الثلاثاء، 12 يوليو 2011

الاستعمار اللغوي وضياع هويتنا

الاستعمار اللغوي وضياع هويتنا الكاتب فتحي خليفة العابد اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، وهي الوعاء الذي حفظ تراثنا، بل كثير من تراث العالم الذي ترجم إلى اللغة العربية، وضاعت أصوله في لغاته، فهذه السلطة الرمزية التي مارستها اللغة العربية داخل منظومة تراثنا الفكري أكملت معمارنا الثقافي العربي تحت قبائه الإسلامي، فتخلقت قضية اللغة العربية في بعدها المعرفي ثم تطورت في امتداد ثقافي ومرجعيات رمزية تجعلنا نطرح سؤال في غاية الأهمية: هل اللغة تنعكس عليها صورة الواقع السياسي بين المد الحضاري المتألق والإنحسار التاريخي الطارئ؟ يقول ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) "إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليها… فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم"، وقد شرح ابن منظور في مقدمة (لسان العرب) الأسباب التي دفعته لتأليفه، كيف آل باللغة العربية على لسان أبنائها إلى الإنحلال " حتى لقد أصبح اللحن في الكلام – بنص عبارته – يعد لحنا مردودا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون وسميته لسان العرب"، وقد ذكرتني هذه المقدمة بحادثين مرا بي: الأولى قصة رواها لنا أحد أصدقائنا المصريين أنه رأى في قرية الدقهلية (في شمال مصر) محل مكتوب عليه"بوتيك سنو وايت" فسأل صاحبه عن معنى هذا العنوان، فأجابه "موش عارف.. لكن حلو.. ملعوب..ابني شافه في البندر فنقله"، والثانية في محطة القطارات في روما وكنت يومها منتظرا رحلتي فاقترب مني شخص أسمر له ملامح عربية مع امرأة شقراء وسألني بالإنجليزية عن رقم رحلته فطلبت منه أن يعيد سؤاله بالعربية فاغتاظ واتهمني بالرجعية وأن العربية لغة التخلف، فرفضت أن أدله إلا إذا غير لغته اتجاهي مدركا وقتها أنه مضطر للتعامل معي بسب الساعة المتأخرة من الليل، فاستسمحني وجاء عند طلبي متعذرا بعقدة نفسية لديه، إن الأمة التي تحترم نفسها، وتحرص على تحقيق هويتها يجب عليها أن تحترم لغتها ولا تسمح بمثل هذا الإستعباد اللغوي. قد كانت المسألة اللغوية حاضرة بقوة حين بدأ العرب يواجهون التحديات التي أملتها حركة التحرر من الإستعمار، والإحراجات التي جاءت بها دولة الإستقلال، ثم أصبحت الآن حاضرة بكثافة في الفكر العربي خاصة بعد اجتياح العراق، وألف العرب أنفسهم يعيشون في زلزال يكاد يعصف بجل المرجعيات التي عاشوا عليها، فلا بد لنا أن ندرك بأن وعينا بلغتنا العربية هو الذي يستدعي وعيا سياسيا ومن ورائه وعي حضاري، مما يجعلنا ننخرط في ميثاق اللغة، وهذه إجابة لمن يضع الكلام في غير محله، وأن ابن خلدون لما تطرق إلى أن غلبة اللغة بغلبة أهلها وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم، كان يقصد اللغات الأخرى وليست اللغة العربية التي جاء بها القرآن الكريم ودونت بها السنة المطهرة واعدا الله بحفظ وعائها الأكبر ألا وهو القرآن. لقد واجه الفكر العربي المعاصر معضلة التراث المزدوج، فكان التصور الذي أسند إلى اللغة العربية أفضلية مطلقة بالذات والمنشأ ثم جزم بأنها أفضلية أزلية أولا وأبدية ثانيا لأنها اختيرت لختم الرسالات وكان على رأس هذا التصور رائد مدرسة الإعتزال القاضي عبد الجبار، وتصور آخر انخرط مبكرا في ميثاق العقلانية ذات المهجة الإنسانية وأن كل اللغات ذات طبيعة اصطلاحية عرفية، فهي بموجب ذلك متساوية في القيمة. إن الوظيفة التي تؤديها اللغة العربية اليوم لم تعرفها كثير من الثقافات لا السابقة ولا المعاصرة: إنها الركن العتيد بين أعمدة معمار الهوية، وكانت على الدوام تستمد سلطتها من النص المؤسس (القرآن) الذي كانت معجزته بنصه فيها وفي نصه عليها. ولئن حض القرآن الكريم على الزهد في المعيار العرقي متجليا في قوله تعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات 31) وبشاهد السنة "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" فإن سلطان التاريخ قد محا المسافة بين اللغة والإنتماء إلى نسبها. ومهما تكن المرجعيات المذهبية فإن العامل اللغوي قد كان حاضرا بين النوى المؤسسة للمنظومة، فالنهضة الحضارية انطلقت في القرن التاسع عشر مستلهمة الفيض الروحي فأقامت تصورا للهوية عناصره الدين واللغة والتأويل، وهذا التأويل مداره النص والتاريخ، وامتد هذا الإستلهام بغزارته إلى يوم الناس هذا حتى أصبحت تلك الثلاثية عقدا جامعا للصحوة مهما اختلفت أماكنها. ثم اختلف التصور لأركان الهوية فأصبح قومي بعدما كانت دعائمه الدين واللغة والنسب، ثم تبلور فأبقى على النسب واللغة ولكنه استبدل الدين بالإنتماء التاريخي حتى يقحم في الفلسفة النضالية أبناء كل المعتقدات، وإذا باللغة هي الركن الوحيد القار بين النظريات الثلاث. لقد كانت الهوية مفهوما حضاريا تاريخيا مجسما مفهوم اللغة في الفكر العربي المعاصر وهو يخوض معركة الأنا والآخر تجسيدا سياسيا واعيا بأن حركة الإستعمار تسعى بإصرار إلى زعزعة المرجعية اللغوية، وهذا يحملنا على استكشاف ثلاث أزمات اخترقت سلطة اللغة العربية في تاريخنا المعاصر، أزمة اللغة العربية مع اللغة الأخرى، وأزمتها مع العلم اللغوي، وأزمتها مع نفسها، لذا كان رواد الفكر العربي على وعي تام بأن اللغة العربية تحمل معها مجدا تاريخيا جليلا لأنها إلى اليوم هي لغة الغالب، وبفضل ذلك تعامل أهلها مع اللغات الإنسانية تعاملا نبيلا خال من كل العقد الثقافية والفكرية، بل توفقت مؤسسات أكاديمية عديدة في تحويل اللغة الأجنبية إلى حليف استراتيجي للغة العربية، ثم حاولت حركة الإستعمار ربط المعرفة العلمية باللغة الأجنبية بعدما يئست من خلخلة الصلة بين الهوية الدينية والهوية اللغوية، وكان مدارها علاقة العربية بالعلم اللغوي الحديث وأن جل العلوم الإنسانية أتت باللغات الأجنبية. أما الأزمة الثالثة والحساسة فتتمثل في علاقة اللغة العربية بذاتها من خلال علاقتها بالتاريخ، وهو ما أفضى إلى تعدد المداخل لمعالجة الموضوع "اللحن" وما يتبعه من " تصحيح" أو " تصويب" ودرس من خلال ثنائية المعيار والإستعمال، ثم تيسير النحو، وقد برزت وقتها جهود أعلام كتاب بدأها علي عبد الواحد وافي في كتابه (علم اللغة) ثم تلاه بعد ذلك ثلة من الرواد منهم على سبيل المثال، من لبنان أنيس فريحة ورمزي بعلبكي سموه الألسنية، وفي الجناح المغاربي من تونس صالح القرمادي، ومن الجزائر عبد الرحمان الحاج صالح، ومن المغرب أحمد الأخضر غزال، حيث استقروا على مصطلح اللسانيات، بعدما كنا نظن أن الإرث المعرفي المتصل باللغة اكتمل مع كتاب سيبويه، عندها تضافر ضغط الثقافات الأخرى علينا لحجب اللغة العربية وتقليص مجالاتها التداولية ولا سيما في منابر الإعلام الفضائي حيث استبدلت كثير من القنوات الفضائية عبارة تحقيق مصور ب "ريبورتاج" وحق النقض ب " الفيتو" أو آلة التصوير ب " كاميرا " وكلمات كثيرة مثلها في الإعلانات مما يدفع الأطفال إلى حفظها، وقد حرصوا حرصا كبيرا على تداولها كثير من إعلاميينا العرب باسم " الواقعية التاريخية الجديدة "، فأي واقعية هذه، إنه ضياع هوية واستحمار ثقافي وعجز لغوي بل خلل تربوي. يجب أن نقتنع وخاصة هنا في الغرب بأن رسالتنا الحضارية تتمثل في حراسة لغة الضاد وحراسة علومها على الشكل الذي جاء به التراث، وأن سلطة النص وسلطة النحو مكنتا اللغة العربية من أن تعمر ما يزيد على سبعة عشر قرنا دون أن تنسلخ عن أبنيتها الصوتية والصرفية والنحوية، وأن بوسع اللغة العربية أن تمد هذا العلم الجديد بما لا تمده به الألسنة الأخرى، لأنها لغة إعرابية أولا واشتقاقية ثانيا ومتوفرة ثالثا على منظومة من الوصف النحوي يرقى إلى درجة عالية من التجريد الصوري. http://www.voiceofarabic.net/index.php?option=com_content&view=article&id=668:2010-07-26-16-04-47&catid=12:2008-06-07-09-40-57&Itemid=442

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق