الاثنين، 9 مايو 2011

السنة النبوية الشريفة ومستويات التمام السياقي مقاربة لسانية تداولية

السنة النبوية الشريفة ومستويات التمام السياقي مقاربة لسانية تداولية الدكتور إدريس مقبول أستاذ التداوليات وتحليل الخطاب ----------------------------------------------------------------------------------- إن العناية بالوحي إجمالا اقتضت العناية بسياق تنزله فيما يتعلق بالقرآن الكريم وسياق وروده فيما يتعلق بالحديث النبوي الشريف. و"السياق" في مصنفات المحدثين لا يكاد يغيب مصطلحا ومفهوما ، حتى بات يمكن لنا الاطمئنان إلى القول بأن الدراسات الحديثية دراسات تداولية بامتياز وأن الشروح الحديثية هي عبارة عن تحليل سياقي Contextual analysis. التمام السياقي: يستعمل التداوليون مفهوم التمام السياقي باعتباره محددا رئيسا لعملية التأويلInterpretation، ويقصدون به أن المرويات تحمل في طيها معلومات تظل تنقصها مكملاتها مما يحمله السياق من قرائن تفيد في جلاء المعنى وصفاء الصورة الدلالية، كما أن الجمل أو الملفوظات بلغة التداوليين تحتاج إلى التمام السياقي Contextual Completness أي أن تكون الجملة أو الملفوظ غير كاملة في حد ذاتها، لكنها كاملة إذا أخذ سياقها بعين الاعتبار ، والتمام السياقي عندهم في مقابل التمام النحويGrammatical Completness.وكأن التمام السياقي درجة أو حالة من حالات الخطاب أعلى من التمام النحوي،إذ يمكن أن تكون الجمل التامة نحويا غير دالة من حيث طلب النحو للتركيب المستوفي شروط العمل النحوي من غير نظر في استيفاء الدلالة أو انعقاد المعنى. ولقد يعجب المتتبع لكلامنا حين يسمع أن ما نَظَّرَ له رواد الدراسات التداولية وتحليل الخطاب لم يكن لتخلو من آثاره مصنفات المحدثين، كيف لا وهم اجتهدوا رحمهم الله في تقليب المرويات والنصوص ومقابلة بعضها ببعض والتحقق من نسبتها وما عرض لها بنيويا في مسيرتها مذ سمعت من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما كان منهج المتقدمين يقوم على المقابلة والمقارنة والتحقيق ، فقد جعلوا يتحدثون عن السياق التام والأتم من غيره في معرض المقايسة، فالسياق الأتم ما جاء مكتملا متضمنا سائر القرائن التي يحوج إليها التأويل وقد لا تكون واردة في بعض الروايات.ولهذا يجد القارئ لشروحهم ومقابلاتهم تعبيرات تفيد نفس الغرض من قبيل"وروى فلان أتم من هذا". و"قد تقدم أتم من هذا" و"ذكر الحديث أتم منه"،و"سياق فلان أتم". والمقصود بالتمام هنا أحد وجوه التمام السياقي. لقد رصدنا في ورقتنا جملة من الخصائص الحوارية في مخاطبات النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، هذه الخصائص الحوارية السياقية تساعدنا على إدراك الفعل التواصلي وتاليا قضية التمام السياقي ، فبالاطلاع على حقيقة المتحاورين وما يربطهما،أي المسافة الاجتماعية Social distanceالتي يفترض أنها تفصلهما(قريبة أم بعيدة)(حميمية أم عادية أم باردة )،وكذلك الوضع الجسميPostures للأطراف المشاركة من حيث هيئة الجسم وطبيعة الحركة وتقاسيم الوجه في بعض الأحيان التي ترفع دقة التوقعات التأويلية، وبمعرفة القناة أو كيفية الربط بين الأطراف المشاركة في الحدث الكلامي-لفظا أم كتابة أم إشارة ...؟، وبمعرفة الشفرة المستعملة في اللغة أو اللهجة أو الأسلوب المستعمل، وبمعرفة صيغة الرسالة(ما هي الصيغة المقصودة؟)هل هي حديث عابر غير رسمي أم مناظرة أم خطبة أم حكاية أم قصيدة إلخ.. كل هذا وغيره من الخصائص تسعفنا في فهم وإدراك الحدث التواصلي النبوي،كما تساعدنا على فهم إنتاج شراح الحديث من حيث استعمل بعضهم بعض هذه الخصائص وبنى عليها استدلاله في حين أسقط غيرهم بعضها فتوجه تأويله بعيدا في تقديم افتراضات لا يقبلها السياق. إن ما يفهمه ناقل الحديث يرشحه في البرنامج التأويلي ما نسميه بالتمام السياقي المتضمن في الحوار وفي القرائن الحالية التي تصاحب عادة الكلام "من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق،لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختص بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر، حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد، أو توجب ظنا.وكل ما ليس له عبارة موصوفة في اللغة فتتعين فيه القرائن". حاصل الأمر وكما يرى هايمس Hymes فإن السياق يضطلع بدور مزدوج إذ يحصر مجال التأويلات الممكنة..ويدعم التأويل المقصود. فالكلمة كما يقول ستفان أولمان Stéphane Ullmann ليست إلا وحدة تدخل في تشكيل المعنى، بينما يتحدد المعنى بالسياق، ووجودها لا يتحدد إلا في السياق، فهي ليست شيئا في ذاتها. وإذا كان للسياق كل هذه الأهمية في فهم ما يقوم بين المتخاطبين، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، فهناك عاملان يؤثران على المرسل(المتكلم) في اختياره إستراتيجية خطابهStrategy of discourse، من حيث اعتبار علاقته مع غيره، وهذان العاملان هما: - العلاقة بينه وبين المرسل إليه(المخاطب) التي قد تتدرج من الحميمية إلى الانعدام التام، ويسعى المرسل، في هذه الحالة، إلى تعويضها من خلال إيجادها بالخطاب (المقصود على سبيل المثال خطاب المؤلفة قلوبهم). - السلطة: فقد يمتلكها أحد طرفي التخاطب، عندما يعلو الآخر درجة أو درجات. وقد لا يمتلكها أي منهما عندما تتساوى درجتهما، أو عندما لا يربطهما أي علاقة(معلوم أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لم تتضمن كلامه فحسب بل ضمت مخاطبات غيره من الصحابة بعضهم لبعض، ومخاطباتهم للأعراب وللمنافقين ولليهود وللكفار ولغيرهم). وينبني تحديد إستراتيجية الخطاب اجتماعيا على هذين العاملين بشكل عام، وهو مرد تصنيف جيفري ليتش Geoffry Leech للعلاقات بين الناس إلى صنفين: الصنف العمودي ومحوره السلطة؛ والصنف الأفقي الذي يتحدد على أساسه ما يسميه براون Brownوجيلمان Gilmanمعيار التضامنية Solidarityكبعد اجتماعي. المعرفة المشتركة وطي السياق: قد يكون من أسباب طي السياق أو جزء منه ما يسمى بالمعرفة المشتركة Mutual knowledge بين المتخاطبين، وهي مسألة اعتنت بها الدراسات التداولية لما لها من أهمية خصوصا في عملية التأويل، وقد وجدنا عند المحدثين وشراح الحديث أخذا بهذا المبدأ في تفسير عدد من القضايا المتعلقة بالتمام السياقي. إن مظاهر التداخل والتفاعل بين المكونات اللسانية للخطاب ومكونات التخاطب كثيرة ومتعددة إلى حد تجعل المتكلم لا يضطر إلى التعبير لسانيا إلا عن العناصر التي لا يحتويها المقام، فكلما أغنى المقام في التدليل عن تلك المعلومات(والمقام هنا مقام التحديث لأناس يعرفون القصة كاملة) كلما وجد المتكلم نفسه في غنى عن التعبير عنها لغويا، وهذا ما يعين بلاغة الصمت والإضمار. إن رواية الرواة لبعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت هذا المنحى من الاستناد على مبدأ التفاهم الذي غدا بمنزلة المعيار الضابط لطاقة الاختزال أو التصريح في الكلام، وهو معيار له نفس التأثير في تحديد أبعاد الشمول والاستيعاب عند تقدير الظاهرة اللغوية كليا، إذ إن للغة طاقة استيعابية تسمح بنشوء قانون للتناسب العكسي بين طاقة التصريح في الكلام وعلم السامع بمضمون الرسالة الدلالية، وبموجبه تكون الطاقة الاختزالية ممكنة بقدر ما يكون السامع مستطلعا مضمونها الخبري، وبنفس الاستتباع المنطقي يتعذر التعويل على الطاقة الإيحائية في اللغة إن لم يتعين الحد الأدنى من القرائن المفضية إلى إدراك المختزل. صحيح أن الصحابة رضوان الله عليهم نقلوا لنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في ضبطها وروايتها لمن بعدهم من التابعين إلى يومنا هذا مع ما تتطلبه من الضبط والأمانة، فجازاهم الله عنا خير الجزاء، ولكن النظر في عدد كبير من أحاديثه صلى الله عليه وسلم تجعلنا متأكدين من أنهم لم ينقلوا سائر أحواله وأخباره والقرائن الحافة بكلامه مما يعد من صميم السنة النبوية المشرفة، وقد اعتمدوا رضي الله عنهم أجمعين في نقل ما رأوه على مبدأ تداولي يسمى عندنا بمبدأ الجهد الأقل، ومقتضاه عند أهل الاختصاص من اللسانيين ميل المتكلم إلى الاقتصاد في الإفادة بأقل ما تتطلبه من عبارة أو إشارة، وهذا المبدأ كتب فيه كثيرون منهم زيفZipf كتابه الشهير"السلوك الإنساني ومبدأ الجهد الأقل" Human Behavior and The Principle of Least Effort . ولعله لو وصلتنا هذه الأحوال والقرائن السياقية لوصلنا علم غزير، فعدم تمام السياق يجعل الكلام مفتوحا على احتمالات تأويلية تكاد تكون غير منحصرة. لكن أمام هذا الغياب مجال مفيد في الوقت ذاته لتسريح العقل المسلم للاجتهاد وفق ضوابط الشريعة ومقاصدها وإن غابت القرائن وانحصرت النصوص. حكاية الحال وترك الاستفصال: اهتمت الممارسة التراثية في عنايتها بالتمام السياقي وبأجزائه خصوصا في الصيغ التخاطبية الحوارية التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعدد من الملاحظات التي صارت فيما بعد قواعد سياقية Context- restricted Grammar في الفهم وأصولا في التأويل ، فمن تدقيقات شراح الحديث والأصوليين التي ينبغي أن تكتب بماء الذهب، قولهم في قاعدتين: الأولى تؤكد خلوص التمام السياقي من شوائب الاحتمال وهي: "حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال " الثانية تؤكد أن السكوت عن بعض أجزاء السياق(وهو ما يسمى بترك الاستفصال أو السؤال عن التفاصيل يفهم العموم) وهي: "ترك الاستفصال . في حكاية الحال ، مع قيام الاحتمال ، ينزل منزلة العموم في المقال". وقد اجتهد صاحب الفروق الإمام القرافي في شرح القاعدتين من خلال نصوص السنة المشرفة، ونسب القاعدتين إلى الشافعي ، واعتبر أنهما قاعدتان منفصلتان ومتباينتان، وليستا قاعدة واحدة كما ذهب بعضهم،كما أنه لا تناقض بينهما. وقد بينا أنه من وجهة نظر تداولية يعتبر ترك الاستفصال مقتضى سببيا لتفسير الأخذ بالمعنى الراجح في العمومات على مساطر الأحكام الشرعية، وهذا المبدأ وإن كان فيه تقليص من"كم" السياق" quantity of contextبيد أنه لا يلغيه بل يحفظ منه ما يخدم الحكم المطلوب. التمام السياقي رواية: أظهر التحليل أننا مثلا في الحديث المدرج أمام أحد تجليات ومراتب التمام السياقي، وذلك أن الإدراج في حقيقته تداخل لسياقين متباينين ولنصين مختلفين، وقد تم صهرهما ودمجهما لدواع في الغالب تعليمية تفسيرية ديداكتيكية، ولذلك كان عدد من المحدثين منهم الزهري لا يرون فيه بأسا إذا كان لتفسير الغريب ونحوه.واجمعوا على رفضه وإنكاره إذا كان فيه قصد ادعاء أن الكلام منسوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو بمعنى آخر إذا كان فيه قصد إسقاط التناص Intertextuality بتقديم النصين نصا واحدا منسجما. إن الحديث المدرج أحد شهادات صدق وتدقيق المحدثين الذين يجتهدون في التنبيه على كل زيادة في الأحاديث التي ينقلونها مهما كانت هينة ويسيرة حرصا منهم على أن لا يختلط شيء من كلام الناس بالوحي. إن الإدراج تعالقCorrelation – أي الدخول في علاقة- نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة، إنه تعالق نص أصلي قديم مع نص أو نصوص شارحة جديدة تالية في الزمن على النص وسياقه الأصليين. وهذا التعالق في الإدراج إذا تأملناه وجدناه يمثل أحد أوجه تحقيق التمام السياقي في بعده اللساني الذي يجسد التمفصل articulation السياقي والنصي. والسياق النقلي هو المتحكم في الحقيقة في توليد السياق التعليقي مع اعتبار حال المخاطبين بالخطاب النبوي.إذ الحاجة السياقية للتدخل بالإدراج التفسيري هي الباعثة على حصول هذا الضرب من الأحاديث. إننا إذا أعدنا النظر في الحديث المدرج من وجهة تداولية تناصية فإننا نكون قد انتقلنا من النظر للنص ككيان مغلق مجهز بمعانٍ محددة، تكون مهمة الحامل بتعبير ابن تيمية /أو المؤول أن يحل شفرته، إلى رؤيته كشيء متعدد لا يقبل الاختزال، كتفاعل لا ينتهي للدلالات التي تتولد مع كل قراءة، وهكذا فإذا كان (النص) مقولة، يكون (التناص) هو الإجراء الذي تفرضه هذه المقولة " كما أظهر التحليل نفسه أن المسلسل وإن عده غير واحد من علماء الحديث "من صفات الإسناد" بخلاف المرفوع ونحوه فإنه من صفات المتن، وبخلاف الصحيح فإنه من صفاتهما معا. إلا أننا إذا نظرنا إليه من وجهة نظر تداولية وجدنا وصف المسلسل في صلته بالسياق مسألة متنية (أي متعلقة بالمتن أيضا) لأن تكرر الأفعال وتماثلها مثلا في أحد أنواعه هو في الحقيقة حرص على إعادة إنتاج السياقReproduction of context، وكأن السياق لم يعد جزءا محيطا أو من القرائن التي تحتف بالنص بقدر ما صار نفسه نصا مقصودا لذاته، أي مقصودا من باب التأسي الحرفي والمطلق الذي لا يغادر صغيرة أو كبيرة من جزئيات السياق إلا ويستعيدها باعتبارها متنا من نفس درجة المتن الأصلي.بل إن المسلسل من هذا النوع الذي تتماثل فيه الأفعال في روايته خصوصا تصبح فيه عملية إعادة إنتاج السياق الحاف عملية رئيسية تنتفي فيها حقيقة المسلسل إذا فقدت، فالمسلسل من هذه الجهة هو شكل عملي من أشكال حفظ التمام السياقي ، من طريق التكرار السياقي Contextual repetition ،يختلف عن باقي الصور النصية أو الإسنادية التي يحرص فيها الرواة على ضبط المعطيات السياقية كجزء من وظائفهم في حفظ السنة. ليس من شك في أن الحديث المسلسل يتميز عن غيره بخاصية متميزة هي تضمنه ونقله للعناصر السياقية المصاحبة للمتن باعتبارها أيضا لغة لها مدلولها في باب التأسي(والتي لم تحظ بعد بالدراسة السيميائية) ، وهذا الاعتبار يذكرنا بما قامت به مدرسة بالو ألتو Palo altoاللسانية حين نظرت إلى العناصر السياقية على أنها لغة غير لفظية non-verbal languageتمييزا لها عن لغة الكلمات أو اللغة اللفظيةVerbal language. بل وجهت نقدا صارخا لتصورات اللسانيات التي لا تخص هذه اللغة غير اللفظية إلا بأدنى الاهتمام معتبرة إياها مجرد عوارض، وهكذا فقد أدمجت هذه المدرسة كل العناصر السياقية واعتبرتها لغة أو نصوصا.بل لقد اقترحت نموذجا جديدا أطلقت عليه نموذج الجوق المقابل، حيث تساهم في الرسالة عناصر الألفاظ والمظاهر الجسدية واللباس والأشياء المستعملة وكيفية إجراء الخطاب.هذه العناصر بأكملها المرافقة للتلفظ هي ما يكون اللغة أو الرسالة. فالرسالة اللغوية ليست مجرد عناصر لغوية متعاقبة صوتيا أو كتابة بل مجموعة مترافقة ومتواكبة من الكلمات والإشارات والأشياء إن المشكلات التي تواجهنا عادة مع مفهوم "النص" بصفته تسجيلا لفظيا للحدث التواصلي لتصبح أكثر تعقيدا عندما نتعرض لمفهوم"النص" المحكي. ولعل أبسط نظرة يمكن أن نتبناها أن التسجيل الصوتي أو المرئي لأي حدث تواصلي كفيل بأن يحفظ لنا "النص".كما أن التسجيل الصوتي أو المرئي كفيل بالحفاظ على قدر كبير مما يخرج عن "النص" ويشكل جزءا من سياقه بخلاف التسجيل الخطي أو الكتابي فإنه يسمح بضياع الكثير من المعلومات السياقية المفيدة طبعا في إنجاح عملية التأويل وحصر ممكناته.فعلى قدر ضعف القرائن السياقية تتسع دائرة التأويل، وكلما كثرت القرائن السياقية إلا وانحصرت دائرة التأويل. وفي الحديث المسلسل الذي يحفظ فيه السياق بتمامه الفعلي والقولي في بعض الأحيان ،نجد أن المتقدمين قد قدروا صعوبة سلامة كل المسلسلات من العلل، أي من أعطاب التسجيل المتصل الإسناد، قال ابن الصلاح : " وقلما تسلم المسلسلات من ضعف التسلسل لا في المتن"، وهذا التحفظ عند المحدثين ونقاد الحديث لا يختلف عن الملاحظات التي انتهت إليها دراسة محللي الخطاب المعاصر لتسجيل الخطاب بعناصره السياقية. خاتمة: أما بعد: فعقب هذه الجولة السريعة في مجالات مفهوم السياقية والتمام السياقي في المدونة الحديثية، نرى أن من أهم مطالب هذا العمل ونتائجه على وجازته تقريب درس السنة والحديث النبوي الشريف لطلبتنا في الدراسات اللسانية ، وتحبيبه إليهم وإغراؤهم به حتى يقبلوا عليه وعلى النظر في أعمال شراحه والمعتنين به قديما ليستفيدوا علما لطالما غاب عن حلقات الدراسات اللغوية المعاصرة بسبب من العلمنة المحاصِرة المضروبة بقصد أو بغير قصد عن هذا الضرب من الأبحاث. أما عن نتائج هذا البحث المتواضع فيمكن أن نميز فيها بين نوعين: الأول نتائج عامة، وتتمثل فيما يلي: - التدليل على أن تجديد الأدوات المنهجية في القراءة والبحث يستتبع تجديدا في الفهم. - التأكيد على أن الدراسات الحديثية التراثية غنية تحتاج إلى تحيين مفرداتها بأدوات علمية جديدة حتى يتسنى توظيفها تواصليا ودعويا في عالم الناس بصورة متجددة. - بيان أن كنوز السنة المشرفة لا تستعصي على نظرية الاندماج المعرفي، بل تخدمها وتشهد لها بما تقدمه من نماذج وتحليلات. - حاجة السنة النبوية المشرفة إلى مزيد البحث والدراسة لكشف نقاط القوة والضعف في الدراسات التراكمية. إنها دعوة صريحة للاستفادة في تدريسنا لعلوم الوحي (قرآنا وسنة)من مناهج الدراسات اللسانية الحديثة بما تمنحه من أنساق وأدوات في التحليل والفهم ، قد تسهم بدون شك في فتح مغاليق وتجديد الوعي بالقضايا التي تناولتها السنة المطهرة. أما عن النتائج الجزئية أو التفصيلية الخاصة فنذكر منها: - تجاوب المدونة الحديثية مع الأدوات اللسانية الحديثة فيما يتعلق بمسألة التمام السياقي. - تحليل الخطاب النبوي بالأدوات اللسانية أعطى إمكانات للكشف عن البعد التواصلي في السنة النبوية. - بحث مسألة التمام السياقي في الحديث النبوي يقدم تفسيرا جديدا لمسألة اختلاف الرواة في"كم المتن" وفي"القرائن الحافة". - ضياع عدد من"القرائن" في رواية الحديث نتيجة لإعمال مبدأ الجهد الأقل، وهو مبدأ لساني اهتمت به الدراسات التداولية الحديثة. - ترك الاستفصال مقتضى سببي لتفسير الأخذ بالمعنى الراجح في العمومات على مساطر الأحكام الشرعية، وهذا المبدأ وإن كان فيه تقليص من"كم" السياق" بيد أنه لا يلغيه بل يحفظ منه ما يخدم الحكم المطلوب. - إعادة تفسير الحديث المدرج من زاوية التناص وتفاعل سياقات النصوص وانفتاحها على بعضها البعض، وتولد بعضها من بعض. - إعادة تفسير الحديث المسلسل من زاوية التسجيل اللفظي والعملي للسنة النبوية وما يطرحه من إشكالات الدقة. - الانتهاء إلى أن المسلسل من وجهة نظر تداولية مسألة متنية وليست وصفا إسناديا كما جرى تعريفه، لأن تكرر الأفعال وتماثلها مثلا في أحد أنواعه هو في الحقيقة حرص على إعادة إنتاج السياق. - توصيات: وفي الختام أتقدم بتوصية لمنظمي هذه الندوة المباركة أن يخصصوا دورات لتشجيع الدراسات اللسانية حول السنة النبوية في المستويات المختلفة الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية والتداولية والسيميائية، وتأسيس حلقة علمية لعلم التواصل النبوي يحضر فيها مختصون في الدراسات الشرعية الحديثية والدراسات اللسانية الحديثة لتأسيس هذا المشروع البنائي المستقبلي، كما أوصي بالانفتاح على مجالات معرفية مثل إثنوغرافيا التواصل وعلوم تحليل الخطاب، وتجسير الصلة بين علوم الحديث والدراسات التي تعنى باللسانيات النفسية واللسانيات الاجتماعية وغيرها من الحقول خدمة للسنة النبوية ونشرا لروحها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق