الجمعة، 1 يوليو 2011

اللغة الرسمية والهوية الوطنية في ظل المجتمع المتعدد اللغات

اللغة الرسمية والهوية الوطنية في ظل المجتمع المتعدد اللغات ــــ مجاهد ميمون ------------------------------------------------------------------------------- لقد كانت إشكالية اللغة الرسمية والهوية الوطنية، ولازالت قضية جوهرية، تثار في مختلف الميادين المعرفية. خاصة مع ما يشهده العالم من تحولات فكرية، وسياسية، وصراعات أسس لها الاستعمار الحديث وبلورتها التحولات الاجتماعية المتسارعة الخطى. فلا غرابة إذن أن تكون هذه القضية مركز استقطاب الدراسات السوسيولسانية والأطروحات السياسية. بين الهوية واللغة : المعروف أن الهوية هي المظاهر الفكرية والثقافية والروحية التي من خلالها يتميز مجتمع ما عن غيره من المجتمعات، والملامح التي تعكس طريفة حياته وعاداته ومعتقداته، والقيم والمثل والمفاهيم الحضارية التي عبرها تتبلور شخصيته، ويتجسد انتماؤه، وتتأسس ذاته، التي تستمد خصوصيتها من مقابلتها الآخر، واختلافها عنه. ولعل أهم مظهر لتجسيد هذه الهوية هو اللغة، كونها تشكل العامل الأساسي في تكوين الأمة، وربط نفوس الأفراد فهي "مرآة الشعب ومستودع تراثه وديوان أدبه وسجل مطامحه وأحلامه وأفكاره وعواطفه، وهي فوق هذا وذاك رمز كيانه الروحي وعنوان وحدته وتقدمه وخزانة عاداته وتقاليده".(1) لذلك يتشبث كل مجتمع بلغته، وتبقى عالقة في وعيه الجمعي، وتصبح هي لسان وجوده وعامل بقائه، وسبيل دوامه، ومطهر تميزه، واختلافه عن الآخر، ومن خلال توظيف المجتمع للغته نتبين شخصيته وحضارته، بعبارة أخرى، بها تتجلى وتتضح ذاته، التي تنعكس على طبيعة تفكير الفرد "وهذا ما يجعلنا نقول واثقين إن الفرد يندمج في المجتمع باللغة التي تلعب دور القلب النابض، محركا وموحدا، فيها وحدها يتلقى تراث أمته الفكري والوجداني والأخلاقي والديني والاجتماعي والسياسي"(2) ونتيجة لكل ذلك يصبح للغة الدور الأبرز في الدفاع عن الذات، وعن الوجود، من خلال محاولة تجسيد الهوية، وإبراز ملامحها أمام الآخر، ولذلك كانت هذه "بلا منازع أبرز السمات الثقافية، وما من حضارة إنسانية إلا وصاحبتها نهضة لغوية، وما من صراع بشري إلا ويبطن في جوفه صراعا لغويا، حتى قيل إنه يمكن صياغة تاريخ البشرية على أساس صراعاتها اللغوية".(3) في المجتمعات البسيطة الأحادية اللغة، يبدو تقاطع اللغة مع الهوية أمرا محسوما، انطلاقا من أن اللغة تتمظهر في صورة واحدة، تنطلق فيها من الهوية وتعود إليها وتصبح اللغة الثابت، الشخصية، الوطنية، ثم الرسمية. وهذه الحالة نادرة الوجود في عالمنا، باعتبار أنه حتى في بعض المجتمعات التي ينظر إليها على أنها أحادية، تتمظهر اللغة على مستويين : الفصيح والدارج أو الكلاسيكي والعامي، ويلاحظ نوع من التباعد بينهما نتيجة تأثيرات عدة ترتبط بطبيعة اللغة في حد ذاتها، مدى تماسكها وقوتها، وأثرها وتأثرها باللغات الأخرى،خاصة في المجتمعات الحديثة الاستقلال، التي تعاني من رواسب الاستعمار، فرغم اعتمادها لغة رسمية واحدة، إلا أنه بسبب عدم التخطيط اللساني الجيد، واعتماد سياسات لغوية غير سليمة، تغلب عليها الارتجالية، وعدم وجود ظروف سياسية واجتماعية وفكرية وثقافية مناسبة، ونتيجة التخلف الاقتصادي، يزداد التباعد بين الرسمي وما يوجد في الواقع .هذا التباعد يحدث خللا في انسجام الأنا مع الذات، نتيجة الانبهار بالآخر، بلغة الآخر وثقافة الآخر، وفكر الآخر، الآخر الحضارة، التقدم والآخر الحرية... اللغة الرسمية والهوية الوطنية في المجتمع المتعدد اللغات : كل شيء في المجتمعات المركبة متعدد، الثقافة، الأعراف والتقاليد، وحتى المعتقدات - في كثير من الحالات -، بعبارة أخرى عوض الهوية الواحدة تصبح الهويات وعوض اللغة الواحدة تصبح اللغات. وفي هذا المجتمع المتعدد اللغة، تشكل تمظهرات اللغة تجسيدا واضحا لشبكة العلاقات المختلفة بين الأنا والآخر، علاقات تخضع للتجاذب حينا، والتصادم حينا آخر، يؤسسها تموقع لغة مقابل اللغة الأخرى، إما انطلاقا من مكانتها السيادية المتحكمة في الأمور الرسمية في المجتمع، أو اعتمادها كرافد أساسي لها، أو خضوعها لها وعدم اعتمادها فيها أساسا. وتبعا لهذه العلاقات تطفو إلى السطح قضية الانتماء والهوية، وتتفاعل إما سلبا أو إيجابا، وتؤخذ مطية وشعارا أو سلاحا لإثبات الذات أمام الآخر. وتبعا لذلك كله يصبح اختيار لغة رسمية لمجتمع من هذا النوع أمرا غير محسوم مسبقا، بل بالعكس تتجاذبه مجموعة من الحسابات والخلفيات، ويصير إذا لم يخضع إلى تخطيط لغوي مبني على أسس سليمة محفوفا بالمخاطر، بالنظر إلى التركيبة الإثنية المعقدة لبعض المجتمعات. وتبعا لحساسية علاقات هذه التركيبات يأخذ الأمر بعدا آخر، كثيرا ما يقترن بالهوية والوجود والانتماء. وقليلة هي المجتمعات من هذا الصنف التي تعتمد لغة رسمية واحدة، دون أن يؤثر ذلك سلبا على الحياة السياسية فيها. إن بحثا واستقصاء متواضعين جعلانا نقف أمام حالات تمظهرات كثيرة للغة الرسمية في علاقتها باللغات الأخرى في هذه المجتمعات. ولأنه من الصعب التطرق إليها جميعها في هذه المقام، ارتأينا أن نحصرها في ثلاث حالات متباينة. 1 - حالة انسجام : وفيها تكون اللغة هي المعتقد، الهوية نفسها، الغاية، الذات المنشودة، أكثر من ذلك، هي المصير التي يصبح معها لا معنى للأنا الفردي الذي يذوب في الأنا الجمعي. ويتفرد بهذه الحالة ما يحدث في إسرائيل التي يصطلح عليها بالدولة العبرية. ولا ربما هي الحالة الوحيدة التي يختزل فيها الأنا المتعدد في الأنا الواحد - فعليا وعمليا -، فرغم تعدد التركيبات الاجتماعية الوافدة إليها، وتعدد اللغات باعتبار البلدان التي هاجرت منها، إلا أنها تصبو جميعها لتوظيف اللغة العبرية بل والأكثر من ذلك تحرص هي نفسها على ذلك - عدا عرب فلسطين المسلمين الموجودين داخل إسرائيل - "فبالرغم من عدم استعمال العبرية على نطاق واسع بين السكان في إسرائيل فقد اختاروها لتكون اللغة الحكومية الرسمية"(4)، فاللغة الرسمية هنا هي المعتقد هي الهوية، والجامع، كونها الخصوصية، والمميز عن الآخر. 2 - حالة توافق : ا - تكون اللغات الوطنية جميعها لغات رسمية، حفاظا على تعدد هويات المجتمع، وفي هذه الحالة تحتفظ كل مجموعة إثنية بلغتها عنوان هويتها، لكنها تتوافق مع الآخر، تقبله، وتتكامل معه، حفاظا على الهوية الجمعية للوطن الواحد. ورغم أن هذه الحالة لم تجسد في بعض الدول إلا بعد كفاح طويل وطول نفس نتيجة سيطرة وتسلط لغة واحدة على اللغات الأخرى، إلا أنها جنبت هذه الدول التفكك والتصدع، كونها خضعت لتخطيط لغوي صارم، سخرت له كل الإمكانيات حتى ينجح. والأمثلة على هذا النوع كثيرة، لعل أهمها ما يحدث في سويسرا، أين تتكامل اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية باعتبارها لغات وطنية اعتمدت جميعها كلغات رسمية لهذا البلد. والأقرب منها بلجيكا أين رسمت اللغتان الألمانية والفلامانية بعد أن كانت اللغة الفرنسية هي المسيطرة، فرأى الفلامندر والوالون أن في ذلك انتقاصا من شأنهم وتهميشا لهويتهم، وكان لهم ما أرادوه بعد طول مطالبة لإثبات الذات، والوجود، وعدم القبول بالذوبان في لغة الغير وثقافة الغير وهوية الغير. ب - يوجد في بعض الدول عدد لا يحصى من اللغات واللهجات، وهي حالة يصعب معها اعتماد لغة من هذه اللغات الوطنية لغة رسمية، أو التفريط في لغة أخرى وتهميشها، نظرا لتشبث كل مجموعة بلغتها، وعدم توفر الشروط العلمية والعملية لجعل هذه اللغات لغات رسمية، وعدم توفر الإمكانيات الكافية لذلك. وفي هذه الحالة لجأت بعض الدول، إلى اعتماد لغة دخيلة كلغة رسمية، فاختارت لغة الاستعمار، فأحدث ذلك توافقا بين اللغات الأخرى. وبعض الدول الإفريقية مثال حي لذلك. ومنها السينغال التي يوجد بها حوالي ست لغات وطنية - الولولوف والبال والسرير والمانديغ والديولا والبلانت - إلا أنها اعتمدت اللغة الفرنسية كلغة رسمية، لتحافظ بذلك على انسجامها الإثني، وإن كان في ذلك جنوح للآخر على حساب الذات وما يحمل ذلك من تبعية فكرية. ج - هي حالة تشبه إلى حد بعيد الحالة السابقة إلا أنها تختلف عنها في اعتماد لغة رسمية لا تحمل خصوصيات وطنية فحسب بل حتى جهوية، والواقع أن هذه الحالة تشكل أيضا حالة نادرة، بالنظر إلى أن التعامل مع اللغة يكون له أكثر من دلالة، دلالة الانتماء إلى العرق، إلى المكان، وإلى الهوية في مفهومها الجمعي الواسع. وفي هذه الحالة، نجد أن اللغة المستعملة، عنوانها التحدي وإثبات الذات ليس إلا. لأنها لا تمتلك جميع مواصفات اللغات الرسمية الأخرى ولا تتوفر على جميع الإمكانيات المتاحة لغيرها، ورغم ذلك تحاول أن تجد لها مكانا سياديا، عوض أن تبقى تابعة ويبقى معها المجتمع كله مجتزئ الهوية. ولعل أحسن مثال لذلك اعتماد اللغة السواحلية في تنزانيا. يرى بعض المختصين أن "أفضل الأمثلة الحديثة ما يقدمه اتخاذ اللغة السواحلية اللغة الوطنية في تنزانيا بشرق إفريقيا، ولا يزال ثمة عدد كبير من اللغات القبلية بالإضافة إلى الآثار الاستعمارية للإنجليزية ولكن أنظمة التعليم والتشريع، والحكومة أدخلت بالتدريج اللغة السواحلية لتصبح لغة رسمية."(5) 3 - حالة صراع وتصادم : قد تصبح اللغة الرسمية رديف الإقصاء والتهميش ورفض الغير، عندما تأخذ طابع السلطة، دون احترام خصوصية الآخر، أو الاعتراف بهويته، فيصبح الدفاع عن اللغة والثقافة شعار الدفاع عن الوجود وإثبات الذات، فيبدأ الصراع ويأخذ منحى يتسبب في حالات مواجهة و تصادم "وهناك صراع لغوي عندما تتواجه لغتان واضحتا الاختلاف، لغة هي المهيمنة سياسياـ في الاستعمال الرسمي والاستعمال الشعبي - ولغة أخرى مهيمن عليها"(6)، وتبقى معه بؤر التوتر قائمة على غرار ما يحدث في بعض الدول من أمريكا الجنوبية والهند وحتى الولايات المتحدة الأمريكية التي يبدو فيها ظاهريا انسجاما لغويا "يفترض أن بلدا كالولايات المتحدة الأمريكية مجتمع منسجم اللغة حيث يتحدث كل فرد فيها بالإنجليزية... وهذه نظرة خاطئة، فهي تتجاهل وجود مجموعات كبيرة ليست الإنجليزية لغتهم ومن الأمثلة على ذلك أن الغالبية من سكان سان أنطونيو وتكساس يفضلون سماع برامج الإذاعة الإسبانية بدلا من الإنجليزية".(7) وتبقى هذه الحالات عالقة، طالما لا يعتمد لحلها سياسة وتخطيطا لغويا يأخذ بالحسبان الآخر، الذي يرى في دفاعه عن لغته، دفاعه عن هويته، عن مكونات شخصيته وخوفه من فقدها والذوبان في الآخر. ما ينبغي أن نشير إليه في الأخير هو أن الطرح السليم لقضية التعدد اللغوي في المجتمعات المركبة يجب أن لا يجنح دوما إلى الذاتية والارتجالية، بل يجب أن ينظر إليه دوما نظرة موضوعية يعالج فيها من منطلق علمي منهجي، وتخطيط لساني سليم يأخذ في الحسبان مكونات أمة ما، بجميع أطيافها قصد خلق انسجام وتوافق يسمح للفرد أن يجد ذاته الخاصة في الذات الجمعية، وخلق آليات تسمح بالتفتح على لغات الغير، والاستفادة منها دون التعامل معها انطلاقا من مركب نقص أو الذوبان في ثقافاتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق