عليها الإنسان، وقد حدثت هذه الأمور نفسها في الأزمنة كلها لدى جميع الشعوب التي بلغت درجة ما من الحضارة، فاليونان، كما يؤكد د. سوسير(2)، كانت لهم لغة مشتركة Koine الناتجة عن اللغتين الإيتيكية والأيونية، إلا أن لهجاتهم المحلية ظلت مستعملة إلى جانب هذه اللغات المشتركة، وهذا دليل قاطع على أن التعدد مسألة تمليها سجية الإنسان، فالإلغاء الذي يمس بعض الألسن ينم عن قصور في استيعاب مفهوم الحضارة، الذي يحضن مختلف الإنجازات الإنسانية المادية والمعنوية، ابتداء من أسلوب الكلام وصولا إلى طريقة صنع الأكل، ونجد ما يعضد هذه النظرة في القرآن الكريم، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الروم: "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين"(3). إن ما يستفاد من هذه الآية الكريمة أن الاختلاف الملحوظ في موجودات الكون، على تباينها، وألوان البشر ولغاتهم في جوهره واحد، فهو ليس بعيب ولا شائبة، وإنما أمور طبيعية عادية، لذلك راعى الخطاب القرآني التباين الحاصل في اللهجات والثقافات والتقاليد، فاعتبره آية من آيات الله تعالى، غير أن البعض تجاسر على هذا الجانب الذي ربطه الله تعالى بمشيئته وإرادته، عندما سعى حثيثا إلى طمس لغات وثقافات الآخرين، واستبدالها تعسفا بما لا يمت بصلة إلى تركيبة فكرهم، ومقومات هويتهم، وطبيعة شخصيتهم.
يتحتم علينا إذن، أن نفهم العلاقة بين الأمازيغية والعربية في ضوء هذه الرؤية، وعزوفا عن أي مقولة إجحافية تقصي الآخر لتكون ديمقراطية مع نفسها لا غير! وأيضا أن نراعي ذلك التعايش التاريخي الذي كان قائما بينهما، على أساس أن "التكامل بين اللغة العربية كلغة رسمية، وكلغة القرآن، وبين اللغة الأمازيغية لا يثير في الحقيقة والواقع أي إشكال على مستوى الوحدة الوطنية لأن المسألة اللسنية في المغرب لم تكن أبدا عاملا من عوامل التفرق والتشتت".(4)
وبهذا، يمكن أن ندفع الأقاويل والطروح التي تفتعل في ذهن المتلقي صراعا مزعوما بين ما هو أمازيغي وما هو عربي، لا لشيء إلا لبذر جراثيم الحقد والضغينة بين هذين المكونين التاريخيين والحضاريين، وتتغاضى عن أن الأمازيغية ما كانت نقيضا للعربية أو ندا لها، بقدر ما كانت تتضافر وإياها لنسج التاريخ المغربي الإسلامي، فالأمازيغية والعربية، على حد تعبير امحمد جسوس، "هما كالرجل اليمنى والرجل اليسرى بالنسبة لأي شخص عادي، إذا فقد أي واحدة منهما فلن تكون له القدرة على المشي بشكل عادي، وبالأحرى القدرة على السير بالسرعة والوتيرة التي تتطلبها تقلبات التاريخ المعاصر، لنقل – كما قال كانط في إطار آخر- إن المجتمع المغربي بدون نمو اللغة العربية أعور، وبدون نمو الثقافة واللغة الأمازيغية أعمى".(5)
هكذا نتخطى تلك المغالطة التي تنصب التضاد بين الأمازيغية والعربية، إلى ثبت أن العلاقة التاريخية والواقعية القائمة بين الأمازيغية والعربية هي علاقة تضافر وتعاون، فثمة نوع من التوازن العفوي داخل المنظومة الاجتماعية المغربية، حيث أن توظيف كل منهما لدى المواطن المغربي العادي رهين بمدى الحاجة الواقعية واليومية في التواصل، لذلك فالمطلوب من السلطة هو العمل على تلبية هذه الحاجة عن طريق تعليم سائر الشعب دون استثناء اللغة التي يحتاج إليها في التواصل، أما كلام بعض النخبة السياسية أو الثقافية، الذي يجلي نوعا من الصراع بين الثقافة العربية والأمازيغية داخل المغرب، فهو كلام يظل مأخوذا بالطوباوية، وحبيس رفوف المكتبات وأعمدة الجرائد الصفراء، لأنه في الغالب لا ينطلق إلا من منطلقات أيديولوجية متشنجة؛ حزبية أو رسمية أو غيرهما، لا تراعي إلا أنانيتها الفكرية التي تحجب حاجات وحقوق الإنسان المغربي العادي، الذي لا يدري شيئا من تلك الصراعات، من هذا المنطلق يمكن أن نستبدل معادلة التصارع اللغوي والثقافي المفتعل، بمعادلة التعايش اللغوي والثقافي المحتمل، كالذي يوجد عند الكثير من دول العالم.
وسوف يكون من ثمرات هذا التعايش الإيجابي، إقرار الحقوق اللغوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها لسائر مكونات المجتمع المغربي، فيصير، على سبيل النمذجة لا الحصر، تعلم اللغة الأمازيغية واجبا، كما أن تعلم العربية واجب، لكن لا ينبغي أن يكون تعلم أي لغة على حساب الأخرى، إن تعلم الأمازيغية يحمل بين طياته تشبثا بالهوية الأصلية، أما تعلم العربية، فهو شرف كبير لكل من لا ينطق بها أو ليست لغته الأصلية، لأنها لغة دينه، وهنا يكمن الشرف، فلماذا يتعلم اليهودي المغربي أو العربي، مثلا، العربية، ونحن نجد في تعلمها نوعا من التنازل عن حقوقنا؟ لذلك ينبغي أن نتعلم العربية، وفي الوقت نفسه أن نتشبث بمطلب تعلم الأمازيغية، وفي هذا إغناء لثقافتنا وهويتنا ومعرفتنا.
الهوامش:
لماذا الأمازيغية؟ منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي 1994، ص 29
2 دروس في اللسانيات العامة، د. سوسير، تر. صالح القرمادي، محمد الشاوني، محمد عجينة، الدار العربية للكتاب، ليبيا - تونس، ص292
3 الروم، آية 22
4 الأمازيغية... بين الحقيقة الثقافية والتناول المؤسساتي، حرش عبد الله، جريدة الاتحاد الاشتراكي، 16 يناير 1994
5 أطروحات بصدد الأمازيغية والمسألة الثقافية بالمغرب، محمد جسوس، آفاق، اتحاد كتاب المغرب، 1/1992 ص101
الامازيغ.. بين التعريب والفرانكفونية
الامازيغ.. بين التعريب والفرانكفونية
إبراهيم الحيدري
------------------------------------------------------------------------
منذ احداث تيزي وزو بالجزائر عام 1980 بدأت الحركة الامازيغية بالظهور على المسرح الثقافي، تلك الحركة التي مهدت الى عقد مؤتمر " ياكورن"، الذي حاول وضع ارضية مشتركة للثقافة " الامازيغية " واقامة سلسلة من المحاضرات في الجامعة الصيفية بمدينة اغادير بالمغرب حول خصوصيات الثقافة الامازيغية. وعلى اثر ذلك صدر " ميثاق" اعتبره البعض تحولا هاما في الحركة الامازيغية، وشجع على عقد مهرجان للاغنية الامازيغية في اغادير ومهرجان السينما الامازيغية في بريتانيا بفرنسا.
هذه النشاطات الثقافية كشفت عن محاولات تشكيل تيارات او جمعيات " تقف امام محاولات تذويب الثقافة والشخصية الامازيغية"، التي اعتبرها البعض رد فعل على ظاهرة التعريب الذي اخذت نتائجه تظهر بوضوح في جيل ما بعد الاستقلال، وبعد انتشار التعليم الالزامي والمدرسة الاساسية وسلطة الدولة المركزية في الجزائر.
والحال، ان تصاعد وتائر الحركة الامازيغية في السنوات الاخيرة يعود في كثير من عوامله الى سياسة فرنسا الاستعمارية في المغرب العربي لترسيخ وجودها وتحقيق اهدافها. فقد استخدمت فرنسا فريقا من الاساتذة والخبراء للقيام بدراسات انثروبولوجية لسكان هذه المنطقة وثقافاتهم للاستفادة منها في ادارة هذه المستعمرات والتحكم فيها وفرنستها، وحاولت جعل البربر ظهيرا لها، من خلال سياسة التفريق والتمييز بين سكان هذه المنطقة على اساس هويتين واحدة عربية واخرى بربرية. ولكن المقاومة الشاملة التي قام بها الجزائريون، عربا وبربر ضد الاستعمار الفرنسي افشل تلك المحاولات. كما ان التحولات البنيوية التي طالت دول المغرب العربي بعد الاستقلال، مهدت السبيل الى النضال ضد التهميش اللغوي والثقافي والمطالبة باصلاحات دستورية، كان من بينها مطالبة البربر بالاعتراف باللغة الامازيغية الى جانب اللغة العربية، التي هي اللغة الرسمية، في محاولة للتعريف بالثقافة الامازيغية.
ومثل اي خطاب ثقافي يلتبس المعرفي بالسياسي، والثقافي بالآيديولوجي، والذاتي بالموضوعي لينتج تشنجات بل وصراعات لابد لها من ان تظهر على السطح, ففي عام 1933 اصدرت عدة جمعيات امازيغية تدعو فيه لعقد مؤتمر عالمي من اهدافه وضع استراتيجية واضحة للدفاع عن حقوق الامازيغ وصيانتها من التشوهات التي تقوم بها الحكومات المختلفة. كما شارك ممثلون عن تلك الجمعيات في مؤتمر فينا لحقوق الانسان الذي عقد في حزيران عام 1933. كما نشرت جريدة الوطن الجزائرية رسالة من المشاركين في المؤتمر يدعون فيها الى تأسيس " المؤتمر العالمي الامازيغي"، الذي انعقد في نفس ذلك العام في لندن. وكان قرار الجمعية العامة للامم المتحدة الذي جعل عام 1933 عاما دوليا للشعوب " الاصلية" قد شجع على انعقاده.
وفي ايلول عام 1995 عقد المؤتمر العالمي الامازيغي" في جنوب فرنسا وحضره عدد كبير من الشخصيات البربرية البارزة التي مثلت اكثر من اربعين جمعية امازيغية من داخل دول المغرب العربي وخارجها. وقد اصدر المؤتمر ميثاقا حول الثقافة الامازيغية هدف الى مشاركة جميع البربر وبلورة مشروع شامل لبناء ثقافة وطنية وديمقراطية لاعادة الاعتبار للثقافة واللغة الامازيغية واحترام حقوق البربر المشروعة. وجاء في قرارات المؤتمر المصادقة على القانون الاساسي للمنظمة وجعل باريس مقرا لمكتبها الدولي. وكذلك تدويل القضية البربرية عن طريق المنظمات الدولية والدفاع عن الثقافة الامازيغية وتطورها وكسب التأيد لها بالوسائل المادية والمعنوية. وقد دفعت احداث الجزائر الدامية في التسعينيات من القرن الماضي الى نزوح عدد كبير من الكتاب والفنانين والصحافيين الجزائريين واللجوء الى فرنسا بحكم الروابط التاريخية والجغرافية بين البلدين، بعد ان تحولت الثقافة الى رهينة جدلية دامية احكمها العسكر من جهة، والاسلاميون المسلحون من جهة اخرى على البلاد، للانفراد بالسلطة من قبل البعض والاستيلاء عليها بالقوة من قبل البعض الاخر، مما دفع الى تعميق الهوة الثقافية وتصاعد نشاطات البربر للمطالبة بالاعتراف بالامازيغية الى جانب الللغة العربية.
وفي الوقت الذي دعى فيه البعض الى الغاء المدرسة الاساسية، التي هي الانجاز الرئيس والوحيد الذي تم بموجبه نشر اللغة العربية وتهيئة التلاميد للدراسة باللغة العربية بدل الفرنسية في المدارس والجامعات الجزائرية، كان سعيد سعدي، زعيم حزب التجمع من اجل الثقافة والديمقراطية "، قد طالب في نيسان عام 1995، اعتبار الامازيغية " لغة رسمية" للشعب الجزائري والاعتراف بها نصا في الدستور، في حين صرح عثمان سعدي في اغسطس 1998 بان ما يدور في شمال افريقيا انما هو صراع بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية، وليس بين العربية والامازيغية. كما دعى الرئيس الجزائري السابق امين زروال الى ترجمة ما التزم به امام القبائل في اطار تحقيق الهوية الوطنية المكونة من الاسلام والعربية والامازيغية". وقد اصدرت الحكومة الجزائرية مرسوما انهى جزئيا قضية الامازيغية بعد ان دخلت اللغة الامازيغية في التعليم والتلفزيون.
واذا عدنا الى جذور الصراع بين التعريب والفرانكفونية في الجزائر نجده يعود الى مرحلة ما بعد الاستقلال حيث قدمت مجموعة من نواب المجلس التأسيسي بيانا طالبوا فيه الحكومة الاولى برآسة احمد بن بله بتعريب مناهج التعليم والادارة استكمالا للاستقلال السياسي، كما جرت في عهد الرئيس هواري بو مدين اولى المحاولات لتعريب بعض المناهج التربوية. وقد عربت فعلا اقسام الحقوق والتاريخ والاداب وبقيت الاقسام العلمية والفنية باللغة الفرنسية، مما ولد صراعا جديدا بين من يحمل الثقافة العربية وبين من يحمل الثقافة الفرنسية.
وبحكم الارث الفرانكفوني الطويل في الجزائر فقد استطاع حامل الشهادة الفرنسية انذاك الحصول على وظائف اعلى في الدوائر الحكومية والجامعات، ولذلك اتخذت " الفرانكفونية" مواقعها في الدوائر العليا والجامعات وترسخت في المجتمع الجزائري.
ومع اشتداد حركة الاسلاميين شهدت الجزائر غليان بربري تبعته موجات من التظاهرات التي طالبت بالاعتراف باللغة الامازيغية. وفي 13 كانون الثاني عام 1996 احتفل البربر برأس السنة الامازيغية التي تصادف انتصار القائد البربري امقران على جيوش مصر الفرعونية وتأسيس الاسرة الثانية والعشرين وذلك بحدود منتصف القرن التاسع قبل الميلاد. وفي 18/ 5 / 2005 وافقت الحكومة الجزائرية على المطالب التي رفعتها حركة العروش الممثلة لمنظمة القبائل البربرية، بما في ذلك اعتماد الامازيغية كلغة وطنية، وهو ما يعد انتصارا للرئيس بوتفليقة الذي نحج في كبح جماح الحركة الراديكالية في البلاد على نحو يجعله يمضي في تفكيك المعضلة الجزائرية المزمنة. وفي اطار تفعيل آليات تطور اللغة الامازيغية تم تأسيس تلفزيون بالامازيغية يستطيع من خلاله فتح قنوات للتعبير عن الثقافات الفرعية بحرية.
اما في المغرب فقد بدأ الاهتمام بموضوع البربر والتركيز عليه ودعمه من قبل فرنسا منذ عام 1913، حيث تم تأسيس اول مقعد للغة البربرية " بمدرسة اللغة العربية واللهجات البربرية " بالرباط. ثم اخذ الفرنسيون بوضع خريطة لغوية بالمغرب، تلاها تأسيس "معهد الدراسات البربرية" واصدار مجلة دورية متخصصة بالدراسات البربرية عام 1915. كما تم عام 1929 تأسيس معهد الدراسات العليا بالرباط لنفس الغرض.
غير ان الاكثر خطورة هو اصدار قانون يميز من النواحي القانونية بين العرب والبربر عرف بـ " الظهير البربري" في 16 ايار 1930. كما ان البربر في المغرب اندمجوا اكثر من غيرهم في الدولة فدخلوا الجيش والوظائف والخدمات واصبح لرؤساءهم نفوذ كبير واخذوا يحتلون مواقع سياسية هامة في هرم السلطة ولعبوا دورا بارزا في تقاليد العرش الملكي. ولكن الحالة اخذت تتغير خلال السنوات الاخيرة حيث اخذت الجمعيات الامازيغية تقوم بنشاطات تقلق السلطات الحكومية مما دفع الحكومة الى استخدام اسلوب المنع المباشر مرة وغير المباشر مرات اخرى.
كما قامت الحكومة المغربية بسياسة جهوية مكنت الامازيغية من دخول التلفزيون عبر نشرة اللهجات اليومية منذ منتصف عام 1994 ومحاولة تدريسها في المدارس باعتبارها مكون من مكونات الهوية الوطنية.
ومن أهم المتغيرات التي حدثت في المغرب قيام محمد الخامس عام 2000 بالاعتراف الكامل بالثقافة الامازيغية كعنصر جوهري للهوية القومية واستخدم لأول مرة في احدى خطبه كلمة "امازيغ".
كما قامت الحكومة المغربية بخطوات اخرى للاعتراف بالهوية الامازيغية كان اخرها اطلاق "القناة الامازيغية" بالرباط في 6/ 1/2010.
واذا كان هناك اختلاف في الهوية ووجهات النظر السياسية والمواقف بين الحكومات والاحزاب والافراد، في اطار تعاملهم مع العربية والامازيغية وبخاصة من قبل الاتجاهات القومية والاسلامية، فهي في ذات الوقت، رد فعل على سياسات الحكومات ومواقفها السلبية من جهة، والتشكيك في روح المواطنة عند البربر من جهة ثانية، وموقف البربر من التعريب والحركة الاسلامية من جهة ثالثة.
ان وضع حد للصراع السياسي والثقافي في المغرب العربي، الذي يهدد الوحدة الوطنية، لا بد وان يقوم على احترام حقوق الانسان والهويات الفرعية للعرب والبربروغيرهم ويراعي الخصوصيات الاجتماعية والثقافية وكذلك احترام مكونات الشخصية والتراث الحضاري وتفادي إذابة أية شخصية في شخصية الاخرين، وكذلك تسهيل عمليات التعايش والتفاعل الاجتماعي، في منطقة تتنوع وتمتزج شعوبها وثقافاتها وتراثها الشعبي، فمن الممكن ان يكون هذا التنوع والتعدد والاختلاف مصدرا للتواصل والتفاهم والحوار وعاملا هاما من عوامل الاستقرار والامن والتقدم الاجتماعي.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
----------------------------------
المصدر :
http://www.elaph.com/Web/opinion/2011/6/662133.html
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)