الاثنين، 9 مايو 2011

التداولية وتحليل الخطاب الأدبي مقاربة نظرية

التداولية وتحليل الخطاب الأدبي مقاربة نظرية ـــ راضية خفيف بوبكري- الجزائر ------------------------------------------------------------------------------------ مفهوم التداولية:‏ يهتم الاتجاه التداولي بالدراسات اللغوية خاصة "حيث تتلاقى فيه على وجه معين جملة ميادين من المعرفة المختلفة أهمها: علم اللغة الخالص، والبلاغة، والمنطق، وفلسفة اللغة، وكذلك علم الاجتماع، وغيرها من العلوم المهتمة بالجزء الدلالي من اللغة"(1).‏ وبعدها وفي مراحل متطورة جداً تجاوزت التداولية حدود اللغة لتنتقل إلى مجال الأدب وتتحول إلى ما يسمى بالذرائعية الأدبية.‏ ويرجع الفضل في ظهور التداولية كمنهج ونظرية إلى الفيلسوف الإنكليزي "أوستن" إثر صدور كتابه الموسوم بـ"كيف نصنع الأشياء بالكلمات"، حيث تتحدد عنده التداولية على أنها "جزء من دراسة علم أعم: هي دراسة التعامل اللغوي من حيث هو جزء من التعامل الاجتماعي"(2). فهو هنا ينتقل من المستوى اللغوي والنحوي والنفسي للغة، إلى المستوى الاجتماعي ودائرة التأثير والتأثر، من خلال استعمال اللغة لتحقيق التواصل.‏ وفي إطار دراسة التعامل اللغوي، ظهرت مجموعة من التيارات أهمها "التيار الأوستيني أو البراغماتية عند استعمال الكلمة"(3)، ومن أهم أعلامه "غرايس" وعن هذا التيار تكونت تيارات أخرى تبتعد عن فكر أوستن مرة، وتقترب منه مرة أخرى.‏ وما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن مدرسة أوستن "ليست لها علاقة بالتيار الفلسفي الذي نشأ في أمريكا، والذي يحمل اسماً مشابهاً إن ترجم في العربية بالذرائعية"(4).‏ أما أصل التسمية "ذرائعية" فإن جذورها تمتد إلى منظري السيمياء أمثال شارلز بيرس، وشارلز موريس، وجون ديوي على وجه الخصوص، وتختلف دلالاتها حسب الحقل الذي تنبعث منه، كالفلسفة، واللسانيات، والاتصال، على أن سمتها الغالبة تظل في توجهها العملي(5).‏ ونتيجة لتعدد المنطلقات واختلافها في الدراسة التداولية حدث نوع من التداخل بين حقولها وحقول أخرى، أدى إلى اختلاف التسميات، وتنوعها خاصة عند ترجمتها إلى اللغة العربية: "النفعية، الذرائعية، الاتصالية...".‏ من هنا يمكننا أن نرجع أصل التداولية إلى اتجاهين مختلفين: اتجاه ينطلق في دراسة التداولية من كونها نظرية في التعامل الاجتماعي، تهتم بالجانب الاستعمالي، أي استعمال اللغة بزعامة "أوستن"، واتجاه فلسفي منطقي تعود جذوره إلى "بيرس" الذي أطلق عليها اسم "البراغماتية عام 1905"، و"وليم جيمس" الذي سماها بالذرائعية عام 1978.‏ ومنه، فإن البراغماتية "اسم جديد لطريقة قديمة في التفكير بدأت على يد سقراط، ثم تبعه أرسطو، والرواقيون بعد ذلك"(6).‏ وقد ظهرت التداولية كنظرية فلسفية على يد "باركلي" إلا أن أصولها تمتد إلى "بيرس" الذي جعلها وثيقة الصلة بالمنطق، بل اعتبرها قاعدة منطقية، وذلك من خلال ربطه بين الدراسات اللغوية والمنطقية.‏ فالتداولية عنده هي قاعدة منطقية تعنى بتحديد معاني الألفاظ والأفكار والمفاهيم والقضايا، والإشارات، ومنه أصبحت أو تحولت إلى أداة للتفسير والنقد.‏ لكن تعدد القراءات لنصوص "بيرس" حول مفهومه للتداولية، أحدث نوعاً من تباين وجهات النظر حول مفهوم التداولية، فهناك من يرى أنها نظرية في المعرفة، لأنها تهتم بالواقع، وهناك من يرى أن جوهرها ميتافيزيقي، وهنا تكمن أهميتها عند بيرس.‏ وقد تأثر "بيرس" في صياغة نظريته بـ"دونز سكوت"، وأفكار خصمه "راين"، خاصة الفكرة القائلة بأن: "فكرتنا عن أي شيء هي فكرتنا عن آثاره الحسية"، كما استعار لفظ (براغماتية) من كانط.‏ ولعل اهتمام "بيرس" في مراحل حياته الأخيرة بنظرية الإشارات "كان لـه الأثر الأكبر في التحول من الفهم الإجرائي للقاعدة البراغماتية إلى الفهم المنطقي الخالص لها، إذ أن البراغماتية، تعتبر في هذه المرحلة تطويراً لنظريته المبكرة في الإشارات، وقد كان أكبر ما شغله في هذا المجال هو اكتشاف طريقة يتم بموجبها الاتصال بين الناس"(7).‏ لم يقصر "بيرس" البرغماتية هنا على المفاهيم العملية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى دراسة المفاهيم الميتافيزيقية، أي تجاوز كل ما يتعلق بالعلوم الطبيعية، لأنه في المراحل الأولى، ربط التداولية بالمنهج الاستقرائي.‏ وبهذا التعبير يكون "بيرس" قد تصدى للنزعة التجريبية، وتداولية "وليم جيمس"، وذلك بنقلها "من ميدان المحسوس والتجريب الذي حصرها فيه التجريبيون الإنكليز إلى ميدان المعقول والعام"(، ومنه يكون "بيرس" قد أعاد لها السمة العقلية التي حاربتها حركة "وليم جيمس".‏ وما يمكننا قوله هو أن التداولية، انطلاقاً من مفهوم "بيرس"، خاصية أو قاعدة منطقية نلجأ إليها، باعتبارها أداة عقلية تساعدنا على معرفة فيما إذا كانت المسائل التي نبحثها ذات معنى أو لا.‏ ومنه فإن البراغماتية مقياس عقلي لمعرفة صحة أو خطأ المسائل التي نبحثها، وهل هي جديرة بالبحث أم لا.‏ ـ جذور التداولية في التراث العربي:‏ إن دراسة عملية التواصل أو الاتصال قديمة، تعود جذورها إلى الدراسات التنظيرية الأولى عند الجاحظ، وأبي هلال العسكري، وابن قتيبة، وحازم القرطاجني، وغيرهم. لكنها كانت ذات طابع معياري تهتم بالأثر الناتج مباشرة عن الرسالة، والشروط التي تجعل الخطاب ناجحاً، وفي هذا ملامح للتداولية الحديثة، فكما ركز هؤلاء المنظرون على المرسل والمتلقي، والرسالة، وعملية التأثير والتأثر، والقصد، ونوايا المتكلم، والفائدة من الكلام، والإفهام... فإنها أيضاً تعد جوهر النظرية التداولية.‏ وقد ذهب "محمد العمري" في كتابه "البلاغة العربية" إلى أن التداولية الحديثة بعد "جاحظي" في أصله لاهتمام الجاحظ وتركيزه على هذا المستوى في كتابه "البيان والتبيين" وعلى عملية التأثير في المتلقي، والإقناع، وقد سميت هذه النظرية عنده، والتي تعرف اليوم بـ"التداولية" بـ نظرية "التأثير والمقام".‏ يقول "محمد العمري": "إن هذا البعد هو أحد الأبعاد الأساسية في البلاغة العربية، وهو بعد جاحظي في أساسه، وإن تخلي البديعيين عنه في مرحلة لاحقة أدى إلى اختزال البلاغة العربية وتضيق مجالها، وتحظى نظرية التأثير والمقام حالياً بعناية كبيرة في الدراسات السيميائية، ومن ثم الشروع في إعادة الاعتبار إلى البلاغة العربية تحت عنوان جديد هو "التداولية""(9).‏ وتتجلى جذور التداولية عند "الجاحظ" من خلال تقسيمه للبيان إلى ثلاث وظائف، واهتمامه أكثر بالوظيفة التأثيرية، التي تمثل جانباً مهماً في التداوليات الحديثة، يقول الجاحظ: "أما بعد، يمكن إرجاع وظائف البيان، اعتماداً على كل ما سبق إلى ثلاث وظائف أساسية هي:‏ 1 ـ الوظيفة الإخبارية المعرفية التعليمية (حالة حياد، إظهار الأمر على وجه الإخبار قصد الإفهام).‏ 2 ـ الوظيفة التأثيرية (حالة الاختلاف) تقديم الأمر على وجه الاستمالة وجلب القلوب.‏ 3 ـ الوظيفة الحجاجية: (حالة الخصام) إظهار الأمر على وجه الاحتجاج والاضطرار"(10).‏ فكل هذه الوظائف تشكل جوهر النظرية التداولية في الدراسات المعاصرة باعتبارها مقاربة تهتم بالتواصل في الدرجة الأولى، والإقناع، والتأثير، وإيصال المعنى، وتقديم الفائدة، ومنه فإن غايتها منفعية بحتة.‏ يقول الجاحظ: "المعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، والمتغلغلة في نفوسهم... مستورة خفية، وبعيدة وحسية، ومحجوبة مكبوتة... لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه.. إلا بغيره، وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها، وهذه الخصال هي التي تعود بها إلى الفهم وتجليها للعقل... وتجعل المهمل معبداً، والمقيد مطلقاً... وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجح..."(11).‏ إن معالم المقاربة التداولية تظهر جلية في هذا النص:‏ من خلال الحديث عن ضرورة استعمال المعاني، فالإخبار عن المعنى هو الذي يضمن تقريبه إلى الفهم حيث يركز على ضرورة إفهام المخاطب، وإبلاغه محتوى الرسالة الأدبية.‏ كما يشترط (الجاحظ) أن يكون استعمال المعاني مفيداً ومحققاً لقصد المتكلم أي فيه منفعة.‏ أما إذا انتقلنا إلى (حازم القرطاجني) فإننا نجده لا يعتبر الكلام الذي لا يدل على معنى كلاماً، وهو هنا يشير إلى فكرة القصد، إذ أنه يجعل الفائدة المتداولة بالقصد، يقول "حازم القرطاجني": "لما كان الكلام أولى الأشياء، بأن يجعل دليلاً على المعاني التي احتاج الناس إلى تفاهمها..."(12).‏ فالكلام الذي يكون دليلاً على المعنى، يشكل أساس الدراسات اللسانية الحديثة، والتفاهم الذي قصده حازم هنا هو تحقيق التواصل، وهذا يدخل في نطاق التداولية التواصلية، أي كلام مرسل يحمل قصداً ومعنى وفائدة، يريد المتكلم إيصالها إلى المتلقي.‏ فحازم هنا يركز على المنفعة، والخطاب الذي لا يحقق منفعة، فإنه لا يحقق أي تواصل انطلاقاً من قولـه: "... المعاني التي احتاج الناس إلى تفاهمها أي احتياجهم إلى تحصيل المنفعة".‏ "فحازم هنا يتفطن للبعد البراغماتي أو التداولي في العملية التواصلية، إن هذا التصور النقدي للتواصل الشعري متطور جداً، ويعكس عمقاً في النظرة ووعياً بعناصر التجربة الشعرية باعتبارها تجربة لغوية نفسية يكتنفها إطار اجتماعي ومقام خارجي تؤثر فيه وتتأثر به..."(13).‏ إضافة إلى القصد والمنفعة والإفهام، يشير حازم إلى قضية التأثير بين المتكلم والمتلقي، ويرى أنه ضروري في العملية التواصلية لقوله: "وجب أن يكون المتكلم يبتغي إما إفادة المخاطب أو الاستفادة منه (...) أو بعضها بالقول"(14).‏ ويقسم حازم القرطاجني ردود الفعل التي يثيرها المتكلم في المخاطب إلى: عملية، وسلوكية، ووجدانية.‏ وربما تعود أول إشارة إلى قضية التواصل الأدبي أو التداولية في التراث العربي القديم إلى: ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء"، من خلال حديثه عن "تهيئة المخاطب نفسياً ليتقبل ما يقصده الخطاب، والانفعال به انفعالاً ظاهراً".‏ حيث انتهى هذا الناقد إلى حقيقة مفادها أن على الشاعر أن يسير في قصيدته وفق خطة مرسومة سلفاً يبدأ فيها بالنسيب ثم يردفه بذكر مشاق السفر، ثم يعرج على وصف ناقته، فيبثها أشجانه، ثم ينتقل إلى مدح صاحبه بعد أن يكون قد أثار انتباهه، وهيأه نفسياً إلى شعره...(15).‏ كما لا يفوتنا أن نشير إلى "عبد القاهر الجرجاني" الذي أشار إلى عملية التواصل في أكثر من موضع، غير أنه يركز على دراسة وضعية المخاطب اتجاه النص اشعري، ويتحدث عن عمق المعنى ووضوحه ويرى أن التواصل الذي يكون نتيجة لتعب وكد وإعمال للفكر هو التواصل الذي يعجب فيه المتلقي بالخطاب الشعري.‏ أما إذا تطرقنا إلى كتاب "سر الفصاحة" لصاحبه "ابن سنان الخفاجي"، فإننا نجده يقول: "والكلام يتعلق بالمعاني والفوائد بالمواضعة، لا لشيء من أحواله..."(17).‏ نلاحظ أن "ابن سنان الخفاجي" يشير ضمنياً إلى التداولية الحديثة، إثر حديثه عن الفائدة التي نرجوها من الكلام، فهو يشترط في الكلام الصحيح الانتظام والفائدة، وإلا فلا يمكن عدّه كلاماً. إلا إذا حقق الفائدة المرجوة منه، أي أن الكلام عنده لـه وظيفة نفعية. إضافة إلى هذا، يتحدث "ابن سنان" أيضاً عن المواضعة والقصد واستعمال المتكلم له، أي استعمال اللغة في قصد.‏ من خلال ما تقدم ذكره حول جذور التداولية في التراث العربي القديم، نلاحظ أن التداولية لها حضور قوي، وقديم جداً في التراث العربي، لا يقل عنه في التراث الغربي.‏ ـ التداولية في النقد المعاصر:‏ تحولت التداولية من اللغة إلى الأدب، وأصبحت تداولية أدبية، أو ما أصبح يعرف اليوم بالذرائعية الأدبية، التي تمثل مقاربة لدراسة النصوص وتحليلها، وفي هذا المجال تكون "التداوليات نظرية استعمالية، حيث تدرس اللغة في استعمال الناطقين بها، ونظرية تخاطبية تعالج شروط التبليغ والتواصل الذي يقصد إليه الناطقون من وراء الاستعمال للغة"(18).‏ فلقد تطورت التداولية من المجال اللغوي والمنطقي والفلسفي إلى الذرائعية الأدبية، التي تنقل النص من المستوى النحوي والدلالي إلى المستوى التداولي، حيث تركز الآراء في النقد المعاصر على مفهوم التواصل الذي يقوم على عملية الفهم والتأويل.‏ وتعد عملية القراءة في النقد المعاصر "تواصلاً يتحقق بين القارئ وموضوع القراءة، فالوصفية النقدية في إطار عملية القراءة، وظيفة تقوم على أساس السعي إلى تحقيق تواصل فعال بين القارئ وموضوع القراءة، وكأي تواصل تحتاج عملية القراءة إلى أسباب لعناصر الموضوع المقروء، وإحاطة بالعوامل الفاعلة فيه، مثل السياق، ومقاصد المتكلم"(19).‏ فالدراسات النقدية الحديثة تجعل من اللغة الأدبية نظاماً معقداً للاتصال، يجاوز مستويات الصياغة اللفظية والنصية إلى دراسة الحدث الأدبي انطلاقاً من دائرة الاتصال الاجتماعي، أي الانتقال باللغة الأدبية من مستوى النص كنظام إلى مستوى التواصل. وهذا فيه إشارة إلى نظريات القراءة أو الاستجابة المعاصرة.‏ وتعود بوادر التغيير أو الانتقال إلى ضرورة فهم النص انطلاقاً من ارتباطه بالسياقات أو التحديدات السياقية.‏ ويعد (فان ديك) من أهم أعمال النظرية التواصلية في النقد المعاصر "حيث أنه وضع تخطيطاً من ناحية البرنامج للذرائعية الأدبية بوصفها مكملاً لا فكاك عنه لنظرية النص"(20).‏ ويمكن اعتبار عام 1979 تاريخاً حاسماً في تحول (فان ديك) من علم الدلالة إلى نظرية أدبية عامة "تشتمل على نظرية للنصوص الأدبية ونظرية للتواصل الأدبي"(21).‏ ومنه أصبحت الذرائعية الأدبية مقياساً للحكم على أدبية الأعمال الفنية، ففي حين كان الاعتراف بما هو أدبي يتحقق بواسطة الخصائص البنوية وجملة الملامح اللفظية، أصبحت الأدبية تتحدد من خلال الاعتراف بإنتاج معين وخاص، واستقبال خاص أيضاً.‏ ثم تطورت الذرائعية وأصبحت في مراحل متأخرة جداً نظرية للسياقات تبحث في سياق الإنتاج والاستقبال، ثم إلى نظرية في الأفعال الكلامية.‏ ويوجد هناك تيارات لفهم الذرائعية، يرى الأول "أن الذرائعية الأدبية تفهم على أنها دراسة سياقات الإنتاج والاستقبال... في حين يرى الآخرون أن الذرائعية الأدبية ينبغي أن تفهم فقط في صلتها مع نظرية للفعل..."(22.‏ ومن أهم أعلام التداولية في النقد المعاصر نذكر على سبيل المثال لا الحصر: فان ديك غرايس، أوسن، سيرل، جون ديوي، وغيرهم.‏ ـ التداولية وتحليل الخطاب:‏ تعود أصول نظرية أفعال الكلام إلى عهد أرسطو والفلاسفة اليونان الذين عمدوا إلى دراسة أقسام الكلام لدراسة القضايا المنطقية، حيث ميزت هذه الدراسات "الصيغة الخبرية عن صيغ التمني والأمر وغيرها، فحصرت بالصيغ الخبرية وهي التعبير اللفظي عن القضية..."(23)‏ لكن هذه الدراسات عرفت تحولاً عند كانط، باعتبار أن هناك جملاً تحمل الصيغة الخبية، لكنها لا تحمل معنى الصدق والكذب.‏ وانطلاقاً منه ظهر اتجاه منطقي وصفي في القرن العشرين، يذهب إلى ما ذهب إليه كانط.‏ أما فيما يخص النقد العربي القديم، فقد عرف قضية الأفعال اللغوية تحت اسم "أغراض القول الشعري" كون بعض الدارسين المعاصرين لقضايا المعنى عند العرب القدماء يقول: "إننا نضع هذه التسمية المعاصرة: أفعال لغوية actes de langage لمجموعة من الظواهر الدلالية semantiques، والبراغماتية pragmatiques المتناولة في الإنتاج اللغوي العربي القديم، والتي كانت تدرس تحت عنوان أغراض القول..."(24).‏ فالدراسات الحديثة المعاصرة تعتبر الفعل اللغوي نتيجة تكلم لغة ما أو استعمالها مما ينتج عندنا مجموعة من الأفعال: التأكيد والأمر والوعد، والوعيد، وإثارة أسئلة وغيره.‏ ومنه، فإن تداوليات أفعال الكلام أو الأفعال اللغوية تختص بدراسة أغراض الكلام التي يقصد إليها المتكلم.‏ والحديث عن الأفعال الكلامية يقودنا مباشرة للحديث عن "أوستن" ومساهماته البارزة في هذا المجال، لأنه يعد من المؤسسين الأوائل لهذه النظرية (أفعال الكلام)، والرواد الذين طوروا الأبحاث في هذا المجال من خلال مجموعة من الأعمال أهمها: تطبيقه نظرية الأفعال اللغوية على الخطاب الأدبي عند "وليام جيمس"، التي توصل إلى التمييز بين ثلاث أنواع من الأفعال اللغوية.‏ 1 ـ "الأفعال الإخبارية، الإنجازية، وهي مجموعة الأفعال التي توظف في إطار عملية التواصل"(25).‏ 2 ـ أما النوع الثاني فهو مجموعة الأفعال اللغوية التي لا تخبر بشيء محدد وتسمى بالأفعال الإنشائية التي تدخل ضمن المستوى الجمالي والبلاغي.‏ 3 ـ أما الأفعال التي لا تنتمي إلى الإخبار أو الإنشاء، فتشمل كل الأفعال التي يلجأ إليها المرسل والمتلقي لاستمرار التواصل وجلب انتباه السامع.‏ ولقد قام أوستن عند دراسته للجمل الخبرية بتمييز نوع منها مما لا يقبل الصدق ولا الكذب، كما قام بتفريعها إلى وصفية وإنشائية، ومما يدخل تحت الجمل الإنشائية قولنا مثلاً، أوافق أن يكون هذا شاهداً على شجاعتي.‏ فمثل هذه الجملة لا يصف شيئاً معيناً، ولا يخبر عن القيام بعمل معين.‏ وقسم "أوستن" الجمل الإنشائية إلى إنشائيات أولية، وإنشائيات صريحة، فالأولية من مثل قولنا: ـ سأحضر هنا، والصريحة من مثل قولنا: أعدك أنني سأحضر هنا.‏ كما ميّز "أوستن" أفعالاً ثلاثة ترتبط بالقول (locution) هي: فعل القول، والفعل المتضمن في القول، والفعل الناتج عن القول، أو الفعل بواسطة القول(26).‏ وركز "أوستن" على الفعل المتضمن في القول، ثم تحول تقسيمه للجمل إلى جزء من نظرية عامة للأفعال الكلامية التي عمد إلى تقسيمها إلى خمس أفعال:‏ 1 ـ الحكميات، 2 ـ الإنقاذيات، 3 ـ الوعديات، 4 ـ السلوكيات، 5 ـ البنيينات.‏ قائمة المراجع:‏ 1 ـ فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، ترجمة سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، ص95.‏ 2 ـ المرجع نفسه، ص96.‏ 3 ـ المرجع نفسه، ص98.‏ 4 ـ المرجع نفسه، ص99.‏ 5 ـ د/ ميجان الرويلي، د/ سعد البازعي، دليل الناقد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الثانية 2000.‏ 6 ـ د/ حامد خليل، المنطق البراغماتي عند تشارلز بيرس "مؤسس البراغماتية"، دار الينابيع، مصر، لبنان، 1996.‏ 7 ـ المرجع نفسه، ص214.‏ 8 ـ المرجع نفسه، ص219 ـ 220.‏ 9 ـ محمد العمري، البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، أفريقيا الشرق، المغرب، 1999، ص293.‏ 10 ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الجاحظ، مصر، الطبعة الرابعة، الكتاب الثاني، 1395هـ ـ 1975، الجزء الأول، ص75.‏ 11 ـ المرجع نفسه، ص75.‏ 12 ـ مجلة الوصل، معهد اللغة والأدب العربي، جامعة تلمسان، العدد الأول، جانفي 1994، نظرية المقاصد بين حازم ونظرية الأفعال اللغوية المعاصرة، محمد أديوان، جامعة الرباط، كلية الآداب، ص25.‏ 13 ـ المرجع نفسه، ص26.‏ 14 ـ المرجع نفسه، ص26.‏ 15 ـ المرجع نفسه، ص26.‏ 16 ـ أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلي، سر الفصاحة، دار الكتاب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1976، ص43.‏ 17 ـ المرجع نفسه، ص33.‏ 18 ـ دراسات سيميائية لسانية أدبية، العدد الثاني، 1987 ـ 1988، المغرب، تكامل المعارف: اللسانيات والمنطق، حوار مع الدكتور طه عبد الرحمن.‏ 19 ـ مجلة الوصل، جامعة تلمسان، المرجع السابق نفسه، ص34.‏ 20 ـ خوسيه ماريا بوثويلو إيقانكوس، ترجمة حامد أبو حمد، مكتبة غريب، سلسلة الدراسات النقدية، القاهرة، ص76.‏ 21 ـ المرجع نفسه، ص76.‏ 22 ـ الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، لبنان، 1998 ـ 1999، نظرية الأفعال الكلامية، طالب هاشم طبطبائي، ص65.‏ 23 ـ مجلة الوصل، جامعة تلمسان، المرجع السابق نفسه، ص38.‏ 24 ـ المرجع نفسه، ص39.‏ 25 ـ الفكر العربي المعاصر، المرجع السابق نفسه، ص66

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق