الاثنين، 27 يناير 2014

مبادئ لسانية في التراث النحوي العربي كتاب الخصائص لابن جني

مبادئ لسانية في التراث النحوي العربي كتاب الخصائص لابن جني- نموذجا مقاربة تأصيلية في ضوء المنهج البنوي الأوربي

كمال قادري
تأتي أهمية الحديث عن مظاهر التقابل بين التفكير اللساني عند علماء العربية وعند علماء اللسانيات البنوية من الأوربيين، لرصد جهات التقارب والاختلاف بينهما في الأسس والمبادئ. ولعل كتب أصول النحو، في تراث العربية، هي خير ما يمثل هذا المجال، ويقرب الصورة التقابلية أو المقارنة بينهما، لما تناولته من أصول تم من خلالها استقراء كلام العرب واستنباط قواعده. فكانت بمثابة الأسس التي استند إليها التفكير اللغوي، عند العلماء، والمبادئ التي تحددت من خلالها موضوعات النحو ومسائله، وتبنيت معالم منهجه.
L importance  primordiale que revêt  l'étude des aspects d antithèses se situant entre les pensées linguistiques des savants Arabes et les linguistiques structurales Européennes s'inscrit dans le cadre de rassembler les divers aspects de convergence et de divergence entre les deux courants. Le patrimoine Arabe en la matière est très riche, et diversifie, et peut assurer amplement des études comparatives dans le domaine. A ce propos l œuvre  d'Ibn djinni «ElKhassaiss» occupe la place prépondérante dans ce genre d'études linguistiques
النحو العربي-النشأة والمنهج:
مصطلح النحو:ظهر مصطلح (النحو)منذ وقت مبكر من بداية الاهتمام بالظاهرة اللغوية على يد أبي الأسود الدؤلي (ت69هـ) استنادا إلى مقولة:انح هذا النحو، إلى جانب عدد من المصطلحات التي سادت خلال القرن الأول الهجري:العربية، والكلام، واللحن، والإعراب والمجاز. وقد أخذ استخدامه في الانتشار مع بداية القرن الثاني الهجري على يد عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي(ت117)بالمعنى الاصطلاحي الذي ساد خلال القرون اللاحقة في مقولته المشهورة ليونس بن حبيب:"عليك بباب من النحو يطرد وينقاس"والتي تشير أيضا إلى ريادته في التأسيس للأصول النحوية، من سماع وقياس وتعليل[i]؛ بحيث هيمن استعماله على باقي المصطلحات، ثم تكرست دلالته العلمية على يد الخليل، ولقي استحسانا على ألسنة دارسي العربية بعد ذلك من قدماء ومحدثين.
وهورغم ما في لفظه من سهولة ويسر، وفي دلالته من وضوح وجلاء، في ثقافتنا العربية إلا أنه لا يخلو من غرابة في الوضع الاصطلاحي؛ حيث إن معانيه المعجمية لا تشير بأي حال من الأحوال إلى معنى العلم باللغة أو بشيء آخر منه، لتباعد الحقلين الدلاليين للفظي النحو والعلم.وفضلا عن ذلك فإن هذه المعاني لا يتوقع منها عند نقلها إلى لغة أخرى أن يكون من بينها التعبير عن العلم باللغة.
ومن هنا تبرز مسألة الفرق الجوهري بين مصطلحي النحو واللسانيات، من الناحية الموضوعية. وهو فرق يعود في الواقع إلى الأساس المعرفي لكلا المصطلحين، على اعتبار أن الأول شغل أكبر حيز في مساحة الاستعمال من تاريخ علوم العربية-وما يزال كذلك-بينما لم يستخدم الثاني إلا في العصر الحديث. وحتى إذا حاولنا المقارنة بين مصطلح علوم اللسان بمفهومه القديم ومصطلح اللسانيات فإن الفرق بينهما يبقى قائما، من الناحية المفاهيمية موضوعا ومنهجا.كما أن مصطلح علم اللغة الذي يضعه كثير من الدارسين المحدثين في مقابل اللسانيات يقتضي تحديد دلالته الاصطلاحية ضمن سياق استعماله لدى القدماء؛إذلم يكن يتجاوز غالباً العلم بمفردات اللغة، في مقابل مصطلح النحو الذيهو-غالبا- العلم بالتراكيب أو الجمل لديهم.
فابن فارس (ت395هـ)يقسم علم العربية إلى قسمين: أصل؛ وهو النحو. ويتعلق بالقول على وضع اللغة وأوليتها ومنشئها وعلى رسوم العرب في مخاطباتها، وما لها من الافتننان تحقيقا ومجازا. وفرع؛ وهو علم اللغة، ويتعلق بمعرفة مفردات اللغة من أسماء وصفات. وهو ما عبّر عنه أبوحيان(ت745هـ) بقوله: "والفرق بين علم النحو وبين علم اللغة أن علم النحو موضوعه أمور كلّية، وموضوع علم اللغة أشياء جزئية."[ii]
وقد كان لظروف نشأة النحو العربي، لدى علماء البصرة ثم الكوفة، أثره البالغ في تزايد الاهتمام بالعربية؛ حيث وجد معلمو القرآن الكريم والعربية أنفسَهم أمام تحدّيين كبيرين. أحدهما يتمثل في ظهور بوادر فساد السليقة العربية بانتشار اللحن على ألسنة العرب في الحواضر، وثانيهما مطلب تعليم الأعاجم العربية باعتبارها لغة الكتاب. ومن هنا ارتبط النحوالعربي في ظروف نشأته بجملة من العوامل. غير أن عامل اللحن، بوصفه ظاهرة لسانية، وباعتباره تغييرا وانحرافا عن مجاري العرب في كلامها يبقى أبرزها تأثيرا وأقواها تبريرا في نظر علماء العربية. فكان البحث في ميادين الفصاحة لتخليص التعبير من العجمة واللحن والفساد جراء تكاثر الظواهر الناشزة في اللغة.[iii]
معيار الاحتجاج ومفهوم الفصاحة:انطلاقا من ضرورة تحديد النص المرجعي في الاستدلال اللغوي من الناحية المنهجية راح العلماء يحددون بحذر شديد-بحكم اتساع رقعة اللهجات العربية-مقاييس الفصاحة في لغة الاحتجاج، لضبط آليات تدوين كلام العرب الذي كان يتداول مشافهة. وعليه تحدد مفهوم الاحتجاج اللغوي باعتباره إثباتا لصحة استعمال كلمة أو تركيب بدليل نقلي من القرآن الكريم، ومما صح سنده إلى عربي فصيح سليم السليقة.فارتبط بذلك مفهوم الاحتجاج بمفهوم الفصاحة، وتداخل معناهما في المنهج النحوي.
ذلك بأن مشكلة الفصاحة ظهرت في تاريخ العربية منذ أن تحسس العرب أخطار العُجمة واللحن تهدد لغتهم، فراحوا يتعقبون تلك الأخطار بتحصين العربية وحمايتها وفق معايير الفصاحة، وتمييز ما هو لحن أو دخيل أو أعجمي مماله الأصالة والنسب العريق.[iv]فالمعيار النمطي أخذ يضغط بثقله، من جهة، لمقاومة حركة التغيير، ويشدها بقوة ليمنع عن نظام اللغة أي تبديل، وراح من جهة أخرى، يحرص على تكريس هذه النمطية لأغراض التنشئة اللغوية اجتماعيا وتعليميا. وهو ما ينطبق على جميع الألسنة، في هذا الشأن، وتشهد له تعليمية اللغات.[v]
ويضاف إلى هذا عامل آخر له تأثيره العميق في العربية بشكل خاص هو الوازع الديني[vi]الذي جعل من الفصحى نموذجا مفروضا ومثلا أعلى يحتذيه كل كاتب عربي، حتى صار-كما يقول هنري فليش-من العسير بمكان أن تحصل على صورة واضحة للنمو والتطور(التغيير) الذي أصاب العربية ككل لغة حية.[vii]
تداخل الوصفية والمعيارية:نشأ النحو منذ البداية نشأة فيها قدركبير من التداخل موضوعاً ومنهجاً بين الوصفية والمعيارية، وفيها نزوع حاد نحو الاعتراض على الظاهرة الطبيعية للغة القائمة أساسا على مبدأ التغيير تبعا للصيرورة الزمانية.[viii]
ولئن أمكن لهذين المعيارين، في واقع الأمر، أن يحدثا أثرا جليا في الحد من ظاهرة اللحن، في أوساط الأفراد من المتعلمين، فإنهمالم يحدثا الأثر نفسه في مقاومة اندفاع اللسان اجتماعيا نحو التغيير الذي فعل فعله على المدى الزمني البعيد، وصولا بالعربية الفصحى إلى أواخر القرن الثاني الهجري في الحواضر وأواخر القرن الرابع في البوادي[ix]وزوالها من الاستعمال الاجتماعي تدريجيا بعد ذلك.
وقد بلغ علماء العربية بالنحو من الدقة والضبط في استنباط قواعد اللغة واستكشاف نظامها ما جعله يتحول من مجرد معرفة عامة إلى صناعة علمية محكمة، حين توفرت له خصائص العلم المضبوط، من موضوعية وانسجام وشمول؛[x]فتحددت أصوله بأواخر القرن الأول مع الحضرمي واتضحت معالم منهجه وتطبيقاته قبل نهاية القرن الثاني مع الخليل ويونس وسيبويه والأخفش والرؤاسي والكسائي والفراء وغيرهم. و"في كل ذلك لم يحتاجوا إلى كتب أجنبية ولا إلى ألفاظ ومصطلحات أعجمية".[xi]
 فالنحاة انطلقوا انطلاقة وصفية[xii]علمياً-وإن كان الهدف لديهم معيارياً في الأساس تقويماً وتعليماً-وبذلوا جهودا عظيمة في سبيل استكشاف نظام اللغة العربية في مختلف مستوياتها خاصة النحوي منها؛لأنه مدار الاهتمام في تمييز الخطأ من الصواب الذي استلزمه الانحراف الحاصل عن الجادة فيما عرف باللحن. وهو ما وثّق الصلة بين المعرفتين العلمية والتعليمية.   
ومما زاد من التباس مفهوم الوصفية بمفهوم المعيارية في نحونا العربي التداخل الصريح الذي حصل لدى النحاة بين المنهجين في استكشاف منظومة القواعد العرفية للغة وصفياً، وتحولها إلى آلية لضبط الصياغة اللغوية لدى المتكلمين العرب بغرض تقويم ألسنتهم معيارياً، وتلقينها للوافدين على العربية من الأعاجم تعليمياً. وهو ما صبغ النحو بصبغة المعيارية.
فاللغة بالنسبة للمتكلم منظومة عرفية اجتماعية ذات طبيعة معيارية-وهو ما يبرر عرفيتها في الأصل- حيث يستعمل المتكلم لغة المجتمع الذي نشأ فيه بالخضوع لمعايير اللغة في استخدام أصواتها وصيغها ومفرداتها وتراكيبها حسب أصول استعمالية معيّنة يحذقها بالمشاركة في التخاطب ويمرن عليها ويطابقها دون تفكير في جملتها أو تفصيلها؛ لأن الغرض لدية هو مطابقة العرف اللغوي عن طريق صحة الاستعمال، وسلامة الأداء.
غير أن الموقف بالنسبة للنحوي مختلف تماما؛ إذ الغرض لديه هو فهم طبيعة اللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعية لابد أن تدرس بالملاحظة والاستقراء ثم استنباط القواعد التي تتحكم في إنتاج الكلام اعتمادا على النماذج الفردية للمتكلمين، مما يجعل جوهر العمل لديه وصفيا بطبيعته. وعلى أساس من هذا فإن شبهة المعيارية التي وسم بها نحونا العربي منذ بدايته مردها موضوعيا إلى الأمرين اللذين ذكرناهما سابقا، وهما مطلب علاج مشكلة اللحن، ومطلب تعليم الأعاجم العربية، ويضاف إلى ذلك مسألة الخلط منهجيا بين عمل المتكلم وعمل النحوي. ومع ذلك فقد قدم أوائل النحاة وصفا دقيقا لنظام اللغة العربية اعتمادا على الاستقراء؛ لأنهم تعاملوا مع الشواهد، بينما تعامل المتأخرون مع القواعد. (أصول تراثية في اللسانيات الحديثة15)وهو ما زاد من مسألة الخلط بين الآراء العلمية والآراء التعليمية المتقدمة والمتأخرة.
اللغة بين الثابت والمتغير: والواقع أننا لو تتبعنا مواضع اعتراض النحاة على كلام المتكلمين، بما في ذلك عصر الاحتجاج النحوي، فإننا سنجد أن المعايير التي استندوا إليها كانت في كثير من جوانبها نسبية تفتقد إلى صفة الشمول بل والعموم الذي تقتضيه صناعة النحو ذاته. ومرد ذلك إلى عدة أسباب منها ما هو منهجي كالاعتماد على الاستقراء الناقص، وتعدد اللهجات العربية واتساع رقعتها، فضلا عن طبيعة النظام اللغوي الذي يقوم على جملة من الثوابت والمتغيرات. فالثوابت أطر دائمة لا غنى للنظام عنها؛ لأنه لا يقوم بدونها، وأما المتغيرات فلا تتصف بالدوام، وإنما تخضع لظروف تدعو إلى تحوّلها في حدود أطر الثوابت وبشروطها.
ويمكن حصر ثوابت النظام النحوي العربي في أمور ثلاثة هي: (أمن اللبس في المعنى)و(طلب الخفة في المبنى)و(الاطراد[xiii]أو التعميم:وينتج عادة عن اجتماع العاملين الأولين). فإذا لم يتحقق ذلك يتم اللجوء إلى مبدأ العدول عن الأصل، وعنه تنبثق المتغيرات التي حفلت بها كتب النحو. ويتضح جليا من خلال النظر في قواعد النحاة وبشكل خاص التعليمية منها، مدى حرصهم وتمسكهم بمبدأ الاطراد في سبيل تحديد نظام اللغة العربية ضمن إطار الثوابت، وبعيدا عن مظاهر الاختلاف التي تفرزها المتغيرات التي تدعو إلى التقعيد للرخص والشواذ والضرورات؛ ولذلك أحاطوا هذا المبدأ بجملة من الأصول الفرعية، كأصل الوضع، وأصل القاعدة، وأصل الاشتقاق وأصل القياس، ومراعاة الأولى، والوجوب والجواز، والاتساع، وغيرها.
ومع ذلك فإن مظاهر موافقة الكلام لمتطلبات النظام بثوابته المحكومة في تصورهم بمعيار الصواب لم تعبّر عن عمق المعالجة النحوية لدى النحاة بقدر ما عبّرت عنه معالجتهم لمظاهر متغيرات العدول والمخالفة المحكومة بمعيار الخطأ.[xiv]وهو ما تدل عليه محاولاتهم المستميتة لتعليل هذه المخالفات وتبريرها بسيل من المسوّغات والاستثناءات بهدف إعادتها إلى حيز الصواب وإبعاد شبهة اللحن والخطأ عنها، فضلا عن إقرارهم بسعة العربية وغزارة ألفاظها، واختلاف مسالك القول فيها، بما جعلهم يخلصون إلى مقولة أن من عرف لغة العرب لم يكد يخطّئ أحدا.
فعلم العربية نبع من القرآن الكريم ولأجله فهماً وأداء -باعتباره نصا مقدسا وهو-لسانيا-خطاب موجه للعالمين كافة بلسان عربي مبين، بل وداعيا للتحدي اللساني بإعجازه لفظا ومعنى-إلا أن ذلك لم يمنع من الاهتمام باللغة في ذاتها ولذاتها في ثنايا الدرس اللغوي وكان من أبرز مظاهرها التفريق بين الفصيح وغير الفصيح، والمفاضلة بين لغات العرب مما يحتج به وما لا يجوز الاحتجاج به. أما اللسانيات فقد نبعت من الاهتمام باللغة في ذاتها ولذاتها، ودون مفاضلة بين لهجات اللغة الواحدة أو التمييز بين جيّدها ورديئها ومنطلقة من المكتوب إلى الملفوظ.
وقد تطرق اللغويون والنحاة والأصوليون لهذه المسألة في سياق معالجتهم لقضية اللفظ والمعنى، بحيث لم يختلفوا بشأن  الاصطلاح في وضع الألفاظ المفردة بإزاء المعاني في اللغة؛ لأنها أيسر وأفيد وأعم[xv]في التعبير عن حاجات الإنسان المادية والمعنوية، ولكنهم اختلفوا في المركَّبات أهي اصطلاح أم لا؟وقد نقل السيوطي في المزهر بعض آرائهم.
فمذهب الزركشي والفخر الرازي أن المركّب ليس بموضوع؛ لأن واضع اللغة لم يضع الجمل كما وضع المفردات، وإلا لتوقف استعمال الجمل وفهم معانيها على النقل عن العرب كالمفردات، ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجمل ويودعوها كتبهم كما فعلوا ذلك بالمفردات.
وذهب ابن مالك إلى أن دلالة الكلام (التراكيب)عقلية لا وضعية. فلو كان الكلام دالا بالوضع لم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نُسبق إليه، كما لم نستعمل في المفردات إلا ما سبق استعماله.
وذهب أبو حيان إلى أن التراكيب كالمفردات في الوضع. والأمور الوضعية تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان. ويعزى لابن الحاجب القول بأن العرب حجرت في التراكيب كما حجرت في المفردات، واستدل على ذلك بقرينة التمييز بين الخطأ والصواب في الكلام. فمن قال:إنّ قائم زيدا، فليس من كلامنا، ومن قال:إنّ زيدا قائم، فهو من كلامنا. ومن قال:في الدار رجل، فهو من كلامنا، ومن قال:رجل في الدار، فهو ليس من كلامنا، إلى ما لا نهاية له في تراكيب الكلام. وذلك يدل على تعرضها بالوضع للمركّبات. وليس الغرض من الوضع هنا إفادة المعاني المفردة، بل إفادة المركّبات والنّسب بين المفردات، كالفاعلية والمفعولية وغيرهما؛ إذ يفسر الزركشي ذلك بأن العرب وضعت أنواع المركّبات، أما جزئيات الأنواع فلا؛ فوضعت باب الفاعل لإسناد كل فعل إلى من صدر منه، أما الفاعل المخصوص فلا. وكذلك باب (إن وأخواتها)أما اسمها المخصوص فلا. وكذلك سائر أنواع التراكيب. وأحالت المعنى على اختيار المتكلم. وهذا ما يفسر قولهم بأن دلالة التراكيب على معانيها عقلية لا وضعية. فمن عرف مسمى(زيد)وعرف مسمى (قائم)وسمع(زيد قائم)بإعرابه المخصوص فهم بالضرورة معنى هذا الكلام، وهو نسبة القيام إلى زيد. ومن هنا يغلّب أكثر اللسانيين مبدأ وضعية واصطلاح التراكيب بما يعني عرفية اللغة في مستوى المفردات والتراكيب؛ لأن للغة مجرى تجري فيه.
فاللغة بالنسبة للمتكلم منظومة عرفية اجتماعية ذات طبيعة معيارية-وهو ما يبرر عرفيتها في الأصل-حيث يستعمل المتكلم لغة المجتمع الذي نشأ فيه بالخضوع لمعايير اللغة في استخدام أصواتها وصيغها ومفرداتها وتراكيبها حسب أصول استعماليه معيّنة يحذقها بالمشاركة في التخاطب ويمرن عليها ويطابقها دون تفكير في جملتها أو تفصيلها؛لأن الغرض لدية هو مطابقة العرف اللغوي عن طريق صحة الاستعمال، وسلامة الأداء.
ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن مظاهر التقابل بين التفكير اللساني عند علماء العربية وعند علماء اللسانيات البنوية الأوربيين، لرصد جهات التقارب والاختلاف بينهما. ولعل كتب أصول النحو، في تراثنا، هي خير ما يمثل هذا المجال، ويقرب الصورة التقابلية أو المقارنة بينهما. ويأتي بهذا الشأن كتاب (الخصائص)لابن جني في مقدمة هذه الكتب، لخصوصية تصنيفه، وتميز تأليفه.
فهو كتاب أراده صاحبه-كما ورد في مقدمته- أن يكون في أصول النحو[xvi]على مذهب أصول الكلام والفقه. وهو أول كتاب اختص بجمع أشتات ما تناثر في كتب المتقدمين من أصول تم من خلالها استقراء كلام العرب واستنباط قواعده، فكانت بمثابة المبادئ التي استند إليها التفكير اللغوي، عند علماء العربية، والأسس التي تحددت من خلالها موضوعات النحو ومسائله، وتبينت معالم منهجه.
 وكما تشير إلى ذلك عبارات المؤلف، فإن هذا الكتاب هو حصيلة تجربة علمية عميقة كان ابن جني يدرك تماما أنه أقدم فيه على مجال علمي مختلف ومتميز مما عرفه العلماء من قبله فيما سميبـ (النحو)واستجابة ٌلإلحاح بعض طلابه، إذ يقول: "ثم إن بعض من يعتادني، ويلمّ لقراءة هذا العلم بي، ممن آنس بصحبته لي وأرتضي حال أخذه عني، سأل فأطال المسألة، وأكثر الحفاوة والملاينة، أن أمضي الرأي في إنشاء هذا الكتاب."الخصائص، ص3 في إشارة منه إلى أنه علم قائم بذاته. وقد وصف عمله فيه بقوله: "كتاب لم أزل على فارط الحال، وتقادم الوقت، ملاحظا له، عاكف الفكر عليه، منجذب الرأي والروية إليه... واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنّف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر... وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة." الخصائص، ص1. ولعل هذا ما يفسّر سبب تسميتهبـ (الخصائص).
وأخذا بالمبدأ العلمي في هذا الشأن فقد ذكر من سبقه في هذا المجال. كابن السراج في كتابه (الأصول في النحو)إذ يقول عنه: "وأما كتاب أصول أبي بكر فلم يلمم فيه بما نحن عليه إلا حرفا أو حرفين في أوله." (1/3)–وذلك رغم ما يبدو على عنوانه من تناول مسألة الأصول، حيث لم يحد فيه عن مسار أبواب النحو ومسائله الإعرابية المعهودة في كتب المتقدمين. وذكر صنيع الأخفش أيضا في المقاييس، على أنه كتيب صغير.
كما أن كتب النحو-على كثرتها، بل ووفرتها الغزيرة، في تراث العربية-لم تعرض لخصائص المنهج النحوي ومبادئه بقدر عرضها لقواعد النحو وأحكامه في أبوابه ومسائله التي أحاط بها الإعراب من كل جانب. وهو ما جعل ابن جني ينحو في تصنيفه له منحى مختلفا عما استنفد النحاة من قبله جهدهم فيه، وهو الإعراب؛ حيث يقول مبرزا خصوصية هذا اللون من التصنيف في عبارة يبدو عليها من الوضوح ما لا يحتمل التأويل: "وليكون هذا الكتاب ذاهبا في جهات النظر، إذ ليس غرضنا فيه الرفع، والنصب، والجر، والجزم؛لأن هذا أمر قد فُرِغ في أكثر الكتب المصنّفة فيه منه. وإنما هذا الكتاب مبني على إثارة معادن المعاني، وتقرير حال الأوضاع والمبادي وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي."[xvii]
فهو لا يريد لكتابه هذا أن يكون كسائر كتب النحو المعتادة؛ حيث عرض فيه لجهات النظر في جوانب التفكير اللغوي، ونأى به عن الانغلاق على الظاهرة الإعرابية التي استقطبت أكثر جهود النحاة في علم العربية، وكان الغرض منه جليا بإثارة مسألة قوانين وأوضاع مباني اللغة ومعانيها التي عبّر عنها بالأوضاع والمبادي في إشارة إلى البحث في الأصول والأسس والمبادئالتي توزعتها أبواب الكتاب.
       ومن هنا يأتي عملنا هذا ليكشف عن جانب مهم من جوانب التفكير اللغوي في تراث العربية. فقد كان لهذا الكتاب أثره البارز والمميّز في مصنفات الأصول من بعده، بدءا ب:لمع الأدلة في أصول النحو، والإغراب في جدل الإعراب للأنباري (ت577)(ت577هـ)ومرورا ب:المغني لابن هشام (ت761)في بابه الثامن، ووصولا إلى:الاقتراح في أصول النحو وجدله للسيوطي(ت911)الذي اكتملت فيه صورة هذه الأصول ملخّصة في مجملها أسس ومبادئ التفكير النحوي بشكل خاص، والتفكير اللساني العربي بشكل عام، والتي يضع كثير من الدارسين المحدثين-استنادا إلىبعض مفاهيم النظريات اللسانية الحديثة ومصطلحاتها-استفهاما بشأنها، ففي غياب النصوص التي تحدد الأطر النظرية للعمل النحوي خضعت هذه المسألة لاجتهادات هؤلاء الدارسين جنح فيها كثير منهم للإنكار تعسفا وإجحافا بحقها. مع العلم بأن اللغات جميعها-كما قال ابن جني نفسه-متماثلة في اشتراك العلوم اللغوية واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها، (1/243)
بين النحو واللسانيات:
يربط الدكتور المسدي بين اللسانيات والنحو بشكل لا يعبر في حقيقته عن اتصالهما ولا عن انفصالهما؛ إذ يقر بأن النحو أسبق إلى اتخاذ اللغة مادة للعلم من اللسانيات وإن شاركته فيها، ولكن بمنهج مختلف. وهو ما أكسبها شرعية العلم المستقل بذاته، فوجودها متوقف على وجوده؛ إذ لا معنى للبحث اللساني إذا لم يستنبط النحو نظام اللغة. غير أنه سرعان ما ينقض هذا الترتيب بقوله:النحو قائم على ما يجب أن يكون واللسانيات قائمة على ما هو كائن. ويضيف معتبرا النحو سفيرا للمعيارية اللغوية إلى الإنسان، بينما يمثل اللحن سوسيولوجيا اللغة، بخروجه عن النمط وتجاوزه للمرسوم وعدوله عن القاعدة السكونية إلى السنة المتحركة المتغايرة.[xviii]
ولا يخفى ما في هذا القول من مراهنة على الفرق الذي اصطنعه بين النحو واللسانيات، فضلا عن التجني على الواقع في الجمع بين مفهوم اللحن ومفهوم الخروج عن النمط والتجاوز والعدول وهي مظاهر لغوية مباحة في اللغة على تفاوت بين مستويي النثر والشعر عند علمائنا. كما أنها تختلف كليا عن اللحن بمفهومه المتعارف لديهم؛ حيث لم يجرؤ أحد من أئمة اللغة والنحو على نسبة العدول إلى اللحن، بل إنهم كانوا حريصين على تفسير مظاهره أوتعليلها أو تأويلها لتسويغها. ويزيد المسدي الطين بلة حين يذكر بأن قضية اللحن تعود في جوهرها إلى الإقرار بشذوذ الموقف المعياري من الظواهر الطبيعية المواكبة للغة، كما أن اللحن يمثل تشهيرا بنشاز التسلط التحكمي على حيوية المتكلم.بما يجعل اللسانيات إقرارا للنحو وتجاوزا له في الوقت نفسه.[xix]وهو كلام يثير العجب ويدعو للاستغراب حيث يصبح اللحن، وهو الخطأ، إقرارا بشذوذ الموقف المعياري الذي هو المطرد والصواب. وفي ذلك تجن واضح على الواقع اللغوي وعلى الحقيقة العلمية. وذلك رغم ما أبداه في الفصل الأول من كتابه محددا طبيعة اللسانيات باعتبارها تنبذ كل موقف معياري في اللغة، وتمسك عن التقييم وإصدار الأحكام مدحا أو قدحا، ولا تستند إلى تصنيفات الصواب والخطأ أو الحسن والقبح، ولذلك قام منهجها على المعاينة والوصف.
ومع أنه يذكر بأن حقيقة الوصفية والمعيارية قد خفيت عن فقهاء اللغة وعن كثير من اللسانيين أنفسهم-وهو واحد منهم- باعتبارهما مقولتين لا تنتميان إلى منطلق مبدئي واحد، ولا إلى نفس الحيز التصوري، فإنه ينسى بأن اللسانيات تعتمد على ما يقدمه لها النحو من وصف لنظام اللغة، علما بأن مساحة التغيير نسبية في جميع اللغات بما في ذلك العربية. وقد تصل بها مظاهر التحول والتغيير حد الاختلاف شبه الكلي عما كانت عليه في أصولها التاريخية كما هو الشأن بالنسبة لكثير من لغات العالم، بينما حافظت العربية الفصحى على نظامها القديم إلى اليوم بفعل الوازع الديني لوجود النص القرآني بلسانها، مما جعلها تحظى برعاية متميزة وعناية خاصة من المسلمين على اختلاف ضوابطها المنهجية التي تأسس عليها نحونا العربي، بمستوييه العلمي التجريدي والتعليمي التطبيقي، من الناحية النمطية المتمثلة في اللغة الفصحى التي هي مدوّنة الاحتجاج اللغوي والنحوي، وفي مقدمتها القرآن الكريم.
أما من ناحية الاستعمال الاجتماعي فقد خضعت العربية لما خضع له غيرها من اللغات من تغيّر وتبدّل طال جميع مستوياتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية، وتباينت لهجاتها بين عامية ودارجة على امتداد انتشار الناطقين بها في البلاد العربية. وعلى أساس من هذا ازدادت مسافة البعد بين النحو واللسانيات في الوقت الذي ازدادت فيه مسافة القرب بين فقه اللغة واللسانيات خاصة بالنسبة للعربية التي لا يكاد يشعر فيها الدارس بضرورة الحاجة إلى دراسة نحو العامية أو الدارجة لفقدان الدافع النفسي، وغياب القناعة بأهمية ذلك. وهو ما نلمسه لدى دعاة العامية من الدارسين المحدثين الذين يفتقدون لعامل الوازع الديني تجاه القرآن الكريم خاصة، في الوقت الذي اجتمع لنشأة النحو عند القدماء جملة من العوامل-كما ذكرنا-كل واحد منها بحد ذاته كاف لتبرير هذه النشأة.
وإذا كان هذا شأن العلاقة بين النحو واللسانيات في اللغة العربية فإن الأمر في اللغات الأخرى مختلف تمام الاختلاف بالنظر إلى طبيعة التأثير العميق الذي تحدثه فيها مظاهر التغير والتبدل؛ حيث يمكن للنحو أن يتتبع هذه المظاهر باعتماد المنهج الوصفي آنيا ثم المنهج التاريخي تعاقبيا في رصد مجمل هذه التحولات وتفاصيلها، ومرجع ذلك إلى سيادة لغة الاستعمال الاجتماعي المتغير وافتقادها للنمط الاحتجاجي الثابت والمستقر في هذه اللغات. وقد شهدت العربية هذا النوع من الاهتمام بمسارها الاستعمالي خارج دائرة الاحتجاج عند القدماء أنفسهم، وفي مقدمتهم ابن جني من خلال استئناسهم بأمثلة وشواهد من شعر أبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي.[xx]
ومن هنا يأتي مقالنا هذا ليلقي الضوء على مسألة مبادئ الدرس اللساني عند ابن جني الذي يعد من أبرز اللغويين الذين تركوا بصماتهم مخلدة في تراثنا العربي، وبخاصة كتابه المتفرد في تصنيفه:الخصائص.
فاللسانيات بمفهومها العلمي عند الدارسين المحدثين من البنويين تعنى باقتفاء النظام العلامي للغة في حركته الآنيةsynchroniqueوالتزامنية(التعاقبية)diachroniqueوفقا لمنهج وصفي في الأول، وتقييمي (تاريخي)أو منهج مقارن، في الثاني لمختلف جوانبها من صوت وصيغة وتركيب ودلالة. وكذلك النحو العربي باعتباره مصطلحا مقصودا به العلم بالعربية لا يختلف عن هذا المدلول إلا من جهة مبدأ الربط بين سكونية اللغة الآنية افتراضا، وبين حركيتها الزمانية واقعا.
فقد وجد علماء العربية أنفسهم منذ البداية أمام مفارقتين إحداهما موضوعية والأخرى منهجية تمثلتا في ضرورة الاهتمام برصد خصائص لغتهم في حركتها الآنية ضمن حدود زمانية ومكانية معلومة ليس في سبيل معرفة مظاهر التغير ضمن حركتها الزمانية بل على العكس من ذلك تماما، في سبيل الحيلولة دون حصول هذه التغيرات والوقوف عند آنية معينة، مدفوعين إلى ذلك بالخوف على العربية لارتباطها بالنص القرآني من حركية التغيير التي يمثلها الشطر الثاني من المعادلة اللسانية. وذلك في محاولة منهم لكبح اندفاع حركة التغيير فيها. وقد كان خوفهم في الواقع مبررا بطبيع عوامل التغيير التي طالت العربية. ذلك بأن ظاهرة اللحن التي لاحظوا زحفها على العربية كانت نتاج عوامل خارجية أي دخيلة على العربية، ممثلة في تكاثر العنصر الأعجمي في البيئة العربية، وتأثير ذلك سلبا على الواقع اللغوي. فالتغير إذا لم يكن بفعل عوامل داخلية، من صميم المجتمع العربي. ولذلك سارع العلماء إلى تدارك الأمر بجمع الكلام العربي وتدوينه قبل ضياع نسخته الأصلية المواكبة لنزول القرآن الكريم. فكان عملهم هذا شبيها بعمل المصوّر الفتوغرافي الذي يلتقط صوره في زمان ومكان محدّدين ليجعل منها شاهدا على الحال. فقد أرادوا للنسخة اللغوية الاجتماعية الاستقرار في الاستعمال كما استقر القرآن الكريم في التنزيل.
وقد يبدو سلوكهم هذا مخالفا للطبيعة وللمبدأ العلمي في اللسانيات، لكن الغرض لديهم كان مقصودا لذاته؛ إذ في الوقت الذي كانت فيه مجالس العلماء بمثابة ورشات كبرى من الناحية اللغوية، لتجميع أشتات كلام العرب المتداول مشافهة من ألسنة المتكلمين، وصياغة النمط النموذجي للغة العربية في إطار ما عرف بحملة تدوين اللغة، ومن الناحية المعرفية لاستنباط نظامها اللغوي، كانت عجلة التغيير تدور وتفعل فعلها في اللسان الاجتماعي. وهو ما جعل ظاهرة اللحن باعتبارها أبرز وأخطر مظاهر التغيير في اللغة تأخذ طريقها إلى اللسان العربي وتستشري فيه غير مكترثة بما كان يجري في حلقات الدرس لدى العلماء، وازدادت وتيرتها تسارعا إلى أن وصلت بالعربية إلى ما هي عليه اليوم، وستظل حركة التغيير مستمرة عملا بمبدأ التغير الطبيعي في الأشياء.
ويضاف إلى هذا حكم النحاة على اللحن، وهو مظهر من مظاهر التغير اللغوي بالسلبية، وهي نظرة قيمية لا تتفق والموضوعية العلمية في المنظور المجرد؛ حيث يسعى اللساني إلى رصد الظاهرة دون الحكم عليها بالحسن أو القبح، وبالإيجاب أو السلب غير أن هدف النحاة وغرضهم كان واضحا في اتجاهه أساسا إلى الحفاظ على لغة القرآن الكريم وحمايتها وصونها عن التغيير. وهو مبدأ عقيدي له خصوصيته الذاتية في العربية بمعزل عن موضوعية العلم المجردة. وهو ما يمكن أن نفسر به ما حصل في الواقع؛ حيث كان عمل النحاة بحد ذاته ظاهرة علمية-بغض النظر عن النوايا الذاتية- بينما كان اللحن ظاهرة لسانية اجتماعية؛ ولذا سار كل منهما في طريقه دون أن يكون لأحدهما سلطة على الآخر بالمعنى الفعلي. فلا النحاة أوقفوا اللحن، ولا اللحن أخرج النحاة من دائرة الآنية (الزمانية والمكانية)التي أغلقوها على أنفسهم، وظلوا ينشطون داخلها على مدى القرون المتتالية.
وبهذا المنظور يكون نحاة العربية قد أنجزوا شطرا من المعادلة اللسانية، وتركوا الشطر الثاني عن قصد منهم لعدم الحاجة إليه في تقديرهم، وذلك بعدم متابعة ما طرأ على العربية من تغير خلال القرون اللاحقة، حتى صار من العسير-كما قال هنري فليش- أن تحصل على صورة واضحة للنمو والتطور (التغيير)الذي أصاب العربية ككل لغة حية. (العربية ص14)
ومن هنا يتضح الفرق الجوهري في مفهوم مصطلح اللسانيات linguistiqueوفقا لحمولته الدلالية عند انتقاله من لغة إلى أخرى؛ إذ ليس من المنطق التعسف في الحرص على مطابقة الشحنة الدلالية للمصطلح من اللغة المنقول عنها إلى اللغة المنقول إليها، بالنظر إلى الخصوصية المعرفية والثقافية الحاصلة له في كل لغة. ولكي لا يتجرأ أحد على نحاة العربية بالقول إنهم لم يكونوا موضوعيين، ولم يكن عملهم علميا بالمعايير المحددة لمصطلح اللسانيات، حين انطلقوا من أساس معرفي ديني أو سياسي أو قومي.[xxi]

المبادئ الأساسية للسانيات:
      ويقصد بالمبادئ هنا المنطلقات الأساية التي يبدأ منها التفكير اللساني. وتتحدد عند البنويين وعلى رأسهم دو سوسير De Saussureباعتباره رائد الدرس اللساني الحديثانطلاقا من تحديد المبادئ النظرية، والأسس المنهجية، والمفاهيم الاصطلاحية التي أمكن من خلالها لدراسة اللغة أن تتخذ لنفسها طابع الصرامة العلمية لتغدو علما قائما بحد ذاته، على غرار باقي العلوم الدقيقة والتطبيقية؛وذلك بالإجابة على عدد من التساؤلات التي أفرزها الدرس اللساني. وقد تفرّع عن هذا الأمر عدد منالتقابلات أو الثنائيات اللسانية التي كانت أساس التفكير اللساني الحديث، وفي مقدمتها:اللغة والكلام، والآنية والتعاقبية، والمادة والشكل، والعلامة والقيمة، والتركيب والاستبدال. ولا نسعى هنا إلى إسقاط هذه المصطلحات ومفاهيمها على تراثنا اللغوي، واتخاذها معيارا لنقد وتقويم الفكر النحوي بقدر ما نسعى إلى الكشف عن جهات التقارب أو التباعد بينها وبين ما ورد في هذا التراث من أصول ومبادئ.
 فغياب المصطلح لا يعني بالضرورة غياب المفهوم، كما أن وجوده لا يعني اتحاد المفهوم بينهما. ذلك–كما قال ابن جني نفسه- لاشتراك العلوم اللغوية-واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها.[xxii]وهو يقصد هنا جميع اللغات؛ بما يجعل هذه المقولة بحد ذاتها مقدمة لإدراكه مسألة ما يعرف اليوم باللسانيات العامة، وكذلك مسألة القواعد الكلية.
اللغة والكلام:                                                                                                                    
 يشكل هذان المصطلحان قطبي الرحى في الدرس اللساني الحديث، بما لهما من أثر في تحديد موضوع الدراسة ورسم منهجها.فاللغة عند دو سوسير حدث اجتماعي وفردي في آن معا.وهي نظام مستقر ومتطور في آن معا.وهي تعاقد بين الأصوات والأفكار.[xxiii]وهي تواضعات ملحّة يتبناها الجسم الاجتماعي لتسهيل ممارسة الملكة اللسانية لدى    الأفراد.محاضرات 21وفي مقابل ذلك لا نكاد نلمس أي فرق جوهري بين هذا المفهوم وبين ما ذكره ابن جني بشأن تعريفه للغة في قوله: "حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"[xxiv]وهو تعريف يبدو على قدر كبير من التوافق مع مفهوم اللغة عند اللسانيين المحدثين، غير أن ابن جني هنا لا يكاد يعير اهتماما للفرق بين اللغة والكلام باعتبار الفرد المتكلم لدى علماء العربية نموذجا اجتماعيا، يعتدّ به وهو مصدر الاحتجاج اللغوي. بل إن تعريفه هذا إنما ينطبق على الكلام باعتباره أداء فرديا لولا كلمة (قوم)التي تشير إلى الصفة الاجتماعية للغة. ومرجع ذلك إلى رؤيته في الأساس إلى طبيعة الكلام بوصفه صورة أدائية للنظام.
ففي الوقت الذي أغرق فيه دو سوسير في تجريد مفهوم اللغة إلى الحد الذي يجعل وجودها ذهنيا محضا ونتيجة للحكمة الاجتماعية-كما يقول شارل بالي[xxv]-فإن ابن جني أيضا أغرق في تجريد مفهوم الكلام باعتباره نموذجا لغويا؛ إذ يقول: "أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه، وهو الذي يسميه النحويون بالجمل."[xxvi]والجمل قواعد الحديث، كما يقول في موضع آخر؛مما يعني بأنمفهوم الكلام هنا لا يقصد منه الجانب العضوي لأداء اللغة لدى الفرد، بل هو مجموع الآليات والقوالب التي يتشكل الكلام على أساسها؛ أي النظام. وهو ما يفهم من معنى اللغة عند دو سوسير. وكما قال(لوسيان تينيار):إن الكلام لا يقولب في أوعية منطقية لكنه يختص بقوانينه التنظيمية المخصوصة، وهي المقصودة في الاكتشاف.[xxvii]
والإشكالية التي تواجه أي دارس لساني هنا تتعلق بتحديد المادة الموضوعية التي ينبغي أن تكون مدار الدرس اللساني، إما اللغة وإما الكلام، وإما هما معا.إذ من الناحية العضوية الفزيائية لا وجود للغة فعليا إلا في أذهان المتكلمين بها؛ لأنها ذات طبيعة اجتماعية، وإنما الموجود عمليا هو الكلام؛ لأنه ذو طبيعة فردية فزيائية في أدائه. وأما ما يبدو على الكلام من سمة الاجتماعية فمرده إلى صفة التعميم الناتجة عن اشتراك أفراد المجتمع عرفيا في لغة واحدة، من خلال تماثل كلامهم أداءً وتشابهه في الخصائص والسمات الصوتية والبنوية والتركيبية والدلاليةلارتباطهم بلسان واحد- وهو ما ذهب إليه ابن جني-في تعريفه النحو بأنه انتحاء سمت كلام العرب؛ أي السير على طريقهم والنسج على منوالهم.
والحقيقة التي غفل عنها الدارسون العرب المحدثون في معرض تناولهم لمسألة الفرق بين اللغة والكلام هي أن البنويين ينطلقون من هذه المسألة باعتبارها نقطة جوهرية، من حيث المبدأ، في تحديد موضوع الدراسة اللسانية انطلاقا من مبدأ نظري موحد. وما دام الموضوع غير ملموس منذ البداية، ولا يبرز للملاحظ البسيط، وإنما يعرف على أساس رؤية نظرية فإن وجهة النظر لدى دو سوسير هي التي تخلق الموضوع. وهذا الموضوع هو اللغة. فهو يميز بين لسانيات اللغة ولسانيات الكلام.[xxviii]
ويتضح هنا جليا أنه يقر منذ البداية بكون اللغة شيئا مجردا غير ملموس، وإنما يتم خلقه بالافتراض والتصور النظري. وهو ما يتعارض مع المطلب الموضوعي لمادة الدراسة العلمية، ولكنه وجد للمسألة مخرجا من مأزق اللغة بمعناها الاجتماعي المجرّد باللجوء إلى الكلام بمعناه الفردي المجسّد.فالأفراد الذين يشتركون في لسان واحد إنما يعيدون ويكررون بشكل تقريبي العلامات ذاتها مرتبطة بتصورات واحدة. فلو استطعنا جمع الصور الشفوية المختزنة لدى الأفراد للمسنا الرابط الاجتماعي الذي يشكل اللغة. فهي كنز يدخره الأفراد الذين ينتمون إلى مجموعة واحدة عبر ممارسة الكلام، وهي منظومة نحوية موجودة بالقوة في كل دماغ، وعلى وجه التحديد في أدمغة مجموعة أفراد، إذ إنها لا توج


http://revues.univ-setif2.dz/index.php?id=689

تعليمية التراكيب اللغوية في تفسير الظواهر اللسانية

تعليمية التراكيب اللغوية في تفسير الظواهر اللسانية
ظاهرة الفاعل والمفعول نموذجا[1]


                                                                                             د. محمد الغريسي
                                                               أستاذ باحث في اللسانيات ،
                                                            جامعة مولاي إسماعيل - المغرب -


      الحديث عن الواقع التعليمي بما يحويه من أبعاد مفاهيمية ومصطلحاتية يستوجب حتما العودة إلى مفهوم البعد التواصلي/الإبلاغي الذي يؤديه الفعل التعليمي داخل المنظومة المفاهيمية وخارجها؛الأمر الذي جعل من غالبية المهتمين في المجال التعليمي أن يولوا اهتمامهم البالغ إلى تعليمية النظام اللغوي العربي من بابه الواسع.
         غير أنّه من باب ما تقتضيه طبيعة الموضوعية العلمية أن ننبه أنّ ما يحوي النظام اللغوي العربي لا يقتصر على مفهوم واحد،بل يحوي في باطنه على عدة مفاهيم ومصطلحات تختلف باختلاف الحقول المعرفية؛الأمر الذي جعلنا نقتصر على مفهومين من مفاهيم الدرس النحوي وهما:الفاعل والمفعول به؛ وذلك وفق ما تقتضيه طبيعة الاتجاه الوظائفي سواء على سبيل التحديد أم السياق الذي يتنوع فيهما كل منهما.
       إن تحليل ظاهرة من ظواهر  اللغة يستلزم تفاعل وتكامل مستويات اللغة   اللسانية التركيبية والدلالية والتداولية  من جهة،والصرفية والصوتية من جهة ثانية؛إذ لا يمكن الاقتصار على مستوى واحد من هذه المستويات في معزل عن المستويات اللسانية الأخرى، ذلك أن اللغة تشتغل بنظام تتداخل فيه المستويات اللسانية ،وبمعنى أخر  إن تحليل ظاهرة من ظواهر اللغة العربية أو تفسيرها يستلزم الوقوف بالضرورة عند مستويات الدرس اللساني من صرف ونحو وتركيب ودلالة وتداوليات ..الخ .إذ تتفاعل هذه المكونات وتتكامل فيما بينها في تفسير ظواهر اللغة ، بل إن الفكر اللغوي  العربي القديم   كان يعتبر اللغة أو الخطاب اللغوي كلا لا يتجزأ في الاستعمال والتداول ، وأن فهم وتحليل ظاهرة لغوية يستلزم في سياقات متنوعة فهم الظاهرة وتحليلها في أبعادها التركيبية والدلالية والتداولية من جهة والصرفية والصوتية من جهة أخرى.
      سنركز الحديث في هذا المقال على  تكامل التركيب والدلالة وتوضيح دورهما  في تفسير الظواهر اللغوية،وسنركز الحديث أساسا على ظاهرة الفاعل والمفعول في اللغة العربية؛إذ يطرح موضوع الفاعل والمفعول،في الجملة العربية،إشكالات عديدة  ذات طبيعة تركيبية  ودلالية  على مستوى الموقع  التركيبي وعلى مستوى الوظائف الدلالية ، وعلى مستوى الأدوار الدلالية؛فمن الناحية التركيبية يحتل الفاعل والمفعول مواقع تركيبية مختلفة وغير متناظرة. ومن الناحية الدلالية  ليس كل اسم مرفوع بعد الفعل يشتغل كفاعل حقيقي،أو معنوي،وإنما قد يكون فاعلا نحويا أو تركيبيا ، أي له وظيفة تركيبية وليست وظيفة دلالية ، وما يقال عن الفاعل يقال عن المفعول به .. وسيتبين من خلال هذا الورقة  كيف يتفاعل التركيب  والدلالة ، كمستويين لسانيين ،  في تفسير ظواهر اللغة ، إذ سيتضح أن   الدلالة امتداد طبيعي للتركيب ، وأن كل إجراء تركيبي ينتج عنه تغيير دلالي ، بل إن الجانب التركيبي في أي دراسة غير مستقل عن الجانب الدلالي ، حيث إن  الدلالة تقتضي التركيب، من جهة ومن جهة أخرى  لا يوجد إطار تركيبي بدون مضمون دلالي، لأن التركيب متى افتقد الدلالة افتقد قيمته ، وقيمة المفردات في وظائفها الدلالية .
1: مستويات اللغة العربية اللسانية
     إذا كانت اللسانيات[2] في أبسط تعريفاتها هي الدراسة العلمية للغة ، فإن تحليل لغة من اللغات لا يتم إلا بعد تحديد مستوياتها  اللسانية  ، ومن هذه المستويات ما يلي :
 أ: المستوى الصوتي
المستوى الصوتي مستوى لساني ينظر إلى اللغة كبنية صواتية ، إذ يعالج أصوات اللغة من حيث مخارجها صفاتها ...الخ ، والتحليل اللساني للغة  يبدأ بالأصوات باعتبارها العناصر الأولى التي تتشكل منها الكلمات ، أو الوحدات الدالة ، وهذا المجال يهتم به علم الأصوات أو علم الصواتة .
ب: المستوى الصرفي 
بعد انتهاء المستوى الصوتي  ينظر في بناء الكلمة من حيث الصيغة الصرفية واستحضار القواعد المسؤولة عن سلامة بناء الكلمة ، وهذا المجال يهتم به علم الصرف أو ما يعرف بالمورفولوجيا .
ج: المستوى التركيبي
يحدد التركيب بكونه تلك الدراسة التي تتناول صيغ اللغة ، أو أجزاء الخطاب تأليفا وتركيبا ، والتركيب مستوى من مستويات التحليل اللسانية الحديثة ، وهو  فرع من فروع علم اللسانيات إلى جانب فروع أخرى منها الدلالة الصواتة ، المعجم .
وهو علم  دقيق  مجاله الجملة  تأليفا وتركيبا ، إذ هو علم يهتم بدراسة العلاقات  التركيبية داخل الجمل وبدون هذه العلاقات تصبح الكلمات مبعثرة بلا قيمة [3] ..
د: المستوى الدلالي
يقصد بالمستوى الدلالي في  إطار النظرية اللسانية العامة: " تلك الدراسة التي تتناول معاني الكلمات والمركبات والجمل والتعابير ،وحقولها وعلاقاتها الدلالية
و: المستوى التداولي .
يتناول هذا المستوى اللساني مجال استعمال اللغة من قبل المتكلمين والمخاطبين ، ودراسة جوانب هذا الاستعمال النفسية والاجتماعية والتواصلية والحضارية وما إلى ذلك في فضاء زمكاني محدد.
إن الفصل  بين هذه المستويات اللسانية هو فصل إجرائي فقط ، إذ تتفاعل هذه المستويات فيمالا بينها وتتكامل .
وإذا تأملنا بدقة في التراث اللساني العربي القديم يتبين أن  القدماء كانوا بالفعل يأخذون بعين الاعتبار تكامل المستويات اللسانية أثناء دراستهم لظواهر اللغة ، ويظهر ذلك واضحا من خلال مؤلفاتهم ككتاب سيبويه الذي كان يعتبر النحو مجالا واسعا لدراسة اللغة من  كل جوانبها الصرفية والصوتية والدلالية والتداولية ، ذلك أن  النحو عنده  هو دراسة تركيبية للغة صوتا وصرفا وتأليفا ودلالة وهو ما نجده أيضا واضحا عند ابن جني من خلال تعريفه للنحو[4] . سنركز في الفقرات اللاحقة على تكامل مستويين لسانيين ويتعلق الأمر بتكامل التركيب والدلالة وسنوضح ذلك من خلال مناقشتنا لوظائف مكونات الجملة وخاصة الفاعل والمفعول في اللغة العربية .وسنتناول الفعل والمفعول في بنية الجملة المبنية للمعلوم والجملة المبنية للمجهول .
2: وظائف مكونات الجملة في اللغة العربية قضايا  تركيبية ودلالية 
    في بنية الجملة  الفعلية العربية  يتصدر الفعل الفاعل والمفعول ،ويعتبر الفعل المكون الأساسي في الجملة الفعلية ، بل تعتبره  بعض اللسانيات[5] قطب الجملة.وعندما نتأمل  في التراث اللغوي العربي ونتعمق في دراسته نرى أن  النحاة والبلاغيين  كانوا يعتنون بتحديد وظائف مكونات الجملة؛إذ يرى النحاة أن الفعل على المستوى الدلالي يؤدي وظيفة دلالية تتمثل في تحديد الحدث أو ما يقوم مقامه[6] . وبمعنى أخر إن الفعل يتميز بقوة انتقائية تمكنه من انتقاء الأسماء التي تشتغل محلات الفاعلية والمفعولية ، ويكون هذا الانتقاء ذا طبيعة تركيبية ، حيث ينتقي الفعل الفاعل والمفاعيل المناسبة ، وبناء على ذلك إن الفعل في اللغة العربية يؤدي وظيفة أساسية في الجملة الفعلية ، كما يتحكم من الناحية التركيبية والدلالية في باقي مكونات الجملة.أما عن وظيفة الفاعل والمفعول التركيبية والدلالية فإن أغلب النحاة يرون أن وظيفة الفاعل هي الفاعلية ، وأن وظيفة المفعول هي المفعولية[7]،رغم أن النجاة  لم يوظفوا مصطلح وظيفة ، وإنما استعملوا مصطلح عام هو لفظ " معنى " : معنى الفاعلية ومعنى المفعولية[8] .
وتتضح الوظيفة التركيبية للمفعول مثلا في تعريفات النحاة ، فهم يعرفونه "  بأنه ما وقع عليه فعل الفاعل[9] ".
واهتمت اللسانيات الحديثة  بدورها  بوظائف الجملة ، ففي إطار النحو الوظيفي يرى أحمد المتوكل أن كلا من الفاعل والمفعول به وظيفة تركيبية أساسية[10] . وفي اللسانيات التوليدية ، ولاسيما في البرنامج الادنوي فإن الفعل الرئيسي ،وبالإضافة إلى ما ينطوي عليه من معان ذات طبيعة مورفولوجية ، أو ذات أصول تصريفية كالزمن والتطابق ،والإعراب والبناء ، فإن قاعدته الدلالية أو رصيده المعنوي يتسع لقيمة دلالية تتمثل باختصار في معنى الحدث للفعل ، وبلغة أدق إن الفعل من حيث بنيته التكوينية الأساسية له بعدان : بعد مورفولوجي ، وبعد دلالي[11] . ويرى عبد العزيز العماري أن كل دور دلالي يناسبه موقع تركيبي[12].
،ووظفت  اللسانيات الحديثة في هذا الإطار [13] مصطلحات أكثر دقة للتعبير عن مفهوم الوظائف التركيبية والدلالية ومن هذه المصطلحات  : منفذ ، مستقبل ، مستفيد ...ألخ ،  وعليه يعتبر النحو التوليدي  الفاعل من الناحية الدلالية منفذا والمفعول به مستقبلا[14] .
  واعتماد على ذلك  تحلل جملة من قبيل :
      ذهب خالد من فاس إلى مراكش
 على النحو الأتي[15]:
ذهب ( محور – مصدر – هدف )
بينما جملة من قبيل :
يوجد الرجل في الحقل :
يوجد ( محور – محل )
      يتبين مما سبق أن النظريات اللسانية اهتمت بوظائف الجملة ، إلا أنها  لم تنطلق من فراغ ، ولم تبدأ من نقطة الصفر ، بل  استفادت بطريقة أو أخرى من الدرس اللغوي العربي القديم . 
3: الفاعل النحوي والفاعل الدلالي (المنطقي) : أية علاقة ؟
     سنحاول في  فقرة أولى   توضيح أنه ليس كل اسم مرفوع بعد الفعل يشتغل كفاعل حقيقي ، أو معنوي ، وإنما قد يكون فاعلا نحويا أو تركيبيا ، أي له وظيفة تركيبية وليست وظيفة دلالية ، وما يقال عن الفاعل يقال عن المفعول به ، كما تسعى هذه الفقرة إلى إبراز  أن الإجراءات الصرفية تساهم في تغيير بنية الفعل التركيبية ، إذ تساهم في تحويل الفاعل إلى مفعول به.
   بداية يمكن أن نميز في اللغة العربية بين نوعين من الفاعل : فاعل حقيقي وفاعل نحوي أو تركيبي ،ونقصد بالفاعل الحقيقي  من الناحية الدلالية  :الفاعل الذي يفعل الفعل ويحدثه ويقوم به  ، نحو قولنا :
                قام زيد
             دخل الطالب
إن الفاعل  المنطقي ، أو الدلالي هو الذي يدل على الذي قام بالفعل ، أو نفذ الواقعة الدال عليها الفعل أو المحمول نفسه، وهو الذي يظهر عادة في تركيب البناء للفاعل، أو ما يعرف ب: (المبني للمعلوم )،  بينما الفاعل النحوي ،  هو الذي لا يحدث العمل أو يقوم به ، وهو الفاعل الذي تقتضيه البنية التركيبية ، وذلك تطبيقا لمبدأ ملء موقع الفاعل أو ما تعبر عنه اللسانيات وخاصة اللسانيات التوليدية بمبدأ الإسقاط الموسع[16] الذي ينص على أن يكون لكل جملة فاعل . من هنا يمكن أن نميز بين وظيفتين مختلفتين للفاعل في اللغة العربية  :وظيفة تركيبية ووظيفة  دلالية ،  ذلك أن هناك تراكيب  لغوية يسند فيه الفاعل إلى الفعل ويبنى عليه ،ويظهر وكأنه فاعلا في حين أنه ليس فاعلا  حقيقيا (دلاليا ) ،وإنما يكون فاعلا تركيبيا ، ومن ثم فإن وظيفته تكون وظيفة تركيبية فقط وليست وظيفة دلالية ، مما يجعلنا نستنتج  القاعدة الآتية :
ليس كل ما أسندت إليه وظيفة الفاعل هو فاعل ".
إذ يشترط في كل مكون سيحمل وظيفة الفاعل أن يكون حاملا للوظيفة الدلالية منفذ ، وإلا فهو فاعل نحوي ، أو بنيوي فقط ، وبمعنى أخر يشترط في الفاعل المنطقي من الناحية الدلالية أن يكون منفذا في الوقت نفسه،  إن نحن وظفنا مصطلحات النحو الوظيفي .
لنتأمل الأمثلة الآتية :
-         سقط الجدار
-         مات زيد
-         انكسر الزجاج
-         تمزقت الورقة
من الناحية الدلالية والمنطقية لم يكن الجدار فاعلا للسقوط بالمعنى الحقيقي ، والحكم نفسه ينطبق على "زيد"  في المثال الثاني . كما أن"  الزجاج"  و"الورقة" لا يقومان بدور حقيقي فعال ، فهما لم يفعلا  شيئا ولا دخل لهما في عمل الانكسار والتحريك ، وكل ما في ذلك أنهما استجابا للحدث وتفاعلا معه ، دون أن يكون لهما اختيار أو دخل في إيجاده ، وإذا صح ذلك يمكن اعتبار "الجدار" ،  "و زيد" و " الورقة" فواعل نحوية تركيبية فقط وليست فواعل دلالية  ، فهي فواعل تركيبية بموجب الموقع التركيبي :لكونها  تقع فقط  بعد الفعل ، كما أن هذه الفواعل يمكن اعتبارها مفعولات ، وهذا يعني أن أصل الجمل السابقة مثلا  هو كالتالي :
-         أسقط الرجل الجدار
-         أمات الله زيدا
-         مزق الطفل الورقة
       يتبين من خلال الأمثلة السابقة أن الموقع التركيبي لا يمكنه وحده أن يحدد الفاعل الحقيقي ، بل الأمر يقتضي الاستعانة بالدلالة للتمييز بين الفاعل الحقيقي والمفعول الحقيقي .وبمعنى أخر هناك تراكيب في اللغة العربية أو جمل ينظر إليها من منظور تركيبي ومن منظور دلالي ، كما يجب أن نميز بين مصطلحين أساسيين : فاعل حقيقي أو معنوي ، وفاعل نحوي أو تركيبي ، وما يقال عن الفاعل يقال عن المفعول .
وهناك أمثلة أخرى يسلك فيه الفاعل نفس السلوك السابق منها :
-         ابيض شعر الرأس
-         تفتح النور
     وقد وردت في القران الكريم تراكيب متعددة يسند فيها الفاعل إلى الفعل بينما يكون الفاعل فيها ليس فاعلا حقيقيا وإنما هو مفعول ومن ذلك قوله تعالى :
{اقتربت الساعة وانشق القمر}( سورة القمر أية :1) 
    إن النحاة القدماء بدورهم كانوا ينظرون إلى الكلام من منظور دلالي ، كما يؤكدون منظورهم الدلالي بإجراءات تركيبية ، فهم ينظرون مثلا إلى المثال الأتي:
-         مات زيد
من منظورين : تركيبي ودلالي :
أ: تركيبي ، وفي هذه الحالة يعتبرون" زيد "  فاعلا تركيبيا ، وهذا التفسير لا يدخل في الاعتبار إلا الوظيفة التركيبية .
ب:  أما المنظور الدلالي فيسمح لهم بتأويل الجملة السابقة كالتالي :
-          أمات الله زيدا
وفي هذه الحالة يكون زيد في الجملة السابقة مفعولا به في المعنى .
4: الإجراءات الصرفية ودورها في تحويل وظيفة  الفاعل إلى مفعول 
          نقصد بالإجراءات الصرفية التغييرات المرتبطة بالصيغة الصرفية،  وينتج عن هذه التغييرات الصرفية تأثيرات تركيبية ، فالانتقال من صيغة صرفية إلى أخرى يؤدي حتما  إلى الانتقال من بنية تركيبية إلى بنية تركيبية أخرى في الجملة نفسها.  فقد  تمكننا الإجراءات الصرفية على سبيل المثال من تحويل الفاعل إلى مفعول كما توضح  الأمثلة الآتية ذلك  :
            فرح الطالب
           أفرح الأستاذ الطالب
           فرح  الأستاذ الطالب
          جلس خالد
         جالس زيد خالدا
يتبين من خلال هذه الأمثلة أنه  كلما تغيرت بنية الفعل الصرفية تغيرت البنية من الناحية التركيبية ، وبموجب ذلك  يتحول الفاعل إلى مفعول به 
3-1: وظيفة الفاعل والمفعول  في تركيب  المبني للمجهول
يقصد بالبناء للمجهول، في الأدبيات النحوية، كل جملة حذف منها الفاعل لغرض من الأغراض، وأقيم غيره مقامه مع تغيير شكل الفعل المبني للمجهول. وهناك من أطلق على هذه الظاهرة: بناء ما لم يسم فاعله، ومنهم ابن يعيش[17]. والآليات التي يقوم عليها هذا البناء كما وردت في كتب النحاة هي كالتالي:
- تغيير صيغة الفعل من: فَعَل إلى فُعِل.
- حذف الفاعل من الجملة.
- إقامة المفعول أو غيره مقام الفاعل.
وهذا يعني أن البناء للمجهول يعتمد إجراءات ذات طبيعة صرفية وتركيبية تتمثل في تغيير الصيغة، وتبادل المواقع التركيبية ، حيث يحل المفعول أو غيره محل الفاعل، كما يتضح من المثال الموالي:
                         أ- كتب الولد الدرس
                         ب- كُتب الدرس
تم الانتقال من )أ( إلى )ب( عن طريق تغيير صوتي  لصيغة الفعل ، ثم حذف الفاعل وحل محله المفعول به.
إن الآليات الصوتية و الصرفية والتركيبية التي يعتمد عليها البناء لغير الفاعل، تتفاعل وتتكامل فيما بينها. إلا أن التكامل بين هذه الآليات إجباري. ذلك أن حذف الفاعل وإقامة المفعول مقامه لا يمكن أن يحدث بدون أن يجري تغيير إجباري على صيغة الفعل، لأن التغيير الصرفي لا يكفي لتفسير أية ظاهرة، بل لا بد من مراعاة التغييرات  التركيبية والدلالية التي تطرأ على البنية، حيث إننا ننتقل من )أ( إلى )ب( في المثال الآتي:
                     أ - كتب خالد الدرس.
                     ب- كُتب الدرس.
إلا أننا لا يمكن أن ننتقل من )أ( إلى )ج( مثلا كما يظهر من لحن البنية التالية :
                       ج- * كَتب الدرسُ.
إن لحن )ج( ناتج عن عدم إنهاء تطبيق جميع أطراف المعادلة الصرفية ، أي عدم تغيير الصيغة من )فَعلَ( إلى )فٌعِل( .
ولهذا التغيير الصرفي سبب تركيبي. فقد لاحظ محمد الحناش أن " نقل الصيغـة من )فَعل( إلى )فُعل( إجباري يفسره رياضيا غياب الفاعل عن البنية"[18].
يتضح من كلام محمد الحناش أن الضمة في صيغة (فُعِل) تعتبر أثرا trace) ( للفاعل المحذوف، وهذا يعني أن الضمة في صيغة البناء للفاعل ليست حركة بسيطة وخالية من الدلالة، وإنما هي نتيجة عملية تضمير Pronominalisation) (، يختزل فيها الفاعل الحقيقي :الدلالي إلى حركة يكون حضورها إجباريا عند تطبيق هذا البناء[19].
لا يخلو هذا الافتراض الذي تبناه محمد الحناش من قيمة علمية، ويبدو أن هناك ما يؤيد كون الفاعل لا يحذف، وإنما يختزل في الضمة[20]. ذلك أن الفاعل يمتنع إبرازه في البنية مع حضور ما ينوب عنه، أي حركة الضمة الواقعة في فاء الكلمة.فهناك توزيع تكامليCOMPLEMENTARY DISTRIBUTION)) بين الفاعل والضمة . وبعبارة أخرى، لا يمكن أن نقول:
                                    - * كُتب الولد الدرسَ.
ففي هذا التركيب يتوارد الفاعل والضمة، التي تعتبر في هذا البناء حركة ليست بسيطة، مما نتج عنه بنية لاحنة. ولحن هذه البنية راجع بالأساس إلى توارد فاعل وما ينوب عنه، الذي هو الضمة.
إذا صح هذا التحليل، فإن صيغة الفعل المبني للمجهول تكون صيغة مركبة، يتداخل فيها الحدث وصاحب الحدث، أي: الفاعل. وينتج عن هذا أن الفاعل لم يحذف، وإنما أضمر واختزل إلى ضمة.وهدا يعني أن الضمة لها أبعاد دلالية .
إن ما سيترتب عن هذا التحليل، هو أنه سيضيف ضميرا جديدا إلى ضمائر اللغة العربية، وبمعنى آخر ستصبح الضمة ضميرا. وهو افتراض يحتاج إلى دراسة معمقة للبرهنة على القيمة التضميرية للضمة.
5: الفاعل والمفعول ونظرية الأدوار الدلالية
   بينا في بداية  المقال   العلاقة بين التركيب والدلالة ولا حظنا أنه يصعب الفصل بين التركيب والدلالة ، ذلك  أن الدلالة امتداد طبيعي للتركيب .
سنوضح  هذا الافتراض وندعمه من خلال مناقشتنا للعلاقة الموجودة بين الأدوار الدلالية والموضوعات التركيبية من خلال مستجدات النظرية التوليدية ونقصد  بذلك المقاربة الادنوية (تشومسكي 1998-1999  ) ، إذ سنناقش العلاقة الموجودة بين الأدوار الدلالية والموضوعات التركيبية بناء على بعض القيود التوليدية وسننطلق من قيد انطلق منه تشومسكي في أعماله الأولى وطوره في النظرية الادنوية ونقصد بذلك المقياس[21] المحوري 
  يصوغ تشومسكي ( 1981)  المقياس المحوري كالتالي :
" كل موضوع ( Argument ) يأخذ دورا دلاليا واحدا فقط وكل دور دلالي يسند إلى موضوع واحد فقط " .
لنأخذ الجملة  الآتية :
قرأت الطالبة الرواية في المكتبة
تتضمن هذه الجملة محمولا هو الفعل ، وموضوعين هما : الطالبة والرواية .
ويحمل الموضوع الأول دور المنفذ ( Agent) والثاني دور الضحية
ولا يسند المحمول دورا دلاليا إلى المركب " في المكتبة " لأنه ملحقا وليس موضوعا .
لنتأمل الجملة الآتية :
قرأت الطالبة الرواية المكتبة ( لحن)
تعد هذه الجملة لاحنة لأنها تخرق القيد السابق ( المقياس المحوري ) ، ذلك أن المحمول قرأ استوفى شروطه المحورية أو الدلالية التي يسندها إلى
" الطالبة"و " الرواية " ، وبقي المركب " المكتبة بدون دور دلالي .
ما يؤخذ على المقياس المحوري هو أن الحكم على سلامة البنية أو عدم سلامتها يأتي مؤخرا ، إذ لا يتنبأ بذلك في المرحلة التي يتم فيها ضم المكتبة إلى البنية التركيبية بل يؤجل الحكم إلى أن يصل الاشتقاق التركيبي الصورة المنطقية [22]
حيث ينطبق  القيد السابق
أما في البرنامج الادنوي فقد أدمج تشومسكي ( 1998)- (1999) هذا القيد في عملية الضم الخالص (pure merge )، التي أصبحت مقيدة بالانتقاء ، وعليه فإن الجملة اللاحنة السابقة ستقصى في المرحلة الأولى من اشتقاقها التركيبي ، بحيث لن يكون من الممكن ضم المكتبة إلى الفعل لأنه لا ينتقيها دلاليا ، ويمكن بلورة ذلك من خلال الضم الخالص الذي نصوغه بعد تشومسكي[23] ( 1998) كالتالي :
" الضم الخالص في الموقع المحوري مقصور على الموضوعات فقط "
من هنا يمكن القول إن قيد المقياس المحوري أصبح قيدا محليا موضوعا على الاشتقاق التركيبي لا على التمثيل النحوي .
ما يشير إليه القيد السابق ( الضم الخالص ) هو أن الموضوعات لا يمكن ضمها إلا في المواقع المحورية ولا يمكن ضم غير الموضوعات إلا في المواقع غير المحورية ، وتعتبر هذه صياغة جديدة للمقياس المحوري ، ووظيفة هذه الصياغة الجديدة هي سرعة الحكم على سلامة الاشتقاق محليا قبل الانتهاء من اشتقاق الجملة بأتمها والوصول  إلى مستوى وجيهة الصورة المنطقية[24].
خاتمة :
حاولنا في هذا المقال  توضيح كيف تتفاعل المستويات اللسانية في تفسير ظواهر اللغة ، وبينا كيف تتكامل هذه المستويات في التفسير اللساني مبرزين  أن  تحليل ظاهرة من ظواهر  اللغة يستلزم تفاعل وتكامل مستوياتها  اللسانية التركيبية والدلالية والتداولية  من جهة ، والصرفية والصوتية من جهة ثانية  ، وقد ركزنا أساسا على تكامل المستوى التركيبي والدلالي مبرزين أن الدلالة امتداد طبيعي للتركيب ، وأن كل إجراء تركيبي ينتج عنه تغيير دلالي .
المصادر والمراجع باللغة العربية :
ابن عقيل ،بهاء الدين عبد الله ، ألفية ابن مالك المكتبة التجارية الكبرى ، القاهرة
ابن يعيش ،أبو البقاء ،  شرح المفصل ، إدارة الطباعة المنيرية ، القاهرة بدون تاريخ
الحناش، محمد : البناء المقلوب في  للغة العربية، مجلة دراسات أدبية ولسانية عدد 2و3 ، 1986
العماري ، عبد العزيز ، أدوات الوصف والتفسير اللسانية ، سلسلة من  النحو إلى اللسانيات الطبعة الأولى 2004
الفاسي الفهري عبد القادر ، المقارنة والتخطيط في البحث اللساني العربي ، وانظر
الفاسي الفهري عبد القادر  ، المعجم العربي، نماذج تحليلية جديدة ، دار توبقال ،
المتوكل ،أحمد ، الوظائف التداولية في اللغة العربية ، الدار البيضاء ، دار الثقافة 1985.
.المتوكل ، أحمد دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي ، دار الثقافة البيضاء ، 1986
الرحالي،  محمد  ، بعض الخصائص الحاسوبية للغة ، مجلة أبحاث لسانية ، المجلد 13، العدد: 1-2، دجنبر 2008
الرحالي، محمد ،  : تركيب اللغة العربية مقاربة نظرية جديدة ، دار توبقال للنشر .
المراجع باللغة الأجنبية
Chomsky-1998(Minimalist  inquiries ;the frame work .Mit occasional papers in linguistics15
Chomsky-1998( derivation by phase.Mit occasional papers in linguistics18 .


[1]  الدكتور محمد الغريسي أستاذ باحث في اللسانيات ، جامعة مولاي إسماعيل ، الكلية المتعددة التخصصات الرشيدية – المغرب
[2]  نظرا لارتباط اللغة باللسانيات  ظهرت العديد من النماذج اللغوية والمناهج اللسانية التي تتناول إشكالية اللغة بصورة أعمق وأشمل بغية تحديد قضاياها ومستوياتها اللسانية  ، وهذه المناهج كانت تهدف إلى  بناء وصف لساني نسقي شامل للغة العربية  كما استهدفت وصف ظواهر لغوية  متعددة شملت المعجم والأصوات والصرف والتركيب والدلالة والتداول.،  ويمكن تقسيم الدراسات اللسانية التي تناولت اللغة العربية إلى نمطين : أنماط صورية تعتبر أن اللغات الطبيعية أنساق مجردة يمكن دراسة بنيتها بمعزل عن وظيفتها في التواصل داخل المجتمع المستعمل لها  وتعتبر اللسانيات التوليدية نموذجا لذلك  للتفاصيل أنظر : اللسانيات واللغة العربية  للدكتور الفاسي الفهري ،البناء الموازي : نظرية في بناء الكلمة وبناء الجملة . لنفس الكاتب ..الخ ،في مقابل ذلك هناك  أنحاء وظيفية ترى أن بنية أي لغة طبيعية لا يمكن فصلها عن وظيفتها التواصلية كما هو الشأن مع اللسانيات الوظيفية للتفاصيل في هذا الإطار : أنظر قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية ، البنية التحتية أو  التمثيل التداولي ، دار الأمان ، الرباط .للدكتور أحمد المتوكل . 
6   الدكتور محمد عيد ، أصول النحو العربي ، ص: 266-267، عالم الكتب – القاهرة 1978
[4]  أنظر ابن جني ، الخصائص ، ج1 ،30
[5]  نقصد هنا اللسانيات التأليفية  أنظر على سبيل المثال أعمال عبد العزيز العماري
[6]  أنظر على سبيل المثال شرح ابن عقيل ، ج 1  ص: 557
[7]  أنظر على سبيل المثال ابن يعيش ، شرح المفصل ، ج : 1  ، ص: 85
[8]  انظر الدكتور عبد العزيز العماري ، أفكار وظيفية في التراث اللغوي العربي ، مقال ضمن كتاب ك المنحى الوظيفي في اللسانيات العربية وآفاقه . ص: 23
[9]  الاستراباذي رضي الدين ، شرح الكافية في النحو، دار الكتب العلمية بيروت ط2، ج1، ً: 127
[10]  أحمد المتوكل ، الوظائف التداولية ، ص: 11
[11]  رشيد بوزيان ، قراءات في اللسانيات التوليدية : من العاملية والربط إلى البرنامج الادنوي ، ص: 28 - 29
[12]  عبد العزيز العماري ، المرجع السابق ، ص: 26
[13]  المتوكل ، أحمد الوظائف التداولية ، ً: 11وانظر أيضا كتابه : دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي ص: 36
[14]  للتفاصيل أنظر الفاسي الفهري ، المعجم العربي، نماذج تحليلية جديدة ، دار توبقال ، البيضاء
[15]  الفاسي الفهري ، المعجم العربي ، ص: 34-35
[16]  للتفاصيل حول مبدأ الإسقاط الموسع انظر : الفاسي الفهري : البناء الموازي ، نظرية في بناء الكلمة وبناء الجملة .
[17] - ابن يعيش، شرح المفصل، ج7،ص69.
[18] -  محمد الحناش: البناء المقلوب في اللغة العربية، مجلة دراسات أدبية ولسانية عدد 2و3 ، 1986 ص56.
[19] - نفسه ، ص57.
[20] - يمكن تعميم مفهوم الاختزال على ظاهرة المطاوعة في اللغة العربية كما يظهر من المثال الموالي:
أ-فتح الولد الباب.
ب- انفتح الباب.
حيث اختزل الفاعل في الهمزة والنون. مما يعطي لهذه الحروف بعدا ضميريا.
[21]  للتفاصيل حول المقياس المحوري ، أنظر الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري ، البناء الموازي ، نظرية في بناء الكلمة وبناء الجملة
[22]  للتذكير فقط احتفظ تشومسكي  في البرنامج الأدنوي بمستويين تمثيليين فقط عوض أربع مستويات كما كان سائدا في نظرية المبادئ والوسائط ، والمستويان التمثيليان الذان حافظ عليهما هما : الضورة الصوتية والصورة المنطقية : للتفاصيل أنظر : الدكتور الفاسي الفهري : المقارنة والتخطيط في البحث اللساني ، ص: 2-8
[23]  أنظر تشومسكي 1998، ص: 16 ، وانظر أيضا محمد الرحالي ، بعض الخصائص الحاسوبية للغة مجلة أبحاث عدد ، ، ص: 74
[24]  للتذكير فقط فقد قلص تشومسكي مستويات التمثيل اللساني في مستويين لسانيين هما الصورة الصوتية والصورة المنطقية ، حيث تخلى عن البنية العميقة والبنية السطحية  للتفاصيل انظر : الفاسي الفهري عبد القادر ، المقارنة والتخطيط في البحث اللساني العربي ، وانظر أيضا محمد الرحالي : تركيب اللغة العربية

الخميس، 23 يناير 2014

فن الحوار و التواصل مع الآخرين

فن الحوار و التواصل مع الآخرين


اسم الكتاب: احترام الصراع
اسم المؤلف: يجي غوت- فويتشيخ هامان
اسم المترجم: مطاع بركات
عدد الصفحات: 235 صفحة من القطع المتوسط
تقديم: إحسان طالب

حتى تكون لدينا قدرة أكبر على التواصل والحوار وحتى تكون حواراتنا أكثر فاعلية وفائدة أقدم هذه القراءة وهذا العرض لكتاب احترام الصراع ، وهو مترجم لمؤلفيه (يجي غوت) و (فويتشيخ هامان) والترجمة للدكتور مطاع بركات صادر عن دار الأفاق في دمشق وهو في حدود 235 صفحة من القطع المتوسط .
تهدف هذه المراجعة إلى الاستفادة العملية من الكتاب وتعلم فن المفاوضات وإغناء الحوار وإدارته من أجل الوصول إلى تقريب وجهات النظر والتعرف على الآخر وصقل الأفكار بما يؤدي إلى التفاف حول المفهوم الجوهري لكثير من القضايا الخلافية الشائكة.
إنني أظن أن كثيرا من الاختلافات في وجهات النظر إنما يعود إلى قنا عات أو مفاهيم خاطئة أو ناقصة لبعض القيم الإنسانية. كما يعود إلى طريقة التفكير النمطي الذي يعطي الأفكار والأشخاص والمواقف أحكاما مسبقة تقيم على أساس من الثوابت النظرية والرؤية الشخصية.
لماذا ألفنا هذا الكتاب :
تدريب الناس حتى يتجنبوا المزالق التي تودي بهم إلى صرا عات غير مثمرة وأن يتجنبوا الخضوع والإذعان لتحكم الآخرين بهم  وأن يكتسبوا من القدرات ما يمكنهم من الحوار المثمر ومن بناء علاقة تعاون بناءة مع الآخرين آخذين مفهوم المصلحة خطاً جوهرياً .
الفكرة الأولى :
لا تأخذ أياً من التوجيهات دون نقد وتفكر، الفكرة الثانية : في مواقف الخلاف والصراع غالباً ما نخضع لانفعالاتنا وارتكاسانتا وننسى تحقيق مصلحتنا.
نتعارك مع الآخر ونحاول بشتى الطرق إقناعه بوجهة نظرنا، نحاول أن نثبت أننا على حق ونتمسك بأمل خادع مفاده أن النصر اللحظي في موقف الصراع سيضمن لنا النجاح الدائم والواقع ليس كذلك. إن التفاوض إن وجه نحو التعاون هو خير طريق لتجنب الوقوع في معارك هدامة أو في خضوع أو تهاون.
الصراع والتحكم بالآخرين :
إذا كنا نواجه الطرف الآخر في موقف الصراع أو الخلاف على أنه عدو فإننا نسعى لتهديمه وإخضاعه وليس إلى حل المشكلة أو إقناعه.
الفكرة الأولى :
إن محاولات التوفيق بين المصالح والحاجات والأفكار المتضاربة يشكل منبعاً أساساً للأفكار المبدعة والحلول المبتكرة، فمواقف الخلاف تفجر مخزوناً هائلاً من الطاقة يمكن لفائدتها أن تكون عظيمة لو وجهت الاتجاه الصحيح.
الفكرة الثانية : إن النقاش الجاد الشجاع للقضايا الصعبة المعلقة بين الأفراد والجماعات هو وحده كفيل ببناء الأمن الحقيقي وتشييد أواصر الثقة. فالخلاف ليس منبعاً بأشكال العراك والحرب بين الناس بل ينب ذلك من أسلوبهم في حل الصراع.
إن تجنب النقاش والحوار حول الخلافات الحادة والصغيرة يتسبب في تحول أسلوب التفكير عن الواقعية والمنطق نحو جوٍ مغلق من الخيالات والأوهام التي قد تكون أشد خطراً وضرراً من الوقائع الموضوعية والأفكار والمواقف التي يحملها الآخر.
يحاول الناس السيطرة على الآخرين للأسباب التالية :
1- يريدون تحقيق مصالحهم فقط
2- يخلفون من اللقاء الحقيقي والشخصي للآخرين، خاصة فيما يتعلق بالتعبير عن القضايا الصعبة والهامة.
3- يتقمصون الدور والموقع الذي يمثلونه بدلاً من تمثل حاجات ومصالح كل الأطراف.
4- يخضعون لجمود التفكير النمطي الجاهز في حل المواقف المشكلة.
ولا يحاولون ولا يقدرون على إبداع أساليب جديدة وخلاقة.
5- يسعون لحماية وتأمين أشد جوانب شخصياتهم ضعفاً وحساسية.
6- يحاولون تجاوز الصراع أو حله بشكل سطحي دون تعمق في جذوره وحقيقته.
وقد تكون بعض هذه الأسباب أو كلها موجودة فينا أو في الآخرين، لكننا لا نريد كشف القناع عن أنفسنا.
كيف يتم بناء التواصل والتفاهم :
إن المعاركة والانتصار كثيراً ما يكون هدفاً بحد ذاته لدى البعض ، فإذا كان هدفك التفاهم والتعاون المستمر مع الآخرين فعليك أن تمتلك المهارات والقدرات التي تمكنك من إقامة التواصل الجيد والتقيد بقواعد التفاهم المثمر وعدم إظهار التفوق والقوة على الطرف الآخر. عندما يكون الانطباع الأول سيئاً يقرر طبيعة العلاقة من خلال القلق الذي يتحول إلى موقف دفاعي فيلتزم الآخر الحذر والسكوت أو يصبح المرء هجوميا ومتوتراً أو يتصنع إبراز الثقة الزائدة.
الفكرة الأولى :
إذا كنت تشعر أن مصلحتك ي تشجيع محدثك على التعاون المثمر تجنب وإياك أخطاء التفكير النمطي. وكن على وعي بما أتيت به إلى اللقاء. وحدد لنفسك المزايا التي تتمتع بها ونقاط ضعفك في علاقاتك مع الآخرين.
الفكرة الثانية : أزل الحواجز وأعط الآخر فرصة ليتعرف عليك ولا تظهر صورة مصطنعة ولا تتأخر في طرح الأسئلة التي تتقرب بها إلى الآخرين.
ومما يساعد هنا إتاحة الفرصة للتواصل الجيد وتجنب سوء التفاهم وتقديم معلومات مباشرة بما يسمح بالتحكم في موضوع النقاش وتوفير إمكانية توجيه الحديث إلى نقاط مختارة وليس خطئاً أن ترفض أنت أو الآخر الإجابة على الأسئلة المبائرة بدون أن يشكل ذلك عقبة في التواصل.
الاستجابة البناءة :
هي التي تدفع المتحاورين للوصول إلى مزيد من نقاط التفاهم واستمرار اللقاء. وتتحقق هذه الاستجابة بالبعد عن الحوار التقييمي للآخر أو النقد الذي يمكن بسهولة ن يحرج محدثه، ولا بأس من الإشارة بطريقة ودية إلى بعض ما يزعجنا ولفت نظر الآخرين إلى الآثار السلبية الناجمة عن تصرفات أنانية أو استفزازية. وهنا تجدر الإشارة إلى بعض مزايا الآخر وتقديره وحتى إظهار الإعجاب بما لديه لأن التعبير عن المشاعر الإيجابية يحقق تواصلاً متكاملاً.
لقد حان الوقت لنبادر الآخرين بمثل هذه العبارات :
- إنه لمن دواعي سروري أنك تقدر جهودي في التحضير لهذا اللقاء.
- إني أشعر بالامتنان لأنك لبيت دعوتي
- إني أقدر هدوؤك وسعة صدرك.
- لا يسعني إلا الإشادة بالفائدة التي قدمتها
- اعتذر إن أخطأت أو أسأت إليك بدون قصد
وبهذه الطريقة نوقظ المشاعر الإيجابية الحقيقية أثناء التواصل مع الآخرين، وفي المقابل يجدر التجاوز أو البعد عن عبارات مثل :
- إن عمرك لا يعطيك الخبرة والقدرة الكافية
- إنك لا تفهم ولا ترتقي إلى مستوى هذه الأفكار ولا يمكن الاعتماد عليك
- اقتراحك تافه وسخيف وأنت متحيز ومغرض
- إنها امرأة غبية ومغرورة.
إن أكبر مشاكل التواصل هو اعتقادنا امتلاك الحقيقة دون الآخرين أو أننا الأقدر والأعلم لفهم كل ما يدور من حولنا. واستشفاف المستقبل. كل ها لا ينسي التنبيه الواضح إلى بعض النقائص أو الأخطاء أو شرح الاختلاف في وجهات النظر والاحتجاج الهادئ والاعتراض البعيد عن الفظاظة ضروري ويساعد لوقف العدائية رغبة التسلط أو الخروج عن الموضوع لدى الطرف الآخر، ولا بأس من استخدام عبارات مثل :
- إنني لا أوافقك الرأي وأختلف معك تماماً في نقطة محددة
- يبدو أنه لم يتوضح ما أريد شرحه
- ربما أسأت فهمي
- لعلك لم تعطني الوقت الكافي لتوضيح فكرتي
ويفضل عدم التعميم في التخطيء أو التصويب والبعد عن الأحكام الشاملة والتقييمية للأشخاص والأفكار ونبذ الشك وسوء النية بشكل دائم والابتعاد عن الانتقاد الشخصي المباشر أو الإساءات السلوكية الجارحة لأننا بهذه الطريقة نخسر الآخر ونحبطه على نحو غير مرض.
ولعله من الأهمية التأكيد على البعد عن الحديث والفوقي والوعظ وتعليم الآخرين ما ينبغي عليهم فهمه لما لذلك الأسلوب من أثر تنفيري يفقد صاحبه المصداقية ويسيء إلى أفكاره حتى لو كانت مفيدة أو صحيحية.
أسس التفاهم المثمر والتواصل الجيد :
لا تقيم
لا تعمم
لا تفسر
لا تقدم نصائح جاهزة
عرف عن نفسك
اعرف شريكك في الصراع
قدم للآخر مبررات التواصل
أيها المتحدث! أيها المستمع!
ميز بين المسائل الجوهرية الثانوية لا تعرقل محدثك
تحدث إلى المستمع وليس عنه أعط المتحدث الوقت والانتباه
عبر عن حاجاتك ومشاعرك ومخاوفك تحقق هل فهمت القصد جيداً
الإصغاء الفعال
إن القدرة على الاستماع هي الأداة الرئيسة للوصول إلى وتواصل بين الناس وخاصة في مواقف الخلاف والصراع، وهي تلعب دوراً واضحاً في التخفيف من الميول العدوانية في لحظات التوتر والانفعال. إن الإصغاء الفعال يحمينا من الوقوع أسرى أفكارنا المسبقة أو انفعالاتنا المحمومة، ولتحقيق ذلك علينا تعلم ثلث مهارات :
1- التلخيص : هو تكرار ما قاله محدثنا مستعملين في ذلك كلماتنا الخاصة وهو مفتاح الاصغاء الفعال ويبدأ بعبارات مثل :
مما تقول فهم أنك .......
إذا كنت أفهمك جيداً فإنك تعتقد أنك ......
قل لي هل فهمتك جيداً .
بهذه الطريقة تركز انتباهك على ما يقول محدثك ويسهل عليك فهمه. ومن الأخطاء الشائعة في الحوار، المناورة ومحاولة إقناع الآخر بسرعة بصحة وجهة نظرنا وهذا يجعلنا نركز انتباهنا على أنفسنا وأفكارنا الخاصة والتلخيص له دور كبير في توجيه انتباه المتحدث إلى النقاط التي تهم الطرفين.
إن الانتباه والتركيز وتلخيص النقاط والأفكار يمنع المحاور من الشرود ويجعله يركز على الموضوع المتفق عليه للنقاش.
2- عكس المشاعر : إن التواصل البصري والتركيز على لغة الجسد بمعنى التركيز على حركات أيدينا وجسدنا يعطي الآخر الثقة والأمان ويوحي له باهتمامنا بما يطرحه ويساعد بشكل كبير على رفع قدرته في إيصال ما يريد من الأفكار ويقرب وجهات النظر مغيباً مفهوم العدائية في الحوار.
إن تمثل عالم المحدَّث يفيد في قيادة موضوع الحديث حول النقاط الهامة التي نرغب بها وعندما يحس محدِّثنا بأننا قريبون من عالمه الخاص يكون من الأسهل علينا التأثر والتأثير الإيجابي في مجريات ونتائج الحوار.
3- توجيه الحديث : إن إطالة الحديث والإجابات المعقدة والمتشعبة تصرف الآخر عن الانتباه وتشتت تركيزه ويضيع الوقت، وهنا لا بد من التدخل وإعادة التركيز باستخدام مهارة التلخيص وطرح الأسئلة الاستفهامية وطلب العودة إلى موضوع المحادثة الأصلي.
تشجيع المحدث :
يكون بالبدء بالكلام عن خبراتنا أو خبرات الآخرين المفيدة في مجال النقاش، وبإبداء الجزء لمخفي الإنساني في شخصيتنا فيتشجع على أن يحدثك حديثا أعمق وأصرح عن خبراته المشابهة، ويساعد في ذلك تحديد نقاط الحوار بوضوح ودقة والبعد عن العمومية والتوجيه.
إن توجيه الأسئلة ضروري من أجل السير نحو نتائج مرضية في الحوار.
أدوات الاستماع الفعال
1- التلخيص : ويتطلب مهارات :
الانتباه
الفهم
التركيز على الموضوع
2- التمثل : ويتطلب مهارات التلاؤم مع المحدِّث من خلال :
التحكم بالوضعية الجسدية
قوة وإيقاع الحديث
التناسب مع مزاج المحدث
3- توجيه الحديث : ويتضمن :
ترتيب محتوى مبعثر الحديث
تشجيع المتحدث على الكلام
توجيه الأسئلة
إن اعتمادنا الحوار والنقاش وسيلة للوصول إلى تحقيق الأهداف الوطنية وتقريب وجهات النظر وتخفيف التوترات وإنهاء الخلافات الحادة سيؤدي إلى تحقيق أصعب الغايات العملية والواقعية. وفي نفس الوقت يجنبنا سلبية الصراعات ويساهم بشكل فعال في بلورة أفكار رئيسة ومفاهيم أساسية يعتمد عليها وينطلق منها التغيير المطلوب نحو الأمثل والأفضل.
في النهاية تبقى هذه الدراسة المعتمدة أساساً على كتاب (احترام الصراع) لغوت، هامان. وجهة نظر ورأي قابل للإضافة أو الحذف أو الخطأ والصواب. وهذا الجزء الثاني والأخير أبدأهُ بالسؤال التالي :
كيف يمكن مواجهة مواقف الضغط والتحكم :
للإجابة على هذا السؤال يلزم تعرف (التوكيد الذاتي) وهو تصرف الفرد في العلاقات مع الآخرين بحيث يعبر عن مشاعره ومواقفه ورغباته وحقوقه بشكل صريح ومباشر وحازم، دون أن يخل بحقوق أو مشاعر الآخرين.
في الواقع أننا نخضع ونستسلم عندما نسمح للآخرين أن يغتصبوا حقوقنا وحجر الأساس في ذلك هو شعورنا بصعوبة قول لا وقلقنا من التقييم السلبي لنا من قبل الآخرين. ويساعد على توكيد الذات قول حازم وواضح يصف ما نريد وما لا نريد فعله بشكل محدد وعلى تبرير مختصر حقيقي للرفض أو التجاوب.
أسباب الغضب أثناء الحوار وكيفية تجنبه :
من الضروري معرفة أنه عندما يجد الغضب المكبوت والمتراكم مخرجاً للتعبير يشكل على الأغلب انفجاراً غير ملائم لطبيعة الموقف الذي سمح بظهوره. مما يفاقم المشكلة ويضيق آفاق التعامل فالغاضب يستعمل عبارة : العالم شرير، لا يمكن اليوم الثقة بأحد، الجميع سيعون لاستغلالي وإيذائي ولا أحد يصغي إلي. ولكن عندما يكون الإنسان منسجماً مع نفسه وعواطفه ويشعر بغضب طبيعي يستخدم العبارة التالية : أشعر بالغضب والريبة تجاه العالم والآخرين. والفرق الكبير بين العبارتين هو الذي سيساهم في إبقاء التواصل ويترك الباب مفتوحاً من أجل المزيد من النقاش.
قبل أن يتراكم فينا الغضب ويتصاعد بحيث يعرقلنا عن متابعة عملنا وحوارنا يفيدنا تعلم واستخدام العبارات التالية : من فضلك لا تقاطعني ودعني يا سيدي أنهي ما أقوله، يضايقني كثيراً أنك تقاطعني اسمح لي أن أنهي ما أريد قوله، ملاحظتك في محلها إلا أنني لم أكمل حديثي بعد، جميل منك إيضاح فكرتي لكني أرجو منك الانتظار حتى أنهي وجهة نظري.
وربما كان من المفيد التوقف لبعض الوقت في لحظات الشحن والتوتر والانسحاب المؤقت ومن ثمة العودة بعد الاستراحة برغبة معلن عنها من كل الأطراف في الاستمرار في الحوار.
الاستعاضة عن التقييمات بالآراء:
المقصود هنا ألا نأخذ تقييمات الآخرين على أنها حقيقة كاملة وموضوعية تنطبق علينا أو على أنها أحكام قاطعة ضدنا أو في حقنا, لأننا عندما نعتبرها كذلك نعطي لتقييمات الناس قيمة أكبر مما ينبغي ونسمح لهم بالتأثير بشدة في مجرى حياتنا وفي النتيجة فإننا سوف نوجه حياتنا طبقاً لتوقعات الآخرين ومتطلباتهم، بدلاً من توجيهها في ضوء حاجاتنا وقيمنا الخاصة، والحل يكون باعتبار التقييمات الموجهة من الآخرين آراء ووجهات نظر قد تمتلك الحقيقة أو بعضاً منها أو تخالفها ويمكن لنا استخدام عبارات لها تأثير إيجابي تجاه ما يطرحه الآخرون كتقييمات لنا : لا أتفق معك في حكمك علي، إن لي رأياً مخالفاً وربما لم تنظر إلى المسألة من كافة جوانبها، في الواقع إني أرى نفسي بشكل مختلف عن طرحك لكن هذا لا يعني عدم توجيه الشكر للآخرين أو التعبير عن المشاعر الإيجابية وقبول المجاملة وتبادلها.
ويمكن التعامل مع النقد الموجه إلينا بشكل سلبي بمواجهة الاتهامات بصراحة ومباشرة والاستفسار عن المعلومات الضرورية وطرحها أيضاً. ولا بد أحياناً من الاعتراف بأننا لسنا في الحقيقة كاملين أو معصومين أو أننا نمتلك الصواب بعينه، وفي حال معرفتنا بارتكابنا خطئاً واضحاً لا بد من استباق النقد لأنفسنا وهذا في الواقع خير أسلوب لتفريغ التوتر وإبعاد العدوانية.
كيف نفاوض أو نحاور كي نصل إلى إحراز التعاون :
تعرف المفاوضة على أنها أسلوب مميز في الحوار يهدف إلى الوصول إلى اتفاق في موقف يرتبط فيه طرفان ببعض المصالح التي منها ما هو مشترك ومنها ما هو متعارض. وهذا خلاف لمفهوم العراك الذي يهدف إلى الانتصار على الخصم. وما ينطبق على المفاوضة ينطبق على الحوارات الثقافية والفكرية.
ومن المفيد هنا عرض قواعد إذا ما اتبعت بشكل جيد فإنها عادة توصل إلى التعاون المثمر وتحقيق الفوائد المشتركة.
1- التمييز بين الأشخاص وبين المشكلات أو الأفكار
2- تركيز الاهتمام على المصالح والأفكار الرئيسة وليس على المواقف
3- القيام بصياغة الأسئلة قبل أن تصاغ الإجابات وهذا يحمينا من الوقوع في شرك أفكارنا المسبقة التي قد تمنعنا من فهم الآخر أو التوصل معه إلى مصلحة أو هدف أو فكرة مشتركة.
4- البحث عن الحسنات والإيجابيات والتحدث عنها أثناء التحاور التفاوض وليس التركيز فقط على السلبيات أو نقاط الضعف والفشل.
مراحل الحوار أو المفاوضة الهادفة إلى التعاون :
إن الاتفاق على قواعد للسلوك وتنظيم الحوار والتفاوض يساهم بشكل فعال في الوصول إلى الغايات المطلوبة، والذي يساعد على ذلك وضع قواعد ملزمة يتم الاتفاق عليها وتنفيذها وهذا يمنع من الوقوع في الحوارات العشوائية وإضاعة الوقت ويجنب التوتر والشك وأشكال سوء التفاهم.
وهنا نقترح عدداً من القواعد :
1- لماذا اجتمعنا
2- ماذا يمكن أن نفعل
3- ترتيب الموضوعات التي سنتناولها
4- تحديد الوقت اللازم للتفاوض والحوار
5- تحديد أطراف رئيسة يكون لها الأفضلية والأسبقية
6- تحديد منسق أو ضابط للجلسة يتولى إدارة الحوار ويسجل النقاط الرئيسة
7- حفظ وتسجيل الأفكار والمقترحات والخلاصات.
8- تحليل الخلاصات السابقة.
جدير بالذكر قبل كل مفاوضة أو حوار تحديد أسباب اهتمامنا ولماذا نريد الحوار والتفاوض وما هي الفائدة أو الهدف الذي نبغي الوصول إليه. ويجدر التذكير هنا بضرورة العودة إلى القواعد التي ذكرناها في الجزء الأول من الدراسة حيث لا يصح نسيانها أو تجاهلها في كل مفاوضة أو حوار. ومن ذلك :
- تركيز الاهتمام على الفوائد المرجوة وليس المواقف
- الحديث بوضوح عن أهدافنا الشخصية بحيث تكون الفائدة مشتركة ومتفق عليها والانتباه بشكل فعال إلى أهداف ومصالح الآخرين المرجوة من الحوار
- الاستفادة من الخبرات السابقة لكل الأطراف المشاركة.
ختاماً أرجو أن تقدم هذه الدراسة الموجزة - المعتمدة أساساً على كتابا احترام الصراع - فائدة تساعد وتساهم في تحقيق فائدة أكبر لجلسات الحوار والنقاش التي عادة ما تكون بحاجة إلى بعض التنظيم والنصائح حتى تحقق القيمة والأهمية المطلوبة.
www.shrooq2.com