الخميس، 21 أبريل 2011

قرار تعميم اللغة العربية واستعمالها (رأي في التجربة الجزائرية)

قرار تعميم اللغة العربية واستعمالها
(رأي في التجربة الجزائرية)


د. صالح بلعيد(*)
(*) معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة تيزي وزو - الجزائر

الواقع اللغوي في الجزائر
إنّ الوضع اللغوي في الجزائر يتّسم بالتعدّد اللغوي ممّا خلق وجود لغات كثيرة، وهي:
1 - لغة المنشأ (عربية دارجة أو أمازيغية) وفي الدارجة والأمازيغية تأديات مختلفة وكثيرة، تختلف من منطقة لأخرى.
2 - العربية الفصيحة (لغة المدرسة).
3 - الفرنسية (لغة المدرسة).
4 - الهجين اللغوي الذي يسمع في التجمّعات السكانية.
وهكذا نجد أنفسنا أمام لغات أربع، ولكل منها نصيبه في المجتمع من الاستعمال. وإنّ لغة المنشأ (الأم) عادة لغة شفاهية، وهي المتمكّنة أكثر في المجتمع، واللغتان (العربية الفصيحة والفرنسية) مكتوبتان، وليس لهما نصيب معتبر في الاستعمال. ومن هنا نجد الفرد الجزائري، المتعلم وغير المتعلم في الغالب، ذا لسان مزدوج، بسبب الاستعمال الدائم للغة على حساب لغة أخرى، وربما لعامل توفّر لغة ما على أدوات تعبيرية دقيقة، أو على مصطلحات دقيقة تساعد الفرد في تخصصه. وهذا ما خلق ما يسمى بالازدواجية اللغوية Bilinguisme، ويمكن أن نطلق عليه ما يسمى بـ Diglossie لعامل الاحتكاك اللغوي بين لغتين أو أكثر؛ وذلك عندما يوظف فرد ما أو جماعة معينّة لسانين مختلفين في آن واحد؛ حيث يمزج بينهما بفعل الاقتراض والتحوّل اللذين يستغلهما في قالب لغة من لغة ما دون شعور منه، بل إنّ تأثير لسان لغة ما يظهر جلياً، وعلى حساب لغة أخرى. ويسمي البعض هذه الظاهرة بالثنائية اللغوية: وهو استعمال الفرد أو الجماعة للغتين بأية درجة من درجات الإتقان، ولأية مهارة من مهارات اللغة ولأي هدف من الأهداف.
تعميم استعمال اللغة العربية

يعني إعطاء العربية منزلتها وتعميمها كلغة وطنية وقومية تضطلع بمهمة التعبير عن كل المضامين المتداولة في المجتمع، واسترجاع الشخصية الوطنية التي تقوم على اللغة الوطنية، باستئصال رواسب الاستعمار الثقافي وهذا هو الشعار الذي رفع منذ السبعينات، مع أنّ اللغة الوطنية في الجزائر هي اللغة العربية، التي رسّختها الدساتير منذ الثورة التحريرية. واللغة العربية كما نعرف لغة أكبر حضارة ساعدت على تطوّر ملكات الإنسان الجزائري، بأن أخرجته من قهر الرومان والبيزنطيين، ولغة الدين الإسلامي الذي يدين به المجتمع الجزائري. والجزائر تنتمي إلى الأمة العربية التي تمتدّ من المحيط إلى الخليج، وهذا الانتماء كان بالفعل التاريخي الذي يعود إلى دخول الإسلام أقطار المغرب العربي في عهد أجدادنا الأمازيغ الذين قبلوا الدين ولغة الدين، على الرغم من التحرشات التي حدثت في بداية دخول العرب هذه الأقطار.
ونعرف أنّ العربية في أعلى مستوى بما تملكه من استراتيجية عالمية بين اللغات؛ حيث إنّها شرّفت العصر الأموي والعباسي بما قدّمته للحضارة في شتّى الفنون، كما أنّها لغة راقية تستند إلى حضارة عريقة كالفارسية والتركية، واستطاعت أن تدفن كثيراً من اللغات القديمة التي طال بها الزمن، وهذا كله نظراً للخصوصيات اللغوية التي هيأتها وتُهيّئها لتكون لها مكانة هامة. وفي العصر الحاضر لها مكانتها عالمياً كلغة من اللغات العالمية، ولها الريادة في المعسكر الإسلامي والذي يستعمل كثير من ناطقيه العربية، كما أنّ لها علاقات متينة مع الثقافة الإسبانية التي تشكل رقعة كبيرة في عدد الناطقين بها؛ وهذه الثقافة لها روابط تأثر بالثقافة العربية. ومع كل هذا، فقد قصر مجالها في ميدان العلوم الإنسانية في العصر الحاضر، ومن ذلك نجد أبناءها يعيشون انهزاماً نفسياً أمام الزحف اللغوي الداهم؛ فتراهم يستسلمون للغات الأجنبية، فتكونت لذلك جبهة تنادي بإبقاء العربية لغة دين، لتبقى بعيدة عن العلم. كما نشأ تيار يعاديها وينادي بإبقاء اللغة الفرنسية على أساس أنّها المكسب الذي لا يُتسامح فيه. وهكذا منحوا الازدهار للفرنسية بتجميد العربية، عكس ما يحدث في جميع الأمم حيث اللغة الوطنية هي كل شيء، وهي اللغة المقدسة من قبل الجميع، وهذا كله بسبب العجز والتقصير في تنمية اللغة العربية.
ومع هذا فنحن لا نبكي الحاضر، ولا نمجد الماضي، ولكنّه ليس في وسع أمة أن تعيش عيشة محترمة وتصون كرامتها ما لم تضطلع بالعلم، اعتماداً على لغتها في المقام الأول. ومن هنا تسعى كل الأمم إلى استعمال لغاتها القومية من أجل التواصل الحقيقي بين المعلِّم والمتعلم؛ حيث دلّت الدراسات التربوية على أنّ أصلح لغة للتعليم هي اللغة التي يفكر بها الطالب كلما كان ذلك ممكناً، كي لا يفكر بلغة ويعبر بلغة أخرى، وتكمن الضرورة كذلك في سهولة الاتّصال بين المعلم وطلابه، وتوفير جوّ النقاش العلمي الخالي من الحرج والتكلّف الذي تسببه الترجمة أحياناً.
ومهما قلت في هذه النقطة، فإنّ نقصاً فظيعاً يشين موضوعي، لكني رغبت في أن أطرق موضوع التعريب، بعد رفع التجميد عن قانون تعميم استعمال اللغة الوطنية، ذلك التجميد الذي وافق عليه المجلس الاستشاري ذات يوم. ومن هنا سوف أستغلّ الظرف الذي يجب أن ننتقل فيه من القول إلى الفعل في هذه المسألة، في الوقت الذي نسعى إلى وضع سياسة وطنية للغة العربية تأخذ بموجبها دورها الطبيعي في التعبير عن مختلف وجوه النشاط والحياة وفي خدمة التنمية الوطنية، خاصة أنّ ملف السياسة التربوية مطروح للنقاش، وأنّ سياسة اللغات قد حددها المجلس الأعلى للتربية "أنّها اللغات التي تستفيد منها العربية والتي تقدم لنا الحلول العاجلة في ميدان التكنولوجيا والمصطلح، وهي التي تعملنا ولا نعملها". ومن هنا أطرح وجهة رأيي هذه من باب الغيرة على هذه اللغة؛ غيرة علمية وموضوعية، يكون فيها للحجّة المقام الأول، كما أستهدف بهذا العمل إيجاد آليات التعريب والتحكّم فيه عبر المراحل كي لا يكون التعريب شكلياً أو شعاراً أو على مستوى الحالة المدنية وعمل المحاكم.
وقبل معالجة الداء كان عليّ تشخيصه، وتقديم العناصر اللازمة لإمكانات المخرج وهي نصف الحلّ لا الحلّ كله، وهناك متعلقات (مشتقات) بالتعريب لا يمكن البث فيها حالياً، بل تتطلبّ دراسات جدّ صارمة من قبل المختصين، وأنّى لي أن أفتي فيها، بل أعتبرها من المحظورات في الظرف الراهن أمام النقص الكبير الذي تشهده اللغة العربية في بعض المجالات العلمية، ومن هنا أرى ضرورة التعرّض لبعض معوقات التعريب، وما هي الحلول الممكن تقديمها.
اللغة عامة هي أضخم عملية حضارية، تصلح للتواصل والوجود، والحضارة، في جزء من تعريفها، هي اللغة، واللغة مهما كانت تحتاج دائماً إلى تطوير وتجديد المعارف وملاحقة العصر، وعظمة الدولة في قوة لغتها، ومن هنا فإن في هذه اللغة التي هي قدرنا والتي تحمل كياننا وتجارب أهلنا وحكمتهم وبصيرتهم وفلسفتهم، وتوجد في وضع أمني غير سليم لا يساعدها على التطوّر لملاحقة الحضارة واحتوائها، فهي في حالة حرب نتيجة الحملة التيئيسية لتثبيط الهمم وإقناعها بعدم إمكانية تقدم شعوبها، والاستخفاف بالتعريب واعتباره خطوات إلى الوراء، نتيجة التقاعس في عدم العمل على تطوير اللغة العربية. قد يكون هذا فيه نوع من الصواب إذا أدركنا أنّ العربية تعاني مجموعة من العوائق، والتي أجملها الأستاذ شكري فيصل(1) فيما يلي:
1. "معرفة اللغة العربية عن طريق تجديد البحث اللغوي، وإتاحة الفرصة لمخالطة الدراسات اللغوية الحديثة والإفادة من معطياتها ووسائلها العملية.
2. حماية العربية: الصراع الداخلي بين العاميات والفصحى (ظاهرة التفتت اللغوي).
3. نشر العربية: ويحصرها في:
 تعليم العرب للعرب
 تعليم العربية لغير العرب من الشعوب الإسلامية التي تستخدم الحرف العربي، والتي لا تستخدمه والشعوب الأجنبية.
 التعليم الجامعي واللغة العربية (المصطلح العلمي).
4. بعض الوسائل: ويركز على:
 الطباعة العربية.
 المعجم العربي.
 وسائل الإعلام واللغة العربية".
وأرى أن الأستاذ شكري فيصل لم يهوّل من الأمر، فأين تكمن هذه النقائص في اللغة العربية التي تحمل الخصائص اللغوية مثلها مثل اللغات الأخرى؟ ألا تتمتع ببنيات لسانية وقابلية كبيرة للتعبير عن المعارف والفنون واللغة وسيلة تعبير فقط، والذي يتكلّم لغة فهو في واقع الأمر يفكر بها، ولا ندري هل يكون التفكير بالعربية قاصراً عن التفكير بلغة ثانية؟ ومع كل هذا فإنّ العربية عندنا تعاني مجموعة من النقائص، وسميتها المعوقات، وتتمثل عندي في الآتي:
معوقات تعميم استعمال اللغة العربية في الجزائر:
1. المنظور الرسمي إلى مسألة التعريب: إذا كانت السياسة التربوية في الجزائر تخطط لإنهاء الفرنسية، فإن التعريب يأخذ أشكالاً تختلف باختلاف السياقات الوطنية، ويتنوّع فحواه تبعاً لعلاقة كل حكومة بمدى مشروعية حكمها، فكل حكومة تنظر إليه على أنّه التجذّر الثقافي الذي يجب أن لا يعلو عليه أحد. لكن بعض المواقف تبرهن على وجود حذر كبير تجاه المسألة، ومن هنا يطرح التعريب بصيغ ملتوية، فهو حقل الصراع المغلق، فنجد البورجوازية التقنوقراطية لا تهتم به، بل تعاديه، وتنظر إليه على أنّه تهديد بانتزاع وظائفها وتسليمها للمعربين، مع أنّهم يقرون في قرارة أنفسهم بأنّه الوجه المكمل للاستقلال السياسي والاقتصادي. وفي ذات الوقت نجد المسؤولين السياسيين المعربين يطرحونه من زوايا استعادة الوجه الحقيقي للوطنية، فيطرحونه بصيغ تحمل معاداة الطرف الثاني. ومن هنا حدث عندنا في الجزائر هذا الشرخ الكبير بين المثقفين، فئة تنعت نفسها بالوطنية؛ وهي هذه الفئة التي تسعى إلى التعريب وتنادي به (المعربون)، وفئة تتماطل فيه، وهي الفئة غير المعربة (المفرنسون). وتعيش الفئتان في عزلة عن بعضهما، بل وصل الصدام أحياناً إلى العنف كما حدث في بعض الجامعات في أواخر السبعينيات، ومن هنا حدث التذبذب في هذه المسألة بدءاً من الثمانينيات.
2. التعريب بين القبول الإيديولوجي والرفض الموضوعي: تبنت السلطة منذ الاستقلال خطابين مختلفين، تجاه هذه المسألة، خطابا رسميا دستوريا يقرّ بترسيم وتعميم اللغة العربية، وخطابا فعليا يهمش هذه اللغة ويجعل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية بلا ترسيم. وأمام تذبذب الخطاب الرسمي نشأ الخطاب الإيديولوجي المعارض للغة العربية، بل رفض كل ما هو عربي، ورفض الإسلام والبحث في الأصول الأولى للهويّة. وهذا ما فتح المجال لبقاء الفرنسية، كما سمح للهجات بأن تنال بعضاً من الاهتمام. وينادي هذا التيّار المتمكن في الإعلام والإدارة بالتعدّد اللغوي الرسمي، كما يعمل به في بعض البلاد العربية وغير العربية، أو العودة إلى الأصالة اللغوية؛ وهي إحياء اللغة الأمازيغية وتعميمها. ويتخذ ذلك ذريعة؛ فيرى أنّ المشكلة اللغوية تكمن في العائق اللغوي؛ حيث إنّه يجب الفصل في هذا الأمر، بل نسمع من يقول: لو أنّ المدرسة الأساسية كانت بغير اللسان العربي لما نزل مستواها إلى هذا الدرك!.
إنّ هذا العائق هو الأساس في المسألة اللغوية، وبرفع اللبس عنه يمكن أن نتحكم في المعوقات الآنية؛ حيث إنّ الإيمان بلغة ما، هو بداية العمل من أجل رقيها، وعدمه يعني العمل على الجمود واللاحركة. ومن هنا فإنّ مسألة اللغة الفرنسية مبثوث فيها حيث إنّها لغة دخيلة على المجتمع الجزائري، بل لغة العدو بالأمس. كان علينا أن نستردّ الهويّة الوطنية باستعمال اللغة العربية التي حُسم في شأنها منذ الثورة التحريرية. ولكن الفرنسية لغة المكسب، ولها رصيد بشري في مجتمعنا، ولغة علمية عالمية لها من الرصيد العلمي ما يضاهي اللغات الراقية، أضف إلى هذا أنّها اللغة التي تتقنها الأطر الجزائرية والتي تسعى بكل الوسائل لبقائها. ومع كل هذا: هل يمكن أن تكون اللغة الفرنسية بديلاً عن اللغة العربية؟.
يجب أن نقرّ أنّ اللغة الفرنسية هي لغة متمكنة في الجزائريين منذ السبعينيات أكثر مما كانت عليه الأحوال بعد الاستقلال؛ حيث تشهد انتشاراً واسعاً كل يوم؛ انتشاراً شفهياً بالخصوص حتى بين من لا يعرف القراءة والكتابة، كما يجب أن نضع في الاعتبار أنّ الفرنسية في بلادنا لها نصيب معتبر عند الخاصة، بلهَ العامة التي ترى فيها لغة العلم والتقدم.
ومع كل ما قلناه، فإنّه لا يمكن أن تكون الفرنسية في الجزائر بديلاً عن العربية، لعامل واحد يدركه الخبراء وهو أنّ اللغة، بالإضافة إلى أنّها أداة للتواصل، فهي حقل للتعبير عن الهويّة، بل هي الأم التي تنقل الخصائص الأساسية للمجتمع. ويدرك الجزائريون المثقفون بالفرنسية أنّ الفرنسية لا يمكن أن تنال حظاً في المجتمع الذي هو معرّب منذ أمد، كما يدركون أن أمر انتشار العربية أمر محتوم، ولكنّهم يحتجون بعدم علمية هذه اللغة. وهذه نقطة هامة تطرح في كل المحافل العلمية بل وتطرح بجرأة وتحمل معها الدعوة إلى الاندماج في الثقافة الغربية لأنّها ثقافة أعلى. ويحتج المعربون أنّ العربية لغة متخلفة علمياً عن الفرنسية لكنّ هذه الأخيرة ليست لغة علمية راقية مثل اللغات الراقية، وليس لها علم نيّر كما هو الحال في الإنجليزية أو الألمانية أو اليابانية أو الروسية، أضف إلى هذا أنّ استيراد النموذج الفرنسي، منذ الاستقلال إلى الآن، لم يخرجنا من التخلف، ولم نشاهد الدول التي عملت بغير لغاتها أنّها خرجت من التخلف بتاتاً، كما أنّ حصر النموذج الغربي في الفرنسية نظرة ضيّقة، ينادي بها الفرانكفونيون وبعض الذين تابعوا دراساتهم في فرنسا بعد الاستقلال، وتجد منهم من ينادي بالفئوية والتمايز، ومنهم اليائسون من عدم إمكانية تقدّم شعوبهم ونهضتها، الذين يتبرأون أحياناً من الانتماء إلى ذويهم، بل إنّ معاداة العربية نجدها عندهم فقط، ولا نسمعها عند الناطقين بالإنجليزية أو متعلميها من الجزائريين، مع أنّ الإنجليزية أقوى منها علماً وتوسعاً، ولا نسمعها عند الذين درسوا في كندا فالقضية تكمن إذن في:
(أ) عدم تخالي الأطر المفرنسة عن هذه اللغة، وخاصة الأطر الفرانكفونية: وفي هذه النقطة كان يجب أن يعرف كل جزائري أنّ اللغة ليست ظاهرة محايدة، ولن يمتلك الشعب لغة متطوّرة تتفاعل بحيوية إلا في إطار سياسي يكون الانحياز للشعب خصيصة لازمة، أي أنّ اللغة الوطنية ضرورة مهما كان موقع لغة المكسب، وخاصة عندما تكون اللغة الأجنبية لغة الأطر فقط، فنجد الحاجز اللغوي بين الشعب ومسؤوليه، فلا يحصل التناغم اللغوي بين الحاكم والمحكوم، كما نجد النـزاعات النخبوية أو السلطوية. وهنا علينا فقط أن نفرق بين تعريب السياسة وتسييس التعريب، فإذا حصل أن وقع التعريب سياسياً فذلك هو الفشل المسبق. نعم أن يحصل ارتباط التعريب بالسياسة فهذا شيء طبيعي، ولكن الأمر يتّصل بعلاقة جدلية دينامية تكون بموجبها للأحداث السياسية أبعاد لسانية تتّصل بالتعريب اللساني أو الثقافي ويكون للتعريب من حيث هو مشروع تخالطه أبعاد سياسية كالامتدادات الأيديولوجية المعارضة أو التي لا تعترف إلا برأيها، فهذا هو العودة إلى الوراء.
ففي البداية لا بدّ من عدم تسييس العربية وتعميمها تعميماً علمياً يحمل الإقناع الذي يجعل كل الناس يعملون في اتجاه التعميم، إذن لا بدّ من الاقتناع الإجماعي من قبل الأطر والفئات المتعلمة بالفرنسية، وأن يسمو بالابتعاد عن الانفعالات الشخصية ومؤثرات الانفعال لتبقى القضية وموضوعها في حيز الموضوعية العلمية. أضف إلى هذا تحريك تلك القناعة عند البعض الذي يرى أنّ الحياة الأوربية الفرنسية كفيلة بالرقي في سلم التمدّن، وأنّ النهج على منوالها هو الذي يسمو بالإنسان إلى مقام الحضارة. ومن هنا نسعى إلى أن يكون التعريب خارج الشعارات، ويطرح في إطار التحديث والإبداع، ويكون سلوكاً يومياً وإبداعياً حضارياً، عكس ما نراه اليوم، حيث لا يظهر إلا في افتتاح الجلسات والبسملة. كما نسعى إلى أن نكون خارج: ( فكرة المغلوب مولع بلغة الغالب) فقضية الإيمان بهذه اللغة هي الأساس، بل هي بداية العمل من أجل تطويرها.
(ب) - الأطر المعربة: التعريب عند الكثير منهم متجذر في أعماقهم، لدرجة أنّه يشكل حقل الصراعات الطبقية والتوترات الإيديولوجية مع غير المعربين في الوقت الذي يمثل عند البعض رهاناً للوصول إلى السلطة، وتعد سياسة التعريب عموماً بمثابة إجراء للانتقاء الاجتماعي من شأنه أن يلعب ضد الفئات المحرومة(2). ومن هنا نجد البعض منهم يستخدم القوة التقليدية للغة العربية في علاقتها بالإسلام، ويحاول خلق رموز للوحدة الوطنية بتوظيف العربية، وبعضهم يوظف الحديث النبوي الشريف (ليست العروبة من النسب، بل من اللسان) كما يريدون.
باختصار فإنّ المعربين منذ الاستقلال لا حول لهم ولا قوة، أغلب تكوينهم أدبي لا يسمح لهم باعتلاء المراكز التقنية العالية التي تقع في المجال الفرانكفوني.
ومهما يكن، فإنّ نصف الحلّ يكمن في نظري في معرفة معنى التعريب الذي كان يجب أن يحصل، وهو: أن يتم تلقين ونقل العلوم للمتلقي بلغة عربية سليمة؛ هذه اللغة تراعي التطوّر العلمي والتقني والاجتماعي والاقتصادي، في نفس الوقت يجب تهذيب خطاب التعريب؛ حيث إنّ التعريب لا يعني الإقصاء، ولا يعني إخراج الإطار غير المعرب إلى التقاعد وإلى التهميش، وكذلك لا يعني إلغاء اللغات الأجنبية؛ هذه اللغات التي يجب أن يهتمّ بها أكثر من السابق، فهي ضرورة عصرية، شرط ألا تكون في وضعية مزاحمة للغة الوطنية، ولا تنقل المتلقي خارج محيطه اللغوي، أو تدفعه إلى الاغتراب عن هويته. وخطتنا تكون بالتجديد الفعلي في اللغة الفرنسية لنظل على اتّصال بالإنتاج العالمي، وإجبار المعرب على إتقان لغة أجنبية واحدة ضرورة لازمة. وهذا كله ضمن استراتيجية عملية وعلمية تنقل اللغة العربية من وظيفتها الاجتماعية إلى وظيفتها العلمية. إذن من اللازم أن يدرك الأطر أنّ العربية أمر لا بدّ منه عليهم أن يؤمنوا به قولاً وعملاً، ويستعدوا للمساهمة في عملية التعريب؛ حيث يتمّ تعريبهم تدريجياً (مرحلياً) والاستفادة من خبراتهم ولغتهم في هذا الميدان، بل ترقيتهم حسب درجة توظيفهم للغة العربية، وتحديد مهلة زمنية يتمّ فيها انتقالهم من العمل بالفرنسية إلى العربية وتحميلهم المهام المنوطة بهم كاملة. وأدرك مسبقاً أن كثيراً من أطرنا لا يحملون العداوة للغة العربية، ولا يزورّون عنها، وعذرهم أنّهم لا يدركون الحجم العلمي الذي تملكه اللغة العربية والزاد الوفير الذي تتوفر عليه، وهذا كله بسبب عدم الاطلاع على المستجدات التي تمسّ هذه اللغة، بل إنّ وسائل الإعلام الغربية زادت من استفحال هذه الظاهرة، حتى أصبحنا لا نرى إلا نقصاً فيها، أضف إلى هذا أنّ الاطلاع على ما تدره لغة واحدة هو النقص بعينه؛ فبعض اللغات تهتم بالجهة التي تناسبها فقط حيث تنظر بعين واحدة.
وفي هذه النقطة، لا مانع من الاطلاع على تجارب الدول العربية التي سبقتنا، ولا يعني ذلك أن نأخذها نموذجاً فهذا ما لا أرضاه، بل أن نستأنس بما قدمته، وبالخطوات التي قطعتها، وبالخطة التي اعتمدتها(3). ولدينا نماذج كثيرة، فمنها الناجحة وهي التي نستأنس بها في مقبل أعمالنا، شرط أن يكون التعريب عندنا هو استثمار لاشعار ويؤدي إلى اختصار مسافات الزمن الحضاري، بالتركيز على آخر ما توصل إليه العلم والحصول على أدوات العلم الحديثة.
(جـ) طرح بديل اللغة الأمازيغية: الأمازيغية، في بعض المناطق الجزائرية، هي اللغة الأم، والعربية هي اللغة الثانية (لغة المدرسة فقط). كلنا يعرف أنّ في الجزائر هويّات متعددة متعايشة، وكل هويّة تقوم على لغة، أو نمط لغوي، لكنّها لا تتوفر على الأعراق اللغوية الآتية من الفوارق العرقية، وقد حصل التعريب العرقي منذ القديم، وما يطرح في الوقت الراهن من مسألة الأمازيغية، هو طرح المقصود منه ليس العرق اللغوي وإنمّا الاعتراف بهذه اللغة على أنّها تشكل جماعات لسانية في مختلف مناطق الوطن وتريد أن يكون لها وجود فكري بوساطة هذه اللغة التي تخضع لهيمنة اللغة العربية. ومهما يكن، فإنّ الذي نسعى إلى إبرازه من خلال هذا الفصل هو: هل يمكن أن تكون الأمازيغية، بمختلف لهجاتها، بديلاً عن اللغة العربية في الجزائر، أو تكون بديلاً عن اللغة العربية والفرنسية معاً، وتحتل ما كانت تحتله اللغتان في كل المجالات؟.
كلنا يعرف أنّ الأمازيغية لغة تطرح بشكل جدي على أن تكون الندّ للغة العربية، بل تطرح عند البعض لتكون بديلا للغة العربية، أو هي اللغة القومية، في الوقت الذي نعرف فيه أن مسألة اللغة القومية تحددها المجموعة المتساكنة في الدولة من بعض اللغات القومية. وفي الجزائر لا توجد بشكل رسمي لغات قومية، بل لهجات عربية ولغات (لهجات) أمازيغية. ونعرف أنّ القضية تحمل أبعاد الهويّة الاجتماعية التي فُصل فيها منذ دخول الإسلام هذا الوطن، بل إنّ القضية في بعض أبعادها تحمل التوجّه نحو الإقليمية الضيقة؛ لأنّها تُطرح في بعض المناطق التي تشكل أطلساً لغويا معيناً. ومهما يكن من أمر، فهل يمكن أن تكون الأمازيغية البديل للغة العربية؟. نعرف مسبقاً أنّه يستحيل أن تكون كذلك، ولا ترقى إلى مقام العربية، ولا يمكن أن ترقى أية لهجة أخرى من اللهجات إلى مقام اللغة العربية الأدبي؛ لأنّ قضية اللهجات تطرح ملازمة للأمازيغية والذين يطرحون القضية يعودون بنا إلى موضة الأربعينيات فكأنّنا نعيش زمناً ولّى، وليتهم يدركون أنّ الوقت تغيّر، وأنّ المعطيات جديدة. ومن هنا لا يمكننا طرح البديل في الأمر، لأنّنا نعرف أنّ اتّخاذ الأمازيغية لغة بديلا للعربية أو لهجة من لهجاتها هي العودة إلى الوراء عدة أجيال بل يمكن أن تخدم العربية الفصحى اللهجات والأمازيغية، إلا أنّ المقام يسمح لنا بأن يكون هناك تسامح لغوي من قبل اللغة المهيمنة تجاه اللهجات واللغات الإقليمية والتي هي شق من العربية بل تعتبر من الروافد لها. ومسألة القمع اللغوي توجد في كل البلدان، بل من سنن تعايش اللغات في كل بقاع العالم، كما أنّ اللهجات لا تحُول دون استخدام الفصحى، وهذا ليس من الركائز الأساسية العاملة على فعالية المنظومة التربوية، إلا أنّه يساعد على ضعف الاهتمام باللغة الوطنية ويخلق نوعاً من الاحتكاك اللغوي الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى عدم التفريق بين النظام اللغوي الفصيح والدارج. ونعرف مسبقاً أنّ العالم العربي يعاني من مشكلة اللغة الدارجة المستفحلة ولكنها تعتبر أحد مستويات اللغة الفصحى، وقد وجدت هذه اللهجات حتى في عصر الذين وضعوا قواعد هذه اللغة، ولم يشتكوا منها، لأنها تصلح لبعض المقامات، كمقام الأنس، والفصيحة تصلح لمقام الأدب … فاللغة العربية بما تملكه من تلوّن وسِعة أوسع من أن تحدّ.
أمام هذا البيدق الذي يقدم أو يؤخر حسب الأحوال، وضمن استراتيجية متغيرة تجاه الأمازيغية، نجد أنّ أفراداً من هذه الفئة ليسوا متحمسين للعربية، بل يرفضون كل تعريب يعم سائر المرافق العمومية لأنّهم يستشعرون ما يمكن أن يجرّه من آثار سلبية على اللغة الأمازيغية، وخاصة إذا كان سيؤدي إلى المساس بقيمها العصرية والحداثية ولذلك يميلون إلى تشجيع البحث في الأمازيغية، ثمّ يميلون إلى اللغة الفرنسية لأنّها السمة الحضارية في العالم، ولذا فالأولى أن نلحق العالم ولا نتأخر.
د) - طرح بديل اللغة الإنجليزية على أساس أنّ الفرنسية كانت، في المنظومة التربوية، اللغة الأجنبية الأولى إلى غاية الثمانينيات، وبعد تعميم المدرسة الأساسية أصبحت اللغة الثانية بعد الإنجليزية. الواقع يقول إنّ التمدرس أثبت انحسار الفرنسية عندنا، وخاصة مع المدرسة الأساسية، فأصبحت اللغة الأجنبية الثانية بعد الإنجليزية، ولكنّ الفرنسية لغة الإدارة والاقتصاد والمعاملات، ولغة الاتصال اليومية حتى بين بعض المعربين. وهنا يكمن الخلل حيث إنّ الفرنسية تحارب عن طريق لغة علمية أرقى منها، وهذا يعني في المنظور العام إقصاء متعلم الفرنسية. وهل يمكن أن تكون الإنجليزية في الجزائر بديلا عن الفرنسية؟ وهل نملك الرصيد المعرفي والإداري في الإنجليزية مثلما نملكه في الفرنسية؟. يتبادر إلى الأذهان أنّ هذا الفعل يقصد منه تهميش الفرنسية، دون البديل في اللغة الأجنبية التي نسعى إلى أن تكون الأولى. صحيح أنّ اللغة الإنجليزية لغة علمية عالمية أولى بل هي أرقى اللغات، لكن نتساءل ما خظّها في الجزائر؟ هل أجريت دراسات حول عدد المدرسين الذين يملكون الزاد العلمي فيها؟. يبدو لي أنّ اتّخاذ مثل هذا الموقف الذي صدر عن غير دراسة، بل عن موقف عدائي لا غير، قد يخلق الانشطار والخوف على مستقبل الإطار مرة أخرى، أمام عربية تعاني من الغربة والرفض والتشويه، والعزلة، وانحسار الفرنسية في الواقع والتي لها امتداد واقعي ولكن لها استعمال فعلي في مجالات العمل، وتفضيل الإنجليزية عن الفرنسية، أو وضعها في مقام أول ونحن لها غير مدركين. وأرى أنّ المواقف العلمية هي التي يجب أن تسود في المرحلة الانتقالية، وهذا كي لا يحصل الإلغاء ولا يحصل العنف أياً كان وأن تكون الإنجليزية بديلاً عن الفرنسية في هذا الظرف يصعب النجاح، بل إنّ الفضل ظاهر مسبقاً في المنظومة التربوية على الأقل في الأمد القصير، وما أحوجنا إلى اللحاق في القريب العاجل، وقد نعود إلى النموذج الأول حيث نستورد اللغة الإنجليزية لكونها لغة راقية بدل الفرنسية فقط ورأينا أنّ استيراد اللغة لا يرتقي بالوطن ولا بالمواطن.
وكان علينا أن نحوصل هذه النقطة على أنّ العربية رغم أنّها اللغة الرسمية، ورغم كونها تشكل أداة التواصل في الظروف الرسمية، وتسعى للتثبيت الاجتماعي، ولا تعود ملكيتها لأحد، لكنّها تأتي في المقام الثاني أو الثالث (حسب المناطق) من حيث الاستعمال، ولا تملك نكهة اللهجة، بل تبدو لغير المتعلمين أنّها ذلك الهجين الذي لا يفهم، لكنّها مقدسة في نظرهم، إلا أنّ وضعها الحالي جعلها تقترب من أن تكون اللغة الأجنبية، وهذا هو الإشكال.
3. التعريب الجزئي: يعني تعريب مواد معيّنة دون غيرها من المواد (تعريب عمودي)، وهذا في إطار التعريب الشامل الذي يأتي في مراحل لاحقة، هذا التعريب الذي حصل بالفعل ثمّ حصل التراجع عنه، ولحقه الخلط مع التعريب الأفقي؛ والذي هو تعريب مرحلي. أضف إلى هذا الشكل القطاعي الذي اقتصر على ميدان التربية والتعليم (التعليم الأساسي) ويستثنى التكوين المهني والتعليم العالي، وكذا تعريب الحالة المدنية في البلديات والمحاكم. ولم تكن العربية لغة عمل الإدارة كافة والاقتصاد والإعلام وكل مؤسسات المجتمع. وتدل كثير من الدراسات والتجارب التي قامت بها بعض البلدان العربية (سوريا والعراق)، على أنّ التعريب الاجتماعي يتطلب تضافر جهود كل مؤسسات الدولة من أجل نجاح الفعل التعليمي "وفيما يتعلق بالتعريب الاجتماعي فإنّه يتطلّب استخدام اللغة العربية في جميع نواحي ومستويات الحياة العربية اليومية، كما يستلزم استبعاد دور اللغات الأجنبية كوسيلة للارتقاء الاجتماعي، أو كمؤشر للتمييز بين طبقة اجتماعية وأخرى، ويتلازم هذا المفهوم الاجتماعي للتعريب مع التعريب الحضاري، والذي بدوره يستهدف التفتح العربي الفكري على مقومات الحضارة العالمية الحديثة من ناحية، وتحرير الإرادة العربية من التخلف التكنولوجي والتبعية الثقافية والاقتصادية الأجنبية من ناحية أخرى. ولعلّه من المفيد الإشارة هنا إلى التجربة اليابانية حيث استطاعت اليابان أن تصبح دولة عظمى من النواحي التكنولوجية والفنية والحضارية في فترة زمنية قياسية، أصبحت تنافس دول أوربا وأمريكا من حيث إحداث التفاعل والانصهار بين حضارتها الوطنية الأصيلة، وبين مختلف المعارف العالمية الحديثة التي تمكن الشعب الياباني من استيعابها وجعلها جزءاً من مقومات الحضارة اليابانية، وفي الوقت نفسه ظلّ هذا الشعب حريصاً على تراثه الاجتماعي المتميز وتمسّك بهويته اليابانية"(4).
ولقد عدّ تلقين مادة المصطلح في الجامعة الجزائرية من التعريب الجزئي؛ حيث كانت هذه المادة عادة تسند إلى أساتذة جدد متخرجين بشهادة ليسانس أدب عربي أو حقوق. مساق يأخذ فيه الأستاذ كل حريته في الحضور، وفي نوع المادة التي يقدمها وكيف يقدمها: غياب المنهج، غياب المقرر، غياب المتابعة، غياب التقويم. والآن كيف يمكن أن نقول إنّ مادة المصطلح تلقن بالعربية، والإدارة كان يهمها تقديم علامة لا تقصي الطالب لأنّها العلامة التي توحي أنّ الطالب تعلّم مادة باللغة الوطنية فقط. وبعد سنة 1988م أوقف تدريس هذا المساق، والذي في الحقيقة لا يقدم شيئاً ولا يؤخره في التحصيل الجامعي. سردت هذا المثال لبيان فضل التعريب العمودي الذي يجب أن لا نكرره في تجاربنا اللاحقة، بحيث يكون التعريب بشكله المرحلي الثابت الذي يراعي كل خصوصيات اللغة، مع وجود المواد الأخرى مرحلياً، على أن تترك بعض المساقات بالفرنسية فهي ضرورة لازمة مهما كان نوع التعريب؛ لأن التعريب الذي نقصده لا يعني إلغاء كل مواد اللغات الأجنبية، بل أن يكون هناك مساقان أحدهما علمي، والآخر أدبي يعملان على تنمية اللغة العلمية والأدبية لدى المتلقين بصرف النظر عن الاختصاص.
ويصاحب هذا قضية القرارات والتراجع عنها، ومسألة المتابعة الجدية، وما أسفرت عنه مختلف المؤتمرات التعريبية التي لو طبّقنا بعض قراراتها وتوصياتها لكنّا قد سايرنا الحدث في بعده العام. ومن هنا فإنّ الأمر يكمن في أنّ القرار يجب أن يتابع ويقوّم بعد ذلك، ويُعمل على تكييفه حسب المعطيات الموجودة. ومن هنا يمكن الاستئناس بالمنجزات السابقة، ونذكر منها خلاصات الأيام الدراسية وحلقات التعريب وملتقيات التعريب، وما قدّمته الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية، ويمكنني أن أقدم المحاور الكبرى التي قامت عليها هذه الاجتهادات:
 التعريب في سياقه الحديث والعلمي.
 مخططات لتعريب العلوم والتكنولوجيا والطب.
 آفاق التعريب المرحلي.
ولدينا حالياً بعض الشواهد العلمية حول إمكانية التعريب فيكفي أن نأخذ العبرة من تعريب العلوم الإنسانية سنة 1980م، وكيف تحوّل الأساتذة من التدريس باللغة الفرنسية إلى التدريس بالعربية. دون أن ننسى منجزات التعريب على مستوى المدرسة العليا للأساتذة وجامعة باب الزوار وسطيف وباتنة، وبعض المراكز الجامعية في كل من تبسة وبسكرة وورقلة وأم البواقي.
ضعف المستوى في النظام التربوي
على الرغم من أنّ العربية مسّت كل مراحل التعليم العام، فإن مستوى النظام التربوي يعتبر ضعيفاً. فما هي أسباب هذا الضعف؟. ترى الأوساط التربوية أنّ الضعف استفحل بعد تطبيق التعريب في المدرسة الأساسية فقط، ففي النظام القديم أيام العمل بالثنائية اللغوية والتعريب المرحلي الذي كان يمسّ بعض المراحل فقط، كان مستوى الطالب مقبولاً في أغلب الأحيان.
لا شكّ في أنّ ضعف المستوى ملاحظ في وقتنا الحالي، وتعلق أسبابه على المدرسة الأساسية التي عربت نهائياً. وفي ظل غياب المعطيات الدالة على ذلك، يبقى أن نقول هل المعطيات العلمية والمادية التي يجب أن تقدم لهذه المدرسة كانت كافية مثل الإطار الكفء، والإمكانات. وأكتفي بالنقطتين لأنّهما لبّ المشكلة. الإطار الكفء موجود ولكنه يحتاج دائماً إلى تربص وإلى إطلاعه على المستجدات العصرية كما أنّ هذا الإطار يحتاج إلى الإمكانات المادية والتي بواسطتها يستطيع أن يقوم بواجباته التربوية أمام النقص الفظيع في كل شيء، إذ كيف يستطيع أن يبلغ المردود اللازم أمام عدد من التلاميذ يفوق الأربعين، غياب الدراسات المتعلقة بالنمو الديمغرافي (الانفجار الطلابي) والتطوّر العمراني، بما فيها الهياكل المدرسية، والحجم المرهق، وحرية المبادرة المنعدمة لدى المدرس نظراً للمحاور التي يجب الالتزام بها، وكثافة البرامج دون الحديث عن الظروف الصعبة التي يعيشها المربي، وخاصة في الريف، وهي من العوامل التي تساعده على تأدية واجباته أو تعيقه، ولا ننسى أنّ المدرسة الأساسية مهما كانت محاسنها فهي لا تحمل الكمال في أهدافها وبرامجها، وتحتاج إلى تكييف دائم مع المعطيات الراهنة. وهنا يتخوّف الكثيرون من هذه الظاهرة، فيرون أنّ المدرسة الأساسية أصابها الضعف، وإذا تواصل مدّ التعريب إلى المرحلة الجامعية أو إلى ميادين أخرى فتلك هي الكارثة، فهل يمكن أن يكون التعريب هو المنقذ من ضعف المستوى؟. الواقع يقول إنّ ضعف المستوى له عوامله الكثيرة، وما يتعلق بالمدرسة الأساسية هو جزء من العملية التي مسّت كل القطاعات إلا أنّ الحديث تركّز على المدرسة الأساسية، لأنها العمود الأساس في العملية التعليمية. الشق الأول من الإجابة عن هذا السؤال يكمن فيما ذكرناه آنفاً، وينحصر في ضعف إمكانات المدرسة الأساسية، وأما الشق الثاني، فإنه لا يرجع إلى عملية التعريب بقدر ما يرجع إلى سيرورة الفعل التربوي ككل، والمحيط والعمل على ترقية اللغة العربية. والحقيقة أنّ عدم فعالية التوجيه التربوي له ضلع كبير في هذه المسألة، ويحتاج إلى معالجة حاسمة كماً وكيفاً، بل إنّ الأمر يجب أن يطرح في هذه النقطة من زاوية إيجاد المسارب الأخرى للمدارس، فليس من الضروري أن يتمدرس كل واحد رغم أنفه. فكان من الأحرى فتح مراكز أخرى للتأهيل، كما كان من الضروري أن يعدّ الطالب إعداداً مهنياً يتماشى مع الحاجات القائمة والمنتظرة للمجتمع الجزائري، وكذلك إكساب الطالب المعلومات والمهارات والخبرات العلمية التي تؤهله لمستوى العامل الماهر، مما يجعل منه مواطناً نافعاً قادراً على التطور بمستواه والنمو بمهارته، ولن ينجح التعريب إذا لم يربط بالحرفية، وبحاجات التنمية وسوق العمل. إنّ ما تهدف إليه العملية التربوية في مختلف المراحل هو مواجهة مشكلات وتطلعات المجتمع كما أنّه حان الوقت أن نستهدف النوع لا الكم.
ويصاحب هذه النقطة قضية المتابعة ومواصلة التحديث في المنظومة التربوية وأذكر فيما أذكر أنّ استبيانات تصل المؤسسات من أجل معالجة أخطاء التعليم ونقائصه، مؤتمرات تقام، ندوات علمية، قرارات تقويمية... ونجد ذوي الرأي تارة لا يستشارون كما نجد أنّ ما نُصّ عليه من إصلاح لا يعمل به، بل إنّ شخص الوزير هو الذي ترتبط به المنظومة التربوية، فقدوم الوزير يأتي معه بمبضع الجراحة لتجريبه في المجتمع الجزائري، وهكذا دواليك، فمتى تستقيم الأمور وتكون لنا سياسة تربوية لا تتغيّر بتغير الوزير، ويكون الوزير هو المنفذ فقط.
4. نقص المؤسسات الفاعلة في ميدان العمل على تطوير اللغة العربية: ويصحب هذا عدم الإفادة من علوم الآخرين ثمّ دخول سوق الصناعة، مثلما يجري العمل في كثير من اللغات التي لم تدخل سوق المنافسة بعد. وفي هذا المجال نجد بعض المؤسسات أو اللجان التي تجتهد في وضع المصطلحات بدافع وطني وقومي، لا بدافع الحاجة العلمية، وهذا ما لا يخدم العربية أبداً. تقام ملتقيات وندوات ومحاضرات وتخرج بتوصيات تخص ترقية اللغة العربية فلا تجد متنفسها إلا في الأدراج. فمن يقوم على خدمة اللغة؟. خدمة اللغة تقوم على ترقيتها في المقام الأول من قبل ذويها، كل في موقعه. وتكمن القضية كذلك في مسار التعريب كلما تنصب لجنة أو مؤسسة ما لا تتابع في أعمالها ولا تهتم بالأمور التي أحدثت من أجلها، ومن هنا نجد مؤسسات عاجزة عن النهوض بمهامها تجاه تطوير اللغة العربية، فنُرجع العجز أو نلصقه باللغة العربية. هذا على المستوى المحلي أو العربي، وأريد أن يعرف القارئ أنّ الدول العربية مجتمعة لا تملك من المؤسسات ما تملكه إسرائيل من مراكز البحث لترقية اللغة العبرية، أضف إلى ذلك أنّ المؤسسات الموجودة ناقصة التفعيل، فتحتاج إلى تحريك فعالياتها، وخاصة مؤسسات الترجمة وبنوك المصطلحات. وفي الجزائر أُنشئت مراكز تكثيف اللغات؛ وقد وُضعت أصلا لتعليم العربية للأجانب، ولكنّها في الواقع تستغل لتدريس اللغات الحيّة فقط، والعربية لا مكان لها في برامجها، وهناك بعض المراكز تقدم بعض الاجتهادات في مجال ترقية اللغة العربية إلا أنّ نقص الدعم المادي يحول دون تحقيق المطلوب أمام الصمت التام عمّا يجري فيها من ركود أو نشاط. وفي هذا السياق يمكنني الاستشهاد بالأعمال الإجرائية التي يقوم بها مركز البحوث العلمية والتقنية لترقية اللغة العربية في عملية التعريب، فبمبادرة منه قدّم المركز خطة في تهيئة الظروف العلمية والعملية لعملية التعريب الشامل للإدارة والاقتصاد، برنامج الإنجازات لمدة 18 شهراً، وسوف أنقل الخطة أو المشروع من الأوراق التي قدّمها للجهات المعنية كوثيقة عمل.
يمكن لمركز البحوث العلمية والتقنية لترقية اللغة العربية أن يقوم بدور هام ليضمن النجاح الكامل لهذه العملية وذلك بإنجاز الوسائل اللغوية اللازمة من جهة، والإعداد (على شكل هرمي) للأطر الذين سيوكل إليهم عملية رفع المستوى اللغوي لمختلف العاملين في الإدارة والاقتصاد.
1- إنجاز الوسائل اللغوية:
- إنجاز قاموس موحد إداري واقتصادي، فرنسي/عربي.
- إنجاز نماذج رسائل للمراسلة الإدارية والاقتصادية.
- إنجاز نماذج من التقارير الإدارية والمالية.
2- تنظيم دورات تدريبية لرفع مستوى العاملين في الإدارة والاقتصاد:
يتكفل المركز بالإشراف العلمي على إجراء هذه الدورات وذلك:
- بتكوين فريق من الاختصاصيين (لحاملي الليسانس فما فوقها) في ميدان تعليم العربية للكبار.
- بإعداد كراسة من الإرشادات لفائدة المنشطين.
أما الاختصاصيون، فيعينّون على إثر مسابقة وطنية (إطاران اثنان لكل ولاية)، وتدوم الفترة التكوينية تسعة أشهر، ويمنح المترشح الناجح دبلوم الدراسات العليا المعمّقة في تعليم العربية للمثقفين. وتكون مهمّتهم الإشراف على نفس التكوين الذي تلقوه لمجموعات من الأساتذة الذين يساهمون في تنشيط الدورات التدريبية كل في ولايته.
3- المراقبة التقويمية الشاملة للنوعية فيما يخص المستوى اللغوي: أما التخطيط والتنظيم للدورات التدريبية المحلية فيتكفل به كل قطاع، ويمكن أن تقوم بالمتابعة الهيئة العليا للتعريب التي نرجو أن تنشأ في كل ولاية.
وأمام هذه الإنجازات، لا نرى ذلك التشجيع الذي يجب أن تحظى به، بل إنّ الأعمال تودع في الأرشيف. وهنا نعلم أنّ أمثال هذه المؤسسات وجدت لتأدية رسالة اجتماعية فكان من الأحرى أن نقر بالدراسات العلمية التي تقدمها مثلما يحدث عند غيرنا.
5. لفجوة بين النظري والتطبيقي: حيث يدخل في هذا عدم التعمّق في العمل بالنفعية العلمية التي تستغل في كثير من البلدان، وخاصة الآسيوية منها، فتعمل هذه البلدان على الاقتباس من كثير من اللغات المضامين التي تخدم لغتها، ثمّ تعمل على تطويرها على أن تخدم لغتها بعد ذلك. القضية تطرح على مستوى العلوم التطبيقية في المقام الأول؛ حيث يتمّ استيراد نظرية من النظريات تحت تأثير الإعجاب، ثمّ نحاول إرغام العربية على قبول خواص تلك اللغة في كل خصائصها، أو نحاول تطبيقها في الواقع الجزائري ومن هنا نجد النتائج تأتي معاكسة للواقع، لأنّ المصنع أو النظرية جاءت ضمن لغة معيّنة وثقافة خاصة فلا يمكن أن تطبّق حرفياً على واقع وأرضية مخالفة. والحلّ موجود لو أمعنّا النظر –كما قلت سابقاً- على أن نعمل بالنفعية في كل شيء، فنكون برغماتيين انطلاقاً من أن علم اللغة العام يحصل علم اللغة التطبيقي ونستفيد من مناهجه كثيراً في تعليم اللغات ومنها اللغة العربية على سبيل الاستفادة في العملية التعريبية، ونفس الشيء يمكن العمل به في إطار استيراد مصنع، فليس من الضروري ان نقوم بنفس المتطلبات التي يتطلبا في محيطه، فنعمل على تكييفه ضمن أرضيتنا الخاصة. ويصاحب هذا العمل أهل التخطيط الذين لا يراعون الدراسات الاجتماعية للمجتمع الجزائري فيحاولون أن يضعوه في قفص يجرون عليه مختلف التجارب، بل نجد تارة أنّ المخطط من جنسية وثقافة أجنبية، فينقل نمط المعيشة الموجود في بلده والثقافة التي درس بها ويسلط جوانبها على مجتمعنا، فنجد فجوة كبيرة بين التنظير والتطبيق على كافة المستويات. وهنا من السهولة بمكان فإنّه عندما تتلازم الدراسات الاجتماعية والعلمية وتراعى الخصوصيات لا يكون إلا النجاح في كل خطة تنتهج، شرط أن يراد منها التقويم لاحقاً.
6. قلة المراجع بالعربية: من البديهيات أنّ المعارف تلقن عن طريق الكتب والعربية في مجال العلوم ناقصة في مراجعها، وهذا بسبب عدم العمل على تجسيد المعارف العلمية في اللغة العربية حيث يقع الاتكال على الترجمة التي لا تستند في كثير من مظاهرها إلى الدقة والتوحيد، ومن هنا نجد عربية تعتمد على الإنجليزية وهي عربية المشرق، وعربية المغرب العربي تعتمد على الفرنسية، دون الحديث عن نوع الترجمة التي تكاد لا تتفق على مصطلح مع تعدد المؤسسات العاملة على وضع المصطلحات وتعدد المجامع. ولكن أي مجامع وأية مؤسسات في ظل غياب التنسيق الذي أريد منه أن يكون الموحد اللغوي. العملية معقدة في هذه النقطة لأنّها تتطلّب الجهد العربي لتجسيد الصورة الحقيقية للفعل العلمي في هذا المجال، ولكن هذا لا يعني أنّ العربية فقيرة جداً في هذا المجال، بل يمكن الاستعانة بما تمّ تعريبه في المؤسسات العربية مثل المجامع والجامعات العربية ومكتب تنسيق التعريب، هذا في المرحلة الأولى، على أن تؤخذ الأعمال التي وقع عليها الإجماع كمصادر، ثمّ يحصل الاجتهاد من قبل اللجان التي توكل لها مهمّة الترجمة والتأليف والنشر.
وفي هذه النقطة لا يجوز أن نتخوف من عملية التعريب، فالنقص كائن، لكن المنجزات التي حصلت عليها الوزارات المعنية في مجال الاستعداد للتعريب من قبل مجمع اللغة العربي الأردني والمجمع السوري ومكتب تنسيق التعريب وغيرها من المؤسسات العربية، أضف إليها الاجتهادات العلمية التي قدّمتها اللجان الوطنية التي لها إسهامات معتبرة في الميدان، والرسائل الجامعية التي قدمت في هذا الشأن لهي كافية في المنطلق على أن يتواصل الجهد بعد ذلك، بواسطة الدعم والتشجيع كل في موقعه.
7. عدم تجسيد الترجمة: الترجمة فعل حضاري في كل حضارة قامت، فالعربية انتقلت من القول إلى حركية الفعل بفعل الترجمة أيام هارون الرشيد، وخصصت لملاحقة المستجدات العصرية في المقام الأول، ثمّ لحصول المثاقفة في الشكل الذي يجب أن يكون نقل المعارف إلى العربية آنذاك، ثمّ تمحور حول تحاور العربية مع الثقافات الأخرى، وتلاقحها معها لتنمو وتصبح قادرة على الإسهام في الثقافة التي كانت لها الصدارة آنذاك. وهكذا كانت في البداية من الأعمال الثقافية الأساسية في تبادل الفكر، وتفاعل الثقافة ونموّ العلم، والتي هي ضرورة قصوى واجتماعية، حيث كانت تعريباً للمعارف لا تعجيماً إلا في المرحلة الثانية بعدما تمّ التحكّم في الآليات العلمية آنذاك، حيث أصبحت تعجيماً، وكانت على مراحل، انطلاقاً من أنّ الترجمة إلى العربية ومنها مصدر في عملية التواصل الإنساني، وضرورة حضارية.
الترجمة والتعريب متلازمان ويتطلبان نموّ اللغة بشكل متطوّر لتواكب ركب الحضارة، وبناء نهضة وتحقيق البعد الوطني والإنساني وهنا يجب التفريق بين الترجمة: والتي هي نقل من لغة أجنبية إلى ما يقابل النص أو المصطلح العلمي باللغة العربية والتعريب: وهو محاولة نقل الكلمات أو المصطلحات العلمية من لغة أجنبية إلى اللغة العربية مع تحويرها نطقاً لتلائم النطق العربي. والمقام لا يعني أن نفصل بينهما، فكلاهما يعملان على ترقية اللغة العربية. ففي هذه النقطة يكمن الحلّ في أن تقدم المساعدات المادية للخبراء المتخصصين في الميدان تحت هيكل علمي يشرف على الترجمة بالاستعانة بأحدث ما توصلت إليه الترجمة من التجهيزات الإلكترونية لتفادي التأخير الذي تسببه العملية.
ولا بدّ للترجمة من تجسيد الخطة القومية التي تخضع للأهداف والأسس والوسائل والمراحل وطرق التنفيذ، وهذه لا يستطيع بلد واحد أن يقوم بها، ويستحسن، في هذا، الاستئناس بما قدمته سوريا في هذا المجال(5) حيث تحاول تطبيق الخطط القومية التي تعدها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والتي توصي بها في كثير من لقاءاتها وتتمثل هذه الخطط في الآتي:
1- إغناء الفكر العربي، وإخصابه بروائع التراث العلمي.
2- إرساء نهضة علمية بنقل العلوم المختلفة والتكنولوجيا الحديثة.
3- نقل الدراسات العميقة في شتى فروع المعرفة لتعزيز البحث العلمي.
4- المساعدة على تعريب التعليم بشتى مراحله وأنواعه في جميع البلدان العربية.
5- تعريف المواطن العربي بقضايا العصر ومشكلاته.
6- تعريف العالم بنتاج الفكر العربي قديمه وحديثه.
7- تطوير اللغة العربية بحيث تصبح قادرة على التعبير عن متطلبات الثقافة الحديثة.
وهذا كله لا يتحقق إلا بزيادة الدعم المعنوي والمادي لمؤسسات الترجمة، وإحداث مؤسسات حكومية للترجمة والنشر، وإصدار التشريعات اللازمة لتنظيم حركة الترجمة والرقي بها وحماية حقوق المترجمين وتحديد واجباتهم. وهذا في الحقيقة يكفينا شرّ التضارب والارتجالية التي نلمسها في عملية الترجمة، والتي ينتج عنها تارة عدم استثمار ما يعده المترجمون للمستهلكين.
وإنّ تجاربنا في هذا الميدان لكثيرة بالقدر الذي كنّا نتحدث عن التعريب نجد الترجمة ملازمة له على أنّه رافد أساس لها، وذلك هو الصحيح، فالمراحل التي قطعناها في هذا المجال يجب أن تستغل؛ حيث كرست لدينا معطيات علمية لا بأس بها، وهي التي توضح لنا خطّ الرجعة عن خطّ التواصل، والتي تبيّن لنا كثيراً من الحقائق التي سايرناها في هذه العملية ولم نعتمد اللازم في ذلك. ورغم ذلك يمكن القول إنّ تجارب النهضة، وعلى مدى مراحل تاريخية، قد كرست لدينا من المعطيات ما يكفي لاستنتاج حقائق، نرى في ضوئها أنّ مسألة الترجمة هي مظهر هام من مظاهر النهضة والتكوين الثقافي المستقل والمتفتح معاً. ويؤدي هذا إلى استنتاج الحقائق الثلاث:
 "- الحقيقة الأولى، صحة الواقعة التاريخية التي أثبتت أنّ الدخول الفاعل أو المتفاعل في تجربة نهضة عربية، لا يتوقف على الترجمة وحدها، بل يعتمد بالدرجة الأولى على كون أهل اللغة العربية أنفسهم من المشاركين عملياً في صناعة الحضارة.
 والحقيقة الثانية نجاعة المقولة السوسيولوجية القائلة بأنّه يكاد يكون من المتعذر استيعاب المعارف علمية، أو أدبية، استيعاباً حقيقياً تكوينياً ما لم تكن اللغة القومية المعبرة عن روح الأمة هي الأداة الموصلة لمضمون هذه المعارف إلى عقله ووجدانه.
 والحقيقة الثالثة وجاهة التصوّر الأنتروبولوجي الذي يرى أنّ الترجمة لا بدّ أن تعنى بالانطلاق من احتياجات مجتمعنا العربي ووعيه بأنّ مشروع ثقافته رهن بمادة التقويم المستمر، والاستيعاب الواعي الحر لإبداع الثقافات الأخرى"(6).
8. تعريب أساتذة الجامعة: نقصد في هذه النقطة تعريب أساتذة اللغات الحية الأجنبية والمواد العلمية غير المعربة، مع أنّنا نقر في ذات الوقت أنّه لم يبق أستاذ جزائري شاب لا يعرف العربية معرفة بسيطة؛ حيث تدلنا الإحصائيات الوزارية أنّ نسبة 94% من المعيدين والأساتذة المساعدين من خريجي الجامعة الجزائرية، قد تلقوا، في المراحل ما قبل الجامعة، تعليمهم بالعربية بشكل أو بآخر، وهؤلاء الأساتذة لا يحتاجون إلى المرحلة التلقينية للغة، بل هم في حاجة إلى تحسين مستواهم فقط كي يتأهلوا للتدريس باللغة العربية. وأما الأساتذة والأساتذة المحاضرون فنسبتهم قليلة وهم كبار السنّ الذين لم يتعلموا اللغة العربية لظروف معينة، وهؤلاء يحتاجون إلى وضع خاص.
وفي هذه النقطة يجب أن نعلم أنّ منطلقنا يكون إكساب هؤلاء الأساتذة المهارة اللغوية، وهو حدث لغوي عظيم، يجب أن يتحوّل في اللاحق من الزمان إلى الإبداع في المادة التي يعلمونها. ومن هنا يكون التركيز على المهارات اللغوية وعلى تقويم اللسان. وعلوم اللسان الوظيفية التي يلم بها هي: النحو واللغة والبيان والأدب(7) ولا يعني هذا أن نطلع الأستاذ على فقه هذه المواد سلفا، بل نعمل على استنهاض رصيده المعرفي في هذا المجال؛ لأنّ المواد المذكورة هي الأصل الأول للاتصال، ثمّ تأتي اللغة العلمية المعتمدة على المصطلحات، فتعابيره تكون بتوظيف علوم اللسان هاته وهي التي تكسبه المهارة اللغوية بالصنعة ثمّ تصبح طبعاً. وهكذا يمكن أن نبلغ الأستاذ الأساليب المبتكرة لتذليل الصعوبات اللغوية التي يعايشها في حياته العملية أولاً لتحقيق فائدة معيّنة في مجال عمله أو تخصصه. ويكون ذلك عن طريق تسطير برامج تطبيقية مناسبة لعمل كل مدرس؛ حيث يكون التقليل من النظري المجرد وزيادة الاعتماد على الأنشطة المختلفة، باستعمال المشاغل اللغوية والتعليم الذاتي والتعليم المبرمج لأنّنا في عصر يحتم علينا أن نسلك كل الطرق المفيدة في تعليم لغتنا؛ حيث نجرب كل الأساليب ولا نقتصر على الطرق المألوفة، وهذا كله باعتماد مبدأ: تعلم كيف تتعلّم. وتدخل في هذا المجال عملية التقويم، فمن الأفضل ألا تأخذ شكل الامتحانات التقليدية التي يغلب عليها طابع الضغط والسرعة والتقدير المباشر.
وما يمكن أن أقترحه في هذه النقطة هو العمل أو المشروع الذي قدّمه أستاذنا عبد الرحمن الحاج صالح، مدير مركز ترقية اللغة العربية ببوزريعة، للوزارة والذي أرى أنّه يسدّ الثغرة، بل هو كفيل بأن يعطي النتائج العلمية المقبولة، ويعتمد فيه الآتي:
(أ) - دور المركز في تهيئة الظروف العلمية والعملية لعملية تعريب التعليم والبحث العلمي، برنامج الإنجازات لمدة أربع سنوات: كما سبق أن اقترحناه في تعريب الإدارة والاقتصاد، فإنّ المركز سيساهم في تهيئة الظروف لتعريب التعليم العالي بإنجاز بعض الوسائل اللغوية الأساسية من جهة، ومن جهة أخرى بالإشراف العلمي على تعريب الأساتذة.
أ- الوسائل اللغوية:
1. إنجاز معجم أساسي للغة العربية لأساتذة التعليم العالي (أدنى عدد من المفردات العربية الشائعة التي لابدّ منها للفهم والإفهام).
2. النظر في كل المعاجم العربية والمصطلحات العلمية والتقنية المتوفرة الآن عبر العالم، وخاصة المعاجم الموحدة التي نشرها مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وتصحيحها واختيار المفردات الأكثر شيوعاً في الأوساط العلمية العربية.
3. حصر كل الكتب العلمية العربية المترجمة وغير المترجمة وخاصة المقررة في التعليم العالي ونفس الحصر بالنسبة للدوريات العلمية المتخصصة ثمّ اصطفاء أحسنها وأكثرها رواجاً بالاستعانة بلجان متخصصة من الأساتذة والباحثين.
ب- التعريب المنتظم لأساتذة التعليم العالي:
يتكفل المركز بالإشراف العلمي على عملية تعريب الأساتذة وذلك:
1. بتكوين فريق من الاختصاصيين في ميدان تعليم العربية للجامعيين (لحاملي الليسانس فما فوقها).
2. بإتمام الطريقة التعليمية السمعية البصرية الخاصة التي أخرجها المركز.
3. بإجراء تعليم تجريبي لاختيار الطريقة المذكورة وتصحيحها وإثرائها عند الاقتضاء على عيّنة من الأساتذة المتطوعين.
أما الاختصاصيون فيختارون أيضاً من بين الناجحين لمسابقة وطنية (إطاران أو ثلاثة لكل جامعة) وتدوم الدراسة تسعة أشهر يمنح على إثرها دبلوم الدراسات العليا المعمقة في تعليم العربية للجامعيين (ينضمون إلى الفريق السابق الذكر). وسيقومون هم بدورهم بتكوين العدد الكافي من الأطر لتعريب الأساتذة في مؤسساتهم.
ت- المراقبة التقويمية الشاملة لتعريب التعليم العالي: تقوم كل مؤسسة علمية بتنظيم عملية التعريب لأساتذتها وتنشأ فيها لجنة عليا للمتابعة.
(ب) - دور المركز في تدعيم التعريب من حيث النوعية بالبحوث العلمية والتقنية: إنّ تعميم التعريب على جميع القطاعات في بلادنا، في أجل معيّن، يحتاج إلى أن يدعم دعماً علمياً بإجراء البحوث العلمية والتقنية المنتظمة، وقد شرع المركز في إنجاز عدة مشاريع منذ إنشائه مثل الطريقة التعليمية المشار إليها والمشروع الدولي الذي يشرف عليه ألا وهو الذخيرة اللغوية العربية وغير ذلك. فالمطلوب من السلطات المعنية أن تضمن لهذه المشاريع النجاح التام بالتعزيز المالي والبشري وغير ذلك.
1- المشروع الوطني الخاص باللغة الوطنية: عرضت وزارة التعليم العالي (مديرية تنسيق البحث العلمي) على المركز أن يشرف على مشروع بحث وطني خاص باللغة العربية في إطار إنجاز المشاريع الوطنية ذات الأولوية يشارك في إنجازه باحثون جزائريون، فأعدّ المركز بالاستعانة بمجموعة من الاختصاصيين المحاور والموضوعات البحثية، وتمّ ذلك في ماي 1996م، وكان من المفروض أن يجتمع الباحثون في ندوة تجمع كل المشاريع في العلوم الإنسانية وذلك في شهر سبتمبر أو أكتوبر 1996م، ولم يتم ذلك إلى الآن. ونرجو أن يواصل تنفيذ المشروع بإجراء النداء للمجموعة العلمية الخاص بمشروع اللغة العربية في أقرب الآجال إذ سيساهم فيه عدد كبير من الباحثين عبر التراب الوطني لإنجاز المحاور العلمية الخطيرة بالنسبة للتعريب ونوعيته.
(جـ) أهم المشاريع التي يقوم بإنجازها المركز حالياً وكلها مفيدة لعملية التعريب:
1. بحوث نظرية وميدانية ترمي إلى إنجاز طريقة ناجعة لتعليم العربية للكبار وخاصة المثقفين.
2. بحوث نظرية وميدانية ترمي إلى مضاعفة مردود طريقة تعليم اللغة العربية في التعليم الأساسي والتعليم العالي.
3. بحوث مخبرية ترمي إلى تعريب الأجهزة الإلكترونية: العلاج الآلي للأصوات العربية (التركيب الصناعي للكلام واستكشافه الآلي).
4. بحوث في المعلوميات (الحاسوبيات) ترمي إلى العلاج الآلي للغة العربية والصياغة الرياضية المنطقية للحدود والأنماط النحوية والصرفية من جهة والتوثيق الآلي بالعربية من جهة أخرى.
5. بحوث في حوسبة الذخيرة للغة العربية.
6. بحوث معجمية بالاعتماد على الذخيرة اللغوية.
7. بحوث لغوية طبية ترمي إلى إنجاز طريقة ناجعة لمعالجة المصابين بالحبسة وغيرها من أمراض الكلام، وغير ذلك من البرامج.
إنشاء دبلوم الدراسات العليا المعمقة في تعليم العربية للجامعيين من الآن وفتحه في كل سنة بكيفية آلية:
1- فتح الماجستير في علوم اللسان والتبليغ اللغوي في كل سنة من دون تقديم طلب.
تدعيم الأعمال السابقة الذكر بالتعاون العلمي مع الخارج:
1- التعاون مع المؤسسات العلمية العربية للاستفادة من تجاربها:
 مواصلة التعاون مع مركز البحوث العلمية السوري.
 مواصلة التعاون مع المجامع العربية.
 إقامة تعاون مع بعض الجامعات العربية لإجراء دورات تدريبية للأساتذة الجزائريين بالاعتماد على مخطط دقيق تحت إشراف المركز ومتابعته، وبعد الاتفاق مع هذه المؤسسات على برنامج مفصل ونقترح أن يكون أحد الاختصاصيين في المركز موكلاً بالمتابعة في عين المكان حتى لا يترك المتدربون بدون مرشد ولا متابعة.
 استئناف العمل المشترك مع مؤسسات المغرب العربي في ميدان التعريب.
2- التعاون مع المؤسسات العلمية الأوربية والكندية:
 تنظيم دورات تدريبية للاختصاصيين الجزائريين في الجامعات الفرنسية والبريطانية والكندية (في مراكز المصطلحات العالمية في الكيبيك وغيرها) لتجديد معلوماتهم واكتساب التقنيات الجديدة في ميدان تعليم اللغات والمصطلحات والحوسبة.
 تنظيم تعليم تجريبـي لمدة قصيرة للغات الثلاث: العربية والفرنسية والإنجليزية للمقارنة العلمية بين الطرائق التعليمية مع إشراف العلماء الأوربيين وذلك في الجزائر وفي الخارج بالتداول.
ونلفت أنظار المسؤولين الأفاضل إلى أنّ التعاون مع الخارج هو من أشدّ الضرورات ومن أكثر الوسائل نفعاً، إذ لا يمكن أن يجري أي عمل علمي بدون أيّ اتّصال مع الخارج؛ وعمليات التعريب هي أحوج العمليات القومية إلى هذا التعاون كما لا يخفى ذلك على أحد.
وفي مشروع آخر يقترح الصيغة الإجرائية لرسكلة (إعادة تكوين) أساتذة العلوم والتكنولوجية والباحثين في إطار التهيئة الطبيعية للمساهمة في العملية التعريبية؛ حيث يركز مشروعه المقدم لوزارة التعليم العالي في يناير 1997م على المستلزمات الأساس في إعداد المكوِّنين والكوَّنين ضمن نسق عام، وخطة تدوم لغاية العام 2000م.
والهدف من هذه "الرسكلة" هو تهيئة أساتذة العلوم والتكنولوجية، بالعمل على إكسابهم القدر اللغوي الذي يستطيعون بواسطته تبليغ دروسهم باللغة العربية. ويقوم هذا المشروع على العناصر التالية:
1- ضرورة قيام هذا المشروع على خطة مبنية على نظرية علمية أثبتت النجاعة في التطبيق.
2- ضرورة قيام العملية على التحكّم في آليات اللغة إلى جانب التحكّم في المصطلح العلمي المتداول في الاختصاص.
3- ضرورة التجنيد التام لكل المرافق الحيوية المساعدة والمكمّلة لعملية التعريب.
وهذه الضرورات الثلاث تتضمن الآتي:
 تدعيمها بأحدث النظريات اللغوية.
 تدعيمها بالنظرة اللسانية التي تراعي خصوصيات اللغة العربية.
 إعداد كامل وكاف في التأطير ومستلزماته.
ويقوم هذا المشروع الذي سينفذ على مرحلتين؛ مرحلة قصيرة المدى تبدأ من يناير 1998م إلى 15يوليو من عام 2000م. وفي المشروع مجموعة من الشروط الواجب توفيرها تفادياً لكل فشل يطرأ على هذه العملية. وأهم شرط يركز عليه المشروع مسألة الانغماس اللغوي الذي يجب أن يتوفر لكي يتمّ التحصيل اللغوي خاصة أنه هو الأساس.
9. المصطلح: مشكلة المصطلح مطروحة في كل لغات العالم، حتى في الإنجليزية التي تهيمن على علم المصطلح، دون الحديث عن الفرنسية التي هي مرجعيتنا في كل شيء، فقد قهرتها المصطلحات الإنجليزية، وتفد إليها عشرات المصطلحات الأجنبية كل يوم، فتقيم من أجلها ندوات علمية تحارب المصطلح الدخيل. ويطرح عندنا المصطلح كلما يطرح التعريب، ولكي تكون للمصطلح وظيفة اجتماعية وفنية لابدّ أن يتّم في إطار التعريب؛ لأنّ مفهوم التعريب يشمل المصطلح والترجمة معاً، كما يطرح دائماً في مجال النقص المصطلحي في إعطاء التسميات العلمية للمسميات الجديدة. وعلى العموم فإنّ العربية تعاني من نقص فظيع في المصطلح نظراً لعدم استنبات العلم بها، وتوطين الثقافة، ولكن لا يتنافى التعريب في البداية مع استخدام المصطلح الأجنبي، دون الشعور بأي مركب نقص، بل يكون رائدنا الأساس الحفاظ على روح اللغة وأساليبها الخاصة، فكل الدول النامية عملت بمبدإ الأخذ من اللغات المتطورة في أول أمرها، إلى أن تطورت لغاتها فأصبحت تشارك في ميدان تجسيد المصطلحات. ومع كل هذا فإنّ العربية تملك رصيداً لغوياً معتبراً تستطيع به أن تقف أمام اللغات الحية، وذلك بالعودة إلى استكناه تراثها الزخم الذي يحمل الكثير من المصطلحات التي عفا عنها الزمن، أو التي لم تسعمل بعد، وهي في رصيد اللغة فهناك جهود بذلت، ونجاحات تمت، لكن مازالت هناك ثغرات يجب أن تُسدّ ونواقص يجب تداركها. ومن طبيعة العمل المصطلحي أنّ العمل فيه متواصل مادام العلم متّصل التطور، وثمّة مصطلحات يثبتها الاستعمال، وهناك مصطلحات تندثر، وأخرى ينفر منها، وهكذا.
ونعرف أنّ المصطلح العلمي أسهل معنى وترجمة من المصطلح الأجنبي أو النقدي والذي هو نقل ما يقال بلغة ما إلى لغة أخرى مع الميل إلى معادلة معنى هذا القول أو ذك. وفي هذا المقام لا يمكن أن نتحجّج بعدم وجود المصطلح أو صعوبته إلا بالعمل على استخدام المصطلح العربي، وعند ذلك يمكن تدارك النقص الذي سيظهر بلا شك في العربية، فالاستخدام هو الذي يرسخ المصطلح والعادات اللغوية. وفي بلادنا لا نجد ذلك الانغماس اللغوي في المحيط اللغوي المعرب الذي يساعد على استعمال المصطلح العربي والذي نستحيي من استعماله تارة.
إنّ المشكلة لا تكمن في إيجاد المصطلحات في العربية بقدر ما تكمن في المنهجية المعتمدة لإيجاد تلك المصطلحات، فإذا وقع الإجماع على منهجية مضبوطة يتلافى من خلالها تضارب قواعد وضع المصطلح، عند ذلك يأتي المصطلح الموحد، كما يجب أن نعلم أنّ المصطلحات العلمية هي الرافد الأساس للمعاجم والنهوض بالعربية على وجه العموم، وعملية التعريب تقوم على إيجاد المصطلحات العربية التي تعطي الشكل العام للغة، وتحافظ على روحها وأساليبها الخاصة. وليس من الضروري أن نتبجح في وضعها، شرط أن تحافظ على قواعد اللغة وتتخذ لأدنى علاقة بالمعنى، ويكون الاهتمام بالمعنى في المقام الأول. وقد قدمت أمثال هذه القواعد في كثير من ملتقيات التعريب ومع ذلك بقيت الفوضى في وضع المصطلح قائمة. ويمكن تلخيص أهم القواعد العامة التي تراعى في وضع المصطلحات في الآتي:
1- يتّخذ المصطلح لأدنى علاقة بالمعنى.
2- يراعى في وضع المصطلح الاهتمام بالمعنى قبل اللفظ.
3- لا يختار المصطلح من بين ألفاظ ذات دلالات شائعة معروفة.
4- لا يصطلح بلفظ واحد لتأدية معان علمية مختلفة.
5- لا يصطلح بالألفاظ مختلفة المعنى العلمي الواحد.
6- يفضل المصطلح العربي على المعرب.
7- يتجنّب نافر الألفاظ وغريبها.
8- يتجنّب النحت ما أمكن ذلك(8).
وفي المقابل نرى ضرورة استكمال الجهد المبذول عندما تتشكل كل العوامل التي تؤدي إلى صنع المصطلح، فالمطلوب الآن استكمال الجهد المبذول وتنسيقه، بيد أنّه لابدّ من:
"1- أن تستكمل المعاجم العامة الثنائية اللغة، ونتوسع فيها، ونتابع العمل لوضع المعاجم المتخصصة الثنائية أو الثلاثية اللغات لتشمل جميع العلوم والتقنيات التقليدية والمستحدثة، لسدّ الحاجة في كل مستوى تعليمي أو بحثي.
2- أن تدرس المصطلحات المختلف بشأنها بين جامعة وجامعة، أو بين قطر وقطر بغية توحيد المصطلح في الاستعمال ابتغاء للتنسيق والتوحيد.
3- أن يتحول مبدأ الالتزام بما تقره مؤتمرات التعريب العربية إلى إلزام يحقق وحدة المصطلح"(9).
وأمام هذه المجموعة من المعوقات التي حاولنا تشخيصها وتقديم بعض الحلول يجب أن نقر أنّ اللغة العربية تحفّها صعوبات وهي التي تقف دون تطويرها، وتتمثل هذه النقائص في صلب اللغة أحياناً، وهي قليلة، ومع ذلك فإنّ الصعوبات التي تحفّ بها يمكن تفاديها بعملية التطوير، وقد أجمل الأستاذ تمام حسان هذه الصعوبات في الآتي:
"1- صعوبة القواعد وتطويرها
2- بناء المعجم وتطويره
3- الأسلوب وتطويره
4- المصطلح وتطويره
5- التعليم وتطويره
6- جهود التطوير وتنسيقها
7- تنسيق جهود التطوير
8- نظام الكتابة وتطويرها
9- تطوير الكتابة
10- تخلف وسائل النشر وتطويرها
11- تطوير النشر"(10).
فماذا نستنتج إذاً: نرى أنّ النقص يستولي على أجزاء هامة من اللغة، ولكن هذا لا يعني أنّها مهلكة، بل هذا من طبيعة اللغات، ولكن التطوّر من طبيعة اللغات كذلك، وسنّة اللغات أن تنمو نحو الأفضل، وهذا هو التطوّر الذي نقصده، ولا نقصد التغيير. والتطوّر المقصود من خلال كلامنا هو ذلك العمل القومي الذي ترفده المؤسسات العلمية والثقافية، والذي يقوم عليه العلميون العرب وغير العرب الذين يمكنهم إفادتنا في تطوير لغتنا، أو تلك الاجتهادات الفردية التي تزكى من قبل هذه المؤسسات. والمؤسسات يجب أن توجد بكثرة ولا يعني أنّ ذلك مدعاة إلى الفوضى أو التضارب بل أن يكون التنسيق بينها، ويكون هدفها جميعاً العمل من أجل التطوير اللغوي في العربية.
وكان عليّ أن أقف عند نقطة أسأل فيها نفسي: أين يكمن المشكل في كل تلك الحيثيات أو المعوقات، فأرى أنّه لا يوجد في اللغة في حدّ ذاتها، لأنّ العربية لغة حيّة وتتوفر على المعطيات العلمية والأنماط العالمية ومع كل ذلك لايمكن أن نغتر بهذه الإجابة، ولكي تبقى اللغة حية ومنتجة لا بدّ من إحياء اللغة وبعثها من جديد وتحيين معارفها بجعلها تتوفر على مجموعة معتبرة من الأنماط العلمية الراقية التي تستخدم العلم والتقانة، وتقبل التطوّر والاحتكاك بغيرها من اللغات. ولكي تبقى العربية لغة حية كان علينا أن نسرد بعض المظاهر التي يجب أن تحملها اللغة لكي تكون حية، وهي:
1- الوضوح: وأعني به السهولة التي لا تحمل الإبهام أو التكرار، وتكون في ذات الوقت لغة الشعر والإبداع، ولغة العلم والتقانة؛ حيث تعبر عن كل المفاهيم بمصطلحات صحيحة دقيقة خالية من التأويل، اللهمّ لغرض بلاغي، وهذا تتوفر عليه العربية بشكل جدّ مقبول.
2- سلامة البنيان اللغوي: كل لغة تحمل بنية ودلالة وتركيباً، هذا الثلاثي المنسجم الذي تحمله اللغة العربية يحمل على كثير من التأويل في بعض الأحيان.
3- التعادلية في اللغة: المعنى يكون موافقاً للمبنى، والمبنى جزء من المعنى فلا يفهم أحدهما دون الآخر؛ هذه التعادلية الدقيقة هي ما يسمى بالمنطق اللغوي والذي تجسده اللغة في التفريق بين المعنى العلمي أو الأدبي والمعنى المجازي، وبين صورة الكلمة (الشكل) ودلالتها المتغيرة في مختلف الأنماط والسياقات الكلامية.
4- اللغة يجب أن تحمل الرموز والمختصرات والمعادلات الرياضية والرسومات البيانية: وهذه هي لغة المستقبل التي هي لغة الاتصال في هذه الجزيرة التي تتأثر بفعل التراكم التقني على المعمورة. اللغة العربية لا تتوفر على الرموز والمختصرات، اللهمّ بعض المختصرات الموروثة والتي بليت بفعل الاستعمال والاحتجاج بل إنّ وقتها قد عفي عنه، كما لا تعتمد لغة الرياضيات اللهمّ بعض الموروث من سالف الزمان. وفي هذه النقطة يمكن أن نسأل أنفسنا ما دور المنظمة العربية للمواصفات والمقاييس التي توجد فروعها في كل الوطن العربي؟. وهنا يكمن الخلل! مؤسسات تقام دون نشاط يذكر، مؤسسات شكلية فارغة المحتوى، أموال شعب تهدر دون مقابل يذكر، وقس على ذلك الفوضى السائدة في هذه المؤسسات؛ حيث يكون الترميز مختلفاً بين البلدان المجاورة.
5- صفة العلم: وتكمن في الدقة واستعمال لغة الرياضيات، وتوظيف المصطلحات التي تدرها عليها الحضارة في كل مجالات العلم. ومشكلتنا في العربية، من خلال هذا الموقع، هي أنّ صفة العلم توفرت عليها العربية حتى في عصر الضعف عند الغربيين حيث كانت مقصد طلاب العلم في كل من بجاية وتلمسان، ولكن في عصرنا هذا نرى أنها تعيش بياتاً طويلاً، وليس فصلياً؛ حيث دام هذا البيات مدداً. وصفة العلم تكمن في الأسلوب العلمي الذي يحتاج إلى اختيار دقيق للكلمات واستعمال موفق للجمل بتحديد المعاني واستعمال الكلمات بوضوح بحيث يقل المجاز.
6- تحريك نمط الكتابة: هذا الشكل الجميل الذي تكتب به العربية جيّد، لكنّه يحتاج من الخبراء والمختصين أن يطوروه بالشكل الذي لا يحمل التأويل والإبهام، فنعمل على إبقاء هذا الخط بتطوير يراعي تفادي وضع الحركات على الحروف؛ حيث يقرأ النص دون خطإ من قبل كل من يستطيع تفكيك رموز الحروف العربية.
7- الاتكاء على أحدث نظريات التلقي: من المشاكل التي تعانيها اللغة العربية حالياً محتوى اللغة التي تقدم بها، والطريقة المتبعة، فقضية محتوى اللغة يمكن التغلب عليها باعتماد المنهج العلمي الذي يراعي خصوصية المادة ومتلقيها، فمن هنا يكون المنهج من أهم الأشياء التي يجب أن يعطى لها الفعل التحسيسي، والذي يكون مزوداً بالنظريات العلمية، وخاصة نظريات التبليغ اللغوي، أو ما يسمى بديداكتيكا التبليغ. وهذا المجال يهتم به علم اللسان وصناعة تعليم اللغات. لكي تُبلغ العربية بسهولة ويسر وبأقل جهد ووقت، كان عليها أن تتكئ على القوانين التي أثبتها علم اللسان وخاصة ما يتعلق بالتحليل اللغوي وعلم تكوين المكونين في مجال التلقين الذي يجب أن يستهدف:
 أسبقية التبليغ التعليمي، والترسيخ، وخلق العادات السليمة.
 استئناس المتعلم بما يتناوله من المعطيات الجديدة.
 حفظه للصيغ الجامدة التي يكثر دورانها.
 تزويده بما يحتاج إليه في المستقبل من جوامع الكلم.
ويأتي تشخيص النقائص عقب كل عملية تعليمية يقوم بها المؤطرون مع الأساتذة الذين سوف يؤطرون لتأدية مهمة التعريب، ثمّ تنتقل العملية إلى الأساتذة الذين سوف ينقلون مواد اختصاصهم بالعربية للطلاب. وهذا من السهولة بمكان إذا روعي: التخطيط الدقيق، واختيار الكيفيات الناجعة للعرض والترسيخ.
وأمام كل هذا أرى أن أعرج على بعض القضايا التي لها صلة بالتعريب، قبل الخاتمة، وهي:
1- هل يمكن أن تكون العربية لغة علمية والاقتصاد العربي متدهور؟. الاقتصاد لبّ الحياة وعمادها الأساس، أن تكون لك الكفاية المعيشية والعلمية والتكنولوجية يكون لك كلام ويحسب لك حساب، وإلا أنت تُبّع؛ لأنّ القضية تكمن في قضية فرض النمط الذي يريده الذي يتحكم في إمداد غذائك، بل يفرض نوع اللغة، فتكون تبعاً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. لكن القضية في هذه النقطة التي يجب أن نعرفها جميعاً هي أنّ أية لغة إذا اهتمّ بها يمكن أن تترقى، ويصاحب هذا العمل اقتصاد قوي يعمل على ترقية اللغة، ولكن لا يعني هذا أنّه لا يمكن الحديث عن ترقية اللغة في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة للدول التي لا تملك اقتصاداً قوياً، كدول آسيا، أو الدول العربية التي تملك الطبيعة الجميلة والذهب الأسود، وغير ذلك من الثروات. الأمر يعود إلى امتلاك العقل المدبر والحكيم، فالقضية في مسألة الاقتصاد تكون في مسألة التدبير، ودليلنا على ذلك ما تقوم به بعض الدول الآسيوية التي تقتبس من اللغات الأجنبية، وتعمل بمبدإ النفعية في كل شيء ونراها تنافس أوربا وأمريكا في منتجاتها، لأنّ عقلها أكبر من اقتصادها، بل إنّ اقتصادها لا يتعدى العيش على البحر، فنجد لغاتها حالياً تقف نداً للغات الحية الراقية.
وإذا اعتمدنا هذا الأمر نجد أنّ العالم تسيطر عليه ثلاث لغات فقط، الإنجليزية والألمانية واليابانية، وبقية اللغات تقتبس من الثلاث، فهل يمكن أن نقول إن اللغات الأخرى لا يمكنها أن تفرض نفسها في ظل هذه القوى الثلاث.؟ الواقع أنّ اللغات تكمل بعضها وتحتاج إلى غيرها، وما تقدمت الإنجليزية دون الألمانية، وهكذا.
2- هل يمكن أن نأخذ المرجعية في عملية التعريب من البلدان العربية؟. نعرف أنّ الدول العربية في مجال التعريب توزعت على تكتلات ثلاثة وهي: بعض دول المغرب العربية تعمل بنظام الازدواجية اللغوية، ومرجعيتها اللغة الفرنسية، دول الخليج ومصر تعمل بالتعريب الجزئي ومرجعيتها الإنجليزية، دول لها باع طويل في التعريب مثل سوريا والعراق والأردن… . قد لا أكون صاحب منطق إذا قلت إنّ سوريا والعراق والأردن لا تملك الباع الكبير في مجال تعريب العلوم، كما لا أستطيع نكران تلك الإنجازات العلمية التي قدمتها الجامعات السورية أو العراقية. ولكن كنت أودّ أن نستأنس بما قدّمته هذه الدول فقط؛ حيث اطّلعت على بعض الاجتهادات المقدمة في مجال المصطلحات فوجدت أنّ الفرقة تسود هذه الدول، وكل يعطي المصطلح الذي يرتئيه، كما رأيت أنّ الأردن توقف في حملة التعريب عند نهاية السنة الثانية الجامعية ورأيت أنّ الطب في العراق يدرس بالإنجليزية، وهو غير متقدم في سوريا؛ حيث يتمّ استقدام أساتذة من الجامعات الغربية والأمريكية، كما أنّ الأطباء الممتازين في سوريا تجدهم خريجي الجامعات الغربية، وأنّ منطق الشعب عندهم أنّ الخريج المحلي أضعف من الأجنبي كما رأيت في نفس الوقت أنّ الاجتهاد العلمي والمنطقي في بعض المجالات اللغوية هو في المغرب أفضل ممّا هو في المشرق، وأنّ المملكة المغربية حالياً أفضل دولة عربية في إنتاج الكتب ذات الجودة والزاد المعرفي، وأفضل دولة عربية في الترجمة ويضاف إليها تونس، والمغرب حالياً هو الدولة الوحيدة التي تنافس إسرائيل في إنتاج الكتب. فأية دولة نتّبع؟. ومن خلال المنظور الإنتاجي لا نجد دولة تعتمد على ذاتها حتى في غذائها، بل لا نرى دولة لها الكفاية العلمية في التخصصات العلمية، ولم نر دولة خرجت من التخلف، عند ذلك قلت في نفسي لن ينجح التعريب إلا إذا كان جزائرياً بحتاً، التعريب يتمّ بالجزأرة فقط، ويكون استثماراً. نعم يجب أن نستفيد من تجارب الدول العربية في الإنجازات التي قُدمت، ونعمل على تقويمها، ونستفيد مما يتوفر عليه بنك المصطلحات في مكتب تنسيق التعريب في مجال المصطلحات الموحدة، ونعمل على التنسيق بين الدول العربية. أما أخذ دولة من الدول مرجعية في التعريب أو استقدام الأساتذة لغرض التعريب فهذا لا يفيد. ينبغي أن نتربص عند دول من هذه الدول ونستفيد منها تحت إشراف خبير جزائري يتابع الخطة التي نضعها هنا وتطبق هناك فقط، ونستفيد من المحيط الثقافي، فلا يوجد محيط ثقافي معرب في المشرق أو في المغرب، بل هناك غربة لغوية عندما نسمع تلك اللهجات، والفصحى يندر أن نسمعها حتى في المدرجات.
ولكي لا نقع في الخطأ أرى: أن ننطلق في البداية على أساس أن تكون لنا الريادة في هذا المجال، فلا ننظر إلى منجزات هذه الدول أنّها النهاية فنعمل على استيرادها ونعمل بها وكفى. هذا منطق العاجز، ومنطق بعض المعربين عندنا، وكنت شاهدت حماسهم في الأيام الدراسية ذات الطابع البيداغوجي والعلمي في نادي الصنوبر ديسمبر 1990م، وعندما بدأت مناقشة ملف التعريب، الذي أجلّ بفعل فاعل إلى ما قبل اليوم الأخير من نهاية تلك الأيام، ونوقش ليلاً، فلم يحضر أولئك الذين كانوا يتحمسون لملف التعريب، وغاب أكثر أعضاء جمعية الدفاع عن اللغة العربية، وعندما قرئ التقرير الختامي استنكر المعربون الغائبون تهميش قضية التعريب، فقيل لهم لماذا غبتم ليلة أمس ونحن بحاجة إليكم في مناقشة ملف التعريب، فكانت الإجابات أمَرُّ من السكوت: ذهبنا للمبيت مع أولادنا، وأجيبوا من قبل الطرف المفرنس: هل نحن لقطاء لا نملك الأُسر، وليس لنا أولاد. وفي الحقيقة أنّ بعض المعربين يدافعون عن الصواب بغباوة وبعض المفرنسين يدافعون عن الخطإ بذكاء، وهنا يكمن الفرق بعض المعربين أراهم لا يخوضون الصعاب ويركنون للقول فقط، ومن المفارقات أن نراهم يشترون جريدة بالفرنسية ولا يشترون الجريدة المعربة، ألا يعني هذا تقزيم اللغة العربية وتشجيع الحرف الفرنسي من قبل المعربين وهم أولى بتشجيع الحرف العربي في المقام الأول. وقد أعذرهم إذا كان ذلك بسبب المحتوى الذي تقدمه الجريدة المفرنسة، بل ذلك ممّا يدفعني إلى العمل على تطوير ونقد ما تقدمه الجريدة العربية. إذن القضية لا تعني أننا لا نستأنس بما قدّمته الدول العربية، بل من الأحرى أن ندرسه ونخضعه للنقد، ضمن العمل القومي الذي يجب أن نتّكل فيه على الإطار المؤمن بالتعريب أولاً.
1- هل يمكن أن تقف العربية موقف الند للند أمام اللغات الراقية والحية؟.
1- اللغة الحيّة -كما رأينا- مصطلح غربي يرسخ بقاء لغة الغربيين علىأنّها الأفضل والحقيقة أنّ كل لغة يتمّ التواصل بها في المنظور اللساني لغة حية. مصطلح اللغة الحية جاءنا من أوربا عندما أطلقوا على لغاتهم العصرية اللغات الحيّة، لغات موظفة؛ أي أنّها ليست من اللغات الميّتة، وهي اللاتينية أو الإغريقية. فالعربية حيّة منذ العصر الجاهلي، ودليل حيويتها استمرارها ورقيها، وليست ثابتة، وكلما ثبتت اللغة ماتت. ومن هنا يمكن أن نطرح السؤال من شق آخر، وهو: هل يمكن أن تكون العربية لغة عصرية؟. ليس من الصعوبة بمكان إذا توفر الآتي:
1- الوصول إلى الحلول الإبداعية في قضايا اللغة، وإدخال الإبداع في تعليمنا وتطوير العقل المبدع لدى طلابنا يعود بصورة رئيسية إلى المعلم، وتوجيه هذا المعلم يعود إلى السياسة التربوية للبلاد، فما موقع السياسة التربوية العربية من السياسات التربوية العالمية؟. إن موقع سياسة تربيتنا من السياسات العالمية تبرزه الفجوة الكبيرة الموجودة بيننا وبين البلدان المصنعة. فتحتاج المنظومة التربوية إلى تفعيل علمي تنقل المتلقي من وضع السكون إلى وضع العمل، ومن طور الاستهلاك إلى طور الإنتاج. وكذلك بين العلم والعمل عندنا هوّة عميقة، وهذا كله لغياب سياسة تربوية تحدد المتغيرات والثوابت، وتنهي مرحلة النقل والتقليد. المشكلة إذن تكمن في النظام التعليمي الذي يجب أن يتغيّر، وتجري عليه دراسات تقويمية، وننظر إلى التطوير على أنّه ضروري في العملية التربوية، فيجب أن يخضع لمعايير علمية، ويشارك فيه المختصون والآباء والدولة، وهذا ما يجب أن تقوم به المجالس العليا للتربية والمجالس العلمية والثقافية والمجالس القومية والمؤسسات العاملة على ترقية المنظومة التربوية في الوطن العربي بل إنّ نصيب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم نصيب وافر.
2- التحكم في التقانة (لغة الفنون والمهن) وصناعة المعدات والآلات ودراسة المواد التي تصنع بها. معرفة كيفية الصنع. ولمعرفة كيفية الصنع لا بدّ أن نمر عن طريق التركيب والاقتطاع من خبرات الآخرين. وإدخال التلمذة الصناعية في مدارسنا وإلحاق بعضها بالمصانع والورشات، على أن يكون العمل فيها بالعربية دون غيرها من اللغات.
3 - تعاظم قدرة الدول العربية على التحكم في توجيه مسارات التطور بما يخدم أغراضها. وهذا لا يكون إلا بالعمل على تحصيل الحيّز العلمي والتراثي في الخريطة العالمية، ويكون بإثبات وجود عن طريق العمل في الفعل الحضاري الراهن، بإيجاد الموسوعات العلمية وما يلحق بها من الإنجازات العالمية.
2- كيف يمكن تبليغ العربية لغير العرب؟.
قد يؤدي بنا هذا السؤال إلى طرح العمل القومي في هذه النقطة، والعمل القومي تقوم به الدول العربية في إطار ترقية اللغة العربية داخلياً؛ حيث تقوم به المؤسسات والأفراد، وخارجياً تهتم به سفارات الدول العربية على غرار ما تفعله الدول الأخرى في تبليغ لغاتها لغير الناطقين بها، فتجند لها كل الإمكانات المادية والبشرية من أجل توسيع رقعة الناطقين بلغتها، وهذا وحده لا يكفي لأنّ المشكلة الحقيقية في هذه النقطة تكمن في عامل الزمن وهو الأساس. كيف يمكننا تبليغ العربية لغير الناطقين بها في ظرف زمني قصير وبأقل جهد؟. وقبل الانطلاق في هذا العمل كان علينا أن نكون على علم بما جرى عند غيرنا؛حيث صدروا لغاتهم إلى غيرهم بطرق حديثة وبمشاريع طويلة المدى، وبتكلفة رهيبة، وهذا كلّه من أجل كسب المزيد من المتحدثين بها ولأغراض أخرى، ولا يمنعنا ذلك من الاستفادة من تلك الطرق والخبرات؛ حيث قامت أساساً على: المقارنة أولاً، ثمّ التحليل، فالاستنتاج. ومن التجارب التي أثبتت فعاليتها ذات وقت، نشير إلى:
 التجربة الأمريكية.
 مشروع حلف شمال الأطلسي.
 مشروع مدرسة المدفعية البلجيكية.
 مشروع جامعة زغرب.
 مشروع معهد الخرطوم الدولي للغة العربية.
ويجب أن ندرك مقدماً أنّ الهدف من تبليغ العربية لغير العرب لا يستهدف تبليغهم روائع الأدب، ولا خصائص اللغة العربية الفقهية والبلاغية، ولا دلالاتها المتغيرة، ولا الخلافات النحوية. فالهدف هو: حسن استعمالها في مواقف حيّة واقعية في مختلف المقامات؛ حيث نكسب المتلقي الكفاية الشفوية بالخصوص ونجعلها أكثر مرونة عن طريق التدريبات التعبيرية لتكون تلقائية، وهذا بالاهتمام بالجوانب الوظيفية للغة دون فقهها، باعتماد الرصيد اللغوي المتجانس الموظف انطلاقاً من الأمثلة الواقعية، وبناء على ذلك "لا بدّ أن يقوم المدرس في أناة وصبر وبأسلوب تربوي بإكساب الأجنبي التراكيب الأساسية العربية انطلاقاً من اللغة الشفوية دون أن يثقله منذ البداية بالصعوبات الخاصة باللغة المكتوبة، ويشحن ذهنه بمعلومات ثانوية أو مفردات عقيمة قبل أن يتقن التراكيب الأساسية للغة العربية. وعلى المدرس باستمرار ألا ينسى أنّ طلبته ليسوا عرباً وأنّ النصوص المخصصة للطلاب العرب قد لا تناسب الأجانب ليس فقط على المستوى اللغوي، بل على المستوى الحضاري كذلك"(11). ومن هنا فإنّه يجب:
1- "اطلاع غير العربي على الجانب العلمي الذي تحويه العربية أولاً قبل الجانب الديني.
2- اطلاعه على التراث، ثمّ أشياء عصرية، فمواقف يومية. وهذا كله ضمن:
3- ترتيب الأهمّ فالمهمّ.
4- البسيط ثمّ المركّب.
5- الشائع أو المستعمل (التواتر والشيوع).
6- التكرار من أجل التثبيت.
7- تجنب استعمال المترادفات.
8- التركيز على التراكيب، وأساسيات بناء الجملة.
9- اعتماد طرق علمية في عملية التلقين خارج الطرق التلقينية العتيقة. ويتمثل هذا في:
 التعبير بشكل حرّ عمّا يعيشه كل متلقٍّ في بلده باللغة العربية بشكل متداول بين المتلقين.
 اعتماد الصور والوسائل السمعية البصرية، قبل الوصول إلى المستوى التجريدي.
 التركيز على التدريبات الشفوية فالكتابية.
 تكليف المتلقين بإنجاز الأعمال بشكل مستمر"(12).
3 - كيف يمكن أن تكون العربية في المناطق التي تحمل الخصوصية اللغوية؟.
إنّ هذه الظاهرة ليست متفشية في الجزائر، باعتبار أنّ التعريب مسّ كل أقطار الوطن، ولا توجد أعراق لغوية، بل توجد مناطق جغرافية لها تميّز لغوي، ونتيجة شساعة أرضنا توجد الطبيعة الجغرافية المختلفة التي تستدعي التعامل اللغوي الخاص في بعض الأنماط التعبيرية فقط. وأمام هذا التنوع اللغوي يكون بلدنا ميداناً فسيحاً للبحث اللغوي، فكان من الأحرى الاعتراف بخصوصيات كل منطقة شرط لا غنى عنه لإقامة تبادل ثقافي غني، بل إنّ الخصوصيات يجب أن تراعى في المنظومة التربوية؛ حيث يكون ذلك حافزاً للقيام بالدراسات العلمية من الوصف الكامل للواقع الجزائري اللغوي من عربية فصحى ودارجة وبربرية وفرنسية وصفاً علمياً موضوعياً دونما تحيّز للغة دون أخرى، وصف لما يجري استعماله في الواقع في تلك اللهجات أو اللغات البربرية أو اللغة الفرنسية وتحليلها لسانياً، ودراسة القواسم المشتركة وقضايا التأثير والتأثر. ويحصل كل هذا بأبحاث تطبيقية تتمثل في وضع المعلومات والنتائج المحصل عليها أثناء القيام بالوصف، وتقديم كراسات تخص العربية ولهجاتها والبربرية والفرنسية؛ للوصول إلى دراسة مظاهر الازدواجية والاحتكاكات اللغوية. وهذا العمل يدخل في تأصيل اللغة العربية؛ حيث تكون مواجهة مشكلاتها بالتشخيص وتقديم الحلول إثر ذلك كما يساعدها ذلك على تنمية اللغة العربية الموظفة عفوياً في كل اللهجات أو في غيرها. وتقوم هذه الدراسات كذلك لبيان مستوى العربية الفصيح ومستواها المستعمل الشائع، فيمكن اتّخاذ القواسم المشتركة قومياً للرفع من مستوى بعض من الدارج، وهكذا يكون التعريب في هذا المجال وسيلة اجتماعية تمكننا من الاتّكاء على القديم الفصيح للوصول إلى الفصيح الحديث، ونخرج بها من المتحفية التي تعيشها في الكتب ويلتجأ إليها في المناسبات. والتعريب لا يتعارض في هذه النقطة مع دراسة اللهجات؛ لأنّه انفتاح على كل اللغات، بل إنّ العاميات أو اللغات المحلية واقع يستعمل بل له نصيب أكثر من العربية فلماذا نتهرب من الواقع ونغمض أعيننا عن واقع كان عن لغة يوظفها المختصون في أكثر أوقاتهم وهم ينادون بالتعريب، ولماذا تترك هذه اللغات أو اللهجات للمستشرقين يبلغونها لنا حسب مناهجهم وأغراضهم، بل قد تصل إلينا مشوهة، وتخلق حساسيات في القطر الواحد. ويصاحب هذا تلك الأبحاث في الواقع السوسيو اجتماعي؛ حيث تراعى الفروق الاجتماعية والثقافية بين المناطق وذلك ما يعطي الزركشة التاريخية والعلمية للوطن الواحد، وجماله وتوحده في تلك الفسيفساء المتكاملة. ولا يجب أن تكون العقدة من أمثال تلك الدراسات، وبقدر ما يكون منع البحث فيها بقدر ما تحصل الخلافات الجهوية.
4- كيف يحصل التعريب اللساني والثقافي والاجتماعي؟.
هنا لا بدّ من وضع استراتيجية للدفاع عن ثقافتنا بمنطق وعمل، وتحدد في هذه الاستراتيجية أهداف مضبوطة ومحدّدة، يكون فيها برنامج لترقية اللغة العربية؛ لأنّ المشكلة التي تعانيها أساساً اللغة العربية ليست في تعميمها فقط، وإنّما في نوعية ما تقدمه هذه اللغة في العصر الحاضر. وهذه الاستراتيجية تأتي عن طريق الإعلام والاتصال، وهنا تبرز المعرفة كعنصر أساسي في وجود الإعلام الثقافي في حد ذاته.
ومن هنا يلزم تضافر الآتي:
1- إصدار القرارات الضرورية التي تقوم االعملية التعريبية، والنظر إلى الهدف من القرار لا إلى إجراءات القرار. والعمل بمبدإ الصرامة والمتابعة، بمبدإ العقاب. وعملية التعريب يشرف عليها الجزائريون المعربون دون غيرهم.
2- التعريب يكون مرحليا لا جزئيا؛ حيث يتمّ فيه تحديد مخطط سنوي لمراحل التعريب وتطبيقاته، وتحديد استراتيجية واضحة المعالم، ويكون مشروعاً طويلاً تحكمه خطط صارمة، ويقوم على أرضية صلبة وبتضافر كل الجهود.
3- التقويم عقب كل خطوة للحدّ من الأخطاء التي لا شك أنّها ستنجم عن هذه العملية. كما أنّ التقويم نسبي، فيحتاج إلى تحريك كلما دعت الحاجة.
4- التركيز على وسائل الإعلام لتلعب دور الموجه لعملية التعريب، ولكي يحقق الإعلام وظائفه لابدّ من وجود سياسة ثقافية موحدة تقوم على استراتيجية واضحة وملائمة ومنصهرة في إطار التنمية الشاملة التي تقود إلى التقدم؛ حيث تصاحبها خطط التنمية كبعد أساسي خاصة في هذا الظرف الذي برزت فيه التحديات على المستوى الإعلامي والثقافي، ومن هنا كان من الضروري تجنيد وسائل الإعلام لخدمة قضايا التعريب، وبواسطته تستوعب مكتسبات الحضارة الغربية للدفاع عن الذات الثقافية وفي هذه النقطة كذلك نحتاج إلى إنجاز الطرائق البيداغوجية لتعليم العربية، ووضع البرامج باللغة العربية في كل وسائل الإعلام، على أن تكون وسائل الإعلام السند الأساس في كل عملية تخطوها العملية التعريبية. إنّ نشر العربية وتعليمها داخلياً وخارجياً هو عمل متّصل بالمسؤولية العامة، وجعلها في مقام لغة المتلقي أو أكثر في كل من: برامجها، مناهجها، وسائلها.
5- الجامعة المسائية، ومراكز تكثيف اللغات. وأقترح في هذه النقطة أن تحوّل الجامعة المسائية ومراكز تكثيف اللغات إلى مراكز تعميم استعمال اللغة الوطنية، فقد أثبتت الجامعة المسائية فشلها أخيراً في نوعية المردود العلمي الذي تقدمه، عكس السنوات الأربع الأولى التي كانت تتماشى نوعاً ما مع المتطلبات العلمية. ففي دراسة أجريتها عام 1994م في مركز تيزي وزو، تبيّن لي العجب؛ حيث وجدت أن الراسبين والملفوظين من الثانويات، يقضون مدة أقل بكثير مما كانت عليه الجامعة العادية، دون النظر في المحتوى والتوقيت والمنهاج ونوعية الأساتذة… وهذه كارثة. جامعة ليلية تعطي شهادات علمية دون مردود علمي مقبول، بل شهادات من أجل الترقية في المنصب لا في العلم، وخاصة لما تحوّلت إلى التكوين قصير المدى.
وأما مراكز تكثيف اللغات فهي مراكز لا وجود فعلي لها في كثير من الجامعات ولا وظيفة علمية يؤديها بالشكل العلمي المقبول. وأملك أدلة علمية حول الجهود والأموال التي تضيع، دون مردود علمي، من قبل هذه المراكز. وقد اقترحت صيغة التحويل نظراً لما يتوفر من إمكانات مادية وبشرية. وفي هذه النقطة يمكن لمركز تعميم استعمال اللغة العربية أن يباشر مهامه على مستوى الجامعات دون مصاريف مكلفة، بل تكيّف تلك الإمكانات وتسخر لخدمة اللغة العربية.
وأخيراً، ليس الذي قلته هو الكلام النهائي، فأمامنا الطريق طويل، ونأمل أن يتواصل الجهد ويتّصل البناء، فنحن في زمن التجمعات الإقليمية، فعلى الدول العربية أن تتجمّع وتعمل من أجل تطوير لغتها من منطلق حضاري إنساني، بوضع سياسة قومية على أعلى مستوى في الداخل والخارج، لتعميم استعمال العربية؛ سياسة لغوية صحيحة تدعمها القرارات الرسمية، دون تأجيل يذكر أمام التأخر المسجّل على الساحة العالمية؛ فالقطار لا ينتظر، وذلك قبل أن تصبح العربية لغة هامشية، تذكر في المناسبات الدينية فقط، وتترك الحرية كاملة في الأبحاث العلمية أن تكون بأية لغة كانت؛ حيث إنّ البحث لا تحده الحدود ولا تقبره اللغة، رغم أنّ اللغة صنوه وجوهره، لكنّ الأهم في كل هذا أنّه متى وقع الاهتمام بالترجمة لا شكّ أنّ الفائدة تكون. وكذلك الإعلام الآلي الذي يجب أن يبقى باللغة الأجنبية في الظروف الحالية لعاملين اثنين هما:
* عامل لغة الإعلام الذي يعتمد لغة علمية عالمية، هي لغة الآلة، وهي لغة برمجة لم تدخلها العربية بالشكل الذي تستطيع فرض نفسها، والفريق العربي الذي يعمل الآن في شركة الميكروسفت يترجم المناطيق Logiciels والبرامج من الإنجليزية فقط، وحتى هذه الترجمة ناقصة جداً، فكثير من الأيقونات نجدها فارغة، ولم يستطع هذا الفريق إملاء تلك الخانة بما يتلاءم وطبيعة الأيقونة، ونفس الشيء في اللغة الفرنسية التي تترجم من الإنجليزية، لكن نجد الحدة أقلّ من العربية، لأن الفرنسية تتوفر على المعطيات العلمية الدقيقة التي أوجدتها بنوك المصطلحات (شبكات، أنماط، هياكل، أشكال، نماذج).
** اللغة الإنجليزية هي المهيمنة على هذا الميدان بواسطة الإشارات والمختصرات وأنماط لوغاريتيمة لا يمكن تحقيقها في اللغة العربية حالياً، ولا يعني ذلك أنّ التفكير في هذا الأمر من الصعوبة بمكان، بل أعرف مسبقاً أنّ مجرد البحث في الموضوع سيؤدي إلى ترجمة أنماط اللغة الإنجليزية ومحاولة إخضاع العربية لها، لا تكييف تلك الأنماط على العربية، فنكون قد خسرنا الجهد. لكي نثبت وجودنا على ساحة الحضارة يجب أن نبدع لا أن نقلد. لأنّنا في العصر الحاضر -كما رأينا- بحاجة إلى عربية متطوّرة تتماشى ونمط التطور العلمي الحاصل في مختلف أنماط السلوك الإنساني، وكذا في الأسلوب العلمي الذي يحتاج إلى اختيار دقيق للكلمات واستعمال موفق، فهل استطاعت العربية الآن أن تجتاز مرحلة الاجترار، وإلى أي حدّ تصل درجة قابليتها للتطور السريع، وهل تتوفر العربية على بنوك المعطيات التي تسهل عملية التصنيف والإحصاء، وندرك أنّنا الآن نعمل بمناطيق اللغة الإنجليزية التي قد تنطبق أحياناً على العربية، وأحياناً لا تنطبق على كل خصوصيات لغتنا. وهذا ما يمكن أن تسفر عنه الأبحاث الخاصة بتذليل هذه الصعاب، وعند ذلك يمكن أن ندخل هذا الميدان، ونساهم في الخلق والإبداع.
وهناك مسألة جديرة بالإثارة في هذا المجال؛ حيث تعرضنا لمسألة الإعلام الآلي ونعرف أنّ من لم يمتلك أدواته فهو أمي العصر، واللغة التي لم تدخل مرحلة المساهمة فيه لغة متخلفة. واللغات التي لها الفعل الحضاري في هذا المجال هي اللغات التي تملك بنوكاً من المعطيات؛ والتي بواسطتها تسهل كل أمور البحث اللغوي والمعجمي والتصنيفي… فهل اللغة العربية حالياً تتوفر على بنوك المصطلحات التي تسهل لها عملية المساهمة في الإنجازات المستقبلية؛ حيث تثري بنوك المعطيات العالمية ويكون لها إسهام فعلي!. نعرف أنّ البنوك البسيطة التي تملكها اللغة العربية قليلة، يوجد في سوريا بنك، وفي المغرب بنكان، وفي الجزائر بنك واحد. وهي بنوك معطيات، وأنا على علم بما تقدمه؛ إنها بنوك عتيقة وتحوي معلومات تراثية، ولم تنل المعلومات العصرية فيها حظاً يذكر، بل إنّ ما يوجد فيها مشوش وناقص لغياب المناطيق المعربة الخاصة باللغة العربية، فهي تعمل بالمناطيق التي أوجدت للغة الإنجليزية. فهل يمكن أن يكون لنا إسهام فعلي في هذا الميدان الذي أصبح العالم فيه قرية صغيرة، حيث الآلاف من المعلومات تسجل في قرص صغير؛ وتستطيع استرجاع ما فيه والحصول على آلاف المعلومات في أقل من لمح البصر. هذا هو ميدان الاستثمار الذي يجب التركيز عليه في اللاحق من أعمالنا، كي لا يكون لنا تخلف أكثر مما نعيشه، ولا يعني هذا أن نكون مثل الدول المتقدمة في هذا المجال، بل نسعى إلى أن يكون لنا وجود باستغلال هذه التكنولوجية وتكييفها مع خصائص لغتنا، ولا مانع من أن نقتبس أنماطاً أو أفكاراً أو خططاً ونكيّفها حسب لغتنا وظروفنا، وهذا ما يُعمل به في كثير من اللغات التي تعتبر حيّة من المنظور العرقي.
فيا له من نقص فظيع ونحن لا نشاهد العربية في الأنترنت الدولي وفي الهواتف والاتصالات الخاصة، وفي الميادين التكنولوجية، وهي لا تتطلّب إلا قضية التعريب في مبدإ الأمر. يتعجب الإنسان من اللغة العربية التي لها مجد أثيل وليس لها من يقوم على تغيير وضعها، وتدفعه الغيرة لأن يعمل من أجل رقيها دون هوادة. وهذا لب الحديث في هذا العصر، فإذا أردت أن يكون لك وجود فاثبته بلغتك، والعالم لا يستمع لمن يتكلم لغة غيره. بل إنّ العالم الآن يعتمد لغة الإشارات والإعلام الآلي وهي اللغة العالمية العلمية (لغة الآلة) ولا وجود لعالم يبقى متخلفاً عن هذا. فالحاجة جدّ ماسة إلى إدخال العربية في المعلوميات، وتصنيف التراث والمصطلحات القديمة والحديثة وتخزين الجذاذات باستغلال أنظمة الإعلام الآلي المتطورة، ونعرف أنّ الطريق طويل لكنّه غير مستحيل، طريق لا بدّ أن يعبر بمساهمة الجميع وتضافر جهود الكل، جهود الذين يريدون بناء مستقبلهم على أسس ثقافة أسلافهم بكيفية تضمن الهوية الثقافية التي لا تقدر بثمن، للمرور إلى المعاصرة. ومن هنا يجب على المؤسسات التي بدأت في مشاريعها إتمام أعمالها؛ حيث ننتظر من الفرق العاملة في معهد الأبحاث السوري ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب ومكتب تنسيق التعريب والمنظمة العربية للمواصفات والمقاييس أن تذلل الصعوبات في هذا المجال، ليتم الانتقال من المعطيات الأوربية إلى المعطيات العربية.
وأختم كلامي عن هذا الموضوع بصرخة الأستاذ شحادة الخوري الذي يستصرخ المعنيين ويقول: أين نحن العرب من:
1. "ازدياد الاهتمام بالبحث العلمي في الجامعات والمعاهد والمراكز المتخصصة وزيادة الإنفاق عليه بوصفه استثماراً ممتازاً.
2. التوسع في التخصص العلمي والثقاني والتشعب فيه، واختفاء الأعمال القائمة على الجهد العضلي والأعمال غير المتخصصة، وازدياد التوسع في أعمال التأهيل والتدريب بصورهما المختلفة.
3. التوسع في الأتمتة واستخدام الإنسان الآلي مما يقلل من ساعات العمل البشري وازدياد ساعات الفراغ، وحصول بطالة في أعماله وفي أعمال أخرى مع تبدلات واسعة في العلاقات الإنسانية"(13).

الهوامـش
1. شكري فيصل "قضايا اللغة العربية المعاصرة" المجلة العربية للدراسات اللغوية. الخرطوم: معهد الخرطوم الدولي للغة العربية، المجلد الثاني، العدد الأول، أغسطس 1983، ص9-36.
2. اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي، جلبير غرانغيوم، ترجمة: محمد أسليم. المملكة المغربية: مكناس، الفارابي للنشر، 1995م ص82.
3. يستعرض الأستاذ: أحمد نوفل في مقال له عنوانه "من تجارب التعريب في بعض الجامعات العربية” تجربة التعريب في الجامعة السورية، فيقول: مرّ التعريب على المراحل التالية:
 مرحلة التدريس باللغة الإنجليزية بوجود أساتذة أجانب.
 مرحلة التدريس باللغة الأجنبية بوجود أساتذة عرب.
 مرحلة التعريب الشامل.
 وضع مشاريع التخرّج قبل التعريب وبعده.
ويخلص تعقيباً على هذه الحملة التعريبية: لقد جرى تطبيق التعريب على الرغم من عدم وجود توافر الكتاب وعدم وجود معجم موحد للمصطلحات العلمية ونجحنا. واعتمدنا على الذات وعلى جهود أعضاء هيئة التدريس والطلاب معا وحققنا أفضل النتائج، استنتجنا أنّ التعريب يعود بالفائدة العلمية على الطلاب فهو يرفع من مستواهم العلمي ويغنيهم في المعرفة والاطلاع ويجعلهم أكثر تفاؤلاً بالمستقبل ويزيد من ثقتهم بأنفسهم. إنّ التعريب قرار وطني تقتضيه مصلحة الأمة ومستقبلها لأنّه يعمل على استلام زمام المبادرة والتخلص من التبعية الثقافية وعلى الجهات السياسية الحرص على تنفيذ التعريب في الجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحوث ودعمه مادياً ومعنوياً عن طريق صرف المكافآت لأعضاء هيئة التدريس ومنح ترقيات للمبدعين. ليس التعريب معناه الاستغناء عن اللغة الأجنبية، بل يجب أن يرافق التعريب تدريس اللغة الإنجليزية مادة ليبقى الطالب على اتّصال بالآخرين ويعرف ما يدور حوله، وما هو الجديد على الساحة العلمية العالمية. ع/مجلة التعريب سوريا: المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر، العدد 6، كانون الأول (ديسمبر) 1993.
4. نجاة عبد العزيز المطوع "آفاق الترجمة والتعريب" مجلة عالم الفكر - العراق: المجلد التاسع عشر، العدد 4/يناير-مارس 1989، ص8.
5. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الخطة القومية للترجمة. تونس1985.
6. محمد حافظ دياب "الترجمة وأسئلة النهضة العربية"، مجلة الوحدة. المغرب: المجلس القومي للثقافة العربية، السنة السادسة، العدد 61-62، أكتوبر / نوفمبر 1987، ص42.
7. محمد عيد، الملكة اللسانية في نظر ابن خلدون. القاهرة: عالم الكتب 1979، ص121.
8. جميل الملائكة “جوانب الدقة والغموض في المصطلح العلمي العربي الحديث". مجلة همزة الوصل. الجزائر: وزارة التربية الوطنية 1975م، العدد 6 (عدد خاص) تغطية أعمال مؤتمر التعريب 12-20 كانون الأول (ديسمبر) 1973، ص200.
9. شحادة الخوري "اللغة العربية والتقدم العلمي والثقافي في الوطن العربي" مجلة التعريب. سوريا: المركز العرب للتعريب والترجمة والتأليف والنشر، العدد الأول آذار (مارس) 1991، ص38.
10. حمادة ابراهيم، الاتجاهات المعاصرة في تدريس اللغة العربية واللغات الحية الأخرى لغير الناطقين بها. القاهرة: دار الفكر العربي 1987م، ص13.
11. تمام حسان " نحو تنسيق أفضل للجهود الرامية إلى تطوير اللغة العربية". مجلة همزة الوصل الجزائر: وزارة التربية الوطنية 1975م، العدد 6 (عدد خاص) تغطية أعمال مؤتمر التعريب 12-20 كانون الأول (ديسمبر) 1973م، ص 114-149.
12. صالح بلعيد، في قضايا فقه اللغة العربية. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية 1995م ص270/292.
13. شحادة الخوري "اللغة العربية والتقدم العلمي والتقاني في الوطن العربي" مجلة التعريب. سوريا: المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر، العدد الأول، آذار (مارس) 1991، ص32.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق