الجمعة، 27 مايو 2011

الازدواجية اللغوية في المغرب

الازدواجية اللغوية في المغرب الازدواجية اللغوية في المغرب د. محمد نافع العشيري* Wednesday, January 19, 2011 ملاحظات على مؤتمر جمعية" زاكورة" للتربية احتدم النقاش مؤخرا في المغرب بين المدافعين عن العربية الفصحى، الداعين إلى ضرورة إعادة الاعتبار إليها ومنحها المكانة التي تستحقها، و بين أنصار العامية الداعين إلى ضرورة إدماجها في المنظومة التعليمية و الإدارة و الاقتصاد، بحجة أنها المنوعة الأقرب إلى فهم المغاربة، و الأقدر على الخروج بالمغرب من التخلف العلمي والتراجع الثقافي، وغير ذلك من الحجج و الذرائع التي لخصها تقرير المؤتمر الذي نظمته جمعية" زاكورة "للتربية حول موضوع "اللغة و اللغات ". و قبل أن نسترسل في معالجة هذا الأمر من وجهة نظر سوسيولسانية، بعد أن لاحظنا غياب المنهج العلمي و غلبة السجال وكثرة التلاسن في هدا الباب ، ينبغي تسجيل الملاحظات الآتية: - إن أغلب المشاركين في هذا المؤتمر، أو المدافعين عن الدارجة المغربية بصفة عامة، ذوو تكوين فرنسي صرف( خريجو مدارس البعثات الفرنسية) و أغلبهم مجنس بالجنسية الفرنسية، و لا يعير أدنى تقدير لا للعربية بشقيها الفصيح و العامي، و لا للأمازيغيات. - يجهل أغلب هؤلاء تاريخ اللغة العربية الفصحى و نحوها و تراثها و أدبها و يحمل أغلبهم مواقف مسبقة تربط هذه اللغة بالتخلف و التطرف و غير ذلك من التهم، بل يجهلون الأوضاع السوسيولسانية للكثير من الدول، و هو ما تجلى في قياس أحد المتدخلين الوضع اللغوي في اليونان( التي رقت لهجة الديموتيكي الى مستوى اللغة الرسمية عوض الكتاريفوزا) على الوضع اللغوي في المغرب، مع أن القاعدة التي يقول" لا قياس مع وجود الفارق" واضحة في هذا المقام، بل بين الوضعين المغربي و اليوناني فوارق كثيرة. - يرتبط أغلب المتدخلين بالمصالح الاقتصادية و السياسية الفرنسية، و هو ما يفسر دعوتهم المستمرة إلى اعتبار اللغة الفرنسية لغة التفتح و الاقتصاد و المال و الأعمال و التكنولوجيا، و رفضهم المطلق لإحلال لغات أخرى أكثر نفعا و مردودية من الفرنسية كاللغة الإنجليزية مثلا في التعليم العالي و المجالات الاقتصادية. بل لم يحدثنا أحد الأخصائيين النفسانيين (الذي تغني كثيرا باسم العلمية بأهمية التدريس والتعلم باللغة الأم) عن انعكاسات غياب هذه اللغة الأم في التعليم الجامعي الذي يعاني بسببه الطلبة المغاربة الأمرين نتيجة استعمال لغة أجنبية في تدريس مواده العلمية، و هو ما يؤدي إلى نزيف بشري وصل إلى حدود انسحاب 45 في المائة من هؤلاء الطلبة من السنة الأولى من كليات العلوم بحسب دراسة أجراها بعض الباحثين، كما لم يحدثنا الخبير النفسي عن المخلفات المدمرة لإدراج لغة أجنية تستنزف نصف الحصة الدراسية في مرحلة مبكرة على نفسية الأطفال المغاربة و قدراتهم و نتائجهم . بعد هذه الملاحظات، سنبدأ بدارسة هذه الظاهرة المسماة بالازدواجية اللغوية، و نقصد بها وجود مستويين لنفس اللغة أحدهما رفيع و الآخر وضيع، أو ما يسمى في الثقافة العربية باللسان الفصيح و اللسان العامي، و هو و ضع ظهر مند تقعيد اللغة العربية( لهجة قريش أو العربية الموحدة بحسب اختلاف الدارسين). وقد تحدث ابن خلدون عن هذه الظاهرة، التي كانت شائعة في زمنه، بإسهاب في مقدمته شارحا أسبابها و مظاهرها يعتبر وليام مارسيه ( 1930-1931)أول من استعمل مصطلح الازدواجية اللغوية في الأدبيات اللغوية الفرنسية، كما كان أول لغوي تطرق في ثلاث مقالات إلى ازدواجية اللغة العربية (الفصحى و الدارجة) في شمال إفريقيا، و ذلك بمناسبة الذكرى المئوية للاحتلال الفرنسي للجزائر. وقد عرف الازدواجية بأنها التوارد بين لغة مكتوبة و لغة شفهية. يقول "تبدو لنا اللغة العربية في شكلين مختلفين: - لغة أدبية، و هي المسماة بالعربية المكتوبة أو القياسية أو الكلاسيكية، والتي كانت اللغة المكتوبة الوحيدة في الماضي، و التي تكتب بها حاليا الأعمال الأدبية و العلمية و المقالات الصحفية والوثائق القانونية والرسائل الخاصة... و لكن لا يتحدث بها في كل المقامات. - لغة شفهية، و التي لم تكتب أبدا..حيث تشكل منذ وقت طويل لغة المحادثات في كل الأماكن العامة." يقدم "فرغسون" في مقالته الشهيرة المنشورة سنة 1959 و المعنونة ب" ديغلوسيا" حديثا مفصلا عن مفهوم الازدواجية اللغوية، مفتتحا إياها بتعريف دقيق لها، واضعا مجموعة من الروائز التي تحددها وتفرق بين المنوعتين المشكلتين لها في بلد ما. يقول:" في عدة مجموعات لغوية هناك منوعتان أو أكثر لنفس اللغة، يستعملها المتكلمون تحت شرو ط مختلفة كما هو الحال في إيطاليا و إيران، حيث يوجد عدد من المتكلمين الذين يستعملون لهجتهم المحلية في البيت و مع الأصدقاء، لكنهم يستعملون اللغة المعيارية في التواصل مع المتكلمين من لهجات أخرى، أو في المناسبات العامة." و قد تنبه" فرغسون" إلى أن هذه الظاهرة منتشرة جدا، لكنها تفتقر إلى الكفاية الوصفية، لذلك اختار أربع عينات لغوية تتميز كلها بازدواجية لغوية، و هي: الدول العربية(خصوصا مصر)، ثم اليونان وهايتي، و أخيرا سويسرا. نستنتج من خلال ملاحظات أولية أن هده الظاهرة لا توجد فقط في المجتمعات العربية، بل تمتد إلى ثقافات أخرى، بل يمكن الجزم بكونيتها و هدا ما يشير إليه اللساني الشهير "هارولد شيفمان"- 1999-حيث يقول :" بالرغم من ورود الازدواجية في عدة سياقات غير غربية، فإنها مع ذلك ظاهرة لا تقتصر على بعض ثقافات العالم الثالث البدائية، بل تشمل عددا من اللغات الموجودة في مناطق متنوعة من العالم، بما في ذلك أوربا الغربية." ويذهب " أندريه مارتني" صاحب نظرية النحو الوظيفي إلى أبعد من ذلك، حين يقرر أن الازدواجية توجد في كل المجتمعات، حتى تلكم التي نعتبرها مجتمعات أحادية اللغة. يقول:" يمكن القول بأن هناك دائما درجة من الازدواجية، حتى في المجتمعات التي تعتبر مجتمعات أحادية اللغة، لأنه ليس هناك تطابق بين الاستعمال اليومي و الشكل الرسمي، ومع ذلك، فلن نتحدث عن الازدواجية إلا عندما يكون المتكلمون واعين بهذه المثنوية، وعندما يوجد على الأقل بعض الأشخاص الذين يصارعون من أجل التقليل من حدتها." ولتقديم أدلة على ذلك، نسوق التعريف الذي قدمته العديد من المعاجم الغربية لمعنى كلمة "اللهجة" والتي يلخصها تعريف موسوعة" ويكيبيديا "العالمية بقولها:" اللهجة هي منوعة لغوية منحدرة من اللغة، و تتميز باختلافات صوتية و صرفية و تركيبية و معجمية عن اللغة الأصل، و لكل لغة لهجاتها بدون استثناء". وفي هذا الإطار يتحدث علماء الجغرافية اللسانية الذين وضعوا الأطالس اللسانية لعدد من دول العالم عن ثلاث لهجات أساسية كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية و تتفرع عنها لهيجات متعددة. فهناك لهجة الشمال في منطقة" نيوانجلد" و" نيويورك" و التي تتفرع عنها لهجيات أهمها لهجة مدينة نيويورك. و هناك لهجة الوسط المستعملة على طول ساحل "نيوجرسي" إلى حدود" ديلاوير" و التي تتفرع عنها لهيجات تستعمل في السهل العالي "لاوهايو" و" فيرجينيا" الغربية و غرب "كنتاكي". و أخيرا هناك اللهجة الجنوبية بمختلف منوعاتها و التي يتحدث بها سكان" ديلاوير" في" كارولينا "الجنوبية. بالإضافة إلى هذه اللهجات الجغرافية هناك لهجات اجتماعية تختلف في معجمها و صرفها و نحوها عن الانجليزية المعيار إلى درجة انعدام التفاهم و التواصل بين متكلميها. و تعتبر اللهجة الاجتماعية المسماة ب "غولا" أكثر اللهجات بعدا عن الانجليزية المعيارية و التي يتحدث بها سود الأراضي المنخفضة في" جورجيا " و"كالرولينا" الجنوبية إلى حدود جنوب غرب ولاية "تكساس". في فرنسا يميز الباحثون بجانب اللغات المحلية (البروتونية و الالزاسية و الباسكية و الكورسية والكتالانية) لهجات كثيرة مرتبطة بالفرنسية أهمها "الغالية" الرومانية الشمالية و "الغالية "الرومانية الجنوبية ولهجات وسطى و التي تسمى ب"الفرنكو بروفنسال". وتعرف ايطاليا عددا كبير من اللهجات أهمها "مارشيغيانو" و" اوميز" و" لازيال" و "رياتينو" و" اكسيانو" في الوسط، و لهجة" سالينتينو" و" كالايرياس" و" سيسليا" في الجنوب، بالإضافة إلى لهجات ذات أصل أجنبي ك"الفلامانية" و "الألبانية" و" الصربية" و اليونانية. يتبين من خلال ما تقدم أن العربية ليست اللغة الوحيدة التي تعرف ظاهرة الازدواجية و التفرع اللهجي، بل الازدواجية اللغوية ظاهرة كونية، و كل ما في الأمر أن تباين أو تقارب المستويين مرتبط بمسائل ثقافية، وخاصة انتفاء الأمية وانتشار التعليم... نرجع الآن إلى الازدواجية اللغوية العربية. فكما هو معروف فان هناك مستويين للغة العربية: مستوى فصيح يستعمل في المقامات العلمية و الأدبية و الإدارية و الرسمية، و مستوى عامي يستعمل في الشارع و البيت من أجل التواصل الآني و السريع، و تقوم بينهما كما هو معروف في السوسيولسانيات علاقة التكامل الوظيفي. و قد نبه" فرغسون" في مقالته سالفة الذكر إلى ذلك حيث يقول: "إن المتكلم الذي يستعمل المنوعة الوضيعة في المقامات الشكلية سيكون عرضة للسخرية. كما أن المتكلم الذي يستعمل المنوعة الرفيعة في المحادثات العادية مثل التسوق، سيكون عرضة للسخرية أيضا .فالعلاقة بين المنوعتين مطقسنة إلى حد بعيد." أما المنوعة الوضيعة فترتبط بالسوقي و العامي و المبتذل. ففي بعض الأعمال الأدبية الكبرى كمسرحيات شكسبير، كانت تستعمل مقطوعات بالعامية لإظهار بعض السمات كالفظاظة والسخرية والجهل... و هو ما يشيع الآن من استعمال هذه المنوعة في التعاليق الكاريكاتورية في عدد من الصحف و المجلات المغربية. فاذا كان من الممكن للشخص المغربي أن يثير الضحك في السوق أو في القطار (كما يدعي البعض) إذا هو تحدث بالفصحى، فإن المثقف الذي يحاضر حول التاريخ المعاصر في جامعة ما، ويتحدث عن إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة النووية على" هيروشيما"و يستعمل الجملة العامية الآتية: " الميركان خلت على هيروشيما بجوج بومبات طوميكات" أو أستاذ العربية الذي يشرح بيت امرئ القيس" أفاطم مهلا...." بالعبارة العامية:" أفاطمة باركا من الفشوشات" لن يثير السخرية فقط،، بل سيثير الاشمئزاز و التقزز، ولربما يؤخذ بالنعال قبل أن تطرده الجامعة غير مأسوف عليه.. و لهذا السبب نجد الكثير من المعاجم الأوربية و الأمريكية، كما هو حال معجم" لاروس" الصغير الإاسباني تضع المقابل العامي للكثير من المداخل الفصيحة لتنبه الباحثين و المتعلمين على أن هذه المداخل المعجمية لا تستعمل في المواقف الشكلية. توهم أشغال مؤتمر" مؤسسة زاكورة" بأن العامية المغربية بعيدة عن الفصحى إلى درجة انعدام التفاهم بينهما، و في هذا من الزور و الخلط ما لا يقبله الواقع اللساني المغربي الذي تعرف فيه المستويات اللغوية دينامية و تقاربا كبيرا، إذ تتجه العامية يوما بعد يوم إلى ما يسميه بعض الباحثين بالعربية الوسطى أو دارجة المثقفين و التي أفاض الدكتور عبد الرحيم اليوسي في دراستها في أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، كما تتجه إلى ما يسميه "مونتيل"(1960) بالعربية المعاصرة أو فصحى العصر بتعبير الفيلسوف أحمد بدوي و يرجع ذلك إلى انخفاض نسب الأمية و انتشار الثقافة و التعليم و الاحتكاك بالغرب وانتشار الصحافة و الترجمة... و هو ما أثبته بعض الباحثين، خاصة الدكتور عبد العزيز حليلي في دراسته حول واقع وآفاق اللغة العربية في المغرب، و أكدته في بحث علمي ميداني حول عدد من المغاربة الأميين الذين يتابعون قنوات الجزيرة، حيث تبين لي من خلال المقابلات و الاستمارات أن المستجوبين يفهمون مجمل الأخبار التي تقدم إليهم بالعربية الفصحى باستثناء بعض المصطلحات التقنية المرتبطة باقتطاعات دلالية خاصة ك" الأسهم"،" نسبة الفائدة"، "صندوق المقاصة"، "عملية المناقصة". بل أثبت البحث أن نسبة كبيرة منهم بدأت تتخلى عن الألفاظ العامية من قبيل" البومبات" و" التعدو" و "المريكان" و تعويضها ب" القنابل" و"الاعتداء و "أمريكا". والملاحظ أن العلاقة بين هذه المستويات الأربع تقوم على التكامل و الاتصال، لا على التباين و الانقطاع.و هكذا لا يمكن لأي مستوى أن يعوض المستوى الآخر في مجالاته كما توهم مؤتمرو" جمعية زاكورة"،ذلك لأن التحلل من الحركات الإعرابية أثناء الحديث بالعربية المعاصرة، لا يمكن أن تلغي في العربية المكتوبة لأسباب بنيوية و دلالية. إذا كنا نقبل أن الطفل المغربي لا يتعلم العربية الفصحى في محيطه الأول، بل الدارجة التي يمكننا اعتبارها لغته الأم، فإننا بالمقابل، وكما يؤكد ذلك اللساني المغربي الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، لا يمكننا اعتبار العربية الفصحى لغة أجنبية عنه، حيث إن المعجم الذي يراكمه الطفل المغربي في محيطه الأسري يشكل اللبنة الأولى لاكتساب معجم العربية الفصيحة. فالطفل المغربي المولود في محيط معرب يسمع مند أن يفتح عينيه (أو ربما و هو ما يزال في بطن أمه) كلمات من قبيل(" خاي"،"ختي"،" حليب"،" رضاعة"،" فراش"، "باب"، "حانوت"،" سوق"،" خبز"، "كاس"،" بيت"،" دار"، "زنقة"،" جدي"، "عمي"، "خالي"، "عمتي"، "الزربية"،" السما"،" الأرض"، "الحايط"،" بيضا"، "حمرا"...) و هي كلها كلمات عربية. و في هذا الصدد يمكن أن اختلف مع الدكتور سعيد بنكراد لأقول إن الطفل المغربي( مثله في ذلك مثل باقي أطفال العالم) لا يذهب إلى المدرسة لينسى لغته الأم، بل يذهب إليها ليعمقها و يهذبها ويغنيها ويصبح واعيا بها. بخصوص ترسيم الدارجة و اعتمادها لغة التدريس كما دعا إلى ذلك المجتمعون في مؤتمر زاكورة، و مع أننا لن نحاكم النوايا و نسلم بـأن مستقبل الوطن و الغيرة عليه هو الذي دفع هؤلاء الباحثين إلى مثل هذه الاقتراحات، فإننا نسجل الملاحظات الآتية: - يشترط بعض السوسيولسانيين أمثال "هادسون"في كتابه " سوسيولسانيات 1980" في نقل منوعة ما إلى مستوى اللغة الشروط الآتية: 1- الانتقاء: و يعني اختيار منوعة ما لتصبح لغة معيارية، و هذا الانتقاء إما أن يكون انتقاء لمنوعة لها امتيازات سياسية أو اقتصادية، كما يمكن أن يكون جمعا لمجموعة من المنوعات، أو يمكن أن يتم اختيار منوعة ليست ملكا لأية مجموعة ،كما هو حال العبرية في إسرائيل و "البهاسا" في اندونيسيا. 2- المعيرة: و تعني خضوع اللغة لعملية تقعيد تهم كل الجوانب اللغوية. 3- التأهيل الوظيفي: و يقصد بها استعمال المنوعة في كل الوظائف التي لها ارتباط بالمؤسسات الحكومية و البحوث العلمية و المجالات الأدبية. 4- المقبولية: و تعني أن المنوعة لا يمكن أن تصبح معيارية إلا بقبول المجموعة اللغوية لها كوسم للوحدة النفسية و السياسية أي كلغة وطنية. بالنظر إلى المعيار الأول، يتطلب دسترة العامية المغربية و وضعها محل الفصحى في المدرسة و الإدارة اختيار عامية مغربية معينة، لها امتيازات سياسية أو اقتصادية، و هو ما لا تملكه أي منوعة لهجية في المغرب. ف"الجبلية" و" الحسانية" و" المدينية" و "البدوية" لا تمتلك أية مميزات خاصة تؤهلها لإلغاء اللهجات الأخرى. أما إذا قررنا جمع كل هذه المنوعات للخروج بلغة موحدة( و هذا هو اختيار المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية للخروج من مشكل التعدد اللغوي الأمازيغي) فنسقط مرة أخرى في الازدواجية التي انتقدها كل المتدخلين في مؤتمر زاكورة، لأن هذه اللغة المصطنعة لن يتحدث بها أي متكلم مغربي في بيته، أما اختيار منوعة ليست ملكا لأية مجموعة، فهذا الأمر لا يمكن أن ينطبق إلا على العربية الفصحى لأنها ليست لغة أمّا لأي مغربي، بل يتعلمها الجميع وفق نفس النسق في المؤسسات التربوية و الإعلامية. أما بخصوص المعيار الثاني فيتطلب وضع كتب قواعد و معاجم و كتب مدرسية لكل لهجة على حدة فاللجهة الجبلية التي مركزها مدينة طنجة و ما يتفرع عنها من لهيجات هي غير اللهجة المدينية السائدة في مدينة تطوان و فاس و الرباط، و هما غير اللهجات البدوية السائدة في الدار البيضاء و مركش...، وهي غير اللهجة الحسانية السائدة في أقاليمنا الصحراوية. كما يفترض دلك القيام بترجمة كل ما كتب بالعربية الفصحى أو باللغات الأجنبية في مجالات مختلفة علمية و أدبية و دينية إلى الدارجة المغربية( و هدا الأمر اعتقد انه صعب جدا، إن لم يكن مستحيلا، بسبب كلفته المادية التي تتطلب ميزانيات ضخمة جدا، بالإضافة إلى ضرورة توفير جيش من المترجمين، و سنوات طويلة من العمل) لأن المتعلم لا يقرأ فقط في المقرر المدرسي، بل للتعليم امتدادات في المراجع و المصادر، خاصة أننا نطمح إلى ولوج مجتمع المعرفة. يفترض الانتقال من الفصحى إلى الدارجة في المجالات الإدارية و التعليمية إعداد معاجم المصطلحات العملية و التقنية فعلى سبيل المثال ينبغي لأصحاب مؤسسة زاكورة البحث عن المقابلات العامية للمصطلحات الرياضية الآتية: المعادلة و المتراجحة و النظمة و الدالة و المتوالية و عملية الضرب والقسمة الخ فهل يمكن أن يقبل أحد ترجمة المعادلة ب "كيف كيف" و المتراجحة ب "الكفة المايلة" وعملية القسمة ب" التفرشيخ"؟؟ مع العلم أن التفوق في مادة الرياضيات يرتبط بأشياء أخرى غير اللغة كالذكاء المنطقي و تقنيات و مناهج التدريس... أما بخصوص المعيار الأخير، فان عددا كبيرا من المغاربة يرفضون ترسيم الدوارج و اللهجات لأنها تفتقر للإجماع الوطني، بالإضافة إلى ما سيؤدي ذلك إلى انتفاء الوحدة النفسية و السياسية و تحويل المغرب إلى "كانتونات" عرقية و لهجية و إحداث القطيعة بين سكانه و زيادة الاحتكاكات و نمو الخطابات العنصرية الموجودة أصلا بين هذه المكونات، التي تنتظر فقط من ينفخ فيها، و التي تعكسها مضامين وايحاءات النكت المتداولة في المغرب عن السوسي البخيل و الجبلي الساذج و الريفي العنيد و العروبي المتخلف... و هي أشياء لا يتمناها أي عاقل يريد الخير لهذا البلد. و قبل الختم أريد أن أشير إلى أننا نأسف أن تكون الفرانكفونية في المغرب، و التي طالما تغنت بالتعددية اللغوية و التحالف مع العالم العربي، و عقدت لهذا الغرض ندوات و لقاءات حول حوار الثقافات( انظر مثلا مؤتمر الفرانكفونية و العالم العربي باريس30-31 مايو 2004) للدفاع عن موقف رافض، كما قال السيد" ريمي لوف"و المستشار بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، لفرض اللغة الانجليزية لغة التواصل بين الجميع. نأسف حقا أن تكون وراء هذا التيار الآن الذي يستهدف اللغة العربية مما يزيد من توجس المغاربة وحقدهم على الفرانكفونية. فمستقبل الفرنسية، كما قال السيد حسني ولد ديدي، ممثل الرابطة الدولية للعمد الفرانكفونيين، رهين بتهدئة الجدال الدائر حول السياسة اللغوية و بالتخلص من الحمولة الاديولوجية، وتجاوز التعارض بين اللغة الفرنسية و اللغة العربية. وبصيغة أخرى ينبغي على أولئك الدين يحنون إلى الفترة الاستعمارية من أنصار سياسة لغوية إدماجية أن يدركوا أن هذه المقاربة انتهت تماما و أن السياسات اللغوية الوطنية لا يمكن أن تكون امتدادا للسياسات اللغوية الأجنبية، و على هذا يتوقف نجاحها. انطلاقا من التحليل أعلاه أعتقد شخصيا أن النقاش حول الدارجة سينتهي قريبا لأن هذا المشروع فاشل من بدايته، بل لا يملك حتى صفة المشروع المتكامل، و الغرض منه كما أظن هو إبعاد العربية عن ساحة المعركة ليخلو الجو للفرنسية التي ترى في الفصحى المنوعة الوحيدة المهددة لمصالحها في المغرب. لقد أنفقنا الكثير من الوقت في الرد على أصحاب مشروع لا مستقبل له، و ساجلنا أشخاصا يكتبون مقالاتهم على قارعة الطرقات وفي المقاهي، و أصبحنا كمن يصارع طواحين الهواء، و إن الجهد ينبغي أن يتجه الآن إلى رصد طبيعة العلاقة مع الفرانكفونية، و تحديد استراتيجيات المواجهة إذا بقيت متمادية في توجهها المناهض للغة العربية. إن النقاش حول الوضع اللغوي( بسبب تعقيده) عندما يتحول إلى نقاش عمومي فانه يفقد الكثير من المصداقية و العلمية، ولهذا تخصص الدول، التي تحترم نفسها، المؤسسات و المعاهد و الأكاديميات والمنظمات و الجامعات التي يخول إليها النظر في كل الجوانب المتعلقة بالمسألة اللغوية، سواء أتعلق الأمر بإصلاح النسق أم بتطويره أم بوضع السياسات اللغوية و التخطيط لها، وهدا ما نفتقده للأسف في المغرب، مما يفسح المجال لكل من هب و دب للإدلاء برأيه مع الدلاء في هذا الموضوع. *عضو المجلس الوطني للجمعية المغربية لحماية اللغة العربية webcache.googleusercontent.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق